تحية الأندلس
عشقتها، ولم تسعدني الأيام بإمتاع النظر في جمالها، واستطلعت طلع أخبارها، فروى الرواة عنها عجائب أقلها مما يستهوي النفوس المتمردة، ويأخذ بمجامع القلوب الجافة العاصية، تفردت بين حيلها بما خصت به من معاني الحسن والإحسان، فكثر الخطاب والطلاب، وهي لا تفتأ تبدي لمن حماها صنوفًا من اللطف والظرف، وتخاطب البعيد والقريب بثغر باسم، وترشقهم بنظرات، لا تخلو من غمزات، تريد بها الهزوء بنكبات الزمان، والاستخفاف بسخافة الإنسان.
عشقتها منذ عهد الصبا، وعشق الصبا شديد، لما قرأته الباصرة من وصف سجاياها وحملته إلى البصيرة ففكرت فيه، وتدبرت خوافيه وحواشيه، وزادني غرامًا بها ما سمعت من أن أناسًا قبلي أصيبوا بما أصبت به، وعدوا النزول في حماها ولو ساعة سعادة العمر، وحسنة الدهر: العشق فنون وعشقي كان لأرض الأندلس، عليها من كل عربي ألف ألف سلام، على مر العصور والأيام.
عشقتها لكثرة ما تلوت من آثار من درجوا على أديمها من أبنائها وغير أبنائها، وكانت المخيلة تتصورها في مظاهر صح بعضها يوم اللقاء، وآخر كان بالطبع كالخيال، في الأندلس تم نحو نصف مدنية العرب الباهرة، وقضوا في أرجائها نحو ثمانية قرون كانت بجملتها وتفصيلها عهد السعادة والغبطة، ودور ظهور النوابغ وأرباب الإبداع والقرائح، وكم من أمة من أمم الحضارة الحديثة على كثرة ما اقتبست وأوجدت، لم يتيسر لها حتى يوم الناس هذا أن تبلغ مكانة الأندلس، فكان هذا الصقع في منقطع أرض المغرب وآخر أرض العرب بين البحرين، المحيط والمتوسط، برهانًا أزليًّا على فرط استعداد العرب للعلوم والصناعات، وناعيًا على من أنكروا لإفراطهم في الشعوبية فضل هذه الأمة على الحضارة.
أقام الغربيون ضروبًا من المصانع من بيع وأديار ومتاحف ومكاتب ومدارس وجسور وسدود وطرق ومعابر وتماثيل ونصب وبرك، لكنهم لم يصنعوا على كثرة تفننهم في هذا الشأن منذ عهد اليونان والرومان، طرزًا من البناء يكلمك ولا لسان له فيقول، وينظر إليك فيعمل في شغاف قلبك ولا عين له فتنظر، ويطربك بتساوق نغماته من دون ما صناجة ولا وتر ولا ألحان. مصانع كثيرة بقيت بقاياها في طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة سلبتها الفتن تارة شطرًا من بهائها، وسالمتها حينًا فأبقت عليها، أو رممت شيئًا مما أضرت به عوامل الأيام، وإن لم تعد إليها نضرتها الأولى.
سلام على أرض طيبة خصها الخالق بأجمل الهبات الطبيعية الطيبة، فلم ينقصها زكاء تربة في نجادها ووهادها، ولا مياهًا عذبة دافقة من هضابها على شعابها، ولا أشجارًا باسقة وزروعًا خصبة في سهلها ووعرها، ولا اعتدال مواسم وجمال إقليم، ومصحة أبدان زانها الصانع السماوي بإيجاده، كما زانها الصانع الأرضي بإبداعه، وما أجمل الطبيعي والصناعي، إذا تواعدا إلى الاجتماع في خير البقاع.
ليالي الأنس، في جزيرة الأندلس، وأيامها الغر، في سالف الدهر، فيك قامت سوق الآداب، بما ارتفعت له رءوس العرب على غابر الأحقاب، وكمل في ربوعك الذوق العربي حتى ظن بعضهم أنك نسيت كل شيء ما عدا الأدب، وما هذه الآثار الأبدية إلا ثمرة عملك وصناعاتك وزراعاتك: سلام على أرواح علمائك وفلاسفتك ونوابغك وأدبائك وأمرائك ما كان أرجح أحلامهم، يوم سنوا للعرب سنة الأخذ من السعادتين، وشرعوا لهم شرعة المدنية المثلى، حملوا فأجملوا من الشرق إلى الغرب تعاليم في الدين والدنيا كانت صفوة العقول إلى عهدهم فأدهشوا من عاصرهم، وخلفهم من الأجيال، ونسجوا لهم على غير مثال نسيجًا رقيقًا، كتبوا لهم فيه سجلًّا رقت حواشيه، ونظامًا متقنًا في حكم الإنسان للإنسان، يطبع في تاليه إذا تدبره، طبيعة حسن الذوق والطبع، وينشئه على أرق مثال من الخيال في الكمال والجمال مثال حي من حضارة العرب في القارة الأوروبية عامة وفي شبه جزيرة إسبانيا خاصة، يفتخر به العرب على اختلاف أصقاعهم، وحق لهم الفخر؛ لأن الأندلس العربية الإسلامية كانت — وما زالت — مدرسة الغرب المسيحي، نزل طلابه في قرونهم المظلمة على علماء العرب، فأوسعوهم من مكارم أخلاقهم، وأكرموا مثواهم بما علموهم، وما أسخى العربي على طلب قراه، والمعتصم بحماه، فلما جاء دور الانحطاط، وأزف رحيل ذاك الرعيل، من أرض كان الغرب كله يعدهم فيها أثقل دخيل، أبقوا لهم تلك المصانع ناطقة بفضلهم، معلمة لهم معاني ليست في معاجم نفائسهم، ومكذبة على غابر الأيام من ينكر المحسوس، ويغمط الحق لصاحبه، ويستهويه الغرض، فيشوه وجه الحق الجميل.
إلى اليوم لم يزل في الغربيين أناس يصعب عليهم الاعتراف بمزية للعرب بباعث من بواعث النفوس اللئيمة، فلا يكادون يصدقون حتى بما ورد عن هذه الأمة في كتبهم دع كتبها من أعمال هذه الحضارة الغربية، وما ذاك الأثر الضئيل الباقي من عاديات الأندلس العربية، إلا برهان جلي على ما كان هناك من عدل شامل، وعقل كامل، ونظر نافذ، ويد صَنَاع، أَربت على ما عمل من مثلها في سائر البقاع والأصقاع.