نجيب الريحاني كما عرفته
ليس غريبا أن تفكر دار الهلال — بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة نجيب الريحاني — في إصدار مذكراته التي خصها بها في حياته، وكتبها لها بقلمه، فشعارها كان دائما — ولا يزال — «لا يصح غير الصحيح، ولا يبقى إلا الأصلح». ونشر هذه المذكرات، وفي هذه المناسبة بالذات، تكريم للفن الأصيل في شخص كرس حياته لفنه.
وحينما دعتني دار الهلال أن أقدم لهذا الكتاب عن مذكرات أخي وصديقي الراحل نجيب الريحاني، غرقت في لجة من الذكريات، وعادت ذاكرتي إلى أيامنا الماضية، ومرت بخاطري صور الكفاح، وأدركت أنه ليس من السهل على المرء في بعض الأحيان أن يعبر عن نفسه، خصوصا حينما طالعت المذكرات، ووجدت أن الراحل الكريم قد وفى كل نقطة حقها، بصراحته المحبوبة وأسلوبه الشائق. ومن بين صفحات مذكراته برزت حياته الحافلة التي كرسها للمسرح وحده، وبرزت صور الكفاح حية نابضة بالحياة.
هذه المقدمة إذا ليست إلا مجرد خواطر … وذكريات … وصور، جمعتها أشتاتا من ذاكرتي، صورة من هنا، وصورة من هناك …
والصورة الأولى أن الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفا وفنانا … فنانا أصيلا عاش لفنه فقط، ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا.
كان الريحاني يمكن أن ينشأ موظفا ناجحا، وكان أهله يعملون لهذه الغاية. ولكن حب التمثيل كان يجري في دمه، فكان كل ما يكسبه من وظيفته ينفقه في إشباع هوايته، ثم دفعته هذه الهواية إلى هجر الوظيفة، مما أثار استياء أهله. وعانى في سبيل تحقيق حلمه التشريد والجوع والحرمان، وكان من فرط حبه لفنه يلجأ إلى الوظيفة كلما أعيته الحيل، ليجمع بعض المال الذي يتيح له العودة إلى التمثيل … ولقد كافح الريحاني وجاهد حتى انتصر.
وكثيرا ما كان تمثيله الرائع يسيطر على مشاعري، فإذا حاولت أن أبدي له إعجابي بتفوقه، نهاني عن ذلك، وشبه نفسه بالعابد القانت، الذي يسعى إلى التقرب إلى الله دون أن يراه. وكان من رأيه أن الممثل الأصيل لابد أن يسعى إلى الكمال المطلق، ويظل يسعى طوال حياته للوصول إلى هذا الكمال … دون أن يراه أو يصل إليه!
ولقد كان نجيب يقدس فنه ويحترمه، وكان يكره الاتجاه الذي كان سائدا في تلك الأيام، والذي يدفع الممثل إلى تعاطي الخمر أو المكيفات قبل الصعود إلى خشبة المسرح، على زعم أن الخمر تشجع الممثل على مواجهة الجماهير وتقوي أداءه. ولم يحدث في حياة الريحاني أن شرب كأسا من الخمر قبل التمثيل … وكان من فرط احترامه لفنه يعتكف في غرفته بالمسرح قبيل التمثيل بنصف ساعة على الأقل، ولا يسمح لإنسان — مهما كانت الظروف — أن يعكر عليه عزلته المقدسة. وفي عزلته هذه كان ينفرد بنفسه ليهيئها لمواجهة الجماهير، ويتقمص الشخصية التي سيمثلها، ويندمج في الدور الذي سيؤديه … وكنت إذا رأيته وهو يغادر غرفته الخاصة في طريقه إلى المسرح لأداء دوره، خلته من فرط الانفعال شخصا آخر. والواقع أنه يكون في تلك اللحظة شخصا آخر فعلا: يكون الشخصية التي سيؤدي دورها في مسرحيته.
وقد بلغ من حب الريحاني لفنه أنه لم يطق اعتزال المسرح بناء على مشورة الأطباء عام ١٩٤٢، وكان الدكتور روزات قد نصحه بالابتعاد عن المسرح ستة أشهر حرصا على صحته، فما كان من الريحاني إلا أن قال: «خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي»!
ولعل «نجيب» هو الممثل الوحيد — بل رئيس الفرقة الوحيد — الذي كانت تسره إجادة أفراد فرقته. وكان بعد أن يفرغ من أداء دوره يقف بين الكواليس، ويظل يشجع أفراد فرقته بالإشارات والإيماءات، بل يقدم هدايا شخصية للمجيدين. وكانت الصحف تتهمه بالكسل، ولكنه لا يعبأ بالاتهام ويقول: «خير لي أن أواجه الجمهور بمسرحية واحدة كاملة، من أن أقدم له عشر مسرحيات ضعيفة، أو فيها مواضع ضعف». ولهذا السبب كان يهتم جدا بالبروفات، وكثيرا ما كان يقضي شهرا كاملا في إجراء التدريبات على فصل واحد من فصول مسرحياته.
ولم يكن الريحاني الفنان يعبأ بالمادة في سبيل الإتقان، وكثيرا ما أنفق، وأغرق في الإنفاق، وركبته الديون، في سبيل إخراج مسرحية يريد أن يبلغ بها حد الكمال. كان لا يبخل على فنه أبدا، بل لقد كان يتبرم من امتلاء المسرح في الليالي المزدحمة، فقد كان يرى أن هذا الازدحام يحرمه من الجو الهادئ الذي يتيح له الإجادة. كان يفرح للجمهور المحدود، وكانت مواهبه بالفعل تبرز وتتجلى وسط المتفرج الهادئ، مع ما في ذلك من الفوارق المادية بالنسبة إليه كصاحب فرقة. وكان يشترط — لدى تعاقده مع المتعهدين والجمعيات الخيرية — ألا تباع تذاكر أعلى التياترو في الأوبرا بمصر، والهمبرا بالإسكندرية، على أن تقتطع قيمة ما تدره هذه الأماكن من الأجر الذي يتقاضاه شخصيا.
•••
لقد كان فنانا أصيلا، مؤمنا بفنه ورسالته، وقد كوفئ على جهوده الصادقة وصبره وإيمانه، فقد انتزع تقدير الجميع واحترامهم واعترافهم بفنه. ولكن أكبر مكافأة وأعزها بالنسبة للريحاني كانت من أمه التي حاربت فنه واحتقرته، فقد أثمرت جهوده زهوا وفخارا من الأم بعمل ابنها، لذلك لم يكن يمل من رواية القصة التالية، في فخر وإعزاز وسعادة:
«كانت والدتي تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل. وحدث أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد أثناءها اسمى، فأرهفت أذنها لسماع الحديث، وأصغت إليه بكل انتباه دون أن تشعرهم. وما كان أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي، وامتداح عملي، والإشادة بمجهودي … أتدري ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة، التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة «المترو»، واتجهت إلى أولئك المتحدثين، وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتتكلموا عنه ده يبقى ابني، أنا والدة نجيب الريحاني الممثل»! … وخللي بالك من «الممثل» دي، وهي الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، قد أضحت موضع زهوها وفخارها! وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله، فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجيبسيانة خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها ويمتدحونه، فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد، أيام حياتي»!
ولقد عاش الريحاني ليرى تكريم فنه والاعتراف به، فحين دعت شركة جومون الفرنسية عددا من كبار الممثلين والممثلات، وكان من بينهم الممثلان العملاقان «رايمو وفيكتور بوشيه»، ليشهدوا تمثيله أثناء إخراج فيلم ياقوت، بباريس، بلغ من إعجابهم به أن طلبوا إليه دعوة فرقته لتقديم حفلات في المدن الفرنسية، كلون من ألوان الفن الشرقي، بل وتعهدوا بالإشراف على هذه الحفلات!
وفي حفلة أقامها نادي الضباط المصري قدم الريحاني مسرحية «حكم قراقوش» فهرع إلى تهنئته والإعجاب به سير سايمور هيكس، عميد المسرح الإنجليزي إذ ذاك، وقرر أنه إنما يشهد ممثلا في الصف الأول من الممثلين العالميين.
ولقد لقي الريحاني تكريم عظماء عصره، وكان من بين المعجبين به طلعت حرب، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وتوفيق نسيم، وغيرهم.
ولقد كانت للريحاني مبادئ في التمثيل ينفرد بها، فقد كان رحمه الله يعتنق مبدأ في «الميزانسين» — أي ترتيب حركة وأوضاع الممثلين — تخالف المألوف … كان يترك للممثل الحرية في تغيير ما يشاء منها كل ليلة حسبما يقتضيه تكييف الممثل لميله واتجاهاته، ولكنه مع ذلك كان يتمسك بحرفية ألفاظ المسرحية دون تغيير أو تبديل!
•••
والصورة الثانية هي صورة الريحاني الممثل الكوميدي، الذي أجبره جمهوره إجبارا على المسير في الاتجاه الكوميدي. ولقد كان الريحاني يحب الدراما، وربما كان ذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت به. وكان على قدر مرحه وفكاهته، يعاوده الحزن في فترات متقطعة لمأساة أصغر إخوته «جورج الريحاني» الذي اختفى قبل موته بسنوات طويلة لغير ما سبب. وقد ظل سبب اختفائه حتى مات نجيب الريحاني — ولا يزال — لغزا غامضا تكتنفه الإشاعات، فمن قائل إنه أسلم وانضم إلى جماعات الصوفية، ومن قائل إنه ترهب واعتكف في أحد الأديرة!
وكان الريحاني يحن من وقت إلى آخر للدراما، ولكنه كان لا يلقى تجاوبا من الجمهور، ويقول الريحاني نفسه عن ذلك: «بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي هذه الديون من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة … كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدراما من غير «إحم» ولا «دستور!».
نعم … أجبره جمهوره على ترك الدرامة، فقد كان الجمهور يراه فكها بالسليقة، أو كما عبر عنه أحدهم: «لا تتمالك أن تراه حتى تضحك، ولو من تكشيرته ووجهه المكفهر»! والواقع أنه حتى في تعبيراته وإيماءاته وحركاته كان فكها غير متكلف. كانت الفكاهة في دمه، وكان الممثل المفضل عنده هو شارلي شابلن، الذي كان يعتبره فيلسوف الفن، ولك أيها القارئ أن تقارن بين المعجب والمعجب به. لقد كان كلاهما فيلسوفا، وكانت فلسفة الضحك على نقائص المجتمع الذي يعيش فيه، فلسفة إصلاح تهدف إلى علاج هذه العيوب بإبرازها في شكل يجعلنا نضحك منها ونسخر!
ومع ذلك فقد كان لا يفتأ يعاوده الحنين إلى الدراما، فلما كتب عليه ألا يمارسها، كان يرضي ميله هذا بتغذية مسرحياته الفكاهية بالكثير من الدراما، ولولا محاولاتي الدائمة للحد من هذا الاتجاه، تمشيا مع رغبات الجمهور الذي كان يرى أنه خلق للفكاهة، لتمادى فيه!
•••
«حين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أُضمِّن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن، وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد. وكان من آثار هذا الإقبال، وذلك النجاح، أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي: فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان يغازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية»!
وأشهد أن الريحاني لم يأبه بهذه الحملات على شخصه، وظل سادرا في حملاته التهكمية اللاذعة، فالريحاني إذن قد مهد بفنه للثورة الحديثة التي حررت مصر من الأدواء التي ضحك منها وتهكم عليها، وعلى رأسها الاستعمار والاستبداد والطغيان والاستغلال. واستمع إلى أغاني سيد درويش التي ضمنها الريحاني مسرحياته، تستمع إلى ثورة متأججة في سبيل العزة والكرامة والحرية. لقد كان الريحاني هو الفنان الوحيد الذي وقف في وجه السراي، وتهكم على الجالس على العرش، وأبرز مساوئ محترفي السياسة وأضحك الناس عليهم جميعا، مما أثار حقدهم وغضبهم.
•••
«كانت لوسي صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، ومساعدا يشد أزري، ويشدد عزمي، ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها، وعهد صداقتها».
وكان الريحاني يؤمن بالحظ والفأل والأحلام. استمع إليه يقول حين اختلف مع صديقته لوسي وفارقته: «في أواخر عام ١٩٢٠ كان الخلاف قد دب بين الصديقة لوسي وبيني، فافترقنا إلى غير عودة، ويقيني أن هذا الفراق كان أولى النكبات التي صبها القدر فوق رأسي، وساقها إلي حلقات متتالية، يأخذ بعضها برقاب بعض. ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر، وحظ العمر»!
ولعل إنسانية الريحاني تبرز وتتجلى في أبرز صورها في جهوده التي بذلها في أواخر أيامه، لحث الحكومة على إقامة ملجأ للممثلين المتقاعدين، وحين شيد بيته الذي مات قبل أن يسكنه، كان يريد أن يخصصه بعد وفاته لهذا الغرض النبيل، ولولا أن المنية عاجلته، لكان قد أتم الإجراءات الرسمية، وتم له تحقيق أمنيته.
•••
هذا هو الريحاني الذي تقرءون مذكراته اليوم … الريحاني الفنان الأصيل، الذي كرس حياته لفنه الذي أحبه، وضحى بكل شيء في سبيله، ولقي الاضطهاد والحرمان والجوع في سبيله.
وإن لهذا الكتاب لمعنى جليلا … معناه أن الريحاني الفنان لم يمت، ولكنه خالد في قلوب محبيه … معناه أن الفنان الصادق لا يموت.