الفصل الخامس
وننتقل إلى ثقافة الصين، فنلتقي أولَ ما نلتقي باللغة الصينية — منطوقة أو مكتوبة — لنجد لها من الخصائص ما يدلُّ على طابع الشرق كله، فهي لغةٌ مُثقَلة بمضمونها الفني، بالإضافة إلى كونها رموزًا تشير إلى مُسمَّياتها، وأعني بذلك أنَّ الكلمة المُعيَّنة من تلك اللغة، تُكتَب على هيئةٍ تصويرية تجمع عددًا من الخصائص الفردية المميزة لمُسمَّى تلك الكلمة، فتنظر إلى الكلمة مكتوبةً وكأنك تنظر إلى مُسمَّاها نفسه؛ ولهذا فإن كلمات اللغة الصينية أقربُ إلى الرسوم الدالة على أعلام أفراد، منها إلى الأسماء الكلية المجردة الدالة على أنواع وأجناس؛ ولذلك كانت اللغة الصينية على وجه الإجمال أقربَ إلى أن تشير إلى جزئيات العالَم الخارجي المحسوس، منها إلى أن تشير إلى خواطر المتكلِّم وما يدور في عقله من معانٍ مجردة.
وما دامَتِ اللغةُ وثيقةَ الصلة بعالَم الجزئيات الخارجية المحسوسة، تحتَّمَ أن تَجِيء تلك اللغة وفيها كَثرةٌ من اللفظ تُعادِل كَثرةَ تلك الجزئيات، ولو كُتِبت فلسفةٌ بهذه اللغة، لَجاءت هذه الفلسفةُ وصفًا لمَواقفَ جزئيةٍ فردية، كأنها الأمثلةُ يَسُوقها الفيلسوف ليوضِّح بها فكرةً مجردة، إلا أن الفكرة المجردة هنا لا يكون لها وجود، والوجود كله مُقتصِر على أمثلتها الجزئية التي يَسُوقها الفيلسوفُ مثلًا في إثْرِ مثلٍ حتى يستوفي الفكرةَ التي يريد استيفاءَها.
ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أنَّ الفِكْر لا يكون نظريًّا بالمعنى المعروف في العلوم النظرية، بل يكون حالاتٍ مفرداتٍ لا يُشترَط لها ارتباطٌ منطقي يَصِلها صلةَ المُقدِّمات بنتائجها، بحيث يرتبط السابق منها باللاحق ارتباطًا منطقيًّا يُوجِبه العقلُ النظري ويحتِّمه، فيجوز لك أن تبدِّل وتغيِّر من ترتيب الأمثلة الجزئية المتعينة التي يَسُوقها المفكِّر توضيحًا لوجهة نظره؛ لأنَّ ما يجمعها معًا هو اشتراكُها في توضيحِ الفكرة المراد توضيحُها، وليس هو تسلسلها على النحو الذي يجعل الحلقةَ السابقة مقدمةً تستتبع بالضرورة الحلقة التي تَلِيها.
فذلك بعينه هو الطابعُ الذي يُميِّز كتابات «كونفوشيوس» حكيمِ الصين؛ فأنت إذ تقرأ له، فإنما تقرأ عباراتٍ تنساب انسيابًا مُرسَلًا، حتى لَكأنه يتحدَّث بما تَقتضِيه المناسبات، لا بما تُحتِّمه في تسلسله مبادئُ المنطق الصوري؛ ولذلك تراه ينتقل بك من مثلٍ إلى مثل، ومن حالةٍ جزئية إلى حالةٍ جزئية، لا يلتزم في تتابُع سياقه إلا مجرى السليقة الفطرية في انسياب الحديث، فلا تجد في عباراته مصطلحًا خاصًّا يحتاج إلى تعريفٍ وتحديدٍ كما يفعل أصحاب العقول العِلمية، كما لا تجد في تلك العبارات ترتيبًا منطقيًّا كالذي تَستدعِيه إقامةُ البرهان في بَسْط النظريات العِلمية.
لكن هذه الأمثلة الجزئية والحالات المتعينة الفردية تتميَّز بما تَحمِله من صورٍ رُوعِي فيها أن تكون ممَّا يدركه الإنسان إدراكًا مُباشِرًا بحسِّه وشعوره، ولا إلزام هنا يقضي أن تجيء هذه الصورُ الجمالية مُصوِّرةً لوقائع بعينها وقعَتْ في العالَم الخارجي؛ إذ ليست الحقائق الخارجية بذاتها وكما تقع هي مَدار الوصف والحديث، بل المَدار هو طريقةُ تأثُّرِ الإنسان بتلك الحقائق وكيفية وقوعها في نفسه.
ولهذا فلا تتوقَّع أن تجد في أقوال حكيم الصين تعميماتٍ نظريةً مجردة كالتي تراها عند أصحاب النظرة العِلمية، بل إنَّه لَيكتب كما يكتب الأديب من حيث مراعاته للمضمون الفني في كتابته، وأعني بهذا أن تكون دلالةُ الكلام فرديةً جزئية مما يستطيع السامع أن يتصوَّره تصوُّرًا مباشِرًا، وتلك هي اللمسة الفنية التي جعلناها طابعَ التفكير الشرقي على وجه التعميم الغالب … يريد «كونفوشيوس» مثلًا أن يرسم الطريقَ إلى السلام العالمي، فكيف يرسمه؟ إنه لا يلجأ إلى نظريات السياسة والاجتماع، بل استمِعْ إليه في ذلك يقول: «إنَّه إذا ما تهذَّبت حياةُ الإنسان الشخصية استقامت حياةُ الأسرة، وإذا ما استقامت حياةُ الأسرة اتَّسَقتْ حياةُ الأُمَّة، وإذا ما اتَّسَقتْ حياةُ الأُمَّة ساد السلامُ في العالَم، فينبغي لنا — من الحاكم فنازلًا إلى سَوَاد الناس — أن نجعل تهذيبَ الحياة الفردية الشخصية بمثابة الجذر أو الأساس، فيستحيل على فروع الشجرة أو الطوابق العليا في البناء أن يستقيم لها كيانٌ إذا دبَّتِ الفوضى في جذور الشجرة أو في أساس البناء، فلم تَشْهَد الطبيعةُ كلُّها بعدُ شجرةً استدَقَّ جِذعُها وأُخِذ منه النحول، ثم جاءت فروعُها العليا سميكةً ثقيلة؛ وهذا هو ما أسمِّيه «معرفةَ الأشياء من جذورها أو من أُسُسها» …» وهكذا يَسُوق لك الحديثَ وكأنما هو يغترف من خبرات حياته الخاصة ومن مُشاهَداته الجزئية في مجرى الحياة اليومية؛ فهو لا يلجأ إلى البرهان النظري يَدعَم به صدْقَ زعمه، بل يكتفي بمثل هذا التصوير الفني لفكرته، وهو تصويرٌ لا يَسَع القارئ إلا أن يتقبَّله وكأنما هو منه إزاء البداهة التي لا سبيلَ إلى نقْضِها.
إن «كونفوشيوس» لَيَنثُر أقوالَه نَثْرًا، كأنَّه المصوِّر الفنان يَنثُر ألوانه على لوحة التصوير، فالرابطةُ بينها ليست هي الرابطةَ المنطقية، بل هي رابطةُ الاتِّساق والانسجام، حتى لَيُخَيَّل إليك أنْ ليس له من مبدأ واحد يَنتظِم حياتَه وفلسفته، لكنَّ بين أقواله المُتناثِرات خيطًا يَسْلُكها جميعًا في عقدٍ واحد، يستطيع العقلُ التحليلي الفاحص أن يستخرجه ويُبرِزه، أما «كونفوشيوس» نفسه، فلم يضع آراءَه على صورةِ مبدأ ونتائجه، والمبدأُ الذي يَسْرِي في حياة الرجل وفلسفته هو أنه جعَلَ عَلاقةَ الأُبوَّة بمثابة القانون العام، الذي بغيره يُصاب النظامُ الاجتماعي — كائنًا ما كانت صورته — بالعَطَب والفساد، فعَلاقةُ الحاكم بالمحكوم مثلًا لا تستقيم إلا إذا جرَتْ مجرى العَلاقة بين الوالد وولده، وهكذا قُلْ في كلِّ عَلاقةٍ اجتماعية أخرى؛ فما لم تكن الرابطةُ بين أفرادها هي نفسها رابطة البِرِّ بين الأبناء والآباء، أو هي عاطفة الرحمة والعطف بين الآباء والأبناء، فلا يُرجَى لها صلاح؛ فحتى العلاقات التِّجارية — على هذا الأساس — لا يُكتَب لها النجاحُ إلا إذا ارتبَطَ الشركاءُ بروابط الأسرة أو ما يُشبِهها، فالبيوتُ التِّجارية هناك «بيوتٌ» بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، والمؤسساتُ الصناعية وغيرها تكون أقربَ إلى تحقيقِ النجاح إذا كان أصحابُها أبناءَ أسرة واحدة. لكنْ قارِنْ هذه النظرةَ بنظرةٍ أخرى تُقِيم المؤسساتِ الاقتصاديةَ على أساس المُساهَمة بين شركاء لا عَلاقةَ بينهم، بل لا يعرف أحدٌ منهم أحدًا، وليس للعضو في الشركة من وزنٍ وقيمةٍ إلا بمقدار ما يملك من الأسهم … قارِنْ بين النظرتين، تجد النظرةَ الأولى هي نظرة مَن لا يريد أن يعيش في عالَمٍ من المعاني المجردة، بل يريد أن يحيا حياةً فيها دِفءُ الوِجْدان، وفيها دائمًا ما يُشبِه نشوةَ الفنان.
إن ﻟ «كونفوشيوس» عبارةً عميقةَ المغزى بعيدةَ الدلالة فيما نحن الآن بصدده؛ إذ يقول: «إنَّه لا مَوْضعَ لإنسان في المجتمع إلا إذا درَّبَ نفْسَه أولًا على إدراك الجمال.» فإذا فهمنا «إدراكَ الجمال» على أنه الإدراكُ الذي يتمُّ باللَّمسة المباشِرة، ولا يقوم على تحليلٍ وتعليلٍ وحجَّةٍ وبرهان، فهمنا مرادَ الحكيم بعبارته تلك؛ ذلك أنَّ عَلاقة الأُبوَّة — التي هي عنده أساسُ كلِّ عَلاقةٍ اجتماعية سليمة — ليست مما تحتاج إلى شرح وتفسير؛ فالوالدُ يحسُّ عَلاقتَه بولده، والولدُ يحسُّ عَلاقتَه بوالده، إحساسًا مباشِرًا، وهكذا ينبغي أن يكون إحساس الفرد في المجتمع السليم بسائر الأفراد، فإذا كان الشعور القومي خيرًا، فهو إنَّما يستمدُّ خيرِيَّتَه هذه من كونه شعورًا بين أبناء الوطن الواحد شديدَ الشبه بالشعور الذي يربط أفرادَ الأسرة الواحدة؛ أي أنَّه شعورٌ لا يُقِيمه صاحبه على منفعة مَرجُوَّة، ولا على نظريةٍ عِلميَّة مُجرَّدة، وإذن فهو شعورٌ قائم على إدراكٍ «جماليٍّ» لا على إدراكٍ منطقيٍّ نظري. وإذا كانت طاعةُ الحاكم واجبة، فلأنها شديدةُ الشبه بطاعة الولد لوالده، تقتضيها طبائعُ الأشياء التي يدركها الإنسان بفطرته الداخلية من غير تعليل وبرهان. وما هكذا يَسُوق حديثَه المفكِّر الغربي حين يحلِّل الشعورَ القومي أو طاعة الحاكم، فها هنا تراه يجعل أساسَه مبادئَ نظريةً مجردة عامة، كهذا الذي يقوله «لوك» الفيلسوف الإنجليزي، أو يقوله «جان جاك روسو»، عندما يتحدَّثان عن تعاقُد أفراد المجتمع كيف نشأ وتطوَّر … الفرقُ بين الحالتَيْن هو الفرقُ بين النظرتَيْن؛ فنظرةٌ تَنبنِي على الفطرة واللَّقَانة، وأخرى تَلتمِس المنطقَ العقلي والبرهان؛ والأولى هي نظرةُ الفنان، والثانية هي نظرةُ العالِم.