عودة إلى: كشكش بك
ديون وحملات
بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف ومائة جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة، التي سلطت علي رعاياها المحترمين، فسلقوني بقارص الكلم وبألسنة حداد. وهل يوجد أطول من ألسنة رعايا صاحبة الجلالة؟ ولا مؤاخذة أيها الزملاء الأعزاء! فواجبنا نستحمل بعضنا … وإذا كنت قد انقرصت من حضرتكم شهورا وأياما، فاغفروا لي فرصة واحدة متواضعة أرد بها التحية ع الماشي!
كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدرام من غير إحم ولا دستور.
ولكي أعطيك عينة بسيطة أروي القصة الطريفة التالية:
تقدمت إلي إحدى ممثلات الفرقة، وطلبت أن تشتري لحسابها حفلات أسبوع كامل. فقبلت عن طيب خاطر. وبعد إحياء تلك الحفلات جاءتني ساخطة لأنها خسرت ٣٥ جنيها! طيب يا ستي قسمتك كده، نعمل إيه في النحس المجوز على حضرتك وعلي أنا كمان؟ قالت: «لا يا سيدي، فيه طريقة» … طيب اتفضلي بالأمر وأنا طوع الإرادة.
نهايته، اتفقنا على أن تستأجر أسبوعا ثانيا بمبلغ مائة جنيه كي تسترد خسارتها، ثم أعطتني خمسة وستين جنيها وحصلت مني على إيصال بتسلم مائة! وما قبلت توقيع مثل هذا الإيصال، إلا تحت ضغط أقساط الممثلين المطلوبة ومصاريف التياترو وغير ذلك من الرزايا.
وبعد مرور أيام من أسبوع الممثلة، كانت الروح قد بلغت الحلقوم. فلم أستطع الاستمرار في العمل، واضطررت لحل الفرقة بعد أن تقدمت للست صاحبة الأسبوع بما دفعت، وهو الخمسة والستون جنيها. ولكن بسلامتها أبت استلام المبلغ بحجة أنها دفعت لي مائة جنيه لا ٦٥، وحتى إذا ما كنتش مصدق، الوصل آهه! آه … والله طبيت يا أنس!
لم يكن لدي المبلغ بأكمله بالطبع، وما شعرت في اليوم التالي إلا ببلاغ مقدم من حضرة الممثلة المصونة والجوهرة المكنونة، تتهمني فيه بالنصب والاحتيال والاستيلاء منها على ١٠٠ جنيه «جنيه ينطح جنيه». وقد تطوعت جريدة «المقطم» الله يمسيها بالخير ولا يوريناش فيها مكروه … تطوعت برواية الخبر على هذا النحو الطريف الخفيف الذي صورتني فيه تصويرا يبعد عن الواقع بعد الخيال عن الحقيقة.
استطاعت الست الممثلة أن تحصل على وساطات كادت توديني في شربة ميه! ولولا دقة النائب العمومي في ذلك الحين وهو المرحوم طاهر نور، لتحلت يداي بالأساور الحديدية المعدة للسادة اللصوص وقطاع الطرق. نعم لقد كتب السيد أحمد شرف الدين خطابا إلى المرحوم طاهر نور شرح فيه الحقيقة، فقرر الإفراج عني، وكنت قد جمعت من هنا ومن هناك الخمسة والثلاثين جنيها التي كمل بها مبلغ المائة جنيه وسلمته إلى الست الشاكية. وبذلك تقرر حفظ بلاغها.
وبعد، أليست هذه طريفة من الطرائف؟؟ أليست عينة من عينات الاعتراف بالجميل عند كثيرين من عابري سبيل هذه الحياة الدنيا؟
ولماذا أضع أمام عينيك سيدي القارئ عينات أو ما يشبه العينات؟ إنه يكفي أن أقول لك إنني منذ اليوم الأول من شهر يناير، إلى اليوم الآخر من ديسمبر سنة ١٩٢٧، لم أكن أصل إلى شباك التذاكر، حتى يطالعني العامل بورقة حمراء لدفع كمبيالة للبنك، أو إعلان لحضور جلسة، أو بروتستو أو إعلان حجز أو بيع … يعني أن سنة ١٩٢٧ التي مرت على الناس بسيطة كانت على دماغ العبد الله كبيسة بشكل … الله لا يوري عدو ولا حبيب!
وفي شهر فبراير من العام المذكور اجتمع حضرات الدائنين الأماجد، وأنشئوا ما يشبه نظام صندوق الدين، وانتخبوا من بينهم السيدة «ك» لتكون بمثابة متصرفة، أو قيمة، أو وصية على العبد لله، فكانت تعطيني في مساء كل يوم سبعين قرشا فقط لمصروفي، ثم تجمع بقية الإيراد لنضعه في الصندوق لحساب الدائنين وكل سنة وأنتم طيبين؟
عودة إلى كشكش
وسدت السبل في وجهي من كل ناحية، فلا أنا واجد إنصافا من الناس، ولا عرفانا بالجميل ممن كانوا حولي. وفيما أنا على تلك الحالة زارني أحد دائني وتحدث إلي، لا في طلب ماله، بل في نصيحة رأيت أن أعمل بها. ذلك أنه قال لي: «قوم حط دقنك وألبس جبتك وقفطانك يا سي كشكش، وأنت تلقى الفلوس هلت عليك تاني يا أخينا!».
ودارت في مخي هذه النصيحة، واحتلت جوانب رأسي وإن كنت واثقا أن مصدرها لم يكن حب الخير للخير، بل لحصول الدائن على دينه! وفيها إيه يعني؟ ما تجرب حظك تاني يا وله!
وفكرت في زميلي القديم بديع خيري. فرأيت أننا إذا افترقنا حل البؤس والشقاء بكلينا، وإذا اجتمعنا كان الخير في ركابنا وضحكت الدنيا لنا. فلماذا لا نضم الشمل ونشترك في زغزغة الدنيا مع بعض … يمكن ربك يفرجها؟
ووضعت يدي في يد الصديق العزيز بديع ثانية، واستأنفنا العمل معا بعد أن درسنا نفسيات الجمهور وعرفنا النواحي التي تنال إعجابه وتبلغ موضع الرضاء منه.
أعددنا رواية استعراضية خفيفة اسمها (جنان في جنان) عهدت في وضع رسوم مناظرها إلى الرسام الشهير (لومباردي) ثم ألفت الفرقة الجديدة وكان من أعضائها كمال المصري (شرفنطح) والقصري وحسين إبراهيم والتوني وجبران نعوم والفريد حداد وسيد سليمان. واخترت لإدارة المسرح الإداري الحازم الأستاذ محمد شكري، ولم يكن في هذا الحين قد حصل على لقبه الحالي (بابا) فلما ناله بجدارة عرف كيف يكون حازما حقا وكيف يحمل الكل على احترامه بحيث لم يكن أحد يجسر على الضحك «على بابا»!
أما الممثلات فقد تخيرتهن جميعا من الأجنبيات. وأخرجنا بعد «جنان في جنان»، روايتي «مملكة الحب» و«الحظوظ» وفي أثناء عملنا في رواية (الحظوظ)، تقدمت لي فتاة يونانية خفيفة الروح، كانت تتكلم العربية بطلاقة وبلهجة رائعة، فضممتها إلى الفرقة، وأسندت إليها دورا في الرواية أدته كما يجب، ثم تدرجت في طريق النجاح، إلى أن اشتهر اسمها بعد ذلك، وعملت في فرق أخرى غير فرقتي، وهي الفتاة كيكي.
كانت الفرقة مشاركة بيني وبين مدام مارسيل لانجلو كما ذكرت قبلا وكان وكيل مارسيل المفوض هو المسيو أصلان عفيف.
رحلة فنية
وكان المرحوم الشيخ عبد الرحيم بدوي (صاحب مطبعة الرغائب) دائم الاتصال بنا، وكثيرا ما كان يأتي إلى المسرح، فيداعبنا بلغته «الصعيدية» القحة ونداعبه نحن بالمثل. وفي إحدى الليالي عرض علي أن يستأجر الفرقة لمدة شهر، تقضيه في رحلة تنتقل في أثنائها بالمدن والبنادر في بعض مديريات القطر، فأحلته على الخواجة أصلان عفيف لوضع شروط الاتفاق وإمضائها. فقصد إليه وانتهى الأمر بينهما على إجابة تلك الرغبة. وجاءني أصلان وحده ومعه (الكونتراتو) وهو يبتسم ابتسامة المنتصر الظافر، واطلعت عليه فإذا به يقضي بأن يكون إيجار الليلة الواحدة خمسة وثلاثين جنيهات خلاف أجر الفنادق ومصاريف السفر بالقطارات والسيارات والعربات وشحن الملابس والمناظر، فإن الشيخ عبد الرحيم بدوي هو الذي يتحملها. الله يسامحك يا أصلان يا عفيف! خربت بيت الراجل الطيب في شربة ميه!! قمنا بالرحلة وانتهى بنا المطاف في الإسكندرية بعد قضاء الشهر في المدن والأرياف، وجاءني المرحوم الشيخ عبد الرحيم «يوحوح»، بعد أن خسر الجلد والسقط والكوارع كمان، وهو يقول: «كده يا ريحاني تخربوا بيتي الخراب المستعجل ده (بتعطيش الجيم)» … قلت وأنا مالي بس يا عم الشيخ عبد الرحيم، مين اللي قالك تتفق الاتفاق المقطرن ده، عليك وع الخواجة أصلان يمكن يرق قلبه لحالك! لكن هو مين؟ دا أصلان يا عم والأجر على الله.
أول محاولة للاقتباس في كازينو سان استفانو
وفي الإسكندرية تركت الشيخ عبد الرحيم كما تركت الفرقة لأصلان ولمدام مارسيل يعرفوا شغلهم بها. وانتقيت أربعة خمسة ممن أثق بهم من الممثلين، واتفقت مع إدارة كازينو سان استفانو برمل الإسكندرية، على أن نعرض روايات قصيرة في كل مساء على المصيفين والرواد. القصد حاجة ناكل منها عيش والسلام. كان الإيراد بسيطا على كل حال، ولكني استطعت في هذه الآونة أن أتعرف على كثيرين من الكبراء أمثال المغفور له حسين رشدي (باشا)، وحلمي عيسى (باشا)، وغيرهما من أكابر نزلاء الكازينو ومن الوزراء العاملين والسابقين. وهؤلاء راقهم ما كانوا يشاهدونه من تمثيل الفرقة أو «الفُرَيْقة»، فطلبوا من مدير الفندق أن أكثر من عرض هذا النوع، وكان المدير مسرورا جدا حين نقل لي هذه الرغبات، التي فتحت نفسي ونشطتني في عملي. وقد أردت يوما أن أختبر مكانتي عند هذا المدير، فأطلعته على رغبتي في العودة إلى القاهرة، ولكنه أصر على البقاء، وألح في الرجاء، فقبلت بعد تردد! وأقصد بعد تصنع التردد لأننا يا حسرة كنا نيجي مصر نعمل إيه؟ والدنيا صيف والبلد مشطبة والتياترات قاعدة تنش … أقول بعد محادثتي مع المدير، عرض علي أن أنزل بالفندق (يعني بسان استفانو) ولم ينتظر مني مدير فندق سان استفانو جوابا، بل تناول التليفون وطلب وندسور، ورجا أن ترسل في الحال حقيبتي، وعزالي، ومعها فاتورة الحساب!
وفي اليوم نفسه كنت أحتل غرفتي الجديدة في سان استفانو العظيم، كما يفعل العظماء والوارثون … وما فيش في جيبي ولا مليم.
ازدادت حركة العمل في الكازينو، وازداد إقبال المتفرجين من الطبقات العليا من رجال وسيدات.
فرقة فاطمة رشدي
وبعد أن قضيت أياما في كازينو سان استفانو على خير، وعدت إلى القاهرة، علمت أن خلافا حادا وقع بين السيدة فاطمة رشدي وفرقة الأستاذ يوسف وهبي، على أثر مشادة بين الأولى وبين السيدة زينب صدقي التي عملت أظفارها في عنق فاطمة ووجنتيها.
وكان ما كان من زوبعة الأستاذ عزيز عيد ضد الفرقة، وخروجه منها متضامنا مع فاطمة، لأن الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم. والدم الذي أراد إراقته عزيز هو «خرشمة» فرقة يوسف وبهدلتها، ويمكن فركشتها كمان: ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ هو تأليف فرقة على رأسها فاطمة تقول لفرقة رمسيس: اقفلي والبركة في أنا! ووقع اختيار فاطمة وعزيز على مسرح الريحاني كي يؤديا فيه رسالة الفن ويسويا الهوايل.
ولست أريد الإطالة في ذلك ولا شرح الهوايل التي «سويت» وإنما أكتفي بأن أقول إننا اتفقنا على أجر قدره أربعة جنيهات مصرية كأجر يومي للتياترو، وقد مكثت هذه الفرقة تعمل على مسرحي أكثر من شهر ونصف شهر. وإذا كان القارئ الكريم قد تناول منها أجر يوم واحد، أكون أنا تناولت كذلك. لكن ماعلهش … كله عند الله! ومن قدم خير بيداه التقاه!
وفي نوفمبر من عام ١٩٢٧ ألفت فرقتي ثانيا، وبدأت موسما جديدا على مسرحي بعد أن وضعت بمعاونة الزميل العزيز بديع خيري رواية الافتتاح باسم «علشان بوسه»، وأعقبتها رواية «جنان في جنان»، ثم «آه م النسوان» و«ابقى اغمزني». وقد كنا نحاول في خلال ذلك أن نتخلص شيئا فشيئا من نوع الريفيو «الاستعراض»، ونتعمق قليلا قليلا في الكوميدي الأخلاقي. وكان يبهجني جدا أن تنجح محاولاتنا، وأن نسترد جمهورنا العزيز، الذي أقبل على نوعنا إقبالا شجعنا على السير فيما اعتزمنا من خطة.
وفي صيف ١٩٢٨ كان الوجيه صادق أبو هيف يدير في الإسكندرية كازينو زيزينيا، فاتفق معي على أن تمثل فرقتي بالكازينو بضعة أسابيع فانتقلنا إلى الثغر على الأثر وبدأنا العمل.
صلح مع بديعة
وهنا أقف لحظة لأشير إلى حادث له أهميته. ذلك أن بديعة كما سبق أن قدمت كانت تعمل بصالتها في عماد الدين. وبديعة ماهرة في كل أساليب الدعاية، ويظهر أنها شعرت في ذلك الحين أنها في حاجة إلى أن تثير حولها ضجة، وأن يدوي اسمها في كل مكان. وفي ذلك من الدعاية «المجانية» لصالتها ولعملها ما فيه.
في أحد الأيام دعتني عائلة من كرام السوريين في الإسكندرية إلى وليمة عشاء، فلبيت الدعوة شاكرا، وأدهشني أن أرى بين المدعوين السيدة بديعة مصابني (وقد كان الخلاف بيننا إذ ذاك بالغا أشده)، كما كان بين المدعوين أيضا الأستاذ جورج أبيض والسيدة دولت.
وجرى حديث على المائدة بين الجميع بضرورة عودة المياه إلى مجاريها بين بديعة وبيني، وأن كلا من الطرفين في حاجة إلى زميله، وأن الحياة لا معنى لها إذا اعتورها مثل هذا التباعد البغيض، وأن … وأن إلى آخر (الأنات) التي قيلت في تلك الليلة والتي أنتجت ثمرتها بالصلح الذي كان يبغيه أهل الخير ووسطاؤه.
وعادت بديعة إلى الفرقة من جديد فأعددنا رواية تكون هي بطلتها، واهتممنا بوضع ألحان الرواية، فأخذنا للتلحين موسيقيا بارعا، هو الأستاذ زكريا أحمد، الذي أبدع كل الإبداع ووفق تمام التوفيق. أما الرواية فكان اسمها «ياسمينة»، وقد نجحت بالفعل بديعة كما كان مأمولا. وأخرجنا عقب «ياسمينة» رواية أخرى اسمها «أنا وأنت»، وبعدها رواية ثالثة اسمها «علشان سواد عينها».
ورأيت أن أخرج بعد ذلك رواية استعراضية فأعددنا «مصر في سنة ١٩٢٩» …
وكما تقضي سنة الأشياء وطبيعتها، دب الخلاف بين بديعة وبيني مرة أخرى، وتجددت أسباب النزاع. وأصبح الصفاء القديم خبرا يروى. فعاد الوسطاء ومحبو الوفاق يجهدون أنفسهم في إزالة ما اجتاح النفوس من موجات الاستياء، ولكن كانت محاولاتهم فاشلة، فذهبت مجهوداتهم أدراج الرياح. ورأى كلانا (بديعة وأنا) أن حالة كهذه مستعص علاجها على «نطس» المصلحين، فاتفقنا فيما بيننا على وضع حد لكل شيء، وذلك بفصم عرى الحالة المعيشية، أما ما بقي من معاني الوفاق والمجاملات، فهذا ما يظل بيننا على حاله. ولقد كان اتفاقنا هذا على يد محام، وبذلك انتهى كل شيء، ولم يعد هناك سبيل للشقاق أو الوفاق.
بلا حمص
وعودة بسيطة إلى الوراء كي أبين ما كنت فيه من حالة لا تسر. ذلك أني كنت في أثناء هذا الموسم وقبله غارقا «لشوشتي» في ديون شرحت فيما مضى أصولها وفروعها، وقلت إن الدائنين قد اختاروا السيدة (ك) بصفة (سنديك) ووصية علي في وقت واحد، فكانت تتناول عن الدائنين أقساط الدين وتعطيني مصروفا يوميا، ولقد زاد على ذلك مرتب بديعة مصابني وقدره خمسة جنيهات في اليوم.
أنهينا الموسم على خير، وكانت نتيجته أن سددت الديون بمهارة الست (السنديك)، وإن كنت أنا قد خرجت من الموسم بلا حمص — كما هي العادة — وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
شعرت أن صحتي في حاجة إلى العناية، وأنه لابد لي من الالتجاء إلى الهدوء بعض الوقت. ولكن أين لي ذلك والجيب مافيهش ولا مليم على رأي الصنايعية المساكين! تقدمت إلى مقام الست المبجلة الوصية المحترمة، طالبا من الله، ولا يكتر على الله، ثلاثين جنيها بس علشان أشم هوا في لبنان، وإلا في إسكندرية. وتفضلت، الله يسترها ولا يوريهاش مكروه في عزيز لديها، تفضلت وسمحت بإقراضي هذا المبلغ، بعد أن ألقت علي محاضرة لا بأس بها في مبادئ الاقتصاد وعلوم التدبير المنزلي واللوكاندجي! وكان ظريفا منها أن تختم هذه المحاضرة النفيسة، بنصيحة نفيسة برضه، هي أن آخد بالي من صحتي أحسن مش كويس. ولعل هذه هي النتيجة الوحيدة التي عملت بها من بين الثلاثين أربعين نصيحة التي ألقتها علي المدام (السنديك).
وقد نصح لي البعض بإدخال عنصر الطرب في الفرقة. وعملت بالنصيحة، عندما تقدمت لي فتاة من الإسكندرية اسمها (هدى)، واهتممت بأمر إظهارها، واتفقت مع الموسيقي الكبير الأستاذ محمد القصبجي على أن يضع لها ألحانا توافق صوتها، وتعدها للظهور أمام الجمهور بالمظهر الذي كنا نوده ونعمل له.
ووضعت بالاشتراك مع الزميل العزيز بديع خيري أيضا رواية «نجمة الصبح»، وقد أسندت دور البطولة النسائية فيها إلى مطربتنا الجديدة (هدى). وقد نجحت (أقصد الرواية) نجاحا كبيرا يكفي لوصفه أن أقول بأنه ما يزال إلى اليوم حليفا لها في كل مرة تعرض فيها، لا من فرقتي وحدها، بل ومن الفرق المتجولة التي تستحل — كده بالعافية — أن تُغير على روايات الغير في وضح النهار، واللي ما يعجبوش فأمامه البحر يملا منه معدته كما يشاء، مادام مفيش في البلد قانون يحمي المؤلفين من نشالي الروايات وخاطفيها … عيني عينك!
محاولة الاقتباس
وبعد أن أخذت هذه الرواية قسطها وأكملت عدتها، وعرضت على الجمهور وقتا طويلا، جاء أوان التفكير في غيرها، فاتجهت نيتي إلى اقتحام ميدان الاقتباس، وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبتني. وما إن أطلعت زميلي بديع على نيتي حتى ساهم وإياي في خطتي، وبدأنا في الحال، فلما انتهينا اخترنا للرواية اسم «اتبحبح»، ولما كانت روايتنا هذه هي أول محاولة لنا في الاقتباس، فقد وضعت يدي على قلبي وخشيت أن يكون نصيبها من الجمهور فشلا يعود بنا سنوات إلى الوراء.
كانت الرواية من النوع الكوميدي الأخلاقي، وكان خوفي عليها ناشئا من كثرة حوادثها وضرورة متابعة المتفرج لهذه الحوادث بانتباه تام، ومزيد من العناية والاهتمام، بحيث إذا فاته شيء ولو قليل، ضاع منه كل شيء، وهوت الرواية من أساسها، دون أن يكون لموضوعها دخل في هذا السقوط.
وبعد حمد الله والثناء عليه أقول إن الجمهور قابل روايتنا الجديدة مقابلة لم أكن أنتظرها، وقد شجعني إقباله هذا على أن أقدم له أنواعا جديدة، بمعنى أن أعرج بين وقت وآخر على الفودفيل، ثم أستأنف الكوميدي الذي كان رائدنا على كل حال. وتنفيذا لهذه الخطة أخرجنا رواية «ليلة نغنغة» فنجحت هي الأخرى.
بعد ذلك قامت في مخنا — بديع وأنا — أن نطلع على الجمهور برواية استعراضية ولم يطل بنا التفكير حتى وضعنا رواية «مصر باريس نيويورك»، وقد جاءت والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه أسخف ما جادت به القرائح البشرية لدرجة كنت أشعر معها وأنا على المسرح بأنني أجبر الجمهور على الاستماع بطريق الغصب تماما، كما يفعل الطبيب حين يناول مريضه شربة الملح الإنجليزي! ومرت أيام هذه البتاعة وبلاش الرواية ويسرني أن أقول بأن الجمهور ونحن معه قد نسينا ومحونا من أذهاننا ذكراها.
نحن الآن في عام ١٩٣٠ ولا مانع من أن أقف لحظة لأقدم للقراء شخصية جديدة.
الأستاذ طبنجة
عرفت أثناء رحلتي في فلسطين وسوريا شابا من طرابلس الشام اسمه (ناجي صبيح)، كان إذ ذاك مندوبا لجريدة لسان العرب، فلما عادت الفرقة إلى مصر، وراحت أيام وجاءت أيام، وأصبحنا في عام ١٩٣٠ كما قدمت، وإذا بي أرى هذا السيد ناجي صبيح وقد ترك الصحافة وجاء يخطب ود الفن.
وضممته إلى الفرقة، لا ممثلا لا سمح الله ولا موسيقيا أو مؤلفا، بل وكيلا للإدارة. وسواء أظهر في عمله كفاءة أم لم يظهر، فقد كانت فيه ناحية تعجبني والسلام. ذلك أنه كان كثير التحدث ببطولته، وبما كان يرويه من حوادث البطولة والشهامة التي وقعت له أثناء وجوده جنديا في الجيش!
كان ناجي يعقب على كل نادرة أو قصة أو حكاية بجملة مأثورة، هي أنه أخرج الطبنجة من جيبه. واخبط راح خاطف روحه. فمثلا يقص علينا أنه طلب فنجان قهوة من الجرسون، فتأخر هذا قليلا في تنفيذ المطلوب «فلم يكن مني إلا أن أخرجت الطبنجة. واخبط. رحت خاطف روحه!».
وفي أحد الأيام جلس ناجي يلعب النرد (نرد إيه يا خويا والطاولة جرى لها إيه؟ سيبك يا شيخ). جلس يلعب الطاولة مع الممثل كمال المصري المعروف باسم شرفنطح. وهو معروف إلى جانب ذلك بأنه يخاف من خياله. وكثيرا ما كان ينصت إلى الجملة إياها، أو اللازمة التي لا تفارق ناجي، فيرتجف هولا، ويخشى أن يعملها ناجي بعقله، ويخبطه طبنجة من طبنجاته يخطف فيها روحه، علشان خاطر دوش أو شيش جهار أو دوسه يختلفان عليها والا حاجة! نهايته لعب الاثنان، وكان أن وقعت الواقعة، واحتدم الجدال بين اللاعبين، فلم يكن من شرفنطح إلا أن تشجع «وبرق» عينيه الواسعتين، ولعب حاجبيه وسأل ناجي قائلا: «الطبنجة معاك دلوقت والا مش معاك؟» … وأجابه هذا بأنها معه، وفي الحال أقفل شرفنطح الطاولة بشدة وقال له: «طيب اخلص أعمل معروف واخطف روحي بسرعة»، وانتقى بعد ذلك من الجمل المستوية ما ختمها بقوله: «يا خويا أنت من يوم ما وصلت مصر، وانت شطبت على أرواح عباد الله … شفهي كده، اتفضل دلوقتي اخطف لك روح واحدة تحريري ولو بصفة بروفه!».