الفصل السادس
مُواجَهةُ الحقيقة الوجودية مُواجَهةً مباشِرة، لا تتوسَّطها حلقاتٌ من تعليلٍ وتدليل، هي لبُّ الشرق وصميمه؛ ومِن ثَمَّ كان إدراكُه قبل غيره للألوهية، وإدراكُه قبل غيره للعَلاقة الرابطة بينه وبين الوجود من حوله، وفي هذه المُواجَهة المباشِرة للحقيقة الوجودية تَلتقي شتَّى فروع الثقافة الشرقية، قاصيها ودانيها، فلا فرْقَ في هذه الخاصة بين «إخناتون» و«بوذا» و«كونفوشيوس»، وسواء كان محور الإدراك المباشِر هو الوجود الطبيعي أو النظام الاجتماعي، فالمَدارُ في جميع الحالات هو اللمسة المباشِرة بين الذات المُدرِكة والحقيقة المُدرَكة، وهي نفسها اللمسة المباشِرة التي أدرك بها أنبياءُ الشرق وقِدِّيسوه ورُهْبانه ومتصوِّفته حقيقةَ الوجود الخافية وراء ظواهره العابرات.
هذه اللمسة المباشِرة بين الذات والموضوع هي التي جعلناها تعريفًا للنظرة الفنية إلى الحقيقة بالقياس إلى نظرة العِلم، وإنَّ هذا التبايُنَ لَيَظهرُ بين الفنان في الشرق والفنان في الغرب رغم التقائهما في مجالٍ واحد، فليست نظرةُ المصوِّر الصيني — مثلًا — إلى الطبيعة شبيهةً كلَّ الشبه بنظرةِ زميله الغربي إلى الطبيعة، فبينما المصوِّرُ الغربي يَخرج إلى الطبيعة مُزوَّدًا بأدواته وأصباغه ليجلس واللوحةُ أمامَه والمنظرُ المُراد تصويرُه ماثلٌ أمام بصره، وما عليه سوى أن يَجتزِئ مما يراه جانبًا يثبته على لوحته، ترى المصوِّرَ الشرقي يَخرج إلى الطبيعة وليس معه شيءٌ من أدوات التصوير، يَخرج إليها وحْدَه وليس معه إلا حسه ووِجْدانه، وهناك يتَّخِذ جلسته مُغرِقًا نفسه فيما حوله حتى يصبح جزءًا منه؛ إنَّه يغمس نفْسَه في تيار الكون غمسًا حتى لَكأنه القطرةُ من ماء البحر، لا تتميَّز عما حولها من قطرات، وعندئذٍ يُتاح له أن يَشهَد الطبيعةَ في سَيَّالها المتصل الدفَّاق، وعندئذٍ كذلك تكون الصلة وثيقةً مباشِرة بين الرائي والمرئي فلا يَحُول بينهما حائل؛ لأنَّهما يكونان عندئذٍ شيئًا واحدًا؛ ولهذا تَخرج الصورةُ من إنتاج الفنان الصيني وكأنها كلٌّ واحدٌ متصل، لا تَمايُزَ فيها بين جزء وجزء، إنه لا يَعْنِيه — كما يَعْنِي المصوِّر الغربي — أن يُبرِز هذا الجزءَ وذلك الجزءَ من أجزاء الصورة إبرازًا يُحقِّق لكل شيء كيانَه المستقل في أبعاده الثلاثة؛ كلا، فليس المُعوَّل في الفن الشرقي على صيانة الحقائق الواقعة بواقعيتها كما هي قائمةٌ في العالَم الخارجي، بل المُعوَّل هو اندماجُ الفنان بذاته وبرُوحه في تلك الحقائق، ثم على اندماجها بعضِها في بعض، بحيث تُؤكِّد ما بينها جميعًا من صِلة تجعل منها ومن الفنان معها حقيقةً واحدة.
إنَّ مصوِّر الشرق لا يفترض — كما يفترض زميله في الغرب — أنَّه «متفرِّج» على الطبيعة، يَشْهَدها كما يَشْهَد النظَّارةُ ما يدور على المسرح، وهو كذلك لا يفترض — كما يفترض زميله في الغرب — أنَّ للأشياء الفلانية خصائصَ مُعينةً درَسَها وقرأ عنها؛ كلا، بل يَدنُو الفنانُ الشرقي من الطبيعة وذهنُه خالٍ من كل افتراضٍ سابق عن حقائق الأشياء كما تقع له في ذوقه المباشِر، فوازِنْ مثلًا بين المصوِّر الشرقي والمصوِّر الغربي إذا ما أراد كلٌّ منهما أن يُصوِّر الطبيعةَ وهي متلفِّعةٌ بغِشاء من ضباب؛ فعندئذٍ تُدرِك من صورة الفنان الغربي ما يؤكِّد لك أنه رسَمَ مشهدَه وهو على وعي بأنَّ الضباب غِلَالةٌ عارضة جاءت فكَسَتِ الشجرَ والنهرَ والجبل؛ وذلك لأنَّه دخل ساحةَ الطبيعة مُزوَّدًا بعِلمٍ سابق عن مُقوِّمات المنظرِ الثابتة الدائمة وزوائده التي جاءت عارضةً فحالَتْ بينه وبين «حقائق» الطبيعة كما قد عرفها من قبلُ؛ وأمَّا الفنانُ الشرقي فيدخل مِحرابَ الطبيعة متحرِّرًا من كلِّ عِلمٍ سابق، ليتقبَّلَها بِكْرًا؛ وبذلك لا يفرِّق بين جبلٍ ثابت وضبابٍ عارض، فكلُّها عندئذٍ طبيعةٌ واحدة مُوحَّدة، لا مبرِّرَ لتجزئتها قطعةً قطعةً وشيئًا شيئًا، فليس التوحيدُ من وجهة نظره هو الوهم، بل الوهمُ هو تجزئةُ ما قد جاءه مُوحَّدًا، فلا شجر عنده ولا حجر، ولا نهر ولا جبل، ثم لا ضباب يكسو هذه الأشياء أو لا يكسوها، بل إنَّ هذه العناصر كلَّها خيوطٌ من نسيج واحد. يدرك الإنسانُ وَحْدانيتَه لا بعقله الذي يحلِّل، بل يدركها بالمُجابَهة الرُّوحية المباشِرة، يدركها باللقطة الوِجْدانية الواحدة؛ وتلك هي الصوفية الشرقية بأدق معانيها وأصدقها؛ فهي صوفيةٌ لا تَلغِي الواقعَ ولا تنسخه، لكن تمحو ما يُفرِّق — في رؤية العين — أجزاءَه بعضَها عن بعض، إنَّها صوفيةٌ تعتمد في إدراكها للحقِّ على العِيَان المباشِر، على البصيرة النافذة، لا على الدراسة النظرية التي تحلِّل الكلَّ إلى أجزائه لتنظر إلى كلِّ جزءٍ على حِدَة بعد تجريده ممَّا يتشابك معه في نسيجٍ واحد.
إنَّ في الفن الشرقي بساطةً قد تُخطِئها عينُ الغربي فلا ترى أسرارَها، ومكمنُ السر هو في اتِّحادِ الفنان بالطبيعة التي يصوِّرها اتحادًا لا يتذوَّقه إلا مَن طَعِمَ الثقافةَ الشرقية وتنفَّسَ هواءها، فلقد قِيل عن فنانٍ شرقي صوَّرَ قصباتِ الخَيْزُران على لوحته: إنَّه قد نَسِي نفسَه حتى تحوَّلَ إلى خَيْزُرانة، بحيث لم يَعُد يرى في نفسه إلا قصباتٍ من خَيْزُران، وهكذا يُخَيَّل إليك إذا نفذْتَ بعين الناقد الخبير خلال الفن الشرقي إلى سرِّه الدفين؛ يُخَيَّل إليك أن الفنان إذا ما صوَّرَ حصانًا أو طائرًا أو فَرَاشة أو نهرًا، قد تحوَّلَ هو نفْسُه إلى هذه الأشياء التي يرسمها، فهو لا يرسمها من ظواهرها كما تبدو لِعَيْن الإنسان المنتفِع بها، بل يتَّحِد معها برُوحه ليرسمها من الباطن، فيَنفُذ إلى صميم ما يتصدَّى لتصويره؛ وبعبارةٍ أخرى، لا يظلُّ الفنان أثناء مُمارَسته لفنِّه إنسانًا من البشر مستقِلًّا بجسَدِه قائمًا بذاته متميِّزًا مما حوله، بل يصبح وكأنه جزء من الكل الشامل، وما الكل الشامل عنده سوى الواحد الأحد الذي إنْ تعدَّدَتْ آياته جِيادًا وطيورًا وأشجارًا وأنهارًا، فهو في جوهره لا يتعدَّد؛ وهذا الجوهرُ هو ما يَنْشُده العابد، وهو كذلك ما يراه الفنان.