علم المشرقيات في إسبانيا
كان لليهود يد طولى في نقل العلوم من العربية إلى اللاتينية؛ لأن المرابطين والموحدين الذين استولوا على الأندلس بعد الأمويين كانوا إلى التعصب. بددوا كتب الفلسفة وأحرقوها؛ ليرضوا بذلك العامة والفقهاء، ولولا تراجم الإسرائيليين؛ لضاع كثير من أوضاع مدنية العرب في الأندلس.
ثم بدا لرجال من الإسبان أن يسعوا في نشر دينهم بين المسلمين، فأخذوا يعنون باللغة العربية؛ ليتعلمها الرهبان، ويجادلوا مخالفيهم بالبرهان، فوضع أحد الدومنيكيين أول معجم عربي باللغة الإسبانية سنة ١٢٣٠ وفي سنة ١٣١١-١٣١٢ امتدح البابا كلمنضس الخامس في أحد المجامع الدينية من إنشاء درس لتعليم العربية في مدرسة صلمنكة، وفي أواسط القرن الثالث عشر كان الدومنيكيون مثال الغيرة في نشر اللغات الشرقية بين أبناء رهينتهم ومنها العربية، وأنشأ صاحب أراغون مدرسة لتعليم اللغات الشرقية في ميرامار، وأنشأ المجمع الديني في طليطلة ينفق على طغمة من الرهبان مؤلفة من ثمانية أشخاص انقطعوا لدراسة العربية، وعلى هذا ظلت الجمعيات الدينية ولا سيما الفرنسيسكانية إلى القرن الثامن عشر في إسبانيا هي القائمة بدعوة المستشرقين إلى دس آداب الشرق ولغاته وتاريخه.
ولم تنل مدرسة صلمنكة شهرة طائلة في أوروبا حتى غدت إحدى المراكز العلمية الأربعة، وهي: باريز وأكسفورد وبولون، إلا أنها بتأثير العلم العربي أقامت على أساس معقول تعليم العلوم الطبيعية والطب، ولم يكن في مدرسة صلمنكة في أواخر القرن الثالث عشر غير خمس وعشرين حلقة للتدريس؛ منها حلقة لليونانية، وأخرى للعبرانية، وثالثة للعربية، فأصبحت في القرن السادس عشر سبعين حلقة فيها سبعة آلاف طالب.
ولما أعلن الإسبانيون الحرب على جنسية العرب ومدنيتهم ودينهم ضعفت العناية باللغة العربية، ولم يكتف باستصفاء جميع الجوامع، وجعلها كنائس؛ بل أخذوا ينصرون المسلمين بالإكراه، وفي سنة ١٥٠١-١٥٠٢ طردوا من مملكتي قشتالة وغرناطة كل من ظلوا محافظين على الإسلام، ولم يعد للدومنيكيين والفرنسيسكانيين من حاجة لتعلم العربية ليتمكنوا من مجادلة الفقهاء عن علومهم؛ لأنها أفسدت أفكارهم، وزهد المسيحيون في علوم المسلمين، وقام في أذهانهم أنها خطر عليهم.
صدر أمر الكردينال كسيمنس سنة ١٥١١ بعد أن أحرق في ساحات غرناطة كمية من الكتب العربية أن تباد كتب العرب من بلاد إسبانيا عامة فتم ذلك في نصف قرن، ولولا المترجمات منها إلى العبرية واللاتينية لبادت مدنية العرب من تلك البلاد، وأخذ ديوان التفتيش الديني على نفسه إبادة كل أثر للعرب، وما كان متنصرة المغاربة الذين دانوا بالنصرانية مكرهين ليستطيعوا إبداء أسفهم إلا سرًّا، وفي الكتب العربية المكتوبة بالعجمية، أي المكتوبة بحروف إسبانية، دليل على تعلق أولئك المتنصرة بقديمهم.
وفي سنة ١٥٥٦ منع فيليب الثاني متنصرة المسلمين من استعمال اللغة العربية، وأراد بهم على أن تنتزع من أسمائهم التراكيب العربية، وعن أجسامهم الألبسة الشرقية؛ ليمزجهم بزعمه في سواد أبناء المذهب الكاثوليكي، ثم طردوا على عهد فيليب الثالث، وكان عددهم نحو مليون نسمة على صورة قاسية سخيفة، ولم يبق من الحضارة العربية واللغة العربية في إسبانيا غير ذكراهما، وزهد القوم في القرنين السابع عشر والثامن عشر في تعليم العربية في إسبانيا اللهم إلا على طريقة أفرادية، وغدا الاطلاع على العربية نقصًا، ولربما اتهم من يتعلمها بالإلحاد بعد أن كان أهل الطبقة العليا من الإسبان أيام عز العرب يحلون بأقوال فلاسفة العرب كلامهم، ويدرسون الفلسفة العربية درس مستبصر مستفيد لا درس ناقد عنيد، ويعدون الاطلاع على الآداب العربية من أمارات الظرف والكياسة.
وعلى هذا لم يبق لمدرسة الفرنسيسكان في إشبيلية من أساليب تعلم العربية إلا أثر ضئيل، وأراد شارل الثالث أن يعيد إلى إسبانيا عهد الآداب العربية، فاستدعى لذلك رهبانًا موازية من سورية؛ ليعلموا الإسبانيين لغتهم الأصلية الثانية، ويحق للنصف الثاني من القرن الثامن عشر أن يباهي بأساتذة متمكنين من أسرار العربية في إسبانيا.
ولما دخل الإصلاح إلى الكليات القديمة في أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر عادت العربية تدرس في جامعات إسبانيا رسميًّا، ولما استلمت الحكومة الإسبانية سنة ١٨٥٧ زمام إصلاح التعليم من دون رجال الدين أو الملك أو الأشراف ربحت اللغة العربية حتى كادت تعود إليها حياتها التي كانت لها في شبه جزيرة إسبانيا من القرن الثاني عشر إلى القرن الخامس عشر، فأخذت معرفة اللغات والآداب العبرية والعربية تدخل من تلقاء نفسها في قائمة دروس التعليم العالي، وأخذ المستعربون ينتفعون من المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبة الأسكوريال ومكتبة الأمة ومكتبة المجمع العلمي التاريخي، ومن المخطوطات العربية المكتوبة بحروف عبرية المحفوظة في كاتدرائية طليطلة. دع مكتبة خزائن كايانكوس وكودرا ورينرا وآسين وغيرهم من رجال المشرقيات.
والعربية اليوم تدرس رسميًّا في كلية مجريط وغرناطة وبرشلونة وصلمنكة وبلنسية وإشبيلية وغيرها، ولكن التدريس فيها مهمل، والمدرسون غير كفاة إلا في العاصمة وبعض الولايات، وقد نشر المستشرقون من الإسبان منذ أواخر القرن التاسع عشر كتبًا عربية كثيرة متعلقة بتاريخ الأندلس، وتراجم رجاله، وبعض العلوم التي اشتغلوا بها، ومنها الجيد وأكثره مملوء بالأغلاط والتحريف، وهو دون ما نشره الهولانديون والجرمانيون والبريطانيون والطليان من هذا القبيل من حيث الصحة والإتقان.
وأنت ترى أن الاستشراق العربي كان الدين هو الداعي إليه كما كان في معظم بلاد أوروبا، ثم امتزج الدين بحب المدنية، ثم امتزج كلاهما باسم الاستعمار، ولكن المحصول في شبه جزيرة أيبيريا أي في إسبانيا والبرتغال قليل، وفي جامعة لشبونة عاصمة البرتغال درس عربي اليوم، ومدرسة الأستاذ لويس الذي نشر بعض الكتب العربية، فهو المرجع في البرتغال اليوم، كما أن الأستاذ آسين مرجع الإسبان في مجريط، وكلاهما عضو في المجمع العلمي العربي.