الفصل الثامن

رُوحُ الشرق وسِرُّه هما في إدراك الجوهر الكوني الواحد المتصل الذي لا تَجزِئةَ فيه ولا تبايُن، ولكنْ أين عساك أن توجِّه النظر لترى هذا الجوهر، ألستَ مضطرًّا أن تلتمسه في هذه الزهرة، أو في هذا الجبل، أو في هذا العصفور؟ وإذا ركَّزتَ انتباهَك في جُزْئيةٍ واحدة من هذه الأشياء لتَستشِفَّ وراءَها رُوحَ الكون الواحد، أفمستطيعٌ أنت أن تجرِّد نفْسَك عن هذه الجُزْئية التي وقفتَ عندها متأمِّلًا؟ الجوابُ هو بالإيجاب؛ لو وهبك الله رُوحَ الفنان الأصيل، فما رُوحُ الفن في صميمها سوى قُدرةِ الفنان على إدراك الحقيقة الكبرى خلال الجُزْئيات التي يقع عليها بحسه؛ فالفنُّ مزيجٌ متداخِل ممَّا هو جُزْئيٌّ ظاهرٌ للعين بادٍ للحواس، وما هو خَبِيء خفيٌّ مُستعصٍ على إدراك الحواس، فإذا قال شاعرٌ في هذه الزهرة شِعرًا، أو إذا رسمها مصوِّرٌ فنان، فهو لا يقف عندها مُحاكيًا ورقةً بورقة وعودًا بعود، وإلَّا لَأغنَتْ عنه آلةُ التصوير، بل إنه لَيَمزُج بين خصائصها المميزة الفريدة من جهةٍ، وبين ما تُوحِي له من المعاني التي تَكمُن وراءَها مما هو بطبيعته مُفارِقٌ للحس، وما دمتَ قد سرحتَ مع الفنان بوِجْدانك فيما وراء الزهرة المُصوَّرة، فلا سدودَ عندئذٍ ولا حدود، بل ستظل غارقًا في بحر الوِجْدان حتى ينتهي بك آخِر الأمر إلى اللامتناهي واللامحدود، إلى الحق الواحد الذي هو جوهر الوجود.

إنَّه إذا اجتمع رجلان: أحدُهما يقف من الطبيعة الخارجية وقفةَ العلماء، يلاحظ ظواهِرَها بحواسِّه المجردة أو بمناظيره المقرِّبة والمكبِّرة، بحيث لا يُجاوِز هذه الظواهر ولا يسمح لأحدٍ أن يُجاوِزها حتى لا يضرب في الغيب المجهول؛ والآخَرُ يقف من الطبيعة وقفةَ المتصوِّف الفنان، يترك الظاهر ليلتمس الباطنَ ويُجاوِز عالَمَ الشَّهادة ليغوص في عالَم الغيب، أقول إنه إذا اجتمع رجلان بهذه المميزات لكلٍّ منهما، فلا رجاءَ ولا أملَ في أنْ يلتقِيَا على رأي؛ لأنَّ كلًّا منهما يَجُول في عالَم غير العالَم الذي يَجُول فيه زميله، وإذا لم يَهَبْهما الله شيئًا من سِعَة الصدر ورَحَابة الأفق، لَكان الراجح أن يَضِيق كلٌّ منهما بزميله، ذلك إنْ لم يجعل من زميله موضعَ هُزْءٍ وسخرية، فلا سبيلَ إلى تفاهُمٍ بينهما إلا إذا اتفقا بادِئ ذي بَدْءٍ على أي العالَمَيْن هو المقصود المنشود؟ أمَّا أنْ يلتمس أحدهما حقائقَ الأشياء عن طريق حواسِّه الظاهرة من بصرٍ وسمعٍ وما إليهما، ثم عن طريقِ العقل المنطقي الذي يستخرج من هذه الظواهر المُحَسَّة قوانينَها، على حين يلتمس الآخَرُ حقيقةَ الأشياء فيما هو دائمٌ ثابتٌ وراء تلك الظواهر؛ فعندئذٍ لا تكون بينهما نقطةُ الْتِقاءٍ في وجهة النظر، وهذا الانفراجُ والتفاوتُ بين النظرتين هو الذي شهدناه مدى قرنين أو ثلاثة في التاريخ الحديث بين الغرب والشرق؛ فلِلأول منهما نظرةٌ تُدرِك الجزئياتِ العابرةَ لتكوِّن منها عِلمًا، فتُدرِك هذه اللمعةَ من الضوء تَجِيء وتذهب، وهذا اللونَ القرمزي من الزهرة يظهر ويختفي، وهذا الصوتَ يَطْرق الأُذُن ثم يفنى؛ وللثاني منهما نظرةٌ أخرى، نظرةٌ تلتمس شيئًا لا يتحقَّق في هذه اللمعة وحدها، ولا في هذا اللون القرمزي وحده، ولا في ذلك الصوت المسموع، ولكنه يتحقَّق فيها جميعًا على حدٍّ سواء، الأول منهما يَهْزَأ من زميله المُلغِز الحالم، وكذلك يَهْزَأ الثاني من زميله الأول لِتَفاهة إدراكه، ولغروره الصبياني الذي يرضى ويَقْنَع بالعوابر الزائلات. أَلَا إنَّ سرَّ الشرق ورُوحه — أو إنْ شئتَ فقُلْ: إنَّ سر الفن ورُوحه — هو في الغوص وراء هذه الجزئيات العابرة كأنها الموجات الصِّغار تضطرب على سطح المحيط.

فليس الخلودُ وليس الدوامُ وليس السكونُ إلا للجوهر الذي تكون تلك الحالاتُ الظاهرة الطارئة حالاتِه، وسبيلُ إدراك الجوهر الخالد هو الحَدْس النافذ، هو حَدْس المتصوِّف وبصيرة الفنان، وإنَّها لَنظرةٌ تنتهي بصاحبها إلى الاعتقاد الجازم بفناء الجوانب الحسية الزائلة من شخص الإنسان ومن الطبيعة على السواء؛ فكلُّ صفة لأيِّ كائنٍ تعلم عنها أنها صفةٌ خاصة بهذه اللحظة من حياة ذلك الكائن، أو خاصةٌ بهذا الظرف المُعيَّن الذي يحيط به، هي صفةٌ زائلة وإدراكُها لِذَاتها لا يعني شيئًا، ولا يُغنِي عن الحق شيئًا، والمهمُّ هو أن ندركها لنستشِفَّ وراءَها جوهرًا لا يقتصر وجوده على هذه اللحظة المعينة، ولا على هذا الظرف الموقوت، وهو الجوهر الذي لا تعرف طبيعتُه تَمايُزًا ولا تبايُنًا بين أجزائه؛ لأنَّه متجانِسٌ متَّصل لا تَجْزئةَ فيه ولا كثرةَ ولا تعدُّد، هذا الجوهرُ الذي يتبدَّى من الأشياء ألوانًا وأشكالًا، هو وحده الذي يفلت من قبضة الموت، هو وحده الباقي، هو «وجه ربك» الذي يَبْقى بعد أن تَفْنى الأرضُ وما عليها.

هذا هو الشرق وطريقة إدراكه للوجود والموجود، وهو يرتِّب على هذا المبدأ فلسفتَه في الحياة؛ فيستحيل — مثلًا — على شرقيٍّ أن يجعل مثلَه الأعلى في الأخلاق متعةَ الجسد؛ لأن متعة الجسد بطبيعتها صائرةٌ إلى زوال سريع. والعِبرةُ هنا «بالمَثَل الأعلى» لا بطرائق العيش الفعلية، فقد يحدث للشرقي أن يغوص في المتعة الجسدية إلى أُذنَيْه، لكنه يحس في ضميره أنه ضالٌّ عن جادَّةِ الطريق، على حين قد تجد في الغرب فلسفاتٍ أخلاقيةً بأَسْرها — كفلسفة «بنتام» و«مل» — تجعل المنفعةَ والمتعةَ مبدأ خلقيًّا صريحًا، ولو كانت المتعة ممَّا يدوم دوامًا لا يطرأ عليه التغيُّر والتحوُّل — كما هي الحال في جنة الفردوس — لَمَا كان فيها عند الشرقي من بأس، لكنَّها في هذه الدنيا متغيِّرة متحوِّلة، شأنها شأن سائر الظواهر الجزئية الفردية العابرة؛ ولذلك ازْدَراها الشرقي في مُثُله العُليا وغَضَّ عنها البصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤