الفصل الثاني عشر
سأضع الرأي الذي أعرضه في هذه الرسالة وضعًا موجزًا واضحًا قبل أن أمضي في الحديث: هنالك طرفان من وجهات النظر؛ طرفٌ يتمثَّل في الشرق الأقصى، مُؤدَّاه أن ينظر الإنسان إلى الوجود الكوني نظرةً حَدْسية مباشِرة، فإذا الإنسانُ جزءٌ من الكون العظيم، وهذه نظرةُ الفنان الخالص؛ وطرفٌ آخَر يتمثَّل في الغرب، مُؤدَّاه أن ينظر الإنسان إلى الوجود نظرةً عقليةً تُحلِّل وتُقارِن وتَستدِل، وهذه نظرةُ العِلم الخالص؛ وبين الطرفين وسَطٌ يجمع بين الطابعين، وهو الشرق الأوسط، الذي يدل تاريخُ ثقافته على مزْجٍ بين إيمانِ البصيرة ومُشاهَدةِ البصر، بين خَفْقةِ القلب وتحليلِ العقل، بين الدِّين والعِلم، بين الفن والعمل.
لقد عرض كثيرٌ من الكتَّاب الغربيين للفوارق التي تميِّز الغربيَّ من الشرقي في تفكيره ووجهة نظره إلى العالَم من حوله، لكنني أراهم لا يلتفتون إلى الفارق بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط من جهة، والفارق بين الشرق الأوسط والغرب من جهة أخرى، والرأيُ الذي أعرضه هو أن الفارق الأول هو في أن الشرقَيْن الأقصى والأوسط يتشابهان في النظرة الحَدْسية — نظرة الفنان — ثم يختلفان في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرةً عِلمية عملية؛ والفارقُ الثاني — بين الشرق الأوسط والغرب — هو في أنهما يتشابهان في النظرة العقلية العِلمية العملية، ثم يختلفان في أن الشرق الأوسط يضيف إليها نظرةً حَدْسية.
في هذا الضوء نستطيع أن نرى وجهَ الخطأ في آراءِ بعض المستشرقين الذين تَصدَّوْا لتحليلِ العقلية العربية ووصفها، ووجهُ الخطأ دائمًا هو أنهم نظروا من جانبٍ واحد إلى عقليةٍ هي بطبيعتها ذاتُ جانبين.
يختلف الآريُّون عن الساميِّين اختلافًا أصيلًا في المَناشِط البشرية كافَّة، من أدنى الأمور كالطعام والثياب إلى أعلاها كالنُّظُم الاجتماعية والسياسية؛ فالعقلُ «السامِيُّ» … يترك الأشياء مُفرَّقة ومُفكَّكة كما يصادفها، وكلُّ ما يفعله إزاءَها هو أن يقفز قفزاتٍ مُباغِتةً من شيءٍ إلى شيء بغيرِ ربطٍ يُنسِّقها معًا، بما يراه فيها من تدرُّج؛ على حين أن العقل الآرِيَّ يُركِّب الأشياءَ المختلفة تركيبًا يعتمد على روابطَ متدرِّجةٍ تجعلها وثيقةَ العُرَى بعضَها مع بعض، حتى ليصبح الانتقالُ من شيءٍ إلى شيء أمرًا طبيعيًّا.
والانتقالُ المباغِت من جُزْئيةٍ واحدة إلى جُزْئيةٍ أخرى، هو هو بعينه ما يَطْبَع نظرةَ الفنان إلى ما حوله من أشياء، لو أُخِذتْ هذه النظرة من سطحها الظاهر؛ ذلك لأنه لا مندوحةَ للفنان عن الوقوف أمام هذه الزهرة اليومَ وأمام ذلك الغدير غدًا، إنه لا مندوحةَ له في اللحظة الفنية من الفناء في جُزْئيةٍ واحدة هي التي يجعلها مَدارَ نِتاجه الفني، على أنه قد يغوص داخل هذه الجُزْئية الواحدة ليُبرِز حقيقتَها الباطنة إبرازًا يبيِّن لصاحب النظرة النقدية النافذة روابطَ القُرْبى بينها وبين سائر أجزاء الطبيعة من جهة، وبينها وبين ذاتِ الفنان نفْسِه من جهةٍ أخرى، فإذا كان العقل «الساميُّ» — كما يقول «جوتييه» — يقفز من جُزْئية إلى جُزْئية؛ فذلك لأنه فنان، ووجهُ الخطأ عند «جوتييه» هو أنه حصَرَ النظرَ في هذا الجانب وحْدَه بحيث فاته الجانبُ الآخَر من عقلية الشرق الأوسط، وهو الجانبُ العقلي العِلمي الذي ظهر في مناهج فلاسفتهم وعلمائهم كما سنذكر في إيجازٍ بعد قليل.
ليست الحياةُ بأَسْرها في نظر الساميِّين إلا مَوْكبًا طويلًا، يبدأ من المحيط العظيم لينتهي إلى المحيط العظيم مرةً أخرى … فليس في العالَم من حقٍّ سوى الله، فمنه نشأنا وإليه نعود، وما على الإنسان إلا أن يخشى الله ويعبده، أمَّا هذه الدنيا فخادعة، تَسْخَر ممَّن يَرْكَنون إليها، تلك هي النغمة السائدة في الفِكْر الإسلامي، وهي الإيمان الذي يرتدُّ إليه الساميُّ آخِرَ الأمر دائمًا.
وهذا القول صوابٌ كل الصواب بالنسبة إلى الشرق الأقصى، لكنه صوابٌ بعض الصواب بالنسبة إلى الشرق الأوسط.
وما دمنا بصددِ تقسيم الأمم على أساس طبائعها، تقسيمًا يصيب حينًا ويخطئ حينًا، فجديرٌ بنا أن نَذكُر رأيًا للشَّهْرَسْتاني لا نراه مُوفَّقًا فيه كل التوفيق، وذلك حين يقول إن كبار الأُمَم أربع: العرب والعجم والروم والهند، ثم يُزاوِج بين أمَّة وأمَّة، فيذكر: «أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وأكثرُ مَيْلهم إلى تقريرِ خواصِّ الأشياء، والحُكْمِ بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمالِ الأمور الرُّوحانية؛ والروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد، وأكثرُ مَيْلهم إلى تقريرِ طبائع الأشياء، والحُكْمِ بأحكام الكيفيَّات والكَمِّيَّات، واستعمالِ الأمور الجسمانية» (ص٣ من المِلَل والنِّحَل، طبعة ليبتسك).
فها هنا قد وقع الشَّهْرَسْتاني على مُميِّزٍ أصيل يميِّز بين وجهتَيْن للنظر؛ إحداهما تَمسُّ في الأشياء جوهرَها الباطن، وأخرى تنظر إليها من صفاتها الظاهرة كيفًا وكمًّا، لكنه قد فاته — فيما أعتقد — إمكانُ التقاء النظرتين في أمَّة واحدة، ولو قسمنا الأمم الأربع التي ذكَرَها في الفقرة السابقة بناءً على الرأي الذي بسَطَه، لَجعَلْنا الهندَ من القِسْم الأول، والرومَ من القِسْم الثاني، والعربَ والعجمَ بينَ بينَ، تجتمع فيهما النظرتان معًا.