الفصل الخامس عشر
هما إذن نظرتان ينظر الإنسان بأيٍّ منهما إلى نفسه وإلى العالَم، أو ينظر بكلتَيْهما، بهذه مرةً وبتلك أخرى؛ ذلك أن الإنسان إذ يقف إزاء الحقيقة الخارجية، فإمَّا أن ينظر إليها خلال ذاته فيُشبِّهها بنفسه تشبيهًا يدمج الطرفين في كائن واحد، وتلك هي وَقْفة الفنان والمتصوِّف ومَن لفَّ لفَّهما؛ وإمَّا أن ينظر إليها وكأنه متفرِّج يتابع ما يجري أمامه على مسرح الحوادث فيَصِفه وصفًا يَصلُح لنفسه ولغيره من الناس على حدٍّ سواء، بل إنه لَيُشبِّه نفسه هذه المرة بما يرى بحيث يجعل من نفْسِه حدَثًا من الأحداث يُلاحَظ ويُوصَف كما تُلاحَظ سائر الأحداث وتُوصَف؛ وتلك هي نظرةُ العالِم ومَن يَجري مَجْراه في التفكير؛ وثالثُ الفروض أن يجمع المرء بين النظرتين ليفرِّقَ بهما بين أمرين، فإنْ كان موضوعُ النظر وِجْدانًا ينبض به قلبه إزاء الكون، نظَرَ إليه بالنظرة الأولى فكان فنانًا أو متصوِّفًا، وإنْ كان موضوعُ النظر ظواهرَ الأشياء الخارجية، نظر إليه بالنظرة الثانية فكان عالِمًا أو ذا نزعة عِلمية، وبديهيٌّ أن كل إنسان ينظر بالنظرتين معًا حسبما يكون موضوع النظر، لكن أحد الأطراف قد يغلب عند فرد بالقياس إليه عند فردٍ آخَر، فمن الناس مَن يجعل معظم النظر إلى ذاته ومنها ينتقل إلى سِواها ليَصبَّه على غِرارها، ومنهم مَن يجعل معظم النظر إلى عالَم الأشياء الخارجية ومنها ينتقل إلى ذاته ليفهمها على نحوِ ما قد فهم تلك الأشياء، ثم مِن الناس مَن يتعادل عنده الطرفان أو يكادان، ولقد زعمنا لك أن النظرة الأولى هي طابع الشرق الأقصى، وأن النظرة الثانية هي طابع الغرب، وأمَّا تآلُف النظرتين فهو مميِّز تميَّزت به ثقافةُ الشرق الأوسط.
ونزيد هذه التفرقة توضيحًا فنقول إنه مُحالٌ على الإنسان — مهما تكن نظرته إلى نفسه وإلى العالَم الخارجي — أن يقف عند مُدرَكاته المباشِرة كما تأتي مُجزَّأة على لحظاتِ الزمن المُتتابِعة ومُوزَّعة على نقاط المكان المتفرِّقة، فالعينُ تتلقَّى لمعةً من الضوء هنا ولمعةً من الضوء هناك، والأُذن تسمع رنةً من الصوت الآن ورنةً بعد لحظة، والأصابعُ تلمس هذا هنا وذلك هناك وهَلُمَّ جرًّا؛ فهل نقف عند كل واحدة من تلك الانطباعات كأنما هي حقيقةٌ مستقلة قائمة بذاتها؟ ذلك ما أقول عنه إنه محال على الإنسان أن يقتنع به، وإلَّا لَوجَدَ نفسَه أمام خِضَم هائل من الجُزْئيات المُتفرِّقات التي لا ينتظمها عقدٌ ولا يُنسِّقها بناء؛ إذن فماذا هو صانعٌ إزاءَها، إنه يجاوزها إلى مبدأ أعمَّ يَطوِيها تحت جَناحه، وها هنا يكون الاختلاف الأصيل بين نظرةٍ ونظرة، وبين ثقافةٍ وثقافة؛ فمن الناس مَن ينتهي إلى مبدأ شامل يضم هذه الجُزْئيات المتفرِّقة الفُرادى، ثم يقول عن ذلك المبدأ إنه هو الحق الثابت الدائم الأزلي الأبدي الخالد. لماذا؟ لأنه يقول إنه قد عايَنَه مُعايَنةً ببصيرته، وشاهَدَه شُهودًا بوِجْدانه، ولا سبيلَ إلى الشك فيما تُعايِنه على هذا النحو وتشاهده، ولكنْ من الناس أيضًا مَن ينتهي إلى مبدأ شامل يُدرِج تحته هذه الجُزْئيات الحسية المتفرِّقة، غيرَ أنه لا يَدَّعي لهذا المبدأ سوى أنه فرضٌ يفترضه ويعرضه للتحقيق وإثبات الصدق، بما يشاهده وبما يجريه من تجارب، ووسيلته إلى ذلك هي أن ينتزع من هذا الفرض المفروض نتائجَه التي تترتَّب عليه، ثم يعود إلى عالَم المحسات لينظر: هل هذه النتائجُ صادقةٌ على الواقع أو غير صادقة؟ فإن كانت الأولى ظلَّ محتفظًا بالمبدأ الذي افترَضَه لنفسه ليفسِّر به الجُزْئيات المتفرقة، وأمَّا إنْ كانت الثانية فهو لا يتردَّد في التنكُّر لفرضه وإنكاره، ليُحِلَّ محلَّه مبدأً آخَر يفترضه لتفسير وقائع العالَم المحسوس كما تقع لبصره وسمعه؛ ولهذا تجد تاريخَ المعرفة عند هذا الفريق الثاني متغيِّرًا متبدِّلًا، يَفرَغ من مرحلةٍ ليبدأ في سَيْره مرحلةً جديدة؛ لأنه يرفض مبدأً كان قد افترَضَه ثم ثبت له بطلانُه فنبَذَه ليفرض مبدأً آخَر، على حينِ تجد تاريخَ المعرفة عند الفريق الأول على كثيرٍ جدًّا من الثبات والدوام، وفيمَ يكون التغيُّرُ إذا كان المبدأ الأول المأخوذ به متَّصِفًا بالثبات والدوام؟
إن الفريقين من الناس حين يُجاوِزان حدودَ الجُزْئيات المُحَسَّة لينصرف كلٌّ منهما إلى المبدأ العام الشامل، يكونان عندئذٍ على اختلافٍ في طبيعةِ ذلك المبدأ وكُنْهه، فأمَّا أحدهما فيرى نفسَه إزاء حقيقةٍ أدرَكَها إدراكًا ناصعًا لأنه شاهَدَها برُوحه — إنْ صحَّ هذا التعبير — لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع التعبيرَ عنها بكلماتٍ مستقيمةِ المعنى كهذه الكلمات والعبارات التي يتفاهم بها الناس في حياتهم اليومية وفي أمور معاشهم؛ لذلك تراه يلجأ إلى العبارات والكلمات التي تُومِئ وتُوحِي، لا التي تَصِف وتحدِّد، ومن هذا القبيل تجد جميعَ الكتب والأسفار الدينية والصوفية في الثقافة الشرقية، وتلك هي لغةُ الفن. وأمَّا الفريقُ الآخَر فيرى نفسَه إزاءَ حقيقةٍ يفرضها لنفسه فرْضًا لكي يستنبط منها النتائج؛ ولذلك فهو مضطرٌّ أن يَسُوق تلك الحقيقة في عبارةٍ محدَّدة دقيقة، ومن هذا القبيل تجد جميعَ الكتب العِلمية في ثقافة الغرب، وتلك هي لغة العلم النظري، حتى لتبلغ بها الدقةُ والتحديد أن تستغني عن الكلمات المألوفة في لغة الحديث الجارية — لما يحيط بها من غموض — برموزٍ ترمز بها إلى المعنى المحدَّد المراد على سبيل الاصطلاح الذي لا يحتمل اللبس.
الشرقُ والغرب كلاهما متَّفقٌ على أن العين ترى والأذن تسمع، لكنْ ما هذا الذي تراه الأعين وتسمعه الآذان؟ يُجِيبك الشرقي: إنه آياتٌ يَتبدَّى فيها الواحدُ الأبدي ويتجلَّى، ليصبح بآياته مرئيًّا مسموعًا، لكنه هو وحْدَه الخالدُ الباقي، وأمَّا هذه الآياتُ الدالة على وجوده فإلى زوال سريع أو بطيء على حدٍّ سواء. ويُجِيبك الغربي: إنه ظواهرُ يَرتبط بعضُها ببعضٍ على صورٍ مطَّرِدة، فإذا نحن كشَفْنا عن هذا الاطِّراد فقد كشفنا عن القوانين التي تسير الأشياء على سُنَنها … هكذا يُجِيب كلٌّ من الفريقين، فإذا سألتَ صاحبَ الجواب الأول: ما برهانك؟ لم يكن لديه برهان يقدِّمه سوى أن تُروِّض نفسَك رياضةً حتى تستطيع أن تدرك ما قد أدرَكَه؛ فليس الإدراكُ الوِجْداني ممَّا تُقام عليه البراهين، لكنه يُمارَس ويُعانَى، ويُختبَر بالنفس، وهل يستطيع مُحِبٌّ أن ينقل إليك لوعةَ قلبه بالبرهان؟ … أمَّا إذا سألتَ صاحبَ الجواب الثاني: ما برهانُك على أن قانون الجاذبية مثلًا يُفسِّر كلَّ الظواهر الفلانية؟ وجدتَ عنده ما يقوله على سبيل البرهان.
ثقافةُ الشرق هي من قبيل ما يستطيع صاحبه أن يَقطع بيقينه لأنه قد أحسَّه بقلبه، وثقافةُ الغرب هي من قبيل ما يُطلَب على صِدْقه البرهانُ لأنه قائمٌ على التفكير النظري والمنطق العقلي، فإنْ تكلَّمَ الأول جاء كلامه مرتعشًا بهزَّةِ الوِجْدان الشاعر، وإذا تكلَّمَ الثاني جاءت عبارتُه باردةً في رمزها؛ لأن حرارة العاطفة عندئذٍ تَشِينها وتَعِيبها. كلامُ الأول ناطقٌ بما تضطرب به النفس من داخل، وكلامُ الثاني رامزٌ إلى ما يُشار إليه من ظواهر الخارج.
وهذا الفارقُ نفسه كائنٌ بين الفن هنا والفن هناك — على وجه العموم — لأن الفن الشرقي في شتَّى عصوره وفي جميع أصقاعه لم يكن يُراد به أن يُصوِّر الحقيقةَ الجُزْئية الخارجية تصويرًا يستهدف التمثيلَ الدقيق لكل تفصيلات الشيء المُصوَّر، وإنْ شئتَ فانظُرْ إلى التصوير المصري القديم الذي هو أقرب إلى التخطيط الذي قَلَّما يراعي قواعدَ المنظور — عن عمدٍ لا عن جهلٍ من الفنان — أو انظُرْ إلى التصوير الهندي للآلهة والإلهات ذوات الأذرع الكثيرة والرءوس المتعدِّدة وما إليها؛ ذلك لأن الفنان الشرقي يرسم الحقيقةَ كما تقع في وَعْيه، لا كما هي قائمة في الطبيعة الخارجية، وأمَّا زميلُه الغربي — لو استثنينا الثورةَ الفنية الحديثة في الأعوام الستين أو السبعين الأخيرة — فقد كان يراعي أن تجيء الصورة وكأنها — بأبعادها الثلاثة — تمثالٌ منحوت في الحَجَر؛ وذلك لأنه أراد دائمًا أن تجيء الصورةُ مطابقةً للمُصوَّر حتى لَتقول في غير عناء: هذه صورةٌ لذلك الشخص أو ذلك الشيء … وما دلالةُ ذلك فيما نحن بصدد الحديث عنه؟ دلالتُه أن الثقافة الشرقية بشتَّى نواحيها من دِينٍ وفنٍّ وفلسفةٍ تعبيراتٌ تُخرِج ما تَضطرِب به النفس من وِجْدان، على حين أن الثقافة الغربية بجميع ألوانها من عِلمٍ وفلسفةٍ وفنٍّ لا تخلو أبدًا من الرمز إلى ما هو كائنٌ خارجَ النفسِ الإنسانية بكلِّ ما فيها من جَيَشان.
فكأنما الفنانُ الشرقي حين يصوِّر لك شيئًا، فإنما يريد لك أن تقف عند المادة المعروضة لذاتها وفي ذاتها؛ لأنها هي نفْسُها الحقُّ كله، وأمَّا الفنانُ الغربي — وأُعِيدها مرةً أخرى أنني أستثني الثورةَ الأخيرة في الفن العربي — فيعرض لك أثَرَه الفني لا لِتستمتع به في ذاته ولذاته، بل لتُنقَل بعد ذلك من الأثر إلى المُؤثر، من الصورة إلى المُصوَّر، من الرمز إلى المرموز إليه، كأن الصورة الفنية عنده ضرب من الكلام العلمي الذي يُقال ليدلَّ على أشياءَ تقع خارجَ الكلام نفسه؛ فهي ليست مكتفيةً بذاتها لأنها ليست هي الحق كله، إنما يُكمِّلها الطرفُ الآخَر الخارجي الذي جاءت الصورة لتصوِّره وتشير إليه، فلو توسَّعْنا في القول بحيث نقول إن الرمز — كائنًا ما كان — إذا أُرِيدَ به أن يشير إلى مرموزٍ إليه، كانت المنفعةُ هي أساسَ استخدامه، وأمَّا إذا أُرِيدَ به أن يكون نهايةً في ذاته ولا يرمز إلى شيء سواه، كانت النشوةُ الجمالية هي أساسَ استخدامه. أقول إننا إذا أطلقنا القولَ على هذا النحو الواسع، جاز لنا أن نقول إن ثقافةَ الغربي هي ثقافةُ المنتفِع، وثقافةَ الشرقي الأصيلة هي ثقافةُ المخمور بعاطفته المنتشي بوِجْدانه، فالأولى هي ثقافةُ العالِم، والثانية هي ثقافةُ الفنان.
إذا قطعْتَ هذه الشجرةَ عند جذورها، فإنها تَقْطُر لأنها حيَّة، وإذا قطعْتَها عند وسطها، فإنها تَقْطُر لأنها حيَّة، وإذا قطعْتَها عند قمتها، فإنها تَقْطُر لأنها حيَّة … أمَّا إنْ خرجَتِ الحياةُ من أحد فروعها فإنه يَذْوي … فاعلَمْ كذلك أنَّ هذا الجسد مائتٌ ولا ريبَ إذا خرَجَ منه الواحد الحي، ولكن الواحد الحي لا يموت، ومِن جوهره الدقيق جاء الوجود، إنه الحق، إنه الرُّوح، إنه أنت.
وفي درس آخَر يقول الحكيم نفسه إلى تلميذه:
كذلك يتكلَّم العالِم، وهكذا يتكلَّم الفنان.