الفصل التاسع
تلتقي دِياناتُ الشرق الأقصى كلها في وجهةِ نظرٍ واحدة، مُؤدَّاها هو هذا الذي أسلفناه؛ فلِلْكون رُوحٌ واحد أزلي أبدي، تنبثق منه هذه الكائنات الأفراد لتُقِيم على السطح الظاهر حينًا ثم تعود فتندمج — كما كانت — في ذلك الرُّوحِ الواحد الخالد، وإن هذه الكائنات التي تمر كأنها الظلال لَهِي من التنوُّع والكثرة بحيث يَجُوز لنا أن نتصوَّر الجوهرَ الكوني أمًّا وَلُودًا، ما تنفكُّ تُخرِج من جَوْفها أُلوفَ الأُلوفِ من الصور، ثم لا تلبث أن تُعِيد ما أخرَجَتْه إلى جوفها من جديد؛ إنَّها تُخرِج الفضيلة والرذيلة معًا، والجمال والقبح، والتقوى والفجور، من جوفها يخرج الغضب والجشع والفَتْك والإجرام، ومن جوفها كذلك يخرج صفاء القِدِّيسين ونقاء الأطهار، لكنَّ جانبَ الفضيلة هذا إنَّما يخرج ليكون صورةً معبِّرة عن رُوح العالَم وهو في سكونه وصمته؛ لأن السكينة والصمت هما من الكون جانِبُه الأبدي الذي لا تُفسِده العواطفُ والانفعالات والكَدْح العابث المغرور.
ورُوح العالَم إذ يُعبِّر عن نفسه في كلتا الصورتين: صورةِ الطمع والجشع والتناحُر والقتال، وصورةِ العِفة والترفُّع والسَّكِينة والصمت والتأمُّل؛ إنَّما يُهيِّئ للإنسان بذلك سبيلًا لتحقيق حريته بمعناها الصحيح، فليست الحرية الحقيقية هي أن تُقِرَّ الكائنَ البشري كما هو برغباته وشهواته، ثم تضع في يديه وسائلَ العلم ليستغِلَّها في استخدام الطبيعة لصالحه، بل الحريةُ بمعناها الصحيح هي في اندماج الإنسان برُوحه في رُوح العالَم ليصبح جزءًا من مصدر الإمكانات التي بوُسْعها أن تكون أيَّ شيء على وجه التعيُّن والتحديد؛ الحريةُ بمعناها الصحيح هي أن تَخرج عن كيانك هذا الجزئيِّ الفردي الذي تحدَّدَتْ صفاته وخصائصه، ودخل في نطاق الأشياء التي تحقَّقت بالفعل، ولم يَعُد في حدود المستطاع أن يُصِيبها تبدُّلٌ وتغيُّر وحذف وإضافة؛ الحريةُ الصحيحة هي أن تَخرج من كيانك الفردي المفروغ من صياغته على نحوٍ محدَّد معلوم، لتَدخل في نطاقِ اللامحدود واللامتعين، فتصبح جزءًا من الأم الوَلُود التي تَلِد صنوفَ الكائنات، فتتجدَّد لك حريةُ الاختيار في أن تكون شيئًا لم يتم بعدُ صياغته.
كثيرًا ما يتهم الغربيون أهل الشرق بأنَّهم قد فرضوا على أنفسهم الأغلالَ التي تَحدُّ من حريتهم، باعتقادهم في القدر المحدَّد المرسوم، مع أنَّنا لو تعقَّبْنا النظرةَ العِلمية الغربية والنظرةَ الشرقية الصوفية إلى أصولهما، لَتبيَّنَ أنَّ مغلول الحرية هو صاحبُ النظرة الأولى، أليس العلم عند أصحاب النظرة العِلمية منتهيًا بهم إلى معرفة العالَم معرفةً كاملة؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يكون معنى هذا هو أنَّ العالَم قد خرج كله إلى دنيا التحقُّق الفعلي، فتحدَّدت صفاته وخصائصه، وما علينا بعد ذلك إلا أن نرفع النقاب عن هذه الخصائص والصفات لنحيط بكل شيء عِلمًا؟ أين إذن تكون الحرية في تغيير ما هو كائنٌ بالفعل؟ وأمَّا وجهة النظر الأخرى فهي — على خلاف ذلك — ترى إمكانَ أن يعود الأفراد إلى الانغماس في المصدر اللامحدود اللامتعين، وإمكانَ أن يَصدُر عن هذا المصدر سيْلٌ آخَر من الكائنات التي لا سبيلَ إلى تحديد صفاتها قبل صدورها؛ وإذن فهنالك الاحتمالُ دائمًا بأن ينشأ عن الجوهر الكوني مخلوقٌ جديد مُبتكَر. وكما أن الكون كله فيه هذان الجانبان: جانبُ المصدر المُبدِع الخلَّاق في خلوده وثباته، وجانبُ المخلوقات الجُزْئية التي تم تكوينها على صورٍ معلومة، فكذلك في الإنسان الواحد هذان الجانبان: ففيه جانبٌ سلوكي جزئي هو هذه الحياة العملية التي يحياها ويسعى فيها نحو تحقيق رغباته وشهواته وآماله، وجانبُ السكون والصمت والتأمُّل، ولو استطاع الإنسان أن ينجو من تيار الحياة العملية المضطربة لِيَخلُد إلى ذات نفسه في سَكِينة وتأمُّل، لَاستطاع أن يحقِّق لنفسه الحريةَ بمعناها القويم.
هذه وجهةٌ للنظر تجعل الإنسانيةَ والطبيعةَ كلتَيْهما تسيران في طريقٍ مفتوح قابِلٍ للتغيُّر الذي قد تَقتضِيه الحكمة، وأمَّا أن ننظر إلى العالَم وكأنما هو شيء قد كَمُل واكتمل على قوانين معيَّنة لا سبيلَ إلى تبديلها، فهو بمثابة أن نضع الغُلَّ في أيدينا؛ فقد يستقِلُّ المسافرُ الغربي في مدينة شرقية سيارةً ساعةً معينة، حاسبًا حسابه بأنه سيبلغ جهته المقصودة في كذا من الدقائق، وكم تكون دهشته حين يسأل السائق الشرقي: أَلَا تكفينا عشْرُ دقائق لنقطع المسافة إلى المكان الفلاني؟ فيُجِيبه السائق الشرقي بما معناه: «إنْ شاء الله.» لأنَّ الشرقي في صميمه يحسُّ أن مجرى الأمور معرض للتغيُّر، ولا يدَّعِي حسابه حسابًا دقيقًا إلا جاهلٌ؛ فأيُّ هاتين النظرتين تتمشَّى مع الحرية الحقيقة وأيهما تناقضها؟ أيكون الغربي مؤمنًا بالحرية الكونية حين يزعم أن الأمورَ دقيقَها وجليلَها قد رُسِمت رسمًا لا سبيلَ إلى تغييره وتحويره؟ أم يكون الشرقي مؤمنًا بالقدر المغلق المقفل حين يتصوَّر أن الأمور تحتمل أن تجري على غير ما حسَبَ لها الحاسبون؟ … الفرقُ بين الرجلين هو هذا: رجلٌ يعطي الحريةَ للإنسان الفرد ويَسْلُبها من الكون في مجموعه، وآخَر يعطي الحريةَ للكون في مجموعه بما فيه الإنسان نفسه باعتباره جزءًا منه، ويَسْلُبها من الإنسان الفرد من حيث هو فردٌ مُنعزِل مستقل عن الكون العظيم.
ومن فلاسفة الغرب مَن يذهبون مذهبًا قريبَ الشبه بهذه الفلسفة الشرقية، وعلى رأسهم «سبينوزا» بمذهبه المعروف، الذي يأخذ فيه بأن في الكون حقيقةً شاملة يسمِّيها «جوهرًا»، وهذا الجوهرُ أزلي أبدي ثابت، يَتبدَّى في هذه الأشياء الكثيرة التي تقع لنا تحت الحس، وهي كلها أعراض زائلة فانية؛ فأنت وجسدُك وعشيرتُك ونوعُك الإنساني وأرضُك التي تعيش عليها إنْ هي إلا أعراضٌ زائلة، تَنمُّ عن حقيقةٍ خالدة كامنة فيها، فقد يزول الشيء الجزئي ويَفْنى، وأما الحقيقة التي تتمثَّل فيه فباقيةٌ لا تخضع لزوالٍ أو فناء.
ومن رأيه أن للطبيعة الكبرى مَظهرَيْن: فهي طابعةٌ من ناحيةٍ ومُنطبِعة من ناحيةٍ أخرى؛ أيْ أنَّها فعَّالة مُنشِئة خالقة من ناحية، وهي مُنفعِلة مخلوقة من ناحية أخرى؛ فأمَّا هذا الجانب المُنفعِل المُنطبِع المخلوق فهو الدنيا وما تَحْوي من غابات وهواء وماء وجبال وحقول وسائر الأشياء الحسية التي لا تقع تحت الحصر، فهي كلها أشياء من إنتاج الجانب الطابع الفعال المُنشِئ الخلَّاق؛ وهكذا تجد في الكون قوةً تَخلُق وهي «الجوهر»، وأشياءَ مخلوقةً وهي «الأعراض»، فإذا سألتَ عن الإنسان حرًّا أو مُقيَّدًا؟ أَجَبْناك بأنه الاثنان معًا من وجهتين للنظر مختلفتين، فهو حرٌّ إذا اعتبرتَه جزءًا من الكون الطابع الفعَّال، وهو لا شك جزءٌ منه؛ لأنه ليس خارجه ولا مُفارِقًا له، ولكنه أيضًا مُقيَّد إذا اعتبرتَه أحدَ الأعراض التي جاءت نتيجةً محتومةً للجوهر الكوني؛ إذ لا سبيلَ أمام هذه الأعراض المُنطبِعة المُنفعِلة المخلوقة إلا أن تسيرها في مَجْراها المرسوم.
وكذلك هناك شَبَه قوي بين فلسفة «شوبنهور» وبين هذه الفلسفة الشرقية، حتى لقد قِيل إن «شوبنهور» قد استقى فلسفتَه من هذا المصدر الشرقي الزاخر؛ فممَّا يقوله «شوبنهور»: «إن الأحياء كافة أجزاءٌ من حقيقةٍ واحدة، ولكن وجودها الفردي في زمان ومكان يُظهِرها بمظهرِ الكائنات المنفصلة؛ فالزمانُ والمكان هما أصلُ الانفصال الفردي الذي تنقسم به الحياة إلى كائناتٍ عضوية متميزة تبدو كأنها أشتاتٌ متفرِّقة في أَمْكِنة مختلفة، وفي فتراتٍ من الزمان متباعِدة، فليس الزمان والمكان إلا نقابًا وهميًّا يُخفِي عن أعيننا اتحادَ الأشياء، والواقع أنْ ليس هناك إلا نوعٌ واحد وإلا حياةٌ واحدة؛ ومهمةُ الفلسفة عنده هي أن توضِّح للإنسان في جلاءٍ أنْ ليس الفرد إلا الظاهرة لحقيقةٍ وراءَها، لا الحقيقة في ذاتها، وأنْ تبيِّن له أن ثَمة صورةً دائمة ثابتة نراها من خلال التغيُّر المتصل في دنيا الجُزْئيات والأفراد.»
يقول «شوبنهور»: «إنَّ مَن لا يستطيع أن ينظر إلى الأحياء والأشياء جميعًا وفي كل عصور التاريخ بحيث يراها أشباحًا وأوهامًا، فليسَتْ لديه مَلَكةُ الفلسفة … إنَّ فلسفةَ التاريخ الصحيحة هي إدراكُنا لوجودٍ ثابت لا يتغيَّر، وإنْ بدا كما تراه متغيِّرًا تغيُّرًا لا نهايةَ له في الحوادث المتشابكة؛ فهو يُتابِع اليومَ نفسَ الأغراض التي كان بالأمس يَنْشُدها، والتي سيظلُّ يَنْشُدها إلى الأبد، فعلى فيلسوف التاريخ أن يتعرَّف — بناءً على هذا — تلك الصفةَ الواحدة في كل الحوادث … وعليه أنْ يرى أنَّ الإنسانية هي هي في كلِّ مكان، على الرغم ممَّا تُوجِبه الظروفُ الخاصة من أَوجُه الخلاف في العادات والأخلاق والأزياء.»