تسامح العرب
كره العرب التعصب، ولا سيما في الأندلس، وعمدوا إلى كل تسامح معقول، فاستمالوا بسيرتهم من نزلوا من الإسبانيين والبرتغاليين حتى إنهم كانوا (سيديليو) إذا شجر خلاف بين مسلم ومسيحي من الجند يعطى الحق غالبًا للمسيحي، وجعلوا أيام الآحاد أيام عطلة بدل الجمع، ورخصوا أن يتعبد كل إنسان على الصورة التي يراها، فنشأت وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب حتى لم يكد يشعر هذا إلا في النادر وبإغراء رجال الدين أنه مغلوب على أمره فاقد لاستقلاله، واعتمد الأمويون في أكثر أيامهم على جيش من الصقالبة يشترونهم أو يأخذونهم أسرى كما كان يفعل العثمانيون بجيش الإنكشارية، وصارت لأفراد من الصقالبة حظوة عند الملوك والأمة حتى إن حبيبًا الصقلبي من فتيان الأموية بقرطبة ألف كتابًا تعصب فيه لقومه سماه ﺑ «الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة»، وربما كانت منزلة الصقالبة بقرطبة منزلة الشعوبية أعداء العرب في بغداد ولا من ينكر عليهم، ومن أثر التسامح شاعت اللغة العربية في كل أرض نزلها العرب، بل لم يمض أكثر من نصف قرن حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها المسيحيون؛ لأن هؤلاء زهدوا في اللغة اللاتينية، ونشأ لهم غرام بالعربية، فأخذوا يتقنون آدابها، ويتغنون بأشعارها، ويكتبون فيها كأبنائها، ويعجبون ببلاغتها إعجاب أهلها بها.
ومن العرب من آثر زي الإسبانيين من الملابس والسلاح واللجم والسروج وكلف بلسانهم مثل محمد بن مردنيش صاحب بلاد شرق الأندلس (٥٦١) وكثير من الوزراء كانوا يعرفون لسان جيرانهم مثل محمد بن الحاج (٧١٤) ويتشبهون بهم في الأكل والحديث، وكثير من الأحوال والهيئات.
هذا ما عمله الغالبون المسلمون من العرب مع المسيحيين المغلوبين من الإسبان والبرتغاليين، أما معاملاتهم للإسرائيليين: فكانت أيضًا مما يدهش له، فأصبح لهؤلاء في الأندلس منزلة سامية في العلم والصنائع والتجارة، وكانت غرناطة في القرن العاشر تدعى مدينة اليهود؛ لكثرتهم ومكانتهم فيها.
أصبح أهل البلاد يتكلمون بالإسبانية والبرتغالية والعربية على السواء، وأخذوا بعد حين لا يتعاقدون بينهم إلا باللغة العربية، وقد وجد من عقودهم نحو ألفي صك من هذا القبيل كتبها المستعربة من الوطنيين الأصليين باللغة العربية، والعربية كانت لسان القائمين بالدولة الإسلامية هجر ما عداها في جميع الممالك، فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب، وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك التي خفقت عليها رايات الفاتحين، وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم ومدنهم، وصارت الألسنة العجمية دخيلة فيها وغريبة عنها، قاله ابن خلدون.
لا جرم أن خلفاء الأندلس كانوا من التسامح من الكافة بالمكان الذي يغبطون عليه، ويجب التنويه به؛ لأنه لم يسبق له نظير في عصورهم عند الأمم الأخرى، فقد جاء من خلفائهم من كانوا يبيحون لدعاة النصرانية أن ينشروا دينهم أحرارًا، وبلغت الحال ببعض المتحمسين منهم أن كانوا يقفون على أبواب الجوامع؛ ليتسقطوا المسلمين بالدعوة إلى دينهم، وكان عبد الرحمن الثاني عزم أن يجمع مجمعًا مقدسًا من النصارى برئاسة رئيس أساقفة إشبيلية؛ لقمع عادية التعصب الإسباني إذ أخذ دعاة الدين المسيحي يسبون الإسلام جهارًا حتى يقتلوا في سبيل دعوتهم، وتكتب لهم الشهادة بزعمهم، ولكن الخليفة مات قبل التئام هذا المؤتمر سنة ٢٣٨.
ولطالما أرخى خلفاء الأندلس العنان لخطبائهم ووعاظهم ومؤرخيهم وكتابهم يوسعون المجال لأقلامهم وألسنتهم حتى في أعمال الخلفاء، ولا يجدون منهم إلا لطفًا وعطفًا، ذلك الناصر كان كلفًا بعمارة الأرض وإقامة معالمها، وتكثير مياهها واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه وعزة سلطانه وعلو همته؛ فإنه لما ابتنى الزهراء، واستفرغ وسعه في تنجيدها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها، انهمك في ذلك حتى عطل الجمعة بالمسجد الجامع فقرعه القاضي منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة بخطبة على المنبر أمام جمهور المؤمنين ابتدأها بقوله تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ثم أفضى ذكر المشيد والاستغراق في زخرفته والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقًا، وتلا فيه قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وأسرف الخطيب في ترويع الخليفة وتقريعه، ولم يحسن السياسة في وعظه؛ فاستشاط الخليفة غضبًا، وأقسم ألا يصلي خلف الخطيب الجمعة أبدًا، فقال له الحاكم: وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فزجره أبوه وانتهره وقال: أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه وحلمه لا أم لك يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد؟
مثال آخر: شنع أحد المؤرخين على أحد الملوك المعاصرين في الأندلس، فخنق ابن الملك، وهم بقتل المؤرخ، فلما شعر أبوه بذلك قال له: إليك عن هذا الفكر الخبيث، ولئن قتلته لأكونن أنا المطالب بدمه. تقتله ليعيرنا الناس بأننا نقتل مؤرخينا. حتى إذا مضت أيام دخل المؤرخ الحمام ليستحم، فلما خرج ليلبس ثيابه رأى فيها صرة تضم ألف دينار ورقعة من الملك يقول فيها: إن الذي أوصل إليك هذه الدراهم وأنت لا تشعر قادر أن يرسل إليك من يقتلك فكف غرب لسانك عنا، وإذا عدت فأرخت ثانيًا لا تشنع علينا أعمالنا. قال دوزي: إذا قيست حرية العرب بحرية الإفرنج تشبه هذه الاستبداد.
وما زال هذا التسامح المحمود حتى انتقل ملك العرب في الأندلس إلى المرابطين والموحدين، وكانوا إفريقيين لا يخلون من شيء من التعصب، وليس فيهم تسامح الأمويين العرب؛ فتبدلت الحال بعض الشيء، وذهبت أو كادت طلاوة تلك المدنية التي أقاموها، وكانت لا بالغربية ولا بالشرقية، فبهر خبرها ومخبرها لولا أن قام الملوك من بني نصر في غرناطة، ورأبوا الصدع، وجبروا الكسر، وكانوا كلما صغرت رقعة ملكهم زادت الرقعة الباقية ارتقاءً فتنتقل القوة والنفوس من بلد زال عنها سلطانهم إلى بلاد يرفرف عليها علمهم، ويزيد ملوكهم تسامحًا مع ذمتهم ومجاوريهم، وهمة في تعهد صناعاتهم وزراعتهم وعمران مدنهم التي حصنوها بالعدل والإحسان.