مدينة غرناطة
هذا ما قاله ابن الخطيب في هذه العاصمة آخر ما حكمته العرب من أرض الأندلس من عواصمها وحواضرها جمعت فيها بقاياهم وجالياتهم، فظلوا فيها نحو قرنين ونصف قرن، وعمروها فأدهشوا العالم بعمرانها. جاءها جميع المسلمين الذين لم يحبوا أن يبقوا في البلاد التي وقعت في قبضة العدو يحتمون بملوكها من بني نصر جاءها ألوفًا ألوفًا من قرطبة وإشبيلية وبلنسية يحملون إليها ما كان مبعثرًا من الصنائع والثروة في تلك الأرجاء.
قال ابن سعيد: أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكان مشرف، وغوطتها تحتها تجري فيها الأنهار، ودمشق في وهدة تنصب إليها الأنهار، وقد قال الله تعالى في وصف الجنة: تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. أما غوطة غرناطة اليوم فليست كغوطة دمشق بأشجارها الملتفة، ولا كما كانت كذلك على عهد العرب، بل هي جرداء؛ ولذلك كان منظرها أشبه بمنظر سهل البقاع إذا أطلت عليه من سفوح لبنان الغربي.
وغرناطة في كورة ألبيرة من أشرف كور هذا الإقليم نزلها جند دمشق.
قال الرازي: وفحص ألبيرة، أي سوادها وريفها، لا يشبه بشيء من بقاع الأرض طيبًا ولا شرفًا إلا بالغوطة غوطة دمشق.
وقال ابن الخطيب: وفحصها، أي فحوص غرناطة، الأفيح المشبه بالغوطة الدمشقية حديث الركاب وسمر الليالي قد دحاه الله في بسط سهل تخترقه المذانب، وتخلله الأنهار والجداول، وتزاحم فيه الغرف والجنات في ذرع أربعين ميلًا، ونحوها تنبو العين فيها عن وجهه، ولا تتخطى المحاسن منها مقدار رفعه الهضاب والجبال المتطامية منه بشكل ثلثي دائرة قد علت منه المدينة فيما يلي المركز من جهة القبلة مستندة إلى أطواد سامية، وهضاب عالية، ومناظر مشرقة؛ فهي قيد البصر، ومنتهى الحسن، ومعنى الكمال.
وينزل الثلج شتاءً وصيفًا على جبل غرناطة، وينبجس منه ستة وثلاثون نهرًا، كما تنبجس من سفوحه العيون. قال أبو الحجاج بن حسان:
ولما غدت غرناطة عاصمة ابن الأحمر من دولة بني نصر بالسيف تارة، وبحسن السياسة مع الأحزاب المعادية أو بمحالفة القشتاليين الإسبانيين وبني مرين المراكشيين تارة أخرى، جعلها العرب الذين طردوا من المدن المجاورة وطنًا لهم، ونشط ملوكها الصنائع والتجارة، وعمروا الطرق والمجاري، وتسلسل ذلك فيها فأتم الثاني ما بدأ به الأول، وزينوا البلاد بأبنية بديعة؛ فأصبحت غرناطة أغنى مدينة في شبه جزيرة أيبيريا، وبحكمة أمرائها انبعثت منها شعلة المدنية المغربية في إسبانيا، وأنست عنايتهم بالزراعة والصناعة عهد قرطبة وما كان فيها من العلوم والصناعات وجمال البناء، وأصبحت قصورهم مثابة العلماء والأدباء والفلاسفة «فصارت المصر المقصود، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود.»
ولما استولى عليها الإسبان سنة ١٤٩١م بعد أن حاصروها سبعة أشهر فنيت خلالها أزواد المحاصرين من العرب، وفنيت خيلهم كما فني كثير من نجدة الرجال بالقتل والجراحات، كان سكانها نصف مليون نسمة (نفوسه اليوم ٧٦ ألفًا) فانحطت على عهد الإسبان بعد حين، وأقفرت من السكان بما أصدره الملوك الكاثوليك من الأوامر الخرقاء، ولما اشتدت فيها وطأة ديوان التفتيش الديني ظل الحكام والرهبان يستأصلون شأفة العرب حتى لم يُبْقُوا منهم باقية، وكان لها على عهد العرب ١٠٣٠ برجًا متزاحمة بالبيوت، وقال ابن الخطيب: إن الأبراج بلغت إلى ما يناهز أربعة عشر ألفًا، وكان في جوارها ما ينيف على ثلاثمائة قرية عدا ما يجاور الحضرة من قرى الإقليم، أو ما استضيف إليها من حدود الحصون المجاورة «وكان أكثرها أمصارًا فيها ما يناهز خمسين خطبة تنصب فيها لله المنابر، وترفع الأيدي، وتتوجه الوجوه، ويشتمل سورها وما وراءه من الأرحاء الطاحنة بالماء ما ينيف على مائة وثلاثين رحى.»