مقدمة

نستطيع أن نقول على وجه الإجمال إنَّ في العالَم طرفَيْن مختلفَيْن من حيث النظرة إلى الوجود؛ طرف منهما يتمثَّل في الشرق الأقصى: الهند والصين وما جاوَرَهما، ويتمثَّل الآخَر في الغرب: أوروبا وأمريكا، وبين الطرفين وسطٌ يجمع بين طابعَيْهما؛ هو الشرق الأوسط.

فأمَّا الشَّرقُ الأقصى فطابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجي ببصيرةٍ تَنفذ خلال الظواهر البادية للحس إلى حيث الجوهر الباطن، فيُدرِك ذلك الجوهرَ بحدسٍ مباشِر يَمْزج ذاتَه في ذاته مزْجًا تفنى معه فرديةُ الفرد لتصبح قطرةً من الخضم الكوني العظيم، ومثل هذه النظرة المعتمِدة على اللمسة الذاتية المباشِرة التي لا تحتاج إلى تعليل وتحليل ومقدمات ونتائج، أو إنْ شئتَ فقُلْ: إنَّ إدراك حقيقة الوجود بما يُشبِه التذوُّق هو ما يُميِّز الفنانَ في نظره إلى الأشياء. ونحن إذا أخذنا «الفن» بمعناه الواسع، شمل فيما يَشْمله تصوُّفَ المُتصوِّف وخشوعَ المتدين؛ لأنَّ هذه كلها جوانبُ لوقفةٍ واحدة، هي وقفةُ مَن يدرك العالَمَ برُوحه لا بعقله.

وأمَّا الغربُ فطابعه الأصيل العميق هو النظرُ إلى الوجود الخارجي بعقلٍ منطقي تحليلي يقف عند الظواهر مُشاهِدًا لها وهي تَطَّرِد وتَتتابَع على هذه الصورة أو تلك، فيجعل من هذه الاطِّرادات في الحدوث قوانينَ يستخدمها بعدئذٍ في استغلالِ الظواهر الطبيعية على النحو الذي يرتضيه، ولا بد لمثلِ هذه النظرة من السَّيْر في خطواتٍ استدلالية تنتزع النتائجَ الصحيحة من مقدِّماتها الصحيحة، وتلك هي نظرةُ العِلْم.

وهذه التفرقةُ التي تجعل من الشرقيِّ فنانًا يُدرِك الحقيقةَ بذوقه، ومن الغربي عالِمًا يُدرِك الحقائقَ بالمُشاهَدة والتجرِبة والتحليل والتعليل، لا تنفي بطبيعة الحال أن يكون في الشرق علماء، ولا أن يكون في الغرب رجالُ فنٍّ ودِين، لكننا نُطلِق القولَ على وجهٍ من التعميم الواسع الذي يُفسِّر بعضَ التفسير ما هو شائعٌ على الألسنة من وصفِ الشرق بالرُّوحانية، ووصفِ الغرب بالمادية.

ولقد التقى الطرفان في الشرق الأوسط طوالَ عصوره التاريخيَّة؛ ففي حضاراته القديمة تجاوَرَ الدِّينُ والعِلْم، كما تجاوَرَ الفنُّ والصناعة، ثم شاء الله لهذا الشرق الأوسط أن يكون مَهْبَطًا للديانات المُنزلة جميعًا، فلم يلبث رجالُ الفِكْر فيه أنْ حلُّوا عقائدَهم الدينية هذه بحيث أقاموها على أُسُس عقلية، كما هي الحال عند فلاسفة المسلمين، وهكذا جعل أهل الشرق الأوسط ينظرون إلى الوجود بالنظرتين معًا: بالنظرة الرُّوحانية — التي هي في صميمها نظرةُ الفنان — التي تُميِّز وحدها بلادَ الشرق الأقصى، وبالنظرة العقلية المنطقية التي تُحلِّل وتُعلِّل وتَستدِل، وهي النظرة التي تُميِّز وحدها بلادَ الغرب.

تلك هي الفكرة الرئيسية التي بسطْتُها في هذه الرسالة الصغيرة التي جعلتُها أقربَ إلى السَّمَر أَسمُرُ به مع القرَّاء، منها إلى بحثٍ علميٍّ تُذكَر فيه المراجعُ والأسانيد.

والله ولي التوفيق.

الجيزة في ١٥ يناير ١٩٦٠
زكي نجيب محمود

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤