قصر الحمراء
الحمراء، ويقال لها القصبة الحمراء، ومعنى القصبة عندهم القلعة، وتسمى حمراء غرناطة، وهي مطلة على مدينة غرناطة أطلال الصالحية من سفح قاسيون على دمشق. سميت بالحمراء لاحمرار جدرانها، بل للون التربة التي قامت عليها في سفح جبل غرناطة، ومعظمها مبني بالخزف والكلس والحصباء، وفي قصبة الحمراء قصور العرب، وهي ثلاثة قصور منفصلة عن القلعة، وتدخل فيها المدينة الصغرى القائمة على تلك الأكمة، وقد بني كل قصر منها في زمن غير زمن القصر الآخر، وبقي من القصر الأول شيء قليل، وهي المقصورة والكنيسة، وكان جامعًا بناه محمد الثالث من ملوك بني نثر، قال فيه ابن الخطيب: إن أعظم مناقبه المسجد الجامع بالحمراء على ما هو عليه من الظرف والتنجيد والترفيش وفخامة العمل وإحكام أنواع الفضة وإبداع أثرها، أنفق عليه من مال الجزية، فظهر بها منقبة له يتيمة فاق بها من تقدمه ومن تأخره من قومه.
والقصر الثاني: قصر الآس، وفيه الآس الكثير كان مقر السلطان، ومجلس الحكم، أو دار السلطنة، يقعد فيه للمظالم، ويستقبل السفراء، وكبار رجال المملكة.
والقصر الثالث: منعزل عن القصرين الآخرين قليلًا، وكان فيه دائرة حرمه، ومساكنه الخاصة، وفي هذا القصر صحن الأسود، وهو في الجزء الأوسط منه.
فقاعة السفراء عبارة عن مربع مساحته ١١مترًا بعلو ١٨ كان الملك يستقبل بها وفيها عرشه إلى الشمال أمام المدخل، وهي تطل على ربض البيازين، ومدينة غرناطة، وقد ركبت في كل نافذة وسطى أعمدة صغيرة من العجمي أو الشمسية تدفع حرارة الشمس، ونقش هذه القاعة من أجمل ما حوت الحمراء، وكان فيها ١٥٢ صورة مختلفة طبعت بالجص الطري على الجدران في قوالب من حديد، وهي إلى الحمرة والزرقة المشبعة.
أما فناء الأسود فهو صحن واسع فيه اثنا عشر أسدًا رابضًا من الرخام، تحمل الإناء العظيم القائم وسط الدار، ويخرج الماء من أفواهها، وتسيل الفوارات من أعلى الصحن الذي جعل قطعة واحدة كبيرة كأنه حوض واسع من أحواض بيوت دمشق القديمة، وكأن ابن حمديس الصقلي وصف هذه الدار عندما وصف دار المنصور ببجاية فقال:
وهناك قاعة الحكم وقاعة بني سراج والمقصورة. تخرج من واحدة فتدخل في أخرى، فتخالك في جنة عالية، قطوفها دانية، لا تستطيع وصفها لبدائعها الكثيرة، وهناك قاعة اسمها قاعة الأختين كانت على ما يظهر لجلوس نساء الملك في الشتاء، ونقشها من أقصى ما بلغه النقش العربي من الإتقان، وأهم ما فيها المقرنص الذي حوى نحو خمسة آلاف شكل مختلف بعضها عن بعض، تألف منها مجموع يصعب لجماله وقبتها أعجوبة البناء، ومثال الصبر والعمل، وكأنها كانت في يد صانعها كالعجين يعمل فيها ما شاء من الصور، أو كأنها خلقت خلقة ولم تمسها يد بشر.
وبالقرب من قصور الحمراء جنة العريف، وهي حديثة كبرى، فيها جميع أشجار القطر وأزهاره قاست هندستها في منحدراتها وأكماتها وبسائطها على أسلوب يأخذ بمجامع القلوب، وفيها سطوح ومغاور ومخابئ وفوارات وسياج تشبه المصايف الإيطالية في عهد النهضة، وفيها كثير من شجر السرو، ومن جملتها سروة يدعونها سروة السلطان عمرها نحو ستمائة سنة، وتحتها فيما يقال تواعدت امرأة أبي عبد الله مع ابن سراج.
ولقد كان للسلطان أوائل المائة الثامنة في غرناطة ما يناهز مائة جنة مثل جنة العريف على ما روى صاحب الإحاطة بمدينة فيها مثل هذا العدد الدثر من الجنان، وذلك في الحقيقة من أمارات المدنية والرفاهية.
ورد ذكر الحمراء لأول مرة في واقعة حدثت سنة ٢٧٧ﻫ فاعتصم بها القيسيون من العرب، وقد أسرتهم عصابة من الإسبانيين فنجا الأمير الأموي بحيلة غريبة، وخرج مخرجًا مدهشًا مع رجاله، ولما استولى الموحدون على غرناطة التجأ المرابطون إلى هذا القصر، واشتهرت الحمراء على عهد دولة بني نصر أو بني الأحمر الذين استقلوه بإمارة غرناطة بعد سقوط قرطبة وإشبيلية، وجعلوها عاصمتهم، فأنشأ محمد بن الأحمر قصره الملكي بالقرب من السور والقلعة، وفي عهد الإمبراطور شارلكان جعل جامع الحمراء كنيسة، فأبدلت صورة القصر الملكي القديم، وأنشئ باب المدخل الذي يجتاز منه السور الذي طوله ٣٥٠٠ متر، وفيه عدة أبراج.
وقالوا: إن فرديناند وإيزابيلا الكاثوليكية عنيا كل العناية بالحمراء لما اغتنما فرصة اختلاف العرب وأمرائهم، وعزما على إخراج جميع العرب من إسبانيا، وقد أمرا بترميم نقوشها الداخلية، ورمما جدرانها، وكان شارلكان على شدة حرصه على آثار الحمراء والإبقاء عليها عمر مباني؛ ليخلد اسمه، ولكنها لم تتم، وأوردوا في معرض البرهان على ولوعه بالآثار العربية ما نسب إليه من القول عندما وقع بصره على آثار الحمراء: بالشقاء من أضاع كل هذا.
جاء في دائرة المعارف الإسلامية: وإذا ما وقع التنظير بين قصر الحمراء والقصور والجوامع التي بنيت على ذاك العهد في القاهرة مثلًا كجامع السلطان حسن الذي بني سنة ١٣٥٦م تبين الفرق العظيم بين البنائين؛ فإنك ترى لهندسة جامع القاهرة أمثالًا كثيرة، في حين بني قصر الحمراء على غير محتذى، ولا يوجد في مملكة من الممالك قصر إسلامي مثل الحمراء، وبقدمه لم يبن له شبيه مع أنه شيد بمواد سريعة الانحلال اللهم إلا أبنية العصر الأموي التي عثر عليها الباحثون في بادية الشام شرقي بلاد موآب، وبعض الخرائب من العصر العباسي في سامراء والرقة.
وقصارى القول: إن الحمراء مصيف تحف به حدائق واسعة ومتنزهات، وفيه المياه الجارية والنبات والحيوان الكثير، ونقوشه تبهر الأبصار، وفي مسالك الأبصار: إن الحمراء كثيرة المباني الضخمة والقصور ظريفة جدًّا يجري الماء تحت بلاط كما يجري في المدينة فلا يخلو منه مسجد ولا بيت، وبأعلى برج منها عين ماء، وجامعها من أبدع الجوامع حسنًا، وأحسنها بناءً، وبه الثريات الفضية معلقة، وبحائط محرابه أحجار ياقوت مرصعة في جملة ما نمق به من الذهب والفضة، ومنبره من العاج والأبنوس.
ولما استولى ملوك قشتالة على الحمراء سلموها إلى مهندسين من العرب بلغ من حذقهم أنك لا تعرف ما أدخلوه فيها من الإصلاح، ولا تميزه عن الأصل الذي كانت عليه من قبل، ودام هذا الترميم في الحمراء إلى ثورة العرب سنة ١٥٦٩، وفي سنة ١٥٢٢ أصيب بهزة أرضية، وفي سنة ١٥٩٠ بحريق في مطحنة بارود سببت خراب أقسام منها، ثم تركت وشأنها في القرن السابع عشر والثامن عشر، وقد نسف جنود نابليون سنة ١٨١٢ قسمًا منها بالمواد الملتهبة معتبرين الحمراء حصنًا، وذلك عند جلائهم عن إسبانيا، ثم أخذت همة حكومة إسبانيا تتجدد لإعادة الحمراء إلى حالتها الأولى.
ويقول جوسيه: إن ملوك إسبانيا لما دخلوا الحمراء لم يعاملوا آثار خصومهم معاملة أعداء؛ بل معاملة أصحاب، وبعد أن ذكر كيف كانوا يتعهدونها، وكيف عهدوا إلى مهندسين من العرب استخدموهم لترميمها، قال: وأهملت الحمراء من بدء القرن السابع عشر إلى أواسط القرن الثامن عشر، فأخذ يسكنها جنود بياطرة، وأرباب حرف وحاكة وفاخرانيون وأسرات فقيرة، فكانت الأوساخ فيها وفي جدرانها، والناس يعبثون بما فيها، وربما أصابها شيء من البارود والقذائف فتبدلت محاسنها، وبليت بعض حيطانها ونقوشها ورسومها ومعالمها، ثم صحت نية حكومة إسبانيا على تعهد تلك القصور وإرجاعها إلى حالها، وكانت الهمة في هذا الشأن تفتر ثم تتجدد بحسب سلطان ملوك إسبانيا، ودرجتهم من العقل والفهم.
وفي هذا القصر أو المدينة البديعة ما عدا الآثار العربية قصر شارلكان أراد أن يوسع به دائرته سنة ١٥٢٦ بناه من الجزية التي كان يتقاضاها من العرب؛ للسماح لهم بإجراء بعض شعائرهم. من أعمال شارلكان أبنية لم تتم؛ لقلة المال فيما يظهر، والغالب أنه حاول بما أنشأه من الأبنية أن يطمس آثار العرب؛ ليجعل لبنائه الرجحان، فلم يتم له ما أراد، وبقيت الحمراء أجمل مثال في القصور على مر العصور والدهور.
وليس في الحمراء من الفرش والأواني الباقية من عهد العرب سوى جرة طولها أكثر من متر، صُنعت من تراب بالميناء، ولها لمعان لازوردي وذهبي، رسم عليها حيوانات ونقوش عربية، وهي من صنع معامل غرناطة في القديم.
هذه صورة مصغرة من وصف هذا القصر، وما طرأ عليه إلى يومنا هذا، وهو مقصد السائحين من أهل الأرض، وكأن ابن حمديس وصفه إذ قال: