جبل طارق وطنجة
كان جبل طارق الذي نُسب إلى طارق بن زياد فاتح الأندلس، وهو المكان الذي بلغه في جيشه أواخر المائة الأولى بأيدي العرب مدة استيلائهم على الأندلس، فلما دالت دولتهم عاد إلى الإسبان، ولبث في حكمهم إلى القرن الثامن عشر، واستولى الإنكليز عليه في سنة ١٧٠٤ واحتفظوا به رغم محاولة الإسبان في سنة ١٧٠٤–١٧٧٩ بمعاضدة الأسطول الفرنسوي للاستيلاء عليه فلم يستطع الأسطولان الفرنساوي والإسباني تخليص هذا الحصن من أيدي الإنجليز.
يعلو جبل طارق عن سطح البحر ٤٢٥ مترًا، وهو متصل مع القارة الأوروبية بسهل من الرمل فيه بطائح، ويشرف على المدينة، وقد جعل الإنجليز فيه قلعة شحنوها بالمدافع، فجاءت من أحصن ما في العالم من الحصون. فهو في الحقيقة قطعة من أرض إسبانيا، ولكنه إنجليزي الحكم والنظام، يشرف على البحرين المحيط والمتوسط، ويأخذ بمخنق السفن الغادية والرائحة بين القارات الثلاث؛ أوروبا وأميركا وإفريقية.
يبلغ سكان جبل طارق اليوم ٢٢ ألفًا ما عدا الحامية الإنجليزية، وأهلها مزيج من شعوب أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقية، وكذلك أبنيتها مزيج من طراز الأبنية عند الأمم الكثيرة، واللغتان الشائعتان هنا الإسبانية والإنكليزية، ولا يحق اليوم لغير الإنجليزي التبعة أن يقتني ملكًا في هذا المرفأ الضيق النطاق، ويراقب الأجانب فيه مراقبة شديدة، والمدينة كلها عبارة عن شارع واحد ضيق بني في الغالب منذ قرنين، وعلى مقربة من جزيرة طريف، وهي أشبه بقلعة كبيرة مشرفة على البحر.
جئت جبل طارق من غرناطة، وانتهيت بالجزيرة الخضراء آخر عمل إسبانيا، والمسافة بين هذه الجزيرة وجبل طارق بضع دقائق يجتازها المجتاز على ظهر سفينة.
وعلى بضعة أميال من جبل طارق ترى مدينة طنجة قائمة على البحر في بر العدوة من ثغور الغرب الأقصى، وأول أرض إفريقية يقع نظر الخارج من القارة الأوروبية عليها فينتقل السائح انتقالًا فجائيًّا من مدنية راقية إلى مدنية مشعثة منحطة، وليس بين القارتين الأوروبية والإفريقية إلا مجاز صغير كان العرب يسمونه الزقاق.
اغتنمت فرصة انتظار الباخرة الإنكليزية التي تسافر من جبل طارق إلى مارسيليا في يومين فزرت طنجة، وطوفت في أرجائها، وسكانها اليوم نحو أربعين ألفًا، فيهم كثير من الإسبانيين والبرتغاليين والفرنساويين، وهي من المدن التي استعمرها الفينيقيون فيما مضى، ولا تزال محتفظة بطرازها الشرقي على كثرة ما تداول عليها من الأمم بعد الإسلام؛ فقد استولى عليها البرتغاليون سنة ١٤٧١م، والإنجليز سنة ١٦٢٢، وحاصرها الفرنسيون سنة ١٨٨٤، وبقيت منذ ذاك الحين في يد المراكشيين، وهي الآن مشاع لكل الدول أو تحت حمايتهم، وينازعها الفرنسيون والإسبان كما يتنازعون على السبق في حماية بلاد الغرب الأقصى، ويقيم فيها كثير من معتمدي الدول والسلاطين المخلوعين من أمراء المسلمين في الغرب الأقصى أمثال مولاي عبد العزيز ومولاي الحفيظ.
نعم، إن المراكشيين ما زالوا في هذا الثغر وما وراءه من البلدان على تصلبهم في عاداتهم رغم التيار الشديد الهاجم عليهم من أوروبا، وهم منها على ثلاث ساعات بحرًا لا يفصلهم عنها إلا بحر الزقاق، وبين طنجة والجزيرة الخضراء اثنا عشر ميلًا «وهو أضيق موضع فيه، وأوسع موضع فيه نحو ثمانية عشر ميلًا» قال الفقيه المرادي المتكلم القيرواني بعد خلاصه من بحر الزقاق ووصوله إلى مدينة سبتة: