الفصل الرابع
وننتقل إلى الهند فنجد وَحْدة الوجود باديةً في كل كلمةٍ ينطق بها الهندي، وفي كل نَفَس يتنفَّسه، نراها باديةً في دِينه وفي أدبه، فالهنديُّ يمزج نفسَه بمحيطه الطبيعي مَزْجًا، ويَكْتَنِه الوجودَ إلى سره الخفي الدفين، فيُؤاخِي بين نفسه وبين الحيوان كأنهما أفرادٌ من أسرة واحدة هي أسرة الحياة، فليس العالَمُ الخارجي عند الهندي مادةً ميتة جامدة تتحرَّك في فضاء بسرعاتٍ معلومةٍ محسوبة، وحسب قوانين محكمة مضبوطة، بل العالَمُ عنده دارٌ تعجُّ بالأرواح الكثيرة التي تستكِنُّ في الصخور، وتدُبُّ في الحيوان، وتَسْري في الأشجار، وتَكمُن في مجاري الماء، وتَعمُر الجبالَ والنجوم، فحتى الثعابينُ والأفاعي مُقدَّسات؛ لأنَّها آياتٌ ناطقة بالحياة المقدسة، فأقدمُ آلهةٍ ذكرَتْها «أسفار الفيدا» هي قوى الطبيعة وعناصرها؛ هي: السماء والشمس والأرض والنار والضوء والريح والماء، جعلوا السماءَ أبًا والأرضَ أمًّا، وكان النباتُ هو ثمرةَ التقائهما بوساطة المطر … فإذا لم يكن هذا شِعْرًا فكيف تكون نظرةُ الشاعر؟
حقًّا إنَّه لم يكن مسرورًا، فواحدٌ وَحْده لا يشعر بالسرور، فتطلَّبَ ثانيًا، لقد كان حقًّا كبيرَ الحجم حتى ليَعْدِل جسمُه رجلًا وامرأةً تعانَقَا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تَنشقَّ نصفَيْن، فنشأ مِن ثَمَّ زوجٌ وزوجة؛ وعلى ذلك تكون النَّفْس الواحدة كقطعةٍ مبتورة … وهذا الفراغُ تملؤه الزَّوجة، وضاجَعَ زوجته فأنْسَلَ البَشَر، وسألَتِ الزوجةُ نفْسَها قائلة: كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرَجَني من نفْسِه؟ فلْأَخْتفِ، واختفت الزوجة في صورة البقرة، فانقلَبَ هو ثورًا وزاوَجَها، وكان بازدواجهما أن تولَّدَتِ الماشية، واتَّخَذت الزوجةُ لنفْسِها هيئةَ الفرس، فاتَّخَذ هو لنفسه هيئةَ الجَوَاد، وأصبحت هي أَتَانة فأصبح هو حِمارًا، وزاوَجَها، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عَنْزةً فانقلب لها تَيْسًا، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشًا، وزاوَجَها، فولدت لهما المَعْز والخِرَاف، وهكذا كان الخالق حقًّا خالقَ كلِّ شيء، مهما تنوَّعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في درجات التدرُّج أسفلَها حيث النِّمال، وقد أدرك هو حقيقةَ الأمر قائلًا: «حقًّا إني أنا هذا الخلق نفسه؛ لأني أخرجْتُه من نفسي» … وهكذا نشأت الخلائق.
في هذه الفقرة الرائعة نَلمِس بذرةَ مذهبِ وَحْدةِ الوجود وتناسُخ الأرواح، فالخالقُ وخلقه شيءٌ واحد، وكلُّ الأشياء وكل الأحياء كائنٌ واحد، فاختَرْ ما شئتَ من صور الكائنات، تجدها كانت ذاتَ يومٍ صورةً أخرى، ولا يُميِّز هذه الصورة من تلك ويجعلهما حقيقتين منفصلتين إلا الحس المخدوع … وليس يهمنا من هذا كله الآن إلا إلقاء الضوء على الفكرة الرئيسية التي نريد توضيحَها في هذه الرسالة الصغيرة، وهي أنَّ طابع الشرق الأول الأصيل هو أن ينظر إلى الوجود نظرةَ الفنان التي تُجاوِزُ السُّطوحَ الظاهرة إلى الكوامن الخافية، فَلَئِن كانت ظواهرُ الأشياء تدلُّ على تعدُّدها، فحقيقتُها الخَبِيئة هي أنَّها كائنٌ واحد، وهي وَحْدانيةٌ يُدرِكها الإنسان ببصيرته النافذة إنْ لم يُدرِكها ببصره.
وما تنفكُّ هذه الفكرةُ تتكرَّر عند الهندي في أسفار «يوبانشاد»، تكرارًا يتَّخِذ صورًا شتى، لكنها صورٌ تجتمع كلها على رأي واحد، وهو أنَّ حقائقَ الأشياء تُدرَك بلَمْح الحَدْس ولا تُرَى بالأعين الظاهرة، فاستمِعْ مثلًا إلى هذا الحوار بين مُعلِّم وتلميذه:
إنَّ أوَّل درس يعلِّمه حكماءُ أسفار «اليوبانشاد» لتلاميذهم المُخلِصين هو قصورُ العقل؛ إذ كيف يُتاح لهذا الدماغ الضعيف الذي تُتعِبه عمليةٌ حسابية صغيرة، أن يُدرِك هذا العالَمَ الفسيحَ المعقَّد الذي ليس دماغُ الإنسان إلا ذرةً عابرة في أرجائه؟ وليس معنى ذلك عند حكماء الهند أنَّ العقل لا خيرَ فيه، بل إن له لَمكانةً مُتواضِعة، وهو يُؤدِّي لنا أكبرَ النفع إذا ما عالَجَ الأشياء المحسوسة وما بينها من عَلاقات، أمَّا إذا حاوَلَ فَهْم الحقيقة الخالدة، اللامتناهية، فما أعجَزَه من أداة! فإزاءَ هذه الحقيقة الصامتة التي تَكمُن وراء الظواهر كلها دعامةً لها، والتي تتجلَّى في وعي الإنسان، لا بد للإنسان من وسيلةٍ إدراكية أخرى غيرِ هذه الحواس الظاهرة وغير هذا العقل المنطقي؛ ذلك أنَّنا لا نُدرِك رُوحَ العالم بالتحصيل والدرس، ولا بالعبقرية الفذَّة وسِعَة الاطِّلاع في الكتب، إنَّما الوسيلةُ المُثلى في هذه الحالة هي نفسُها وسيلةُ الطفل في بَراءته، هي الإدراكُ الحَدْسي المباشِر، أو هي البصيرة النافذة إلى جوهر الحق وصميمه بغير مُقدِّماتٍ ولا نتائج، وما البصيرةُ إلا بصرٌ يَنثني إلى الداخل ويسدُّ أبوابَ الحس الخارجي ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، لِيَشْهد الإنسانُ حقيقةَ الوجود متمثِّلةً في ذات نفسه؛ ذلك لأنَّ جوهر النَّفْس الإنسانية ليس هو الجسم ولا هو العقل، بل ليس هو الذات الفردية، وإنَّما هو الوجود العميق الصامت الكامن في دخيلة أنفسنا، وذلك هو «أُتمان» — كما يُسمُّونه — أو هو رُوحُ العالَم كله، هو القوة الواحدة التي هي فوق جميع القوى.
رُوح الثَّقافة الهندية بأسرها هي في دَمْج الفرد في الكون دمجًا يُزِيل الفواصلَ التي تميِّز الفردَ من محيطه، ولو أُرِيدَ الشَّقاءُ لفردٍ من الأفراد كُتِب عليه أن يعود مرة بعد مرة إلى ولادة جديدة تجعل منه فردًا. والنعيمُ الأبدي هو أن يذوب الفرد في الوجود ذوبانًا لا يُبقِي من ذاته الفَرْدة المتميزة أثرًا، فعندئذٍ يعود الجزء إلى الكل الذي كان قد انفصل عنه حينًا من الدهر؛ «فكما تَفْنى الأنهار المتدفقة في البحر، وتَفْقِد أسماءَها وأشكالها، فكذلك الرجلُ الحكيم إذا ما تحرَّرَ من اسمه وشكله، يَفْنى في الكائن الواحد القدسي الذي هو فوق الجميع» … وتلك هي «النرفانا».
وتلك هي نظرة الفنان التي نظَرَ بها الهنديُّ إلى نَفْسه وإلى الوجود، وهي نظرةٌ إنْ وقف صاحبها عند جزئيةٍ من الأشياء، فما ذلك إلا ليَنْسجها خيطًا في رُقْعة الكون الواحد الفسيح.
وبهذه الرُّوح نفسِها جاءت فلسفةُ الفيلسوف وعقيدةُ المتدين وفنُّ الفنان، فالموسيقيُّ الهندي شبيهٌ بالفيلسوف الهندي، كلاهما يبدأ بالجزئي المحدود ليُرسِل رُوحه بعدئذٍ إلى الكون اللامحدود، إنَّه يظل يُمعِن في وَشْي موضوعه وَشْيًا دقيقَ الأجزاء ناعمَ النغمات؛ حتى يتمكَّنَ آخِرَ الأمر بتأثيرِ تيار التوقيعاتِ المتكررةِ النغم أن يَخْلُق نوعًا من «التخدير» الموسيقي في نفس السامع؛ لأن غاية الموسيقي — كما هي غاية الفلسفة والدين والفن عندهم — أن يُصِيب النفسَ الفردية بضرْبٍ من الذهول الذي يَشلُّ الإرادةَ ويَطمس الفردية، وبهذه النَّفْس الذاهلة عما يحيط بها من مادة ومكان وزمان، ترتفع الرُّوح إلى ما يُشبِه الاتحادَ الصوفي بكائنٍ عميقٍ عظيمٍ ساكن.
وهكذا قُلْ في فن التصوير الهندي، الذي لا يُحاوِل تصويرَ الأشياء، بل يستهدف تصويرَ العواطف، ولا يُحاوِل مُطابَقةَ الأصل بل يكتفي بالإيماء إليه، فغايتُه ليست هي أن يُحاكِي هذا الواقعَ الجزئي الماثل أمام بصر الفنان، بل غايتُه هي أن يُثِير في نفس الرائي وجدانَه الديني وعاطفتَه الجمالية؛ لكي تنزاح عنه السدودُ الحوائل بينه وبين الحقيقة الكونية العليا، فليس المهم عند المُصوِّر الهندي أن يُكرِّر الطبيعةَ المرئية نفسها على لوحته، بل المهم هو أن يقتنص من تلك الطبيعة الزائلة العابرة رُوحَها الدفينة، ليُبرِزها في رسومه.
وَلَئِن كان شاعرُ القوم هو لسانهم المُعبِّر، فهذا هو شاعرهم «أكبر» يقول:
وفي قصيدة أخرى يقول: