ذكرى مؤلمة
مضت أعوام تلتها أعوام، والنفس تتحدث بالارتحال إلى الأندلس المحبوبة، تستنفض معالمها، وتستبطن معاهدها ومصانعها، فتتدبر، وتدكر، وتستفيد، وتفيد، ولما أتاحت لها الأقدار، بلوغ تلك الأمصار، عرض لها ما كدر صفو تلك الذكرى، ذكرى التطواف في الأندلس بعد عزها للاعتبار، بالدمى والأحجار، واستنطاق الآثار، واستقراء الأخبار؛ لمعرفة عمل العرب في تلك الديار.
اتفق نزولي غرناطة في اليوم الثاني من كانون الثاني، اليوم الذي خرج فيه أبو عبد الله آخر ملوك بني الأحمر من عاصمة الأندلس، وانتقلت أحكامها إلى أيدي الغالبين من الإسبانيين، والجرس يدوي في كنيسة الحمراء دويًّا متواصلًا لا متساوفًا مدة أربع وعشرين ساعة، احتفالًا بهذا اليوم الذي يعده أهل إسبانيا عامة وسكان غرناطة من بينهم خاصة من أسعد أيامهم الغر. احتفلوا به ضروب الاحتفال، ومن جملة مظاهر سرورهم: مأدبة أدبها يومئذ شيخ مدينة غرناطة في النزل الذي حللته في جوار الحمراء، واسمه نزل «واشنطون» على اسم واشنطون محرر أميركا الشمالية، وقد حضر المأدبة عظماء المدينة، وشربوا وطربوا على ذكر استيلاء أجدادهم على آخر أرض احتلتها العرب من شبه جزيرتهم.
تذكرت ذاك اليوم المشئوم، وقد رفع الصليب الفضي على أعلى برج في الحمراء إشارة إلى ظفر الإسبان الأخير، وخروج العرب من هذه الديار، وقد أخذ أبو عبد الله بن الأحمر يتحفز في حاشيته؛ ليخرج من الحمراء قبل أن يبغته العدو فيها، ويتلفت وهو يجتاز جبل الثلج إلى غرناطة البديعة فيتنهد ويبكي، وأمه ترافقه وتقول له: لا تبك كالنساء ملكًا لم تستطع أن تحافظ عليه كالرجال.
كل سنة يبالغ القوم بعيد غرناطة السنوي، وقد احتفلوا به حتى اليوم أربعمائة وثلاثين سنة يتذكرون كل مرة نصرتهم على أعدائهم ويومًا تمت لهم فيه وحدتهم القومية والدينية، وقد مثلوا أفظع مأساة ارتكبتها أنفس متعصبة جاهلة، وسلكوا للخلاص من مخالفيهم طرقًا بشعة، لم يسلكها هؤلاء معهم يوم استصفوا أرضهم وحلوا دياراتهم، وهم في رفعة ومنعة، وغبطة وسعة. يحشدون يوم الحفل رجالهم ونساءهم وذراريهم يحفزون أرواحهم ليوقظوها، ويهيجون كوامن الصدور؛ ليعتبروا بما وقع لهم في سالف العصور، وليعلموهم أن غلبة سنة ١٤٩٢ وإن كانت من باب تسلط الجهل على العلم إلا أنها دلَّت على أن الثأر لا ينسى ولو بعد ثمانية قرون.
وما كان أجدر بالعرب أن يعدوا آخر يوم خرجوا فيه من الأندلس من أيام البؤس، المشتملة بالحزن، المملوءة بالاستعبار، يتناشدون فيه التعازي والمراثي، ويتطارحون حديث محنة مضت، وتذكارها المؤلم لم يبرح يتجدد، وشرر شرها لم يزل يتولد ويتوالد.
قيل: إن أناسًا من جالية الأندلس في بر العدوة ما برحوا إلى اليوم وقد انقضت أربعة قرون على مغادرتهم بلدًا نبت لهم فيه العز، وأثمر المجد والسعد، ويخلف الوالد منهم لبنيه في جملة مخلفاته، مفاتيح داره في الأندلس على أمل أن يعود أولاده إليها ذات يوم ويفتحوها وينزلوها. تذكار أن عدة بعضهم في باب الهزل، في سجل المستحيلات يحوي ولا جرم في مطاويه أجمل العظات، وأعظم التذكارات.
وحقيق بكل بلد للعرب فقد استقلاله أن يقيم كل سنة المآتم على ما حل به خصوصًا في البلاد التي يعبث فيها المتغلبون بمشخصات المغلوبين، فإن بعض العناصر الأوروبية كالإسبان لم يكتفوا بطرد العرب من بلادهم؛ بل يحاولون اليوم في الريف من بلاد مراكش أن يجلوهم عنها بعد أن تأصلت كلمتهم فيها منذ ثلاثة عشر قرنًا أقاموا خلالها مدنيات، وأنشئوا أمجادًا لهم ودولات.
إن العرب الذين أنشئوا من العدم مدينة الأندلس، وقاموا في عصور الظلمات بأعمال لا يكاد يصدق الناظر إليها أنها بنت قرائحهم، وثمرة عقولهم، لو لم تتناصر على ذلك أصدق الروايات، لا يعجزهم اليوم، والعصر عصر النور، إن يقوموا بمثل ما عمله أجدادهم، لو نفس خناقهم، وملكوا زمنًا قياد أنفسهم. بعض أهل الغرب اليوم حرب على الشرق، وسوف تكون لهذا الغلبة للاحتفاظ بدياره وآثاره، وأمامه إسبانيا والبرتغال اللتان ثأرتا لنفسهما من مستعبديهما بعد قرون، ولم تكونا في رقي العرب اليوم عددًا وعددًا، ومضاء وغناء.
أضعف أمة في الغرب لا يبلغ عدد أهلها عدد أهل إقليم واحد من أقاليم العرب أو قطر من أقطارهم تتناغى الليل والنهار بآثارها، وتتحدث بمفاخر أجدادها، وتقدس أعمال نوابغها ورجالها، ولا تنسى يدًا للمحسن إليها، ولا إساءة مجرم جانٍ عليها، العرب توغلوا يوم اشتد سلطانهم في جنوبي أوروبا، ونشأت لهم حكومات في شبه جزيرة أيبيريا وجزيرة صقلية وسردانية، فارتكبوا بذلك جناية في عرف أهل تلك الديار، أفليس من العدل أن تغتفر لهم هذه الهفوة أو الغزوة، في جانب ما حملوه إلى من غلبوهم من ضروب المعارف والصناعات، ومستحسن الآداب والأخلاق. العرب حملوا إلى الأندلس حضارة رائقة، ونظامًا محكمًا، أحلوها محل الفوضى والتوحش، والسخافات والخرافات.
تود كل أمة اليوم مهما بلغ من تراجع الحضارة بينها أن تحكم نفسها بنفسها، وتمثل مشخصاتها ومقدساتها، فهل ينال العرب هذه الأمنية، وهم ليسوا دون بعض الأمم الأوروبية التي أخذت تتمتع الواحدة تلو الأخرى باستقلالها منذ قرن من الزمن، فليس كل أمم أوروبا بحضارتهم الإنكليز والألمان والفرنسيين، ولا كل الشعوب العربية على مستوى واحد في الحضارة والنور.