فتح الأندلس
لما فتح موسى بن نصير مولى بني أمية إفريقية وما حولها؛ أي تونس وما وراءها، سنة ثمانٍ وسبعين للهجرة، وبلغ طنجة، سار يريد مدائن على شط البحر، وفيها عمال صاحب الأندلس قد غلبوا عليها وعلى ما حولها، وكان يليان أحد ملوك الأندلس لموجدة وجدها على بعض الملوك من قومه في تلك البلاد بعث بالطاعة لموسى، وأقبل به حتى أدخله المدائن بعد أن اعتقد لنفسه ولأصحابه عهدًا رضيه، واطمأن إليه، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، فبعث رجلًا من مواليه يقال له طريف، في أربعمائة رجل ومعهم مائة فارس، في أربعة مراكب، حتى نزل جزيرة سميت له لنزوله فيها، وكانت هذه الجزيرة معبر مراكبهم، ودار صناعتهم، فأغار على الجزيرة فأصاب شيئًا ورجع سالمًا، وذلك سنة إحدى وتسعين.
ثم دعا موسى مولى له يقال له: طارق بن زياد، فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين جلهم من البربر والموالي ليس فيهم عرب إلا قليل، فدخل في تلك السفن الأربع سنة اثنتين وتسعين، وأخذت السفن الأربع تختلف بالرجال والخيل، وضمهم إلى جبل على شط البحر منيع فنزله، وسمي به جبل طارق، والمراكب تختلف حتى توافى جميع أصحابه.
ولما بلغت ملك الأندلس رذريق صاحب طليطلة غارة طريف على الأندلس جمع جموعه، قيل: مائة ألف أو شبه ذلك، فبعث موسى على سفن كثيرة كان عملها بخمسة آلاف مقاتل، فتوافى المسلمون بالأندلس عند طارق اثني عشر ألفًا، ومعهم يليان في جماعة من أهل البلد يدلهم على العورات، ويتجسس لهم الأخبار. فالتقى رذريق صاحب طليطلة وطارق بن زياد بموضع يقال له البحيرة، فانهزم رذريق، ثم مضى طارق إلى مضيق الجزيرة، فمدينة أستجة، وحارب فل العسكر الأعظم وهزمه، ثم ورد طارق عينًا من مدينة أستجة على نهرها على أربعة أميال فسميت العين عين طارق، وفرق جيشه؛ فأرسل فرقة إلى قرطبة، وأخرى إلى رية، وثالثة إلى غرناطة، وسار هو في عظم الناس يريد طليطلة ففتحت كلها، وكذلك مدينة تدمير، وأسر أحد ملوك الأندلس، ومنهم من اعتقد على نفسه أمانًا، ومنهم من هرب إلى جليقية في الشمال، ثم سار طارق حتى بلغ طليطلة، وخلى بها رجالًا من أصحابه، فسلك إلى وادي الحجارة، ثم استقبل الجبل فقطعه من فج يسمى فج طارق.
وفي سنة ثلاث وتسعين دخل موسى بن نصير في ثمانية عشر ألفًا من وجوه العرب والموالي وعرفاء البربر، وقد بلغه ما صنعه طارق بن زياد فحسده، وخشي أن ينال شرف الفتح دونه أمام الخليفة من بني أمية. فلم يلبث أن فتح من المدن ما لم يفتحه طارق مولاه؛ فافتتح مدينة شذونة وقرمونة وإشبيلية، وحاصر هذه أشهرًا، فهرب أهلها إلى مدينة باجة، فمضى موسى إلى مدينة ماردة، وقاتلهم عليها أشهرًا، فصالحه أهلها على أن جميع أموال القتلى وأموال الهاربين إلى جليقية للمسلمين وأموال الكنائس وحليها له، ثم افتتح سرقسطة ومدائنها.
ذكروا أن المسلمين انتهوا إلى مدينة لوطون قاعدة الإفرنج، ولم يبق لأهل الإسلام شيء لم يتغلبوا عليه مما وراء ذلك إلا جبال قرقوشة وجبال بنبلونة وصخرة جليقية، فأما الصخرة فلم يبق فيها مع ملك جليقية إلا ثلاثمائة رجل تلفوا بالموت والجوع والحصار، فلما لم يبق منهم إلا ثلاثمائة رجل، ورأى ذلك المرتبون على حصارهم استقبلوهم، فتركوهم فلم يزالوا يزدادون حتى كانوا سبب إخراج المسلمين من جليقية وهي قشتيلية.
وأنت ترى أن معدات الفتح عند العرب كانت قليلة، ومع هذا استصفوا الأندلس في مدة وجيزة؛ وذلك لأن الاختلاط القديم المستحكم للجوار بين أهل الأندلس وبين أهل شمالي إفريقية، وتغلب الأندلسيين أحيانًا على بلاد البربر أي المغرب الأقصى والأوسط، قد هيأ لسكان البلاد بل لقوادها وحكامها من العرب أن يعرفوا معالم الأندلس ومجاهلها، ويقفوا على مواطن الضعف من حكوماتها، فقد جاءوها والاختلاف بين ملوكها على أشده، والبلاد قد جاعت قبل مجيئهم ثلاث سنين (من سنة ثمان وثمانين إلى سنة تسعين) ثم وبئت حتى مات نصف أهلها أو أكثر، وإذا صح أن الملك الأعظم في طليطلة جيش على العرب مائة ألف مقاتل وهو مستبعد، فإن جيش موسى بن نصير البالغ اثني عشر ألفًا قد تغلب عليه لا بعدده بل بما للعرب من الاضطلاع بأمور الحرب. هذا، وأهل البلاد كانوا في الجملة يريدون الخلاص مما هم فيه من سوء الحال ولا سيما اليهود، فإنهم كانوا قبل بضع سنين قد ذاقوا الأمرين من حكوماتهم ومواطنيهم المسيحيين، فلما جاء العرب الفاتحون كانوا أدلاءهم وأكبر ردء لهم لعلمهم بأنه ينفس خناقهم بالفاتحين، وكان المسلمون كلما دخلوا بلدًا جعلوا نصف حاميته من اليهود والنصف الآخر منهم ثقة في أبناء إسرائيل وضعها المسلمون فيهم مدة كونهم في الأندلس.
انقرض ملك بني مروان من الأندلس سنة ٤٠٧ﻫ على رأس مائتي سنة وثمان وستين سنة وثلاثة وأربعين يومًا، بعد أن جمعوا الشمل، ورأبوا الصدع، وأحيوا المعالم، ونشروا العدل، وخدموا الحضارة، وكانت أيامهم أعراسًا وأفراحًا، فتفرق الملك بأيدي ملوك الطوائف فكان «كل ملك لما بيده، فضبط أشراف العمالات أزمة أمورهم، وركبوا ظهور غرورهم، وتنافسوا في انتحال الألقاب السلطانية، فأتوا من ذلك بكل شنيعة» إلى أن قام رأس المرابطين وأمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني صاحب المغرب الأقصى، وأعاد للبلاد مع ابنه علي بن يوسف سالف نضارتها، ودعا للخلافة العباسية على منابر الأندلس، ولم تزل الدعوة للعباسيين وذكر خلفائها على منابر الأندلس والمغرب إلى أن انقطعت بقيام ابن تومرت مع المصادمة في بلاد السوس.
وبعد أن زال حكم الموحدين من إسبانيا دخلت في حكم محمد بن يوسف بن هود من بطليوس إلى مرسية وقرطبة وإشبيلية سنة ٦٢٦، ولما هلك التف المسلمون حول محمد بن يوسف بن الأحمر من أسرة بني نصر، فاستولى على الأندلس سنة ٦٢٩، فدام فيه وفي أعقابه نحو قرنين ونصف كان الضعف رائد دولتهم أولًا حتى لقد صالح ابن الأحمر ألفونس ملك إسبانيا سنة ٦٦٥ على أن أعطاه نحو أربعين مسورًا من بلاد المسلمين من الشرق، فقال أبو محمد الرندي يرثي الأندلس، ويستصرخ أهل العدوة من بني مرين، قصيدته المشهورة التي يقول فيها:
وعاد أمر المسلمين فضعف، وبنو الأحمر آخر ملوك الأندلس يستصرخون الموحدين من أهل العدوة فينجدونهم حتى رسخت أقدام الملوك من بني الأحمر أو بني نصر في بقعة صغيرة من البلاد، جعلوا غرناطة عاصمتها، ولما انقرضت دولة الموحدين اعتمد بنو الأحمر على قوتهم في حماية سلطانهم حتى ضعف أمرهم، وصحت نية الإسبان على إخراجهم من شبه جزيرة إسبانيا باتفاق إيزابيلا الكاثوليكية وفرديناند واتحاد ملوك أرغن وقشتالة ونافار تحت سلطان واحد، وكان خروج آخر ملك من بني الأحمر من بلاد الأندلس سنة ٨٩٧ﻫ، ويومئذٍ انتهى حكم العرب هناك.