العرب والإسبان
وإن المرء إذا نزل إسبانيا اليوم ليشعر ولا سيما في القسم الجنوبي منها له أنه في بلاد عربية لو كان لسان القوم العربية، ويرى كثيرًا من السحنات أشبه بوجوه العرب منها بوجوه الأمم اللاتينية، وبعض عاداتهم وطبائعهم تنم عن روح عربية على سعي رجال الدين في نزعها من بينهم منذ استعاد الإسبان أرض الأندلس أواخر المائة التاسعة. لا جرم أن أربعة قرون ونصفًا لم تكتف لأن تنزع من القوم ما تأصل فيهم في ثمانية قرون وتمثلوه وتمثل بهم من مدنية العرب.
ذكر بعضهم أن في الأندلس أهم آثار إسبانيا والأندلس من إسبانيا بمثابة إقليم البروفانس في جنوبي فرنسا وصقلية من إيطاليا، وقد جمعت الأندلس جميع المحاسن والغرائب المبعثرة في طول إسبانيا وعرضها ولهجة الأندلس مائلة إلى العربية كثيرًا، والاحتفالات والأخلاق قد حفظت فيها الأساليب العربية.
نعم، لا تزال تسمع في اللغة الإسبانية كثيرًا من الألفاظ العربية من أسماء البلاد والأنهار والنواحي وبعض المرافق والمصطلحات وكل كلمة تبدأ عندهم بأل التعريف العربية هي عربية لا محالة ومن الأسماء ما يبدأ ببني ومنها ما يبدأ بوادي، فدخلت مئات من الألفاظ في اللغة الإسبانية، وتأصلت فيها كما دخلت البرتغالية والإيطالية والفرنسية لغات الأمم اللاتينية، وهي ظاهرة كل الظهور في اللغة الإسبانية، وأقل منها في اللغة البرتغالية، وإلى اليوم تسمع بوادي الرامة ووادي الحجارة ووادي القنال ووادي البياضة ووادي الكبير وقلعة وقليعة والرملة وقصبة وقصر ومدينة وجنة والمدور والبطاقة والقنديل والأنبيق والساقية والمنارة والربض والمسجد والربع والشمعة والفندق والمحراب ومئات غيرها أفردها علماء منهم بالتأليف.
أخذ الإسبان عن العرب أشياء ظنوها بعد من مصطلحات أجدادهم، وبنات أفكارهم، وتأصلت فيهم من حيث يشعرون ولا يشعرون. حدثني الثقة أن أحد علماء المشرقيات من الإسبان، وهو موسيقار يحسن العربية، ويطبع الآن كتابًا يثبت فيه بالأدلة التاريخية أن الموسيقى الكنائسية في القرن الثالث عشر كانت مقتبسة من الموسيقى العربية، ويخيل لمن يسمع الموسيقى الإسبانية والغناء الإسباني ويرى الرقص الإسباني أنها عربية إلا قليلًا، بحيث ساغ لنا أن نقول: إذا كان الروسي شرقيًّا «تأوروب» واستغرب فالإسباني عربي شرقي «تأوروب» واستغرب أيضًا.
ولا تزال إلى اليوم ترى كثيرًا من النابهين من الإسبانية يدعون أن أصلهم عربي يذكرون ذلك مفاخرين، ويعدون ذلك من أمارات الشرف والتغني يذكرني القديم الجميل، وقد رأينا الإسبانيين في القرن التاسع عشر والعشرين نهضوا نهضة لا بأس بها للبحث عن ماضيهم أو ماضي إسبانيا الإسلامية، وصرفوا في ذلك وقتًا ومالًا، وتوفر على هذا العمل طائفة منهم حرصوا أجمل حرص على الأخذ من المدنية العربية؛ ليكفروا عن سيئات أجدادهم الذين عوروا بعملهم مصانع العرب وخططهم، وحرقوا ومزقوا أسفارهم وآثارهم.
أذكر مثالين من هذه النهضة يعدان في الباب الأول من أبواب تسلسل الفكر الراقي والدءوب المحمود وهو ما يقل الآن فينا بعد أن أورثنا الإسبانيين أخلاقنا وطباعنا، وإليكم البيان: قال لي الأستاذ الأب آسين بلاسيوس مدرس العربية في جامعة مجريط وأحد أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وأنا أنظر خزانى كتبه: جمع أكثر هذه الخزانة أستاذي ريبرا، وفيها كتب كثيرة مطبوعة، وأهمها الجزازات «الفيش» التي رتبها طول حياته، وفيها أسماء ثلاثين ألف عالم من علماء الأندلس، وقد استنسخها البرنس ليوني كايتاني الإيطالي صاحب تاريخ الإسلام الكبير؛ ليطبعه في جملة ما يطبع من آثار العرب. قال: لما كنت في بلدي وجئت مجريط لأعمل مع أستاذي أحمل ما تيسر لطالب جمعه من الكتب ضممت مجموعتي إلى مجموعته في هذه الدار، ولما حانت وفاته وكان عزبًا أوصى لي بكتبه على أن أشتغل بها مدة حياتي وأفتح أبوابها لطلاب الاستشراق، ثم أتركها كما تركها هو لمن أرى فيه الكفاءة للعمل بعدي أو أجعلها في إحدى دور الكتب العامة.
هذان مثالان من عناية الخلف بآثار السلف، ولو قام في أذهان خاصة الإسبان مثل هذه الأفكار منذ جلاء العرب عن بلادهم؛ لكانت اليوم مجاميعهم ومجموعاتهم أعظم ثروة خلفتها أمة مغلوبة لأمة غالبة، ولعدت في إسبانيا من أكبر موجبات فخرها كما تربح ولايات الأندلس اليوم من بقايا الآثار العربية التي يقصدها السياح من عامة أقطار الأرض.