العلم في الأندلس
جملة لا يزال صداها يتردد في أذننا منذ أن فاوهنا بها العالم السويسري من بضع سنين، وقد ذكرنا بالأمس عهد الأندلس وعهد عمرانه الزاهر وارتقائه الباهر. ذكرنا بالأمس أمة عربية أوروبية تشبه الغربيين في تصوراتها وآدابها وعلومها، ولكنها شرقية عربية مسلمة بإقامة شعائر دينها وأخلاقها وعاداتها، وقلنا: إننا معاشر العرب على كثرة عنايتنا أيام عزنا بتقييد علوم ديننا ولساننا … وما إلى ذلك، لم نكن في العناية بالعلوم التي هي اليوم العلوم الحقيقية كالرياضيات والطبيعيات والكيمياء والفلسفة والطب والفلك دون ذلك بكثير، وإلا لما قامت مصانع الأندلس على النظام الذي يرى الناس أثره، ويعجبون به على اختلاف العصور، ولما أعجب الأستاذ روزيه اليوم بهندسة العرب لسدود بلنسية الباقية لعهدنا بعد انقراض دولة العرب من تلك البلاد زهاء أربعة قرون.
ولقد حدث الثقات أن الغربيين من المجاورين للأندلس كالفرنجة أي الفرنسيين والألمان، وسكان بررومية أي الطليان، وكانوا أمثل الإفرنج مدنية لذاك العهد لم يكونوا إلا دون جيرانهم عرب الأندلس في العلم وأعمال العمران والصناعات والزراعة، ولولا علماء الكيمياء والهندسة والنبات والطب من العرب لتأخرت المدنية في أوروبا زمنًا طويلًا.
ولذلك كانت الأندلس في عهد العرب كعبة العلم يحج إليها أذكياء الطلاب من فرنسا وإيطاليا وغيرهما، كما يحج اليوم طلاب العلم إلى كليات فرنسا وألمانيا وإنكلترا والبلجيك وسويسرا وهولاندا.
كانت الأندلس قبل تغلب بني أمية عليها سنة ٩٢ﻫ خالية من العلم لم يشتهر عند أهلها أحد بالاعتناء به إلا أنه يوجد فيها طلسمات قديمة في مواضع مختلفة وقع الإجماع على أنها من عمل ملوك رومية؛ إذ كانت الأندلس منتظمة بمملكتهم، ولما استقر الأمر لبني أمية عني جماعة من أهلها بطلب الفلسفة، ونالوا أجزاء كثيرة منها، وفي أيام الأمير الخامس من بني أمية وهو محمد بن عبد الرحمن، أي في أواسط المائة الثالثة، تحرك أفراد من الناس إلى طلب العلوم، أي غير علوم الشريعة واللغة، ولم يزالوا يظهرون ظهورًا غير شائع إلى قريب وسط المائة الرابعة.
ذلك لأن رجال الدين كانوا أصحاب صولة وتأثير في النفوس، ومن عادة من جهل شيئًا أن يعاديه، فتوهم بعضهم أن هذه العلوم الدنيوية مدرجة إلى الزهد في العلوم الأخروية، فكانوا يشددون النكير على من يتعاطونها، ولكن أكثر ملوك بني أمية ومن بعدهم من ملوك الأندلس كانوا أعقل من أن يطاوعوهم في النيل ممن يريدون الإيقاع بهم؛ لمخالفتهم لهم في العلوم التي يمتون بها.
اشتهر بين وسطي المائة الثالثة والرابعة من العلماء: أبو عبيدة مسلم البلنسي المعروف بصاحب القبلة، كان عالمًا بحركات الكواكب وأحكامها، وصاحب فقه وحديث، ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة كان بصيرًا بحساب النجوم والطب وغير ذلك متصرفًا في العلوم متفننًا في ضروب المعارف، وكان معتزلي المذهب، توفي سنة ٣١٥، ومنهم محمد بن إسماعيل المعروف بالحكيم، وكان عالمًا بالحساب والمنطق نحويًّا لغويًّا توفي سنة ٣٣١.
انتدب الأمير الحكم في أيام أبيه عبد الرحمن صدر المائة الرابعة إلى العناية بالعلوم؛ فاستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار الشرق عيون التواليف الجليلة في العلوم القديمة والحديثة، وجمع منها في بقية أيام أبيه، ثم في مدة ملكه ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، فكثر تحرك الناس في أيامه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلم مذاهبهم.
وقام بعده ابنه هشام فعمد إلى خزائن أبيه الحكم الجامعة للكتب المذكورة وغيرها، وأراد استخراج ما فيها من ضروب التآليف بمحضر خواص من أهل العلم بالدين، وأمرهم بإخراج ما في جملتها من كتب العلوم القديمة المؤلفة في علوم المنطق وعلم النجوم وغير ذلك من علوم الأوائل حاشا الطب والحساب، وأمر بإحراق ما عدا ذلك وإفسادها، فأحرق بعضها، وطرح بعضها في آبار القصر وهيل عليها التراب والحجارة، وغيرت بضروب من التغايير فعل ذلك تحببًا إلى عوام الأندلس، وتقبيحًا لمذهب الخليفة الحكم عندهم؛ إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهمًا عندهم بالخروج عن الملة، ومظنونًا به الإلحاد في الشريعة، فسكن أكثر من كان تحرك للحكمة عند ذلك، واضمحلت نفوسهم، وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم، ولم يزل أولو النباهة من ذلك الوقت يكتمون ما يعرفونه منها، ويظهرون ما تحوز لهم فيه من الحساب والفرائض والطب … وما أشبه ذلك، إلى أن انقرضت دولة بني أمية من الأندلس.
قال هذا القاضي صاعد وتؤيده رواية ابن سعيد في المغرب، قال: وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لهما حظًّا عظيمًا عند خواصهم، ولا يتظاهر بها خوف العامة، فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان تقربًا لقلوب العامة، وكثيرًا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه، وإن كان خاليًا من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري.
قال ابن حزم: وأما كتب الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد بن رشد القرطبي، وله فيها تصانيف جحدها لما رأى من انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم، وسجنه بسببها، وكذلك ابن حبيب الذي قتله المأمون بن منصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية، وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره، وكان مطرف الإشبيلي قد اشتغل بالتصنيف في علم النجوم إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه إلى الزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن، فكان لا يظهر شيئًا مما يصنف.
وقال أيضًا من رسالة أهل قرطبة: إنهم من التمكن في علوم القرآن والروايات فقط، وكثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار فسيح المجال، وقد ذكر ابن حزم في رسالته هذه من نبغ في الأندلس من المؤلفين في علوم الدين والنسب والتاريخ والطب، وعد بعض كتبهم، قال: وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونًا مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي دالة على تمكنه من هذه الصناعة، وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة، وقال: لم يؤلف في الأزياج مثل مسلمة وزيج بن السمح، وهما من أهل بلادنا، وكذلك أحمد بن نصر.
وقال آخر: وأما كتب علم الموسيقى فكتاب أبي بكر بن باجة الغرناطي من ذلك فيه كفاية، وهو في الغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد، وليحيى الخدج كتاب الأغاني الأندلسية على منزع الأغاني لأبي الفرج، وهو ممن أدرك المائة السابعة، قال صاعد: ولما افترق الملك في صدر المائة الخامسة من الهجرة بين ملوك الطوائف، واقتعد كل منهم قاعدة من أمهات البلاد، فاشتغل بهم ملوك الحاضرة العظمى قرطبة من امتحان الناس، واضطرت الفتنة إلى بيع ما كان بقصر قرطبة من ذخائر ملوك الجماعة من الكتب وسائر المتاع، فبيع ذلك بأوكس ثمن وأتفه قيمة انتشرت تلك الكتب بأقطار الأندلس، ووجد في خلالها أعلاق من العلوم القديمة كانت أفلتت من أيدي الممتحنين بحركة الحكم أيام المنصور بن أبي عامر، وأظهر أيضًا كل من كان عنده من الرعية شيء ما كان لديه منها، فلم تزل الرغبة ترتفع من حين ذلك في طلب العلم القديم شيئًا فشيئًا، ثم أبيحت تلك العلوم إلى أن زهد الملوك فيها وفي غيرها فقلَّ طلاب العلم، وصاروا أفرادًا بالأندلس.
فمن أعلام هذه العلوم على ذاك العهد أبو غالب بن عبادة الفرائضي كان مشهورًا بعلم العدد وأبو أيوب عبد الغافر بن محمد أحد المهرة بعلم الهندسة، وعبد الله بن محمد المعروف بالسري كان عالمًا بالعدد والهندسة، وكان ينسب إليه العلم بصناعة الكيمياء، ومنهم أبو بكر بن أبي عيسى كان مقدمًا في العدد والهندسة والنجوم وسائر العلوم الرياضية فكان يجلس لتعليم ذلك العلم في أيام الحكم، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن زيد المعروف بالإقليدي كان متقدمًا في علم الهندسة معتنيًا بصناعة المنطق، وأحمد بن حماد القرطبي (٣٣١) عالم بالحساب والهندسة وأبو القاسم أحمد بن محمد العدوي كان معلمًا يعلم العدد والهندسة نافذًا فيها، وأبو عثمان سعيد بن فتحون بن مكرم المعروف بالخمار السرقسطي كان متحققًا إمامًا في علم النحو، وله تآليف في الموسيقى ورسائل في الفلسفة، وأبو القاسم مسلمة بن أحمد المعروف بالمرحيط كان إمام الرياضيين في الأندلس في وقته، وأعلم ممن كان قبله بعلم الأفلاك، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وله كتاب حسن في تمام علم العدد، وهو المعني المعروف بالمعاملات، وكتاب اختصر فيه تعديل الكواكب من زيج البتاني، وعني بزيج محمد بن موسى الخوارزمي، وصرف تاريخه الفارسي إلى التاريخ العربي، ووضع أوساط الكواكب لأول تاريخ الهجرة، وزاد فيه جداول حسنة توفي في سنة ٣٩٨، وقد أنجب تلاميذ جلة، ولم ينجب عالم بالأندلس مثلهم، فمن أشهرهم: ابن السمح، وابن الصفار، والزهراوي، والكرماني، وابن خلدون.
فأما ابن السمح القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهندس: فكان متحققًا بعلم العدد والهندسة، متقدمًا في علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له مع ذلك عناية بالطب، وله تواليف حسنة في الهندسة وعمل الأسطرلاب والأزياج ومنها زيجه الذي ألفه على أحد مذاهب الهند المعروف بالسند هند توفي سنة ٤٢٦.
وأما ابن الصفار فهو أبو القاسم أحمد بن عبد الله بن عمر، كان متحققًا أيضًا بعلم العدد والهندسة والنجوم، وقعد في قرطبة لتعليم ذلك، وكان له أخ يسمى محمدًا مشهور بعمل الأسطرلاب لم يكن بالأندلس قبله أجمل صنعًا لها منه.
وأما الزهراوي فهو أبو الحسن علي بن سليمان كان عالمًا بالعدد والهندسة معتنيًا بعلم الطب.
وأما الكرماني فهو أبو الحكم عمرو بن عبد الرحمن من أهل قرطبة، أحد الراسخين في علم العدد والهندسة، رحل إلى الشرق وانتهى إلى حران من بلاد الجزيرة، وعني هناك بعلم الهندسة والطب، ثم رجع إلى بلاد الأندلس، وجلب معه الرسائل المعروفة برسائل إخوان الصفا، ولم يدخلها أحد من أهل الأندلس قبله، ومحله من العلوم النظرية المحل الذي لا يجارى فيه، توفي بسرقسطة سنة ٤٥٨.
وأما ابن خلدون (هو غير عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ) فهو أبو مسلم عمرو بن أحمد بن خلدون الحضرمي من أشراف أهل إشبيلية في علوم الفلسفة، مشهور بعلم الهندسة والنجوم والطب، مشبهًا بالفلاسفة في إصلاح أخلاقه وتعديل سيرته وتقويم سياسته، توفي سنة ٤٤٩.
ومن مشاهير تلاميذ أبي القاسم أحمد بن عبد الله الصفار: ابن برغوث والواسطي وابن شهر والقرشي والأمطش المرواني وابن المطار.
فأما ابن برغوث فهو محمد بن عمر بن محمد المعروف بابن برغوث كان متحققًا بالعلوم الرياضية مختصًّا منها بإيثار علم الأفلاك وهيئاتها، وحركات الكواكب وإرصادها، وكان له مع ذلك تحقق بعلم النحو ومعرفة القرآن والفقه والوثائق وإشراف حسن على سائر العلوم، توفي سنة ٤٤٤.
وأما الواسطي فهو أبو الإصبغ عيسى بن أحمد أحد المتمكنين من علم العدد والهندسة والفرائض، وقعد بقرطبة لتعليم ذلك، وله أيضًا بصر بحمل من علم هيئة الأفلاك، وحركات النجوم.
وأما ابن شهر: فهو أبو الحسن مختار بن شهر الرعيني كان بصيرًا بالهندسة في النجوم متقدمًا في اللغة والنحو والحديث والفقه شاعرًا متكلمًا ذا دهاء ومعرفة بالسير والتواريخ.
وأما ابن العطار فهو محمد بن خيرة العطار، فكان من تلاميذ ابن الصفار متقنًا لعلم العدد والهندسة والفرائض، وله بصر بصناعة النجوم وعناية بعلم حركاتها.
ومن مشاهير تلاميذ ابن السمح: أبو مروان سليمان بن محمد بن عيسى بن الناشئ، وهو بصير بالعدد والهندسة، معتن بصناعة الطب وأحكام النجوم، وأبو جعفر أحمد بن عبد الله المعروف بابن الصفار المتطبب.
ومن نظراء هذه الطبقة: عبد الله بن أحمد السرقسطي كان نافذًا في علم العدد والهندسة والنجوم، وقعد لتعليم ذلك في بلده، توفي سنة ٤٤٨.
ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم الإشبيلي، كان بصيرًا بعلوم البرهان واللسان والمساءلة، متفننًا في ضروب المعارف صنعًا لطيف اليد، توفي سنة ٤٢٠.
ومن مشاهير أصحاب ابن برغوث: ابن الليث وابن الجلاب وابن حي. فأما ابن الليث: فهو محمد بن أحمد بن الليث كان متحققًا بعلم العدد والهندسة معتنيًا بعلم حركات الكواكب وأرصادها، وكان مع هذا بصيرًا بالنجوم واللغة والفقه، توفي سنة ٤٠٥.
وأما ابن حي: فهو الحسن بن محمد التجيبي من أهل قرطبة كان بصيرًا بالهندسة والنجوم كلفًا بصناعة التعديل، وله فيها مختصر على مذهب السند هند، وخرج من الأندلس سنة ٤٤٢ ولحق بمصر، ثم رحل إلى اليمن، واتصل بأميرها المسيحي، وكان له ملكه إذ ذاك يشتمل على بعض إفريقية وجميع مصر والشام وجزيرة العرب والحجاز وتهامة ونجد واليمن، حظي عنده، وتوفي سنة ٤٥٦.
وأما ابن الجلاب فهو الحسن بن عبد الرحمن المعروف بابن الجلاب أحد المتحققين بعلم الهندسة وهيئة الأفلاك وحركات النجوم، وله مع ذلك عناية بالمنطق والعلم الطبيعي.
ومنهم أبو الوليد هشام بن أحمد بن هشام بن خالد الكناني المعروف بابن الوقشي من أهل طليطلة أحد المتفننين في العلوم المتوسعين في ضروب المعارف من أهل الفكر الصحيح، والنظر الناقد، والتحقيق بصناعة الهندسة والمنطق، والرسوخ في علم النحو واللغة والشعر والخطابة والأحكام لعلم الفقه والأثر والكلام، وهو مع ذلك شاعر بليغ ليس يفضله عالم بالأنساب والأخبار والسِّيَرِ، مشرف على حمل سائر العلوم.
ومن نظراء هؤلاء: أبو جعفر أحمد بن خميس بن عامر بن منيح من أهل طليطلة، أحد المعنيين بعلم الهندسة والنجوم والطب، وهو من لِدَات القاضي أبي الوليد هشام بن أحمد بن هشام وأبي إسحاق إبراهيم بن لب التجيبي المعروف بالقويدس، قعد للتعليم بذلك زمنًا، وكان له بصر بعلم هيئة الأفلاك وحركات النجوم ونفوذ في العربية، توفي سنة ٤٥٤.
ومنهم محمد بن عبد الله بن مرشد مولى ابن طلمس الوزير كان كاتبًا كامل الصناعة، يجمع إلى ذلك النبوغ في علوم كثيرة من الحساب والتنجيم والهندسة، توفي سنة ٤٤٨.
وكان في القرن الخامس للهجرة أفراد من الأحداث في الأندلس مشتغلون بعلم الفلسفة، ذوو أفهام صحيحة، وهمم رفيعة؛ فمنهم من سكان طليطلة وجهاتها: أبو الحسن علي بن خلف بن أحمر، وأبو مروان عبد الله بن خلف الأستجي، وأبو جعفر أحمد بن يوسف التهلاكي، وعيسى بن أحمد بن العالم، وإبراهيم بن سعيد السهيلي الأصطرلابي، ومن أهل سرقسطة: الحاجب أبو عامر بن الأمير المقتدر بالله، وأبو جعفر أحمد بن جوشن، ومن أهل بلنسية: أبو زيد عبد الرحمن بن سيد.
وأبرع هؤلاء في الهندسة: علي بن أحمر الصيدلاني، وأبو جعفر أحمد بن جوشن، وأعلمهم بحركات النجوم وهيئة الأفلاك: أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى النقاش المعروف بولد الزرقيال — والزرقيال نسبة لآلة سموها الزرقلة، وهي صحيفة لرصد الكواكب — فإنه أبصر أهل القرن الخامس بإرصاد الكواكب، وهيئة الأفلاك، وحساب حركاتها، وأعلمهم بعلم الأزياج، واستنباط الآلات النجومية.
وأحمد بن يوسف يعرف بابن كماد (حماد؟) كان من أهل المعرفة بالعدد وصناعة النجامة وبنى أزياجه ومنها القبس والمستنبط على إرصاد أبي إسحاق الطليطلي المعروف بالزرقالة.
وأما أبو عامر بن الأمير بن هود: فهو مع مشاركته لهؤلاء في العلم الرياضي منفرد دونهم بعلم المنطق والعناية بالعلم الطبيعي والعلم الإلهي.
وكان عبد الرحمن بن إسماعيل بن بدر المعروف بالإقليدس الأندلسي متقدمًا في علم الهندسة معتنيًا بصناعة المنطق، وموسى بن ميمون الإسرائيلي الأندلسي قرأ علم الأوائل، وأحكم الرياضيات، وشد أشياء من المنطقيات، وأبو بكر بن الصانع المعروف بابن باجة عالمًا بعلوم الأوائل لم يبلغ أحد درجته من أهل عصره في مصره، وله تصانيف في الرياضيات والمنطق والهندسة أربى فيها على المتقدمين، قال القفطي: إلا أنه يتمسك بالسياسة المدنية، وينحرف عن الأوامر الشرعية، استوزره أبو بكر يحيى بن تاشفين مدة عشرين سنة، وكانت وفاته في سنة ٥٣٣.
وممن اعتنى بصناعة المنطق خاصة من سائر الفلسفة: أبو محمد بن حزم القرشي، وكان أبوه أحد العظماء من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر، ووزر لابنه المظفر، وكان ابنه أبو محمد وزيرًا أيضًا لعبد الرحمن المستظهر بالله، ثم نبذ هذه الطريقة، وأقبل على قراءة العلوم، وتقييد الآثار والسنن، وعني بعلم المنطق.
ومنهم أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأعمى، وكان أبوه أيضًا أعمى، عني بعلوم المنطق عناية طويلة، وألف فيها تأليفًا كبيرًا ذهب فيه إلى مذهب متى بن يونس، وهو بعد هذا أعلم أهل الأندلس قاطبة بالنحو واللغة والأشعار، وله في اللغة تواليف جليلة؛ منها: المحكم، والمحيط الأعظم، والمخصص، وشرح إصلاح المنطق، وشرح كتاب الحماسة ٤٥٨.
ومن أعاجيب النوابغ الأندلسيين الذين فقدوا بصرهم ولم يفقدوا بصيرتهم: ابن الحناط الكفيف، الذي قال فيه ابن حيان: إنه كان أوسع الناس علمًا بعلوم الجاهلية والإسلام، بصيرًا بالآثار العلوية، عالمًا بالأفلاك والهيئة، حاذقًا بالطب والفلسفة، ماهرًا في العربية واللغة والآداب الإسلامية، وسائر التعاليم الأوائلية.
والداعشني ضعيف البصر متوقد الخاطر، فقرأ كثيرًا في حال عشاه، ثم طفئ نور عينيه بالكلية فازداد براعة، ونظر في الطب بعد ذلك فأنجح علاجًا، وكان ابنه يصف له مياه الناس المستفتين عنده فيهدي منها إلى ما لا يهتدي البصر، ولا يخطئ الصواب في فتواه ببراعة الاستنباط، وتطيب عنده الأعيان والملوك والخاصة، فاعترف له بمنافع جسيمة.
وأما العلم الطبيعي والعلم الإلهي فلم يعن أحد من أهل الأندلس بهما كبير عناية، ومن المشتغلين بهما: ابن النباش التيجان، وأبو عامر بن الأمير بن هود، وأبو الفضل بن حسداي الإسرائيلي، وأما صناعة الطب: فلم يكن بالأندلس من استوعبها، ولا لحق بأحد من المتقدمين فيها، وأول من اشتهر منهم بالأندلس أحمد بن إياس من أهل قرطبة، وحمد بن عبد الله الأوسط ويعرف بالحراني، ومنهم: يحيى بن إسحاق أحد وزراء الناصر لدين الله، وسعيد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد ربه مولى الأمير هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل، وهو ابن أخي أحمد بن محمد بن عبد ربه الشاعر صاحب العقد، وكان له بصر بحركات النجوم ومهاب الرياح وتغيير الأهوية.
ومنهم: عمر بن بريق، وأصبغ بن يحيى، وأحمد بن حكم بن حفصون، وكان هذا طبيبًا نبيلًا ودقيق النظر بالمنطق مشرفًا على كثير من علوم الفلسفة.
ومنهم: محمد بن تمليخ، وأبو محمد بن الحسين المعروف بابن الكناني كان عالمًا بالطب حسن العلاج.
ومنهم: عبد الملك الثقفي كان عالمًا بالطب والهندسة، وكان الطب أغلب عليه.
ومنهم: عمر وأحمد ابنا يونس بن أحمد الحراني، ومنهم محمد بن عبدون الجبلي، وكان قبل أن يتطبب مؤدبًا في الحساب والهندسة، ومنهم سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل، وعبد الله بن إسحاق المعروف بابن الشناعة المسلماني الإسرائيلي، وأبو عبد الله محمد بن الحسين المعروف بابن الكناني المظفر وكان بصيرًا بالطب متقدمًا فيه ذا حظ من المنطق والنجوم من علوم الفلسفة، ومنهم أبو العرب يوسف بن محمد أحد المتحققين بصناعة الطب، توفي سنة ٤٣٠.
ومن أشهرهم: أحمد بن إبراهيم الأنصاري من أهل بلنسية، كان من أهل العلم بالفرائض والحساب، لا يجارى في التعاليم، قعد لتعليم الحساب والهندسة ٥٩٣، ومنهم: أبو عثمان سعيد بن البغونش عالم بعلم العدد والهندسة والطب ٤٤٤، ومنهم: الوزير أبو المطوف عبد الرحمن اللخمي عن عناية بالغة بقراءة كتب جالينوس وأرسطاليس وغيرهما من الفلاسفة، وتمهر في علوم الأدوية المفردة حتى ضبط منها ما لم يضبطه أحد في عصره، وألَّف فيها كتابًا جليلًا لا نظير له، جمع فيه ما تضمنه كتاب ديسقوريدوس وكتاب جالينوس في الأدوية المفردة، وكان له في الطب منزع لطيف، وذلك أنه لا يرى التداوي بالأدوية ما أمكن التداوي بالأغذية أو ما كان قريبًا منها، فإذا دعت الضرورة إلى الأدوية فلا يرى التداوي بمركبها من وصل إلى التداوي بمفردها، فإن اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب، بل اقتصر على أقل ما يمكن منه.
ومنهم أبو مروان بن زهر الإشبيلي، وأبو محمد عبد الله بن محمد المعروف بابن الذهبي، وأبو عبد الله محمد البجائي المعروف بابن النباش معتن بصناعة الطب، ذو معرفة جيدة بالعلم الطبيعي، ومشاركة في الإلهي، وتحقق بعلم الأخلاق والسياسة، وبصر بصناعة المنطق، وممن عني بطلب الفلسفة والهندسة والمنطق: أبو الحسن عبد الرحمن بن خلف بن عساكر كان صنع اليدين متصرفًا في ضروب من الأعمال اللطيفة والصناعات الدقيقة.
ولم تزل صناعة أحكام النجوم نافعة بالأندلس قديمًا وحديثًا؛ فمن مشاهير المشتغلين بها: أبو بكر يحيى بن أحمد المعروف بابن الخياط، وأبو مروان الإستجبي أحد المتحققين بعلم الأحكام والمشرفين على كتب الأوائل والأواخر، وله في التسييرات ومطارح الشعاعات وتعليل بعض أصول الصناعة رسالة فاضلة لم يتقدمه أحد إليها، ومن المذكورين: أبو الإصبع عثمان القري من أهل قرطبة، وكان علمه الذي ينسب إليه ويغلب عليه التنجيم، ومنهم عبد الرحمن بن وافد اللخمي من أهل طليطلة رحل إلى قرطبة فلقي بها القاسم خلف بن عباس الزهراوي، وأخذ عنه علم الطب، وكان مع تقدمه في ذلك فقيهًا عالمًا متفننًا، وله في الفلاحة مجموع مفيد، وكان عارفًا بوجوهها، وهو الذي تولى غرس جنة المأمون بن ذي النون الشهيرة بطليطلة، توفي سنة ٥٦٧.
وممن لم يشتهروا: محمد بن عيسى بن ينق أبو عامر من أهل شاطبة، لازم أبا العلاء بن زهر بإشبيلية، وأخذ عنه علمه، وبرع في الطب والأدب، وتوفي سنة ٥٤٧.
ومن الأطباء بالأندلس: جواد الطبيب النصراني كان في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وله اللعوق المنسوب إلى جواد، وله دواء الراهب والشرابات والسفوفات، وكان خالد بن يزيد بن رومان النصراني بقرطبة صانعًا بيده، عالمًا بالأدوية الشجارية، وابن ملوكة النصراني كان في أيام الأمير عبيد الله وأول دولة الأمير عبد الرحمن الناصر، وكان يصنع بيده، ويفصد العروق، وكان على بابه ثلاثون كرسيًّا لقعود الناس، وعمران بن أبي عمرو وإسحاق الطبيب المسيحي كان مقيمًا بقرطبة، وكان صانعًا بيده مجربًا يحكى له منافع وآثار عجيبة وتحنك فاق به جميع أهل دهره، ومنهم سليمان أبو بكر بن تاج كان في دولة الناصر، وابن أم المؤمنين، وأبو بكر أحمد بن جابر، وأبو عبد الملك الثقفي كان طبيبًا أديبًا بكتاب إقليدس وبصناعة المساحة، وهارون بن موسى الإشبيلي وعبد الرحمن بن إسحاق بن الهيثم، والرميلي كان بألمرية في أيام ابن معن المعروف بابن صمادح، ويلقب بالمعتصم بالله.
وسخم بن الفوال يهودي من سكان سرقسطة كان متقدمًا في صناعة الطب متصرفًا في علم المنطق وسائر علوم الفلسفة، ومروان بن جناح كان يهوديًّا وله عناية بصناعة المنطق، وتوسع في علم لسان العرب واليهود ومعرفة جيدة بصناعة الطب، ومنهم: إسحاق بن قسطار وكان يهوديًّا أيضًا، وكان بصيرًا بأصول الطب مشاركًا في علم المنطق مشرفًا على آراء الفلاسفة، وله تقدم في اللغة العبرانية، وبراعة في فقه اليهود، وهو حبر من أحبارهم، ومنهم: حسداي بن إسحاق وكان من أحبار اليهود متقدمًا في علم شريعتهم، وهو أول من فتح لأهل الأندلس منهم باب عملهم من الفقه والتاريخ وغير ذلك، وكانوا قبل يضطرون في فقه دينهم، وشتى تاريخهم، ومواقيت أعيادهم إلى يهود بغداد فيستجلبون من عندهم حساب عدة من السنن، يتعرفون مداخل تاريخهم، ومبادئ سنيهم، فلما اتصل حسداي بالحكم ونال عنده نهاية الحظوة توصل به إلى استجلاب ما شاء من تآليف اليهود بالمشرق، فعلم حينئذ يهود الأندلس ما كانوا يجهلون، واستغنوا عما يتجشمون الكلف فيه.
ومنهم الفضل حسداي من ساكني مدينة سرقسطة، ومن بيت شرف اليهود بالأندلس، عني بالعلوم على مراتبها، وتناول المعارف من طرقها، فأحكم علم لسان العرب، ونال حظًّا جزيلًا من صناعة الشعر والبلاغة، وبرع في علم العدد والهندسة وعلم النجوم وفهم صناعة الموسيقى، وحاول عملها، وأتقن علم المنطق، وتمرن بطرق البحث والنظر، واشتغل أيضًا بالعلم الطبيعي، وكان له نظر في الطب، ومنهم: أبو جعفر بن أحمد بن حسداي، كان آية في الطب والمنطق، ومنهم: ابن سمحون أبو بكر حامد.
وكان أبو عبيد الله بن عبد العزيز البكري من مرسية، وأعيان أهل الأندلس وأكابرهم، فاضلًا في معرفة الأدوية المفردة، وكان أبو جعفر الغافقي والشريف محمد بن محمد الحسني وخلف بن عباس الزهراوي وابن بكلارش من أكابر علماء الأندلس في صناعة الطب، وابن الصلت أمية بن عبد العزيز من بلد دانية من شرق الأندلس، وهو من أكابر الفضلاء في صناعة الطب وفي غيرها من العلوم، وكان أوحد في العلم الرياضي متقنًا لعلم الموسيقى، وعمله جيد اللعب بالعود.
ومن أعظم فلاسفة الأندلس أبو بكر محمد بن يحيى الصائغ المعروف بابن باجة، وكان في العلوم الحكمية علامة وقته، متميزًا في العربية والأدب والطب، متقنًا لصناعة الموسيقى، جيد اللعب بالعود، قالوا: إنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإنه إذا قارنت أقاويله فيها بأقاويل ابن سينا والغزالي، وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم، ودونا فيها بأن لهذا الرجحان في أقاويله وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو، والثلاثة أئمة دون ريب، ومن حكمائهم الإلهيين أو المتصوفين: الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي صاحب الفتوحات دفين دمشق.
ومنهم: أبو العلاء بن زهر كان غاية في علوم الأوائل والطب، وأبو مروان بن أبي العلاء بن زهر وكان من كبار الأطباء، والحفيد أبو بكر بن زهر كان متميزًا في العلوم ولم يكن في زمانه أعلم منه بصناعة الطب، ومنهم: أبو الحفيد محمد بن أبي بكر بن زهر، وأبو جعفر بن هارون الترجالي من أعيان أهل إشبيلية، وكان محققًا للعلوم الحكمية متقنًا لها معتنيًا بكتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء المتقدمين فاضلًا في صناعة الطب عالمًا بصناعة الكحل، وأبو الحجاج يوسف بن موراطير من شرقي الأندلس، وموراطير قرية من بلنسية، كان فاضلًا في صناعة الطب، فالأمور الشرعية، أديبًا شاعرًا، ومنهم ابن أخته أبو عبد الله بن يزيد، وأبو مروان عبد الملك بن قبلال وأبو إسحاق إبراهيم الداني، وكان أمين البيمارستان، وطبيبه بالحضرة، وكذلك ولداه، وأبو يحيى بن قاسم الإشبيلي كان صاحب خزانة الأشربة والمعاجين التي يأخذها الخليفة المنصور من عنده.
وأبو الحكم بن غلندو الطبيب، وأبو جعفر أحمد بن حسان، وأبو العلاء بن أبي جعفر أحمد بن حسان، وأبو محمد الشذوني، وله معرفة جيدة بعلم الهيئة والحكمة والطب مشهور بالعلم، وأبو الحسين بن أسدون شهر بالمصدوم الطبيب، وعبد العزيز بن مسلمة الباجي، وأبو جعفر بن الغزال، وأبو بكر بن القاضي أبي الحسن الزهري، وابن الحلاء المرسي، وأبو إسحاق بن طلموس من جزيرة شقر من أعمال بلنسية، وأبو جعفر الذهبي، وأبو العباس بن رومية النباتي العشاب، وأبو العباس الكمبنازي، وابن الأصم … وغيرهم من الأطباء الذين كانوا يجمعون إلى الطب أدبًا وشعرًا وحديثًا وقرآنًا وفلسفة ومنطقًا أو نجومًا أو كيمياء.
هذه جملة إجمالية في بعض رجال العلم غير الديني في الأندلس، ذاك القطر الذي إليه تنسب نحو نصف المدنية العربية الذي نقل أهله المدنية القديمة إلى أهل المدنية الحديثة، فكانوا خير صلة وعائد بين الرومان واليونان والفرس وبين الإنكليز والطليان والألمان والفرنسيين، وقد تم ما تم من ذلك بفضل عقول خلفاء العرب وملوكهم هناك، فقد كان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن أحد ملوك الأندلس عالمًا مفننًا مكرمًا للعلماء والشعراء، ولم يزل يبحث عن العلماء، وخاصة أهل علم النظر، إلى أن اجتمع له منهم ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك المغرب، وكان ممن صحبه من العلماء والمتفننين: أبو بكر محمد بن طفيل أحد فلاسفة المسلمين، وكان هذا متحققًا بجميع أجزاء الفلسفة يأخذ الجامكية مع عدة أصناف من الخدمة من الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد … إلى غير هؤلاء من الطوائف، وكان يقول: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عندهم، ولم يزل أبو بكر يجلب إليه العلماء من جميع الأقطار، وينبهه عليهم، ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نبه إلى أبي الوليد محمد بن رشد، وأشار إليه بتلخيص كتب الحكيم أرسطاطاليس؛ لأن أمير المؤمنين كان يشكو من قلق عبارته أو عبارة المترجمين عنه، وغموض أغراضه.
هذا في العلوم الطبية والطبيعية والفلسفية والفلكية والرياضية، وقد نبغ في الأندلسيين من العلماء في التاريخ والجغرافيا والأدب والرحلات أفراد ما برحت كتاباتهم مرجعًا إلى اليوم لكل عالم ومؤلف.
وقد أشبهوا علماء الغرب لهذا العهد في العناية بالعلوم المادية، وبرزوا فيها حتى نشأ لهم أئمة عظماء على ما رأيت سابقًا، وألفوا فيها فأحسنوا إحسانهم في صنائع لا يحسنها إلا صنع الأيدي دقاق النظر، وكثيرًا ما كانوا يبسطون المسائل، ويتوسعون في تحقيقها، ومنهم من يؤلف العشرة والعشرين مجلدًا في علم واحد كما فعل أبو حيان مؤرخ الأندلس؛ فألف كتابه في ستين مجلدًا، وألف أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة كتاب السماء والعالم في مائة مجلد وموضوعه اللغة جعله على الأجناس في غاية الإيعاب بدأ بالفلك وختم بالذرة، وكثر فيهم المكثرون من التآليف المجودون فيها، ومنهم من كان له مائة تأليف جيد، وقالوا: إن تآليف ابن حزم بلغت نحو أربعمائة مجلد، وتواليف عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السلمي بلغت ألفًا.
ومن مشاهيرهم: ابن جبير الكناني (٦١٤) الذي رحل إلى المشرق كما رحل كثير من علماء الأندلس قبله إلى مصر والشام والعراق والحجاز وغيرها في طلب العلم وأخذ الحكمة، ثم عادوا إلى بلادهم، وكتب رحلته المشهورة البديعة.
واشتهر في الجغرافيا أبو عبيد البكري المتوفى سنة ٤٨٧ﻫ صاحب كتاب معجم ما استعجم والمسالك والممالك ومحمد بن أبي بكر الزهري الغرناطي من أهل المائة السادسة، والشريف الإدريسي صاحب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ويقال له: كتاب رجار، وذلك لأنه صنفه باسم رجار الثاني صاحب صقلية وجنوبي إيطاليا سنة ٥٤٨ وغيرهم.
ومن مؤرخيهم: الحميدي، وابن حيان، وابن خلدون، وابن الفرضي، وابن بسام، وابن بشكوال، وابن الأبار، وابن سعيد، وابن الخطيب.
ومن أدبائهم المشهورين: ابن جزي، وابن هاني، وابن سهل الإسرائيلي، ويحيى القرطبي، وابن رزين، وابن عمار، وابن ليون، والباجي، وابن الدباغ، وابن الجد، وابن القبطرنة، وابن عبد البر، وابن السيد، وابن عصام، وابن عطية، وابن خفاجة، وابن وهبون، وابن اللبابة، وابن الصائغ، وابن سارة الشنتريني، وعبادة، وابن وهبون، وابن خروف، وابن خاقان، والمصحفي، والأشجعي، وابن جهور، وابن سملة، واللماني، وابن برد، وابن أبي أمية، ومنذر بن سعيد، والزبيدي، وابن القوطية، وابن العربي (أبو بكر) وابن الأعلم، والرمادي.
ومن أديباتهم: حفصة بنت الحاج الكوبي، وعائشة بنت قادم، وفاطمة الشيلاري، وولادة بنت المستكفي بالله، ومريم الفيصولي (الفصولي) وصفية بنت عبد الله التربي، والغسانية، والبلشية، والوادي آشيه، ولبنى كاتبة الحكم بن عبد الرحمن ومزنة كاتبة الأمير الناصر لدين الله، وغالية المعلمة، وريحانة المقرئة، وفاطمة المغامي، وقمر البغدادية، وحسانة التميمية، وأم العلا بنت يوسف الحجازية، وأمة العزيز الشريف الحسنية، وأم الكرام بنت المعتصم بن صمادح المرية، والعروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون، واعتماد جارية المعتمد المشهورة بالرميكية، والعبادية جارية المعتضد، وبثينة بنت المعتمد بن عباد، وحفصة بنت حمدون، وزينب المرية، وغاية المنى، وعائشة القرطبية، وأسماء العامرية، وأم الهناء بنت القاضي عبد الحق، ومهجة القرطبية، وهند جارية عبد الله بن مسلمة الشاطبي الشلبية، وحمدة بنت زياد المكتب، وأختها زينب. قال ابن سعيد: إنهما شاعرتان أديبتان من أهل الجمال والمال والمعارف والصون إلا أن حب الأدب كان يحملهما على مخالطة أهله مع صيانة مشهورة ونزاهة موثوق بها، وسعدونة … وغيرهن.
هذه حالة العلوم في تلك المملكة التي بادت وباد سلطانها، وقد رأيت كيف كثر المهندسون في بلنسية وغرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من حواضر الأندلس، وبأعمال هؤلاء الأعلام زخر بحر العمران، وقامت مدنية العرب على أمتن بنيان حتى دهش بها ابن القرن العشرين العلامة روزيه السويسري على ما تقدم بك آنفًا.