مع الخليفة
جلس أشعب على رأس الطريق وحيدًا غريبًا في هذا البلد لا يعرف أحدًا فيه، ولا مال معه ولا زاد، وقد أضر به الجوع، فجعل يتنهد ويقول لنفسه: لعن الله المال الحرام! كلما جمعناه ذهب عنا سريعًا، وعدنا شرًّا مما كنا!
وسمع خلفه جلَبة، فالتفت، فرأى عشرة رجال مجتمعين، فصاح: إنه الفرج.
ونهض نشيطًا، وانسل فدخل وسطهم وهو يقول في نفسه: ما اجتمع هؤلاء إلا لوليمة!
ولم يلبث أن جاء من يقود هؤلاء العشرة ويمضي بهم، حتى انتهوا إلى زورق قد أُعِدَّ لهم، فأُدخلوا الزورق، فقال أشعب لنفسه: هي نزهة.
ودخل معهم، وإذا هو يرى الرجال العشرة قد قُيدوا بالحديد، وقُيد هو معهم، وإذا هو يعلم أن هؤلاء عشرة من الزنادقة ذُكِروا بالاسم لأمير المؤمنين، فأمر أن يُحمَلوا إليه، فجُمِعوا له، ولم يلبث أشعب أن وجد الزورق قد وصل إلى بغداد، وإذا هو يُساق ضمن العشرة، حتى أُدخلوا على أمير المؤمنين فجعل يدعو بأسمائهم رجلًا رجلًا، فيأمر بضرب رقابهم، حتى استوفى العدد وبقي أشعب، فدهش أمير المؤمنين وقال للمُوكَلين: من هذا؟
فقالوا: والله ما ندري يا أمير المؤمنين، غير أنَّا وجدناه مع القوم فجئنا به. فالتفت أمير المؤمنين إلى أشعب قائلًا: ما قصتك … ويلك؟!
فصاح أشعب: يا أمير المؤمنين امرأتي طالق إن كنت أعرف من أحوال هؤلاء شيئًا ولا مما يدينون الله به، إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة.
فقال أمير المؤمنين: ليس هذا مما ينجيك مني، اضربوا عنقه!
فصاح أشعب: أصلحك الله، إن كنت ولا بد فاعلًا فأْمُر السياف أن يضرب بطني بالسيف فإنه هو الذي ورطني هذه الورطة!
فالتفت أمير المؤمنين إلى رجاله وقال: يؤدَّب.
فخرجوا بأشعب وهو ينتفض في ثيابه رعبًا، وكان وزير الخليفة قائمًا على رأسه، فلما رأى ذلك لم يستطع كتمان ابتسامة، وما تمالك أن قال: يا أمير المؤمنين هب لي ذنبه، وأحدثك حديثًا عجيبًا عن نفسي وقد عشت مثله حياة التطفيل ليلة!
فاشتاق أمير المؤمنين إلى الحديث وقال: قل يا أيها الوزير.
قال الوزير: خرجت يا أمير المؤمنين من عندك ليلة، فطفت في سكك بغداد، فانتهيت إلى موضع، فشممت روائح أبازير قدور قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها، فوقفت على خياط فقلت: لمن هذه الدار؟
قال: لرجل من التجار.
قلت: ما اسمه؟
قال: فلان بن فلان.
فنظرت إلى الدار فإذا بشباك فيها مطل، فرأيت كفًّا قد خرجت من الشباك قابضة على عضد ومعصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حُسن الكف والمعصم عن رائحة القدور، وبقيت باهتًا ساعة، ثم أدركني ذهني فقلت للخياط: أهو ممن يشرب؟
قال: نعم، وأحسب أن عنده الليلة دعوة، وليس ينادمه إلا تجار عملة مستورون.
فبينما أنا كذلك إذ أقبل رجلان نبيلان راكبان من رأس الدرب، فقال الخياط: هؤلاء منادموه.
فقلت: ما اسماهما؟ … وما كُناهما؟
قال: فلان وفلان.
فحركْتُ دابتي وداخلتهما، وقلت لهما: جُعِلْت فداكما، قد استبطأكما أبو فلان أعزه الله.
وسايرتهما حتى بلغا الباب، فأدخلاني وقدماني، فدخلنا، فلما رآني صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدمت عليهما من موضع، فرحب بي وأجلسني في أفضل مكان، وجيء بالمائدة وعليها خبز نظيف، وأُتينا بتلك الألوان، فكان طعمها أطيب من ريحها، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها، وبقي الكف والمعصم كيف أصل إلى صاحبتهما؟
ثم رُفِعَ الطعام، وجاءونا بوَضوء فتوضأنا، وصرنا إلى بيت المنادمة فإذا أجمل بيت يا أمير المؤمنين. وجعل صاحب المنزل يلطف بي ويميل عليَّ بالحديث، والندماء لا يشُكُّون أن ذلك منه على معرفة متقدمة، حتى إذا شربنا أقداحًا، خرجت علينا جارية كأنها بان، تتثنى كالخيزران، فأقبلَتْ فسلمَتْ غير خجلة، وثُنِيَت لها وسادة فجلست، وأُتِيَ بالعود فوُضِعَ في حجرها، فجسَّته فاستبَنْتُ في جسِّها حِذقَها، ثم اندفعت تغني:
فطربت يا أمير المؤمنين لحسن غنائها، ثم اندفعَتْ تغني:
فصِحْتُ: «يا سلام!» … وجاءني من الطرب ما لا أملك نفسي معه، ثم اندفعَتْ فغنت الثالث:
فحسدتها يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالغناء، وإصابتها لمعنى الشعر، وأنها لم تخرج عن الفن الذي ابتدأت به، فقلت: «بقي عليك يا جارية …» فضربت بعودها الأرض وقالت: «متى كنتم تُحضرون مجالسكم البُغَضاء!» فندمْتُ على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم تغيروا لي، فقلت: «أما عندكم عود غير هذا؟» قالوا: «بلى»، فأحضروا لي عودًا فأصلحت من شأنه، ثم غنيت:
فما أتممته حتى قامت الجارية فأكَبَّت على رجلي تقبلها وقالت: معذرة إليك، فوالله ما سمعت أحدًا يغني هذا الصوت غناءك!
وقام مولاها وأهل المجلس ففعلوا فعلها، وطرب القوم والله واستحثوا الشراب، فشربوا بالكاسات والطاسات.
ثم اندفعت أغني:
فطرب القوم حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت عنهم ساعة حتى تراجعوا، ثم اندفعت أغني الثالث:
فجعلت الجارية تصيح: هذا هو الغناء والله يا سيدي، لا ما كنا فيه!
وسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم وخلوت معه.
فلما شربنا أقداحًا قال: يا هذا، ذهب ما مضى من أيامي ضياعًا إذ كنت لا أعرفك، فمن أنت يا مولاي؟
ولم يزل يلح حتى أخبرته الخبر، فقام وقبل رأسي وقال: وأنا أعجب يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وأنَّى لي أن أجالس رجال الخلفاء ولا أشعر!
ثم سألني عن قصتي فأخبرته، حتى بلغت خبر الكف والمعصم … فقال للجارية: قومي فقولي لفلانة تنزل.
ثم لم يزل يُنزِل لي جواريَه واحدة بعد أخرى، وأنظر إلى كفها ومعصمها وأقول: ليست هي.
حتى قال: والله ما بقي غير زوجتي وأختي، ووالله لأنزلنهما إليك.
فعجبت من كرمه وسعة صدره فقلت: جُعِلْت فداك، ابدأ بالأخت قبل الزوجة، فعساها هي!
فبرزت، فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه!
فأمر غلمانه فمضوا إلى عشرة مشايخ من جِلة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببَدْرَتين فيهما عشرون ألف درهم، فقال للمشايخ: هذه أختي فلانة أشهدكم أني قد زوجتها من سيدي الوزير، وأمهرتها عنه عشرين ألفًا.
ثم دفع إليها البَدْرة، وفرق الأخرى على المشايخ وقال لهم: «انصرفوا.»
ثم قال لي: «يا سيدي، أمهد لك بعض البيوت فتنام مع أهلك؟»
فاحتشمني ما رأيت من كرمه، فقلت: بل أحملها إلى منزلي.
قال: «ما شئت.»
فحملتها إلى منزلي، فوالله يا أمير المؤمنين لقد أتبعها من الجهاز ما ضاق عنه بعض بيوتنا!
عجب أمير المؤمنين لحديث وزيره، ولتطفيله الظريف تلك الليلة، فأمر بإحضار أشعب الطفيلي، فجاء أشعب يتعثر خوفًا، فابتدره الخليفة قائلًا: هل لك في «ثريدة» مغمورة بالزبد، مشققة باللحم، تفوح بروائح الأبازير؟
فقال أشعب: وأُضرَب كم؟
فكتم أمير المؤمنين ضحكة وقال: بل تأكلها من غير ضرب.
فنظر أشعب إلى الخليفة مليًّا ثم قال: هذا ما لا يكون، ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة؟
فضحك الخليفة، وضحك الوزير، ثم التفت الخليفة إلى أشعب قائلًا: قد علمتُ أنك ذو بصر بالطعام، فما تقول في «اللَّوْزِينَج» و«الفالُوذَج» … أيهما أطيب؟
فأجاب أشعب: يا أمير المؤمنين، لا أقضي على غائب.
فأمر الخليفة، فأُحضرت مائدة عليها هذان اللونان، وقال الوزير: اقض بينهما الآن.
فانقض أشعب من فرط جوعه على الخوان، وجعل يأكل من «الفالوذج» ساعة، ومن «اللوزينج» ساعة وهو ساكت لا ينبس بحرف، وقد انتفخ فمه بالطعام وازدحم حلقه من الازدراد، فقال الخليفة: قل … أيهما أطيب؟
وقال الوزير: اقض لأحدهما.
فتردد أشعب وحار بين اللونين، ثم عاد فأخذ من هذا لقمة ومن ذاك لقمة، وقال: يا أمير المؤمنين، كلما أردت أن أقضي لأحدهما أدلى الآخر بحجته.
فضحك الخليفة واستظرفه، وقال له: تَشَهَّ عليَّ … أي لون تريد؟
فاطمأن أشعب وقال مترنمًا:
فأمر الخليفة أن يحضر له ما اشتهى، وجعل ينظر إليه وهو يأكل حتى فرغ، فقال له: شبعت؟
فقال أشعب: نعم، أطال الله بقاء أمير المؤمنين.
وتأمل الخليفة ثياب أشعب فلم تَرُقْه، وقال له: لست أرى عليك كسوة رائعة!
فلم يجد أشعب ما يقول، ثم تفكر وقال: كانت عليَّ أصلحك الله ثياب نظيفة، غير أني قبل أن يأتوا بي إلى أمير المؤمنين كانت قد أخذتني إغفاءة، فرأيت رؤيا نصفها حق ونصفها باطل.
فقال الخليفة دهِشًا: وكيف ذلك؟
فقال أشعب: رأيت أني أحمل بَدْرة من ذهب، فمن شدة ثقلها عليَّ كنت أسلَح في ثيابي، ثم انتبهت، فإذا أنا بالسَّلْح … ولا بدرة.
فضحك أمير المؤمنين حتى استند إلى الوسادة وقال: نحقق لك النصف الآخر، ولكن أخبرني قبل ذلك، ممن أنت؟
فقال أشعب: من المدينة يا أمير المؤمنين.
فقال الخليفة: وكيف وجدوك بالبصرة؟
وتذكر أشعب كل ما وقع، فرأى الخير في أن يُوجِز فقال: خرجت من المدينة للصيد فضللت، وإذا أنا في البصرة.
فنظر أمير المؤمنين إليه مليًّا وقال له: وهل صِدْتَ شيئًا؟
فتنحنح أشعب وقال كالمخاطب لنفسه: صدت الكلب.
فضحك الخليفة، وأعجبه حديثه، ولبث يُصغي إليه وإلى نوادره ساعات طويلة، ثم قال له آخر الأمر: سل حاجتك!
فقال أشعب: كلب صيد أصطاد به.
فقال الخليفة متعجبًا ضاحكًا: قد أمرنا لك بكلب تصطاد به.
فقال أشعب: وغلام يقود الكلب.
فقال أمير المؤمنين: قد أمرنا لك بغلام.
فقال أشعب: وخادم تطبخ لنا الصيد.
فقال الخليفة: وأمرنا لك بخادم.
فقال أشعب: ودار نأوي إليها.
فقال الخليفة: أمرنا لك بدار.
فقال أشعب: بقي الآن المعاش.
فقال أمير المؤمنين: قد أقطعناك ألف «جَرِيب» عامرة، وألف «جريب» غامرة.
فقال أشعب: وما الغامرة؟
فقال الخليفة: التي لا تعمر.
فقال أشعب من فوره: فأنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفًا من صحاري نجد وفيافي بني أسد!
فضحك أمير المؤمنين وقال: نجعلها لك إذن كلها عامرة.
فقال أشعب: لم يبق الآن إلا شيئان.
فقال الخليفة: هات.
فقال أشعب: أن تقيم معي في هذه الضياع جارية حسنة الصوت كنت أعلمها الغناء بالمدينة، يقال لها «رشا»!
– وكيف هي؟
فتنهد أشعب وقال مترنمًا:
فقال الخليفة: قد زوجناك منها، وأمهرناها عنك عشرين ألف درهم! … تلك واحدة، فما الأخرى؟
فقال أشعب: الأخرى أن تسمح لي يا أمير المؤمنين أن أعتزل صناعة التطفيل، وأن أستخلف عليها خليفة من بعدي، وأن أكتب بذلك عهدًا إلى صديق لي يُدعى بنان ليكون هو منذ اليوم إمام الطفيليين وعَرِيفهم.
فضحك الخليفة وقال: وذلك أيضًا لك.
ثم دُعِيَ بالكاتب والقرطاس، وقال لأشعب يملي عهده.
فقال أشعب للكاتب: اكتب:
«هذا ما عهد أشعب إلى بنان حين استخلفه على إحياء سنته واستنابه في حفظ رسومه من التطفيل على أهل المدينة، وما يتصل بها من أكنافها، ويجري معها من سوادها وأطرافها، وذلك لما توسمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللُّقَم، وجودة الهضم، ولما رآه أهلًا له من شدة مكانه في هذه الرفاهية المهمَلة التي فطن لها، والرفاغية المطَّرَحة التي اهتدى إليها، والنعم العائدة على لابسيها بملاذ الطعوم، ومناعم الجسوم، متوردًا على من اتسعت موارد ماله، وتفرغت شعب حاله، وأقدره الله على غرائب المأكولات، وأظفره ببدائع الطيبات، آخذًا من كل ذلك بنصيب الشريك المناصف، وضاربًا فيه بسهم الخليط المفاوض، وهذا عهدي إليه، وحجتي عليه، فليكن بأوامره مؤتمِرًا ولرسومه متبِعًا إن شاء الله، وبالله التوفيق وعليه التعويل، وهو حسبنا جميعًا ونعم الوكيل.»
وسكت أشعب، ونظر فإذا الخليفة ووزيره يتقطعان ضحكًا، وهدأ الخليفة، فقال لأشعب: هل بقيَتْ لك حاجة لم تُقْضَ؟
فقال أشعب: نعم، حاجة أخيرة.
فقال الخليفة: قل.
فقال أشعب: يأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده.
فقال الخليفة: أما هذه فدعها.
فقال أشعب: ما تمنعني شيئًا أحب إليَّ منها!
وأسرع إلى يد أمير المؤمنين فاختطفها اختطاف الجائع للرغيف، ورفعها إلى فمه، وأشبعها لثمًا وتقبيلًا.