الفصل العاشر

وما دمنا بسبيل مقارنات سريعة بين الفلسفة الشرقية وبعض فلسفات الغرب، فلا بد أن نقف وقفةً عند مقارنةٍ كثيرًا ما تَتردَّد على أقلام الكتَّاب، وهي المقارنةُ بين «بوذا» من ناحيةٍ و«هيوم» من ناحيةٍ أخرى؛ إذ إن كلَيْهما يتفقان في نقطةٍ رئيسية هامة، وهي تفكُّكُ مجرى المعرفة إلى حالاتٍ مفردة مُتتابِعة.

ففي الحق إن هناك شَبَهًا قويًّا بين خطوتَيْن من خطوات التفكير في كلتا الحالتين؛ فمن ناحيةٍ نرى «بوذا» (حوالي ٦٠٠ق.م) قد أعلن عن رأيه المعيَّن في المعرفة، ثم جاء تلاميذُه فأخرجوا النتيجةَ المنطقية التي تَترتَّب على هذا الرأي مما لم يُفصِح عنه «بوذا» نفسه؛ ومن ناحيةٍ أخرى نرى «باركلي» الفيلسوف الإنجليزي في القرن الثامن عشر (١٦٨٥–١٧٥٣) قد أبدى كذلك رأيَه المعيَّن في المعرفة، الذي هو شبيهٌ برأي «بوذا»، ثم جاء مِن بعده «هيوم» في الفلسفة الإنجليزية (١٧١١–١٧٧٦) فأخرَجَ من الرأي نتائجَه المنطقية كما قد فعل تلاميذُ «بوذا»، بحيث انتهى الأمر في الحالتين إلى نقطةٍ واحدة وقفَتْ عندها الفلسفةُ الإنجليزية، لكنَّ الفلسفةَ الشرقية مضَتْ في السَّيْر بعدَها، فكان في هذا المُضِيِّ موضعُ الخلاف بين فلاسفة الغرب وفلاسفة الشرق.

في كلتا الحالتين — «بوذا» ومِن بعده الأتباع يُكمِّلونه، و«باركلي» ومِن بعده «هيوم» يُتمِّمه — يبدأ البادِئُ بقوله: إن حقيقةَ الشيء المُدرَك هي كيفيةُ وقوعه على الذات المُدرِكة، فحقيقةُ هذه الشجرة التي أنظر إليها هي انطباعُها على عيني، وحقيقةُ القلم الذي أحسُّه الآن بين أصابعي هي ضَغْطتُه على أصابعي مضافة إلى انطباعِ صورته اللَّوْنية على عيني؛ وهكذا حقائقُ الأشياء هي نفْسُها مُعطَياتُها الحسية المباشِرة؛ وإذن فما لم يكن هنالك ذاتٌ تُدرِك فلن يكون هنالك شيءٌ يُدرَك، هذا إلى أنه ما دامت الحاسَّةُ — كالبصر واللمس — لا تُدرِك إلا شيئًا جزئيًّا معينًا حاضرًا ماثلًا أمامها الآن، فكلُّ إدراكاتنا إذن هي من قبيل الجُزْئيات، وما المُدرَكُ الكلي العام (مثل قَوْلي «شجرة» و«قلم» على إطلاقهما) إلا إحدى الجُزْئيات التي أدركَتْها الحاسَّةُ فيما مضى، جعلناها مُمثِّلةً لبقيةِ أفراد نوعها، كما يُمثِّل مثلثٌ واحد مثلًا بقيةَ المثلثات … هكذا يقول «باركلي»، فيَجِيء من بعده «هيوم» ليُطبِّق المَنطِقَ نفْسَه على الذات المُدرِكة، فإذا هي وهْمٌ ليس له وجود؛ لأنه ما دام الإدراكُ لا يكون إلا لجُزْئيات حسية معينة، من لمعات الضوء التي تَنطبِع بها العين إلى نبرات الصوت التي تَنطبِع بها الأُذن، ثم لمَّا كانت «الذات» التي نفرض وجودَها ونزعم لها أنها هي التي تُدرِك تلك الجُزْئيات المتتابِعة دون أن تكون هي نفسها واحدةً منها، أقول إنه لمَّا كانت «الذات» ليسَتِ انطباعًا جزئيًّا من بين شتى الانطباعات التي تتعاقب مع تعاقُب اللحظات؛ إذن فليست «الذات» موجودةً بين الموجودات التي يمكن للإنسان معرفتها؛ لأن كلَّ ما لدى الإنسان من معرفةٍ هو خَرَزاتٌ مفردات من انطباعاتٍ تنطبع بها هذه الحاسَّةُ أو تلك، وأمَّا «الذات» التي هي بمثابة الخيط الذي يربط الخَرَزات في عقد واحد، فلا وجودَ لها … هكذا تطوَّرَ الرأي من «باركلي» الذي جعل الشيءَ المادي المعين — كهذه الشجرة مثلًا — مجردَ إدراكِ الذات له، ولا حقيقةَ له غير ذاك؛ إلى «هيوم» الذي مضى بالرأي إلى نتيجته، وهي أن الذاتَ المزعومةَ نفسها — بناءً على الأساس نفسه — وهْمٌ ليس له وجود. وهكذا أيضًا كان تتابُعُ الرأي بين «بوذا» وأتباعه؛ ﻓ «بوذا» يذهب إلى أن حقيقةَ كل موجود هي وقْعُ ذلك الموجود على الذات المُدرِكة له، ثم يَجِيء شُرَّاحه فيَنْفُون وجودَ الذات على الأساس نفسه الذي انتفَتْ به الحقائق المادية الخارجية.

«بوذا» في الشرق و«باركلي» في الغرب، كلاهما قد جعل الحقيقةَ ذاتية، فليس لشيءٍ — كائنًا ما كان — وجودٌ إلا بمقدارِ إدراكنا الذاتي له؛ وبهذا فلا عالَمَ إلا ما تُدرِكه ذاتُ الإنسان؛ وهكذا تتبخر الحقائقُ المادية الصلبة فتصبح لا شيءَ سوى حالاتٍ عقلية ذاتية عند الإنسان المُدرِك، وأتباعُ «بوذا» في الشرق و«هيوم» في الغرب كلاهما قد انتزعا نفسَ النتيجة من نفس المُقدِّمة، والنتيجةُ هي أنه إذا لم يكن ثَمة وجودٌ لشيء إلا إذا انطبعَتْ به الذات، ثم إذا كانت الذاتُ ليست من بين ما نَنطبِع به؛ إذن فهي اسمٌ على غير مُسمًّى، فلا موضوعَ في الخارج ولا ذاتَ في الداخل، وكل ما هنالك هو انطباعاتٌ فُرَادى تَتتابَع واحدةً في إثْرِ واحدة.

إلى هذا الحد يَسير المذهبان: الشرقي والغربي، في طريق واحدة من النفي والإنكار، لكن الفلسفةَ الشرقية تَمضِي في طريقِ الإنكار والنفي خطوةً أخرى لتَبلُغَ المنتهى. وها أنا ذا أوضِّح للقارئ خطواتِ هذا النفي واحدةً بعد واحدة، كما قد سارت فيها الفلسفةُ البوذية، بل الفلسفةُ الشرقية كلها:

هَبْني واقفًا في زَمالة فيلسوفٍ شرقي أمام شجرة معينة، ثم سألني الزميل الفيلسوف: ماذا ترى؟ فأجبتُه بما يوحي إليَّ به إدراكُ السليقة الفطرية، قائلًا: أرى شجرة قائمة خارج كياني، وهي قائمة هناك سواء أكنتُ أنا شاخصًا إليها ببصري أم لم أكن؟ ها هنا يخطو بي الفيلسوف أولَ خطوة في طريق النفي والإنكار، قائلًا: لا، ليست الشجرة قائمةً خارج ذاتك؛ إذ كيف يُتاح لك أن تخرج من إهابك وتنسلخ من جلدك وحواسِّك لتتحقَّقَ من وجودها أو عدم وجودها خارج نفسك؟ إن كل ما تعلمه هو أن لديك انطباعًا ذاتيًّا بصورتها، ولا حيلةَ لك بعد هذا في معرفةِ إن كان لهذه الصورة الذاتية أصلٌ خارجي أو لم يكن، وبهذا الإنكار ضاع الوجودُ المادي للشجرة وباتت عَدَمًا، وتحوَّلَتْ إلى وجود ذاتي صِرْف.

ثم يخطو بي الفيلسوف خطوةً ثانية، فيسألني: ماذا عندك الآن؟ وأجيبه: عندي ذاتٌ مُدرِكة وعليها انطباعٌ لصورةِ شجرةٍ. فيردُّني عن هذا قائلًا: هل أدركتَ فيما أدركتَ «ذاتًا» قائمة بنفسها كأنما هي موجود مستقل ذو كيان خاص؟ فأجيبه: كلا، لم أُدرِك مثل هذه الذات. فيقول: إذن فلا وجودَ لذاتٍ قائمة بنفسها في كيانك، فليس في وُسْعك أن تُجاوِز حدودَ مُدرَكاتك الجُزْئية التي تشغل انتباهك واحدةً بعد واحدة في لحظاتِ الزمن المتعاقبة، لترى إنْ كان وراءها «ذات» تُمسِك بها وتَعِيها أو لم يكن؟ فكلُّ محصولك هو خواطرُ وانطباعات، وبهذا يَضِيع الوجودُ المستقل للذات، ويصبح الموجود كله حالاتٍ عقليةً أو حالاتٍ نفسيةً أو ذاتيةً مُفكَّكة فُرَادى.

إلى هنا ينتهي شوط الإنكار والنفي عند فلاسفة الغرب («باركلي» و«هيوم»)، ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من النفي عند «بوذا» وأتباعه، فماذا لو جرَّدْتُ نفسي من هذه الإدراكات الجزئية نفسها؟ إنها عابرةٌ وإنها زائلة؛ فهذه لمعة من الضوء تظهر وتختفي، وهذه نبرة من الصوت تُسمَع ثم تَزُول، وتلك لمسة بالأصابع تُحَسُّ ثم تَفْنى، فَلْنَنفُضْها جميعًا، لنَنفُضْ هذه الموجات الصغيرة التي يضطرب بها السطح ثم ننظر فيما يبقى … إنه لا شيء، إنه لَعَدَم، إنه «النرفانا». هكذا يمضي البوذي في نفيه، وها هنا يقف الغربي مَشدُوهًا كأنما هذا «العَدَم» الذي انتهينا إليه، ليس نتيجةً تلزم عن كل تأمُّل يبدأ بالتجريد ثم يمضي في شوطه حتى نهايته.

لكن وجه الاختلاف بين الفيلسوف الغربي وزميله الشرقي في هذا، هو أن العَدَم عند الأول سلبيٌّ مَحْض، وأما عند الثاني فهو عَدَم إيجابي؛ أيْ أن العَدَم عنده هو الوجودُ المجرد، يُوصَف بصفاتٍ سالبة، فتَصِفه بأنه ليس كذا وليس كيت، ولكنك لا تدري ماذا تقول عنه على سبيل الإيجاب؛ لأنك إنْ فعلتَ تورَّطْتَ في صفاتِ ما هو متحدِّد متعين؛ وبالتالي جعلتَ له حدودًا وقيودًا، وهو ليس كذلك؛ ولهذا كله يرى البوذي استحالةَ أن يتحدَّث عنه المتحدِّث؛ لأن أقلَّ ما يُقال عن الحديث أنه كلمات مُفكَّكة ذاتُ ترتيبٍ نَحْوي معيَّن، وفي هذا شيءٌ من القواعد التي تَحُدُّ وتُقيِّد، وإنما أمرُ إدراكِه متروكٌ للشهود المباشِر حيث لا يُجدِي التعبيرُ اللفظي ولا يُفِيدنا استدلالٌ عقلي مجرد، إنه الوجودُ الخالص المتصل الواحد الذي تُمارِسه مُمارَسةً مباشِرة وتَذُوقه ذوقًا مباشِرًا، ولا يكون ذلك إلا بالفناء فيه؛ وفناءُ الذات المُدرِكة في الموضوع المُدرَك هو في الصميم من نظرة الفنان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤