ضيف ثقيل

لبث أشعب أيامًا يسير في الأسواق في غير شيء، ينتظر أن يوافيه أحد بخبر عرس أو وليمة، وهو ينشد ويغني:

كل يوم أدور في عرصة الدا
رِ أشم القُتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس
أو دخانًا أو دعوة الأصحاب
لم أعرِّج دون التقحم لا أرْ
هَبُ سبًّا أو لَكزة البواب

وطال انتظاره، ووقف على رجل يعمل طبقًا من الخيزُران فقال له: أسألك بالله أن توسعه قليلًا وأن تَزيد فيه طوقًا أو طوقين … فرفع الخيزُراني رأسه وقال له: وما غرضك من ذلك؟ أتريد أن تشتريه؟

فقال أشعب: لا، ولكن ربما اشتراه شخص يُهدي إليَّ فيه شيئًا ذات يوم.

ثم تركه ومشى. فرأى رجلين يتهامسان ويتسارَّان في طرَف السوق … فوقف على مقربة منهما ينظر إليهما، وإذا تلميذه قد أقبل يقول له: لقد بحثت عنك في مجلسك في السوق.

فقال له أشعب على عجل: «أوليمة؟»

– لا … ولكنه الشوق إلى حديثك.

فأشاح أشعب بوجهه عنه، وعاد إلى النظر في وجه الرجلين المتهامسين، حتى افترقا وذهبا. فقال له تلميذه: أتعرفهما؟

فقال أشعب وهو ينصرف خائبًا مع صاحبه: لا، ولكني ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء. وأطرق أشعب لحظة، ثم رفع رأسه وقال لصاحبه: كأني بك لا تريد أن أَزيدك في النصح؟

فنظر إليه تلميذه: لماذا؟

فقال أشعب متخابثًا: ذلك أني أرى أطباقك قد انقطعت.

فقال الرجل: ليس عندي الآن ما يُهدى.

فقال أشعب: أوَليس عندك ما يؤكل؟

فأجاب الرجل: إذا شئتَ فإن داري دارك. فأنت ليس منك حشمة.

وقاد الرجل أشعب إلى بيته وأنزله ضيفًا عليه. ودخل على امرأته فأوصاها أن تُعِد لأشعب عشاءً طيبًا. وأكل أشعب. ثم نظر في الدار وقال: عجبًا! أرى أنك من استواء الحال على قدرٍ تَحمد الله عليه. فما شأنك وصناعة التطفيل؟

فقال الرجل: لقد عَلِقْتُها ولا طاقة لي بتركها.

فقال أشعب: لو أضفتني عندك أيامًا أنصحك، لما تركتك إلا وقد حَذِقْتَها حِذقًا عظيمًا.

•••

مكث أشعب في دار الرجل أيامًا طويلة حتى ضجِر وضجرت امرأته، فقالت المرأة لزوجها ذات ليلة: يبقى إلى متى؟

– كيف لنا أن نعلم مقدار مُقامه؟

فقالت المرأة بعد تفكر: أنا أجيئك بالخبر.

فقال زوجها: كيف تستطيعين؟

فقالت: أَلْقِ بيني وبينك شرًّا ونتحاكم إليه وأجاذبه الحديث. ونهضا من ساعتهما فتشاجرا وتظاهرا بالغضب والخصومة، وانطلقت المرأة إلى أشعب تقول له: بالذي يبارك لك في ذَهابك غدًا. أينا أظلم؟

فقال أشعب: والذي يبارك لي في مُقامي عندكم شهرًا، ما أعلم!

فأدركت المرأة وأدرك زوجها أن أشعب يطمع في طول المُقام. فسُقِطَ في أيديهما، ولم يعلما ما يصنعان. واغتاظ الرجل وفكر حتى اهتدى إلى حيلة، فقال لامرأته: إذا كان غدًا فإني أقول له: «كم ذراعًا تقفز؟» فأقفز أنا من العتبة إلى الدار، فإذا قفز هو فأغلقي خلفه.

وكان الغد، فأحكما التدبير، وجعل الرجل يحتال في الحديث مع أشعب حتى قال له: كيف قفزك؟

فقال أشعب: جيد.

فقام الرجل لساعته فوثب من داخل منزله إلى خارج الدار أذرُعًا وقال لأشعب: ثِب!

فنهض أشعب ووثب لا إلى الخارج، بل إلى داخل الدار ذراعين. فوجم الرجل، وقال لأشعب: عجبًا! أنا وثبت إلى خارج الدار أذرعًا، وأنت وثبت إلى داخل الباب ذراعين؟!

فقال أشعب من فوره: ذراعين إلى داخلٍ خير من أربعة إلى «برَّا»!

•••

انفض الناس عن أشعب آخر الأمر، وهرب منه تلاميذه ومريدوه فقد أيقنوا أنه قد انتهى إلى الوقوع على منازلهم وتطبيق أصول التطفيل على موائدهم، فلبث أشعب أيامًا وحيدًا حزينًا لا يجد أنيسًا ولا رفيقًا، ولا يظفر بغداء ولا بعشاء. وخطر على باله صديقه بنان، ولم يدر أين اختفى. فخرج يبحث عنه حتى قنَط من الاهتداء إليه، فقعد في أول السوق يفكر في أمر غده، وإذا ببنان قد أقبل يحمل قوسًا ونُشَّابًا ويجر كلبًا، فما رآه أشعب حتى صاح به: أين كنت أخزاك الله؟!

فقال بنان: في الصيد، خيبك الله!

– الصيد!

– نعم، صيد الطير والظباء. إنه لعمل أجدى عليك من هذا القعود تنتظر ما لا يجيء، قم معي إلى الرزق الحلال، تستمتع بالصيد الشهي واللحم الطري والهواء النقي.

فنظر أشعب إلى ما في يد صاحبه وقال: وأين لك بالقوس والنُّشَّاب؟

– بعت خاتمي واشتريت كل ما ترى.

– وأنا ماذا أصنع؟

– اصنع مثل ما صنعت أنا.

– ليس عندي شيء يباع.

– أوَليس عند امرأتك أو عيالك شيء؟

فنهض أشعب لوقته، وقال لبنان: انتظر ها هنا حتى أعود.

ومشى إلى بيته، وأشعب لا يذكر بيته إلا يوم تضيق به الدنيا، فصادف الكندي بالباب.

فما رآه الكندي حتى خف إليه وعانقه عناق المشتاق وقال له في صوت العتاب: ألَا عُدتني وقد كنت مريضًا؟

فقال أشعب: جُعِلْت فداك، متى مرضت؟

فقال الكندي: بعد أربعين يومًا من تاريخ اليوم الذي أهديتك فيه القميص!

فقال أشعب وهو يحسب عدد الأيام في نفسه: بعد أربعين يومًا من تاريخ البعثة بالقميص! أي منذ متى على التحقيق؟ إن هذا التاريخ والله ولا التاريخ القبطي!

ثم ترك الحساب والتفت إلى الكندي قائلًا: الحمد لله على كل حال … إذ رأيتك وقد رد الله إليك العافية.

ورأى أشعب أن ينتفع بهذا الشوق والوُد. وحدثته نفسه أن يُفضي إلى الكندي بما جاء له: فجلس إلى جواره وتنحنح وقال: لي إليك حاجة.

فقال الكندي على عجل: ولي إليك أنا أيضًا حاجة.

فقال أشعب واجمًا: وما حاجتك؟

فقال الكندي: لست أذكرها لك حتى تضمن لي قضاءها.

فقال أشعب: نعم.

– حاجتي ألا تسألني هذه الحاجة.

فقال أشعب: إنك لا تدري ما هي.

– بلى. قد دَرَيت.

– فما هي؟

فقال الكندي: هي حاجة، وليس يكون الشيء حاجة إلا وهي تخرج إلى شيء من الكلفة.

فقال أشعب متخابثًا: هذا حق. ولكن … أنت خير من يتكلف لي. وقد جئتك أسألك أن تسلِّفني وتؤخِّرني.

فقال الكندي: هاتان حاجتان.

فقال أشعب: نعم.

فقال الكندي: وإذا قضيت لك إحداهما؟

فقال أشعب من فوره: رضيت.

فقال الكندي: أنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك.

فيئس أشعب منه، ولم ير في الكلام معه غير إنفاق الوقت في غير طائل، فقام يريد الذهاب.

فتفكر الكندي لحظة ثم صاح به: والله لا تنصرف خائبًا.

فوقف أشعب دهشًا. ومضى الكندي يقول: أما الدرهم فأنت تعلم أن ليس من عادتي إخراجه. فهو متى أُلقي في الكيس سكن على اسم الله فلا يُهان ولا يُذل ولا يُزعج. أما إذا شئت فإني أهدي إليك قربة من عسل الرطب، جاءتني هدية من البصرة، فبعها إن أردت واقض حاجتك!

فعجب أشعب، ولم يصدق أذنه، وأنكر ذلك من مذهب الكندي، ولم يعرف جهة تدبيره، وهو يعلم أنه إنما يجزع من الإعطاء وهو عَدُوُّه. وأما الأخذ فهو ضالته وأمنيته، وإنه لو أُعْطِيَ أفاعي سِجِسْتان وثعابين مصر وحياتِ الأهواز لأخذها إذا كان اسم الأخذ واقعًا عليها. فكيف يعطيه هذه الهدية التي جاءته بهذا الكرم؟ وجعل أشعب يحتال عليه ليعرف منه السبب. والكندي يتمنع ويتعسر، ثم باح بسره آخر الأمر قائلًا: هذه الهدية التي جاءتني، خسائرها أضعاف مكاسبها، وأخذها عندي من أسباب الإدبار والدمار.

فقال له أشعب: لعل أول خسارة احتمالُ الشكر عليها بِرَدِّ نظيرها.

فقال الكندي: هذا لم يخطر قط على بالٍ.

فقال أشعب: هات إذن ما عندك من الأسباب.

فقال الكندي: أول ذلك كِراء الحمال الذي ينقلها إلى البيت، ثم هي على خطر حتى تصير إلى منزلي، فإذا صارت إلى المنزل صارت سببًا لطلب العصيدة والأرز، فإن بعتها فرارًا من هذا، صيرتموني شهرة وشُنعة، وإن أنا حبستها ذهبت في العصائد وأشباه العصائد، وجذب ذلك شراء السمن، ثم جذب السمن غيره، وإن أنا جعلت هذا العسل نبيذًا، احتجت إلى كراء القدور وإلى شراء الماء وإلى كراء من يوقد تحته وإلى التفرغ له. فإن وليت ذلك الخادم اسودَّ ثوبها، وغرمنا ثمن الأُشْنان والصابون، وازدادت في الطمع على قدر الزيادة في العمل … فإن تغاضينا وصنعنا النبيذ على رغم ذلك، وعلم الصديق أو النديم أن عندي نبيذًا دق الباب دق المُدِلِّ، فإن حجبناه فبلاء، وإن أدخلناه فشقاء، إذ لا بد له من دريهمِ لَحم، ومن طَسُّوج نُقل وقيراط رَيحان، ومن أبزارٍ للقِدر وحطب للوقود، وهذا كله غرم، إن رضيت به فقد شاركت المسرفين، وفارقت إخواني من المصلحين، فإذا صرت كذلك فقد ذهب كسبي من مال غيري وصار غيري يكتسب مني. وأنا لو ابتُليت بأحدهما لم أقم له، فكيف إذا ابتُليت بأن أعطي ولا آخذ؟ أعوذ بالله من الخذلان بعد العصمة.

•••

أخذ أشعب القربة فأعطى نصفها لعياله وحمل النصف الآخر إلى السوق فباعه بما بلغ. وذهب إلى بنان فأخبره الخبر فضحك، وضحكا. ثم نهضا. وقال بنان لصاحبه: هلم نشتري لك قوسًا، فما معك يكفي لشرائها.

فنظر أشعب إلى النقود في كفه وقال: أنا الآن في أمان من الجوع ليلتين أو ثلاثًا أو أربعًا.

فقال بنان: أتضيع رأس المال في طعام ليلتين وتقعد بعد ذلك تتضور؟

فقال أشعب: وهل تريد أن أضيع طعامًا مضمونًا في يدي بطعام ما زال هائمًا في الخلاء والسماء قد يصاد وقد لا يصاد؟

واشتد الخلاف بينهما. واحتال بنان حتى أخذ النقود في يده، فجذب صاحبه من كمه ومشى به قسرًا إلى البائع فاختار له قوسًا وضعها في يده. فأمسك بها أشعب ونظر فيها وهدأ لمنظرها وارتاحت نفسه لحملها.

فقال للبائع: «كم ثمنها؟»

فقال الرجل: «أقبل ثمنها دينارًا.»

فصاح أشعب: دينار! والله لو أني إذا رميت بها طائرًا في السماء وقع مشويًّا بين رغيفين، ما دفعت فيها دينارًا أبدًا!

فنظر البائع إلى بنان نظرة المستجير، فتدخل بنان في الأمر وقال لصاحبه همسًا: ليس في الثمن غلو. فلقد اشتريت قوسي هذه بأكثر من دينار!

وذكر بنان أن المال معه، فلم ينتظر رأي صديقه وأسرع فأعطى البائع الثمن، وجذب ذراع أشعب، وانصرف به.

لم تمض ساعة حتى كان الصديقان قد خرجا من المدينة وضربا في الفلوات، وأوغلا في الخلاء … كلٌّ يحمل قوسه ونُشَّابه وخلفهما الكلب. وعيونهما شائعة بين الأرض والسماء، يبحثان عن الصيد. ومضى النهار وهما في مشي وبحث وكد وانتظار، وإذا الكلب ينبح فجأة وينطلق في أثر شيء مر أمامهما كالبرق، فنظرا فإذا ظبي قد عنَّ لهما … فوقفا، ووقف قلباهما من الفرح والاضطراب. وأمسك كل بقوسه، ورمى بنان الظبي فأخطأه، ورماه أشعب فأخطأه وأصاب الكلب. وهرب الصيد، ومات الكلب، وجلس الصيادان، وقد أضناهما التعب والجوع والفجيعة في ثالثهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤