أشعب وجاريته رشا

انتصف النهار، وصاح مؤذن الظهر، لا من مسجد ذلك الحي من أحياء «المدينة»، لكن من بطن «أشعب»؛ أشهر الطفيليين في عصره، وأظرفهم حديثًا، وأقبحهم وجهًا، وأزراهم هيئة، وأجملهم صوتًا، وأحذقهم في فنون الغناء.

وكان جالسًا إلى معشوقته «رشا» من أول النهار، يحادثها ويضاحكها ويطارحها الغناء منشدًا:

دموع عيني لها انبساط
ونوم عيني به انقباض

وكانت الحسناء متكئة على فراش من ديباج أخضر في دارها الصغيرة، أمام بستان قد أزهر بنبت الربيع. فأجابته مترنمة، والسحر والفتنة يكادان ينطقان في عينيها:

وذا قليل لمن دهته
بلحظها الأعين المِراض

فتنهد العاشق ورفع عقيرته:

فهل لمولاتي عطف قلب
أو للذي في الحشا انقراض؟

فأجابته الجميلة في ابتسامها الفاتن، ولفظها العذب، وصوتها الرخيم:

إن كنت تبغي الوداد منا
فالوُد في ديننا قِراض

فتنهد أشعب هذه المرة تنهدًا طويلًا، وأرسل بصره إلى النافذة، ورأى ميل الشمس، فتململ والتفت يَمنة ويَسرة، ثم قال للحسناء صاحبة الدار: ما لي لا أسمع للطعام ذكرًا؟!

فتغير وجه الجميلة وقالت: سبحان الله! أما تستحي يا شيخ؟ أما في وجهي من الحسن ما يشغلك عن هذا؟!

فسكت أشعب كالخجِل. ثم جعل ينظر إلى وجهها وعينيها متمسكًا بأهداب الصبر والقناعة.

فقالت له: امض في غنائك، فإنك حسن الغناء. أسمعني صوتًا لم أسمعه من قبل. ما هو أحسن الغناء عندك؟

فأجاب أشعب بغير تردد: هو نَشيش المقلي!

فقالت له في شيء من الامتعاض والتأنيب: أهذا كلام يقال في مثل هذا الموقف الذي نحن فيه؟

– صدقتِ … لقد كان يجمل بي أن أتحدث عن الحب الذي في الحشا!

وأمسك بالعود مرة أخرى … فأسرعت الجارية تقول: نعم، صف لي ما في الحشا من الحب.

فنظر إليها العاشق مليًّا وقال: وماذا كنت أصنع إذن منذ الصباح؟

– زد في الوصف.

– وصف ماذا؟

– ما في الحشا من الهوى.

– من «الهوا» … هذا والله صحيح.

ورفع العاشق عقيرته بالغناء:

إذا كان في بطني طعام ذكرتها
وإن جُعت يومًا لم تكن لي على ذكر
ويزداد حبي إن شبعت تجددًا
وإن جعت غابت عن فؤادي وعن فكري

ولم تر الجارية مع صاحبها هذا حيلة، فقامت تهيئ له الطعام. ولم تمض ساعة حتى فاز أشعب ببغيته الحقيقية ووُضِعَ أمامه الخِوان. وكان هذا العاشق الولهان إذا أكل ذهب عقله وجحَظت عينه وسكِر وسدِر وانبهر، وتربَّد وجهه، ولم يسمع ولم يبصر. فتناول القصعة وهي كجمجمة الثور فأخذ يحضُنها، وما زال ينهشها طولًا وعرضًا ورفعًا وخفضًا، لا يفصل تمرةً قطُّ عن تمرة، ولا يرمي بنواةٍ قط، ولا ينزع قِمَعًا، ولا ينفي عنه قشرًا، ولا يفتشه مخافة السوس والدود. فلما رأت صاحبته ما يعتريه وما يعتري الطعام منه، لم تزد على أن همست كالمخاطبة لنفسها: هذا والله هو العشق!

ثم نظرت إليه، وقد انتقل إلى ألوان أخرى من الطعام جعل يخاطبها قبل أن يمد إليها يده: بارك الله فيكَ من «فالُوذَج» صافٍ يُقرأ نقش الدرهم من تحتك! … بارك الله فيكِ من ثريدة ملساء كأنها خد الحبيب! … بارك الله فيك من خبز رُقاق كأنها آذان الفيلة!

وهجم بيديه كأنه طالب ثأر، فابتدرته الجارية قائلة: أتحبني؟

فلم يُجب، ولم يلتفت إليها، ولم يَبْدُ عليه أنه سمع منها شيئًا. ومضى في التهامه ومضغه. فتوسلت إليه أن يتكلم، فصاح متبرمًا: أما سمعت قول من قال: «إذا كنت على مائدة فلا تتكلمن في حال أكلك، وإن كلمك من لا بد من جوابه فلا تجبه إلا بقول نعم، فإن الكلام يشغل عن الأكل، وقول «نعم» مَضغة.»

فضحكت القينة ثم قالت: ولكنك لم تجبني حتى بقول «نعم».

فنظر إليها وفمه ممتلئٌ نظرةَ مَن يسألها عما قالت، فقد نسي، فأجابت: سألتك «أتحبني»؟

فلم يلفظ حرفًا، وأين له الفم الذي يلفظ شيئًا؟

فسكتت الجارية لحظة، ثم رأت أن تحتال عليه وتحرجه فقالت: أتحب أبا بكر الصدِّيق؟

فبلع لقمة وشرب جُرعة من ماء، ونظر إليها نظرة المعتذر المشغول عن الجواب، غير أنها مضت في تضييق الخناق عليه: أتحب عمر بن الخطاب؟

وصادف العاشق فترة فراغ بين لقمة ولقمة، فأجابها على عجل ويده مسرعة إلى الخوان: ما ترك الطعام في قلبي حبًّا لأحد!

•••

قام أشعب عن الخوان الذي كان، وهو يتجشأ ويقول لصاحبته: جُعِلْت فداك ما أكرمك! إذا كان غدًا فاصنعي لي هريسة، فأنت أحذق بها.

فقالت له باسمةً: إنك لشديد النسيان. أما تذكر أنك من أيام قد تشهيت عليَّ «هريسة» فبعثت بها إليك؟

فصاح العاشق طربًا: نعم … فإني أتشهى عليك إذن «لَوْزِينَج» رقَّ قشره واشتدَّتْ عذوبته، غريقًا في سكر ودُهنِ لوز … يشد فؤاد الحزين ويرد نفْس الشَّجِين؛ ابعثي لي به غدًا أصلحك الله، مع شيء من النبيذ وما يصلحه.

فقالت: أنسيتَ أني بعثت إليك منذ ليالٍ هذا اللَّوزِينَج وهذا النبيذ!

فقال: إذن فإني أشتهي، حفظك الله وأبقاك، ثَريدةً دَكناء من الفُلفُل، رقطاء من الحِمَّص، ذات جناحين من اللحم فأضرب فيها كما يَضرب الوليُّ السوء في مال اليتيم.

فصمتت الجارية لحظة، ثم نظرت إلى أشعب مليًّا وقالت كالمخاطبة لنفسها، ساخرة: أبقاك الله وحفظك، رأينا الحب يكون في القلب، وحبك ليس يجاوز المعدة!

– لم أسمع منك! ماذا قلت؟

– لا شيء! أخبرني أنت … أين دارك؟ ولماذا لم تَدْعُني يومًا إلى طعامك؟

فنظر إليها أشعب نظرة الجزع والذعر: داري؟ أما علمت أني أسكن عند الكندي!

– ومن الكندي؟

– هو أبخل أهل الأرض طُرًّا، وهل يستطيع ساكن أو جارٌ أن يصنع طعامًا دون أن يبعث إلى صاحب الدار بطبق. إنه لا يزال يقول للساكن وربما للجار: «إن في الدار امرأة حبلى، وإن الوحمَى ربما أُسقِطَتْ من ريح القدور الطيبة، فإذا طبختم فرُدُّوا شهوتها ولو بغَرفة أو لعقة. فإن لم تفعلوا ذلك، بعد إعلامي إياكم، فكفارتكم، إن أُسقِطَتْ، غُرة عبد أو أَمَة.» فكان بذلك ربما يوافي منزله من قِصاع السكان والجيران ما يكفيه الأيام. فيأكل هو وعياله ويقول لهم: «أنتم أحسن حالًا من أرباب هذه القصاع. فلكل بيت منهم لون واحد وعندكم ألوان.» فهل تريدين، أصلحك الله، أن أدعوك إلى دار مثل هذا الرجل؟

فضحكت وقالت: أفقير هو؟

– إنه أغنى أهل المدينة!

– ولكني أريد أن أموت وآكل من طعامك!

فتفكر العاشق قليلًا ثم أجاب: مهلًا سيدتي … سأدعوك إن شاء الله إلى طعام وشراب وغناء.

– متى؟

– يوم يحين وقت ذلك.

ثم أسرع فاستوى قائمًا ومد إليها يده مودعًا، فمدت إليه يدًا صغيرة كأنها حلية من عاج، فلمح في إصبعها خاتمًا، فاستبقى يدها في يده وقال في صوت يسيل رقة ولطفًا: سيدتي جُعِلْتُ فداك! ناوليني هذا الخاتم الذي في إصبعك لأذكرك به.

فسحبت يدها في رفق وتضاحكت في خبث وقالت: إنه ذهب وأخاف أن تذهب.

ثم أسرعت فالتقطت من الأرض عودًا يابسًا سقط عن شجرة قرب النافذة وأعطته إياه قائلة: ولكن خذ هذا العود لعلك تعود!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤