محتال ظريف
طال جلوس الصديقين وإطراقهما، واشتد جوعهما، فرفع أشعب رأسه وقال لصاحبه: قد جربنا صيد الظباء فلنعد إلى صيد الموائد.
ثم نهض ونظر إلى الأفق فوجد نخلًا كثيرًا فقال: أرى قرية قريبة، هلم إليها.
وأمسك بيد بنان، وسارا حتى بلغا القرية، فإذا هما أمام دار قد مات صاحبها، ونساء القرية يلطمن خدودهن، ويضربن صدورهن، ورجالها قد كوى الجزع أفئدتهم، والميت في صحن الدار قد سُخِّنَ ماؤه ليُغسَّل، وخِيطت أثوابه ليُكفَّن. فعلم أشعب وبنان ألا أكل ولا طعام في مثل هذه القرية الليلة. وخطر على بال أشعب خاطر ودفعه الجوع إلى الحيلة، فغمز صاحبه، ثم تركه وتقدم إلى الميت فجس عِرقه وصاح في الناس: يا قوم اتقوا الله لا تدفنوه، فهو حي، وإنما عرَته بهتة، وأنا أسلمه إليكم مفتوح العينين بعد يومين!
فقال الناس: من أين لك علم ذلك يا هذا؟
فقال أشعب: إن الرجل إذا مات بَرُدَ اسْتُهُ، وقد لمست هذا الرجل فعلمت أنه حي.
فتقدم الناس إلى الميت وجعلوا أيديهم في استه، ثم قال بعضهم لبعض: الأمر على ما ذكر لرجل، فافعلوا كما قال.
وتركوا أشعب يصنع ما يريد، فقام إلى الميت فنزع ثيابه ثم ألبسه عمامة وعلق عليه تمائم، وألعقه الزيت وأخلى له الدار، وقال للناس: دعوه ولا تروعوه! وإن سمعتم له أنينًا فلا تدخلوا عليه!
وخرج أشعب من دار الميت، وقد شاع الخبر بأن الميت قد رُدت إليه الحياة، فانهالت الهدايا على أشعب وبنان من كل دار، حتى وَرِمَ كيسهما فضة وذهبًا، وامتلأ رحلهما سمنًا وجبنًا وتمرًا. وجهدا في أن ينتهزا فرصة للهرب فلم يجداها حتى حل الأجل المضروب، وأقبل الناس على أشعب بعد يومين يستنجزونه الوعد، فقال لهم: هل سمعتم لهذا العليل أنينًا، أو رابتكم منه حركة؟
فقالوا: لا.
فقال لهم: إن لم يكن قد تحرك بعد أن فارقناه فلم يجئ بعد وقته، دعوه إلى غدٍ، فإذا سمعتم صوته فعرفوني لأحتال في علاجه، وإصلاح ما فسد من مزاجه.
فقالوا: لا تؤخر ذلك عن غد!
فقال: «لا».
وجاء الصباح وانتشر الضوء، فجاءه الرجال والنساء أفواجًا وصاحوا به: نحب أن تشفي المريض، وتدع القال والقيل.
فقال أشعب: قوموا بنا إليه!
وذهب معهم إلى الميت، فأبعد عنه التمائم وقال لهم: أنيموه على وجهه!
فأناموه … فقال لهم: أقيموه على رجليه!
فأقاموه … فقال لهم: خلوا عن يديه!
ففعلوا، فسقط الميت رأسيًّا. ولم يدر أشعب ما يفعل ولا ما يقول، ولم يزد على أن همس: إنه حقيقة ميت!
فسقطت على أشعب النعال، ولطمته الأكف، وتناوله القوم بالصفع والضرب، وصار إذا رُفِعَت عنه يد وقعت عليه أخرى، ثم تشاغل الناس بتجهيز الميت، فانسل أشعب وبنان هاربين حتى أتيا قرية أخرى على شفير واد، قد جار عليها السيل، وأهلها مغتمون محزونون من خشية الغرق، فتقدم بنان وقد حدثته نفسه أن يبز صديقه في الاحتيال، فنظر إليه وابتسم، ثم صاح في أهل هذه القرية: يا قوم! أنا أكفيكم شر هذا الماء، وأرد عن هذه القرية ضرره، فأطيعوني!
فالتفت الناس إلى بنان في رجاء وقالوا له في الحال: وما أمرك؟
فقال بنان: اذبحوا في مجرى هذا الماء بقرة صفراء، وأتوني بجارية جميلة عذراء، وصلوا خلفي ركعتين لله، فإن فعلتم ذلك انثنى الماء عنكم إلى هذه الصحراء، فإن لم ينثن فدمي عليكم حلال!
فقالوا جميعًا: نفعل.
وقاموا من ساعتهم فذبحوا البقرة، وزوجوه الجارية، وقام بنان إلى الركعتين يصليهما، وهو يقول: يا قوم! احفظوا أنفسكم لا يقع منكم سهو في القيام أو في الركوع، فمتى سهونا أو هفونا ذهب عملنا باطلًا، واصبروا على الركعتين فمسافتهما طويلة!
وقام بنان للركعة الأولى فأطال الوقوف حتى كادت تنخلع أضلاع الناس، وسجد سجدة ظنوا معها أنه قد راح في سبات، ولم يجرءوا على رفع الرءوس خشية أن يذهب جهدهم في غير طائل، إلى أن جاء وقت السجدة الثانية، فأومأ بنان إلى أشعب، وانسلا، فأخذا طريق الوادي وتركا أهل القرية ساجدين، لا يدري أحد ما صنع الدهر بهم!
•••
مشى أشعب يحمل الزاد والمال، ومشى خلفه بنان مع الجارية الحسناء التي زوجوها منه وجعلوا يضربون في الفلاة على غير هدى، حتى أشرفوا على الهلاك، وإذا هم يسمعون صهيل خيل، فالتفتوا فوجدوا جماعة مسافرين إلى البصرة، فركبوا معهم، وقد اطمأنت قلوبهم وأمنوا على أنفسهم وعلى الغنيمة، وما كادوا يوغلون في بطن الصحراء، حتى عنَّ لهم فارس، جعل ينظر في القوم إلى أن وقع بصره على أشعب، ورآه وحيدًا منفردًا بين الجماعة، فنزل عن فرسه، وتقدم إليه وقبل قدميه، فنظر إليه أشعب، فوجد وجهًا متهللًا، لفتى أخضر الشارب، ملآن الساعد، قوي العضل، ظريف اللحظ، لطيف الحديث، فقال له: ما لك؟!
فقال الشاب: أنا عبدٌ بعض الملوك همَّ بقتلي، فهمت على وجهي إلى حيث تراني وأنا عندك ومالي مالك.
فقال أشعب: بشرى لك وبك!
ورأت الجماعة ذلك، فغبِطت أشعب على هذا العبد وهنأته، وجعل العبد ينظر فتقتلهم ألحاظه، وينطق فتفتنهم ألفاظه، ثم قال: يا سادة! إن في سفح هذا الجبل عينًا، وقد ركبتم فلاة طويلة، فخذوا من هنالك الماء!
فلَوَوا أعِنَّة الجياد إلى حيث أشار، وبلغوا الجبل وقد صهرت الهاجرة الأبدان، فقال لهم: ألا تقيلون في هذا الظل الرحب، على هذا الماء الزلال؟
فقالوا: أنت وذاك.
فنزل عن فرسه، وحل مِنطقته، فما استتر عنهم إلا بغلالة تنم على بدنه، فما شكُّوا أنه خاصم الولدان ففارق الجنة وهرب من رضوان، وعمد إلى السروج فحطها، وإلى الخيل فحش لها العشب، وإلى الأمكنة فكنسها ورشها، وقد حارت البصائر فيه ووقفت الأبصار عليه.
فقال له أشعب: يا فتى! ما ألطفك في الخدمة وأحسنك في الجملة! كيف أشكر الله على النعمة بك؟!
فقال: ما سترونه مني أكثر، أتعجبكم خفتي في الخدمة وحسني في الجملة؟ فكيف لو رأيتموني في الجد والفروسية، أريكم من حِذقي طرفًا لتزدادوا بي شغفًا؟
فقالوا جميعًا: هات!
فعمد إلى قوس أشعب فأخذها ورمى في السماء سهمًا، وأتبعه بآخر شق أجواز الفضاء، وقال: سأريكم نوعًا آخر!
ثم عمد إلى كنانة بنان فحملها، وإلى أكرم جواد من جياد القوم فامتطاه، ثم رمى أحد الجماعة بسهم أثبته في صدره، وعاجل آخر بسهم طيره من ظهره.
فصاح أشعب: ويحك! ما تصنع؟
فقال الفتى، وقد تغير صوته: اسكت يا لكع! فليشد كل منكم يد رفيقه وإلا اختطفت روحه!
فلم يدر القوم ما يصنعون! … فخيلهم مربوطة وسروجهم محطوطة وأسلحتهم بعيدة، وهو راكب وهم على أقدامهم، والقوس في يده يرشق بها الظهور، ورأت الجماعة الجِد والعزم في عين الفتى، فشد بعضهم بعضًا من الخوف، وبقي أشعب وحده لا يجد من يشد يده، فقال له الفتى: اخرج بجلدك عن ثيابك ومالك، لا أم لك!
ثم نزل عن فرسه وجعل يصفع الواحد منهم بعد الآخر، وينزع ثيابه وكيس ماله وزاده، حتى جردهم مما يملكون، وعاد فاعتلى فرسه ولكزه لكزة انطلقت به انطلاق السهم في كبد الفلاة.
•••
جزِع القوم، فقد فقدوا الزاد، وهم الآن لا يملكون الذهاب ولا الرجوع، ووقعوا في حيرة من أمرهم، فقال قائل إن خير السبل امتطاء خيلهم والإمعان في السير إلى البصرة وهي من موضعهم هذا أقرب البلاد إليهم، فتزودوا من ماء العين ووثبوا إلى أفراسهم، وظلوا سائرين حتى لاحت لهم قرية في طرف من أطراف البصرة، وكان الجوع قد أوشك أن يقتلهم، فما بلغوا أول دار من دور القرية حتى وثبوا من فوق أفراسهم فوجدوا أنفسهم أمام رجل شيخ قد جلس على باب داره، فنظر إليهم وقال: من أنتم؟
فقالوا: أضياف لم يذوقوا شيئًا يؤكل منذ ليال ثلاث.
فابتسم الرجل وقال: اجلسوا!
وسكت طويلًا، ثم نظر في وجوههم مليًّا، ثم تنهد، ثم ابتسم، ثم تنحنح وقال لهم: ما رأيكم يا فتيان في زبدة متوجة بعجوة خيبر، الواحدة منها تملأ الفم، ويَوْحَل فيها الضِّرس … عليها لبن قد حُلِبَ من نُوق مسمَّنة، أتشتهونها يا فتيان؟
فقالوا جميعًا: إي والله نشتهيها!
فقهقه الشيخ وقال: وعمكم أيضًا يشتهيها.
وصمت لحظة، ثم قال: ما رأيكم يا فتيان في عصيدة من دقيق قد نُخِلَ حتى صار كأنه سُحالة الذهب، وسمن عربي بصري أُنضِجَ حتى قال: «بق بق بق»، على حواشيها رُقاق ملفوف بلحم قد نُعم قطعه، وفُوِّهَ بالأبازير، ومُزِجَ بالبصل، وقُلِيَ في الدُّهن، أفتشتهونها يا فتيان؟
فاشرأب كل منهم إلى وصفه، وتحلَّب ريقهم وتلمَّظوا وتمطَّقوا، وقالوا: إي والله نشتهيها.
فقهقه الشيخ وقال: وعمكم والله لا يبغضها.
وسكت برهة، ثم قال: ما رأيكم يا فتيان في عنزة من نَجْد قد أكلت الشيح والقيصوم والهشيم، حتى وَرِيَ مخها، وكثر شحمها، وطاب لحمها، تُنضَج لكم من غير امتحاش أو إنهاء، وتُقَدَّم إليكم على خوان منضد بالبقل والخبز، فتوضع بينكم تتساقط عرقًا وتتسايل مرقًا، أفتشتهونها يا فتيان؟
فقالوا: إي والله نشتهيها!
فقال الرجل: وعمكم والله يرقص لها!
•••
ولم تطق الجماعة أكثر من ذلك فوثب بعضهم إلى الرجل بالسيف قائلين: ما يكفي ما بنا من عض الجوع، حتى تسخر منا.
وقاموا وانفضوا عنه وهم يسبونه ويدعون عليه … وأسرعوا في الدخول إلى مدينة البصرة حيث تفرقوا، وذهب كلٌّ لشأنه، وأخبرت الجارية زوجها «بنان» أن لها أهلًا في البصرة، يضيفونهما فانطلق بنان إلى أهلها، وتركا أشعب وحده.