أشعب والكِندي البخيل

جاء العصر وأشعب يتسكع في الأسواق إلى أن انتهى به المطاف أمام بستان من بساتين الكندي، فوقف وأرسل بصره، فوجد صاحبه جالسًا تحت شجرة على ماء جارٍ وسط خضرة، وقد بسط بين يديه منديلًا فيه لحم سِكْباج بارد، وقطع جبن، وزيتونات، وصرة فيها ملح، وأخرى فيها أربع بيضات. فاقترب منه ومر به مسلِّمًا عليه. فرد الكندي السلام قائلًا: هلم عافاك الله.

وإذا أشعب أسرع من خطف البرق في صحن السماء قد انثنى راجعًا يريد أن يُعَدِّي جدول الماء. فصاح به الكندي وهو يأكل: مكانك … فإن العجلة من عمل الشيطان.

فوقف أشعب مأخوذًا … فسأله الكندي: تريد ماذا؟

فأجاب أشعب: أتريد أن أتغدى؟!

فحملق فيه الكندي قائلًا: ولم ذلك؟ وكيف طمعت في هذا؟ ومن أباح لك مالي؟

فقال أشعب: أوَلست قد دعوتني؟!

فأجاب الكندي: ويلك! لو ظننتُ أنك هكذا أحمق ما رددت عليك السلام. ماذا كان بيننا غير سلام ورد سلام، أيْ كلام بكلام؟ … ولكنك تريد أن يكون كلام بفعال، وقول بأكل، فهذا ليس من الإنصاف.

وازدرد الرجل بيضة مما بين يديه. وجعل أشعب ينظر إليه لحظة ثم قال له: لقد رأيتك تأكل وحدك.

فبلع الكندي ريقه ثم قال: ليس عليَّ في هذا الموضع مسألة، إنما المسألة على من أكل مع الجماعة، لأن ذلك هو التكلف. وأكلي وحدي هو الأصل. وأكلي مع غيري زيادة في الأصل. وإذا كانت الوحدة خيرًا من جليس السوء فإن جليس السوء خير من أكيل السوء. لأن كل أكيل جليس. وليس كل جليس أكيلًا!

فقال أشعب متخابثًا: إنما أردت أن أؤاكلك لأُسَخِّيَك وأنفي عنك اسم البخل.

فأجاب الكندي وهو يلقي في حلقه زيتونة: لا أعدمني الله هذا الاسم … فإنه لا يقال «فلان بخيل» إلا وهو ذو مال، فسلِّم إليَّ المال وادعُني بأي اسم شئت.

فقال أشعب: ولا يقال أيضًا «فلان سخي» إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الاسم الحمد والمال، أما اسم البخل فقد جمع المال والذم، فأنت قد اخترت أخسهما وأوضعهما.

فقال الكندي: بينهما فَرْق.

فقال أشعب: ما هو؟

فأجاب الكندي: في قولهم «بخيل» تثبيت لإقامة المال في ملكه. وفي قولهم «سخي» إخبار عن خروج المال من ملكه. فالبخل اسم فيه ذم ولكنَّ فيه حفظًا، والسخاء اسم فيه حمد ولكنَّ فيه تضييعًا. والمال حقيقة ومنفعة وحيازته قوة، أما الحمد فهو ربح وسخرية والاستماع له ضعف! وماذا ينفع الحمد إذا جاع البطن وعَرِيَ الجلد وضاع العيال وشمت الحساد؟!

وظل يأكل، وأشعب ينظر إليه حانقًا في دخيلة نفسه على هذا اللؤم الذي لا تنفع فيه حيلة. غير أنه تلطف له ودنا منه قائلًا: وما عليك لو جلست إليك ساعةً أغنيك حتى تطرب وأضحكك حتى يزول عنك هذا القُطوب.

فصاح الكندي: لا أريد أن أطرب الساعة ولا أن أضحك.

– وماذا يمنعك من ذلك؟

– يمنعني منه أن الإنسان أقرب ما يكون من البذل والعطاء إذا طرب وضحك.

فأُسقط في يد أشعب ولم يدر من أي مدخل يدخل إلى هذا الرجل، وهو كلما فتح له بابًا أغلقه. ولم يقنَط أشعب من ذلك، وخطر له خاطر أعجبه، فأسرع يقول لصاحبه: لقد ظفرت لك بساكن جديد، رضي أن ينزل دارك الخالية وقبِل دفع الأجر وقضاء الحوائج والوفاء بالشرط.

فأبرقت أَسِرَّة الرجل ووضع اللقمة من يده وقال: وأين هو … عافاك الله؟

– إذا رأيت أن أدعوه …

– متى؟

– الليلة إلى عشائك.

– عشائي!

وعاد إلى قُطوبه، فأراد أشعب أن يهون عليه الخطب فقال له: لا تتكلف شيئًا لهذا الضيف، إنه يرضى بما حضر.

فأسرع الكندي يقول: ليس يحضر شيء، وقولك «بما حضر» معناه أنه لا بد من أن يقع على شيء.

فقال أشعب: قطعة مالح.

– وقطعة مالح أليست هي شيئًا؟

– نكتفي بالشرب إذن على الريق.

– لو كان عندنا نبيذ كنا في عرس.

– أنا أحضر النبيذ.

فقال الكندي على الفور: إذا صرت إلى إحضار النبيذ فأحضر أيضًا ما يصلح للنبيذ.

فقال أشعب: ليس يمنعني والله من ذلك ومن إحضار النُّقْل والريحان إلا أن أُحسَب أنا صاحب الدعوة، وليس يجوز ذلك إلا أن يكون لك فيها أثر.

ففكر الكندي لحظة، ثم صاح كمن وجد الفرج: لقد انفتح لي باب؛ لكم فيه صلاح وليس عليَّ فيه فساد.

والتفت إلى نخلة عالية ملساء كأنها ثعبان قائمة في طرف من أطراف البستان وقال: في هذه النخلة زوج يمام ولهما فرخان مُدْرِكان، وإن نحن وجدنا إنسانًا يصعدها، ولم يطيرا، فهما قد صارا ناهِضَين، جعلنا الواحد «طَباهِجَة» والآخر «كردناجًا» فكان نِعم العشاء، فهل لك يا أشعب في صعود هذه النخلة؟

فنظر أشعب إلى النخلة وقد كاد رأسها يمس السحاب، وصاح: هذه لا تُصعَد ولا يُرتقى عليها إلا إذا كان اليوم آخر عمري، وأردتَ من ذلك دك عنقي، اللهم أغنني عنك وعن طعامك يا شيخ!

•••

وأراد أن ينصرف يائسًا، ولكنه فكر في أمر عشائه وليس في المدينة الليلة وليمة ولا عرس ينسل إليه، فعاد ينظر إلى النخلة، فرأى مرة أخرى أن علوها الشاهق يملأ النفس رعبًا، وأدرك أن صعودها لا يقدم عليه إلا من طلب الموت، فأخبر الكندي أن يعفيه وأن يطلب في الجيران إنسانًا يصعدها، فسألوا الجيران فلم يقبل أحد أن يفعل ذلك. ودلَّهم بعض الناس آخر الأمر على أكَّار تلك حرفته، فما زال الرسول يطلبه حتى وقع عليه، فلما جاء ونظر إلى النخلة تردد هو أيضًا، فما زالوا به يشجعونه ويغرونه حتى استخار الله وارتقى النخلة، فلما صار في أعلاها طار أحد الفرخين، فأنزل الآخر وسلمه إلى الكندي، ووقف يتصبب عرقًا في انتظار الأجر، فأخرج الكندي «فَلْسًا» وضعه في يد الأكار، فنظر فيه مليًّا ثم أراه للحاضرين من الجيران والمشاهدين، فقالوا جميعًا: فَلْسًا بعد هذا الجهد كله، وهو غني! لو كان أعطى درهمًا على الأقل، إنه ذو مال!

فالتفت إليهم الكندي صائحًا: إنني لم أجمع هذا المال بعقولكم فأفرقه بعقولكم!

وأشاح بوجهه عنهم والتفت إلى أشعب قائلًا: الآن قد ظفرنا بالعشاء، فابعث لنا في طلب صاحبك الساكن الجديد.

فنظر أشعب إليه شزرًا: فرخ يمام واحد، هو «الطباهج» و«الكردناج» وهو كل العشاء؟!

ففكر الكندي لحظة ثم قال: انتظر، لا تبرح.

وأشار إلى الأكار الواقف يتميز غيظًا، فترَضَّاه وأغراه وذهب به، وغبَّرا مليًّا، ثم عادا يحملان أرزًا بقشره، وليس معهما شيء مما خلق الله إلا ذلك الأرز. فلما صار الكندي إلى بستانه كلَّف الأكار أن يجُشه في مِجشة له، ثم ذرَّاه، ثم غربله، ثم جش الواش منه. إلى أن فرغ الأكار من ذلك كله، فكلفه الكندي أن يطحنه على ثَوره وفي رحاه، حتى فرغ من طحنه، فكلفه أن يغلي له الماء وأن يحتطب له وأن يعجنه بالماء الحار لأنه به أكثر نُزْلًا، ثم كلف الأكار أن يخبزه. ثم طلب إلى أشعب وبعض الحاضرين من صبية الجيران أن ينصبوا له في الجدول الشُّصوص وأن يسكِّروا الدرياجة على صغار السمك لا تدخل السواقي، وأن يدخلوا أيديهم في جحرة الشلابي، حتى يصيبوا من السمك شيئًا يُجعل كبابًا على نار الخبز تحت الطابق فلا يحتاج من الحطب إلى كثير.

ما زال أشعب منذ ذلك العصر إلى الليل في كد وجوع وانتظار إلى أن أذن الله بالفرج وفرغ من أداء نصيبه من العمل، وجاء الخبر من بيت الكندي أن اليمامة التي كان قد بعث بها لتُطبخ «طَباهِجًا» قد نضجت، فصاح الكندي صيحة الظافر:

يا أشعب! هلموا إلى عشائي، وهنيئًا مريئًا لكم طعامي. فأحضر صاحبك إلى داري تجدوا الخوان قد نُصِبَ كأنه إيوان كسرى وعرش هرقل!

•••

جرى أشعب إلى صديق له من طرازه يُدعى «بنان»، فقص عليه الأمر وتوسل إليه أن يأتي معه إلى دار الكندي فيُظهر له أنه الساكن المنتظَر حتى يبرأ أشعب من وعده … فإذا انتهى العَشاء، وعاين الصديق الدار، كان له أن يتعلل ويتمنع ويُبدي الرفض ويطلب الفسخ. ولم يكن عند «بنان» في تلك الليلة ما يُعتَق به هو أيضًا. فما علم أن العَشاء مضمون حتى خرج من داره الخالية لوقته مع أشعب … وسارا في الطريق فأوصاه أشعب أن يُفهِم الكندي أول الأمر أنه قابِل الكراء وقضاء الحوائج والوفاء بالشرط.

فالتفت «بنان» إلى صاحبه قائلًا: قد فهمت دفع الكراء وقضاء الحوائج فما معنى الوفاء بالشرط؟

فأجاب أشعب: في شرطه على السكان أن يكون له رَوْث الدابة، وبَعْر الشاة، ونِشوار العَلُوفة، وألا يُخرِجوا عَظمًا ولا يُخرِجوا كُساحة، وأن يكون له نوى التمر وقشور الرمان، وغَرفة من كل طبخة لمن يزعم أنها حُبلى في بيته.

•••

أقبل الضيفان على دار الكندي فألفياه قد أعد الخوان وجلس في انتظارهما يتلمظ ويقول:

ومن البلية في الموائد أن يُرَى
قوم جياع في انتظار القادم

فقعد أشعب على الفور أمام الطعام وأجلس زميله جواره وهو يقول:

سواء علينا أقْدَموا أم تأخروا
نوافي مع الطباخ ساعة يغرف

وأشار إلى صاحبه «بنان» بعد أن غمزه بكوعه: لقد انتظرت صاحبي هذا انتظار الآكل للشبع!

فقال الكندي: انتظرته إذن قليلًا؟

فأجاب بنان على الفور: نعم، لقد انتظرني مقدار ما يأكل إنسان رغيفًا!

وتناول الخبز. فقال الكندي: لقد انتظرك إذن طويلًا.

ولم يلتفت الضيفان إلى صاحب الدار ولم يجيباه بعد ذلك. وأشعب وبنان إذا تقابلا على خوان لم يكن لأحد معهما حظ في الطيبات، فما جاءت القصعة فيها الثريدة كهيئة الصومعة مكللة بتلك اليمامة المعهودة، حتى أخذ أشعب الذي يستقبله، ثم أخذ ما عن يمينه وأخذ ما بين يدَي صاحب الدار، ثم مال على جانبه الأيسر فصنع مثل ذلك، وعارضه زميله بنان وحاكاه.

فلما أن نظر الكندي إلى الثريدة مكشوفة القناع مسلوبة عارية، والفرخ كله بين يدَي أشعب وزميله إلا قطعة جناح صغيرة بين يديه، تناولها فوضعها أمام الضيف الجديد واحتسب بها في سبيل الكرامة والبر والضيافة، وهو يتميز ويقول؛ ليخفي غيظه الكظيم: قال الحكماء: «عليكم بشرب الماء على الغداء» فلو شرب الناس الماء على الطعام ما أُتخموا. وذلك أن الرجل لا يعرف مقدار ما أكل حتى ينال من الماء، وربما كان شبعان وهو لا يدري.

فقال بنان: شبعان! والله نحن إنما نسمع بالشبع سماعًا من أفواه الناس!

ثم مد يده إلى الخبز. فغمزه أشعب هامسًا: تمهل وتحشم، حتى لا يفطن إلينا ويفر منا … أنت لا تعرفه، لأَنْ يطعن طاعن في الإسلام أهون عليه من أن يطعن في الرغيف الثاني!

فسحب بنان يده وهو يهمس في أذن أشعب: أوَيريد أن يكون بين الرغيف والرغيف فَتْرة نبي؟

ولحَظهما الكندي وظن أنهما يتسارَّان في أمر الخبز ويستصغران حجمه … فأمسك برغيف ورَطَلَه في يده وقال: يقولون إن خبزي صغير! فمن الزاني ابن الزانية الذي يستطيع أكل رغيفين منه!

فبُهِتَ بنان، وأراد أن يفتح فاه، وإذا بالباب قد فُتِحَ عليهم ودخل جارٌ للكندي، قرأ الجميعَ السلام وهم يأكلون فردوا عليه، ولم يعرض الكندي عليه الطعام.

فاستحيا أشعب من الرجل وهو جاره في السكن، فما تمالك أن قال له: سبحان الله! لو دنوت فأصبت معنا مما نأكل.

فتأدب الرجل وقال حياء: قد والله فعلت.

فأسرع الكندي يقول: ما بعد القسم بالله شيء.

فكَتَفَ الرجل بذلك كَتْفًا لا يستطيع معه قبضًا ولا بسطًا، وتركه في مكانه لا يَريم. ولو مد الرجل يده بعد ذلك وأكل لشهد عليه بالكفر. ورأى الرجل دقة موقفه فتحرك منصرفًا خجلًا.

فرَقَّ له أشعب وقال له: أين تريد؟

فقال الرجل: إلى منزلي أتوضأ.

فقال له أشعب: ولماذا لا تتوضأ ها هنا؟ فإن الكنيف خالٍ نظيف، والغلام فارغ نشيط، وليس من الكندي حشمة، ومنزله منزل إخوانه.

فدخل الرجل فتوضأ، والكندي ينفخ من الغيظ.

ولحَظه أشعب فقال له: هون عليك. إنما كل بُغيتي أن أُسَخيك وأَنفِيَ عنك التبخيل وسوء الظن.

فقال الكندي: فهمنا أن تدعو الناس إلى غدائي لتُسَخِّيَني، ولكن لا أفهم أن تدعوهم ليَخرَءوا عندي.

وعاد الرجل فجلس عن كثَب وأخرج من جيبه رقعة قدمها إلى الكندي قائلًا: جاءتني رقعتك اليوم وفيها أنك تَزيد عليَّ أجر الدار خمستين، لأن ابن عمي ومعه ابن له قد نزلا عليَّ ضيفين!

فأجاب الكندي على الفور: نعم، إذا كان مُقام هذين القادمين ليلة أو ليلتين احتملنا ذلك، وإن كان إطماع السكان في الليلة الواحدة يجر علينا الطمع في ليالٍ كثيرة.

فقال الرجل: ليس مُقامهما عندنا إلا شهرًا أو نحوه.

فقال الكندي: إن دارك بثلاثين درهمًا وأنتم ستة، أي لكل رأس خمسة، فأما وقد زدتم رأسين فلا بد من زيادة خمستين. فالدار عليك من يومك هذا بأربعين.

فقال الساكن متعجبًا: وما يضرك من مُقامهما، وثِقْلُ أبدانهما عليَّ أنا دونك. ما هو إذن عذرك لأعرفه؟

فترك الكندي الأكل واتجه إلى ساكنه قائلًا: عذري واضح كالنهار. والخصال التي تدعو إلى ذلك كثيرة. وهي قائمة معروفة: من ذلك سرعة امتلاء البالوعة وما في تنقيتها من شدة المئونة. ومن ذلك أن الأقدام إذا كثرت، كثر المشي على ظهور السطوح، والصعود على الدرَج، فينقشر الجص وينكسر العتَب، وإذا كثر الدخول والخروج والفتح والإغلاق وجذب الأقفال، تهشمت الأبواب وتقلعت الرَّزَّات. فساكن الدار هو المتمتع بها والمنتفع بمرافقها، وهو الذي يُبلِي جِدَّتها ويُذهب عمرها بسوء تدبيره، وإنه ينسى أن المالك ما أسكن داره إلا بعد أن كَسَحها ونظفها لتَحْسُن في عين المستأجر، فإذا خرج هو ترك فيها مزبلة وخرابًا لا تُصلحه إلا النفقة الموجعة، ثم لا يدع بعد ذلك مِترَسًا إلا سرقه، ولا سلَّمًا إلا حمله، وإذا أراد الدق في الهَوْن ترك الصخرة المجعولة لذلك ودق على الأجذاع حيث جلس تهاونًا وقسوة وغشًّا. هذا فضلًا عما يحدثه من الشغب مع الجيران والتعرض لهم واصطياد طيورهم وتعريضنا لشِكايتهم. فإذا أردنا أن نجعل الغُرْم بالغُنْم، وأن نطلب بضعة دراهم لإصلاح الفساد المنتظر سمعنا عبارات الاحتجاج وطولبنا بإبداء الأعذار والأسباب!

وسكت الكندي فجأة، فقد حانت منه الْتفاتة إلى الضيفين، فوجدهما قد انتهزا فرصة اشتغاله بالكلام وأمعنا هما في محو أثر الخبز والسمك، إلا «شبُّوطة» كان قد نجح في وضعها بين يديه، وكان قد أكبر أمرها لسِمَنها وكِبرها ولشدة شهوته لها، وكان قد ظن عند نفسه أنه قد خلا بها وتفرد بأطايبها، فما كاد يَحسِر عن ذراعيه ويصمد لها حتى هجمت يد أشعب عليها، فلما رأى هذه اليد في السمكة رأى الموت الأحمر والطاعون الجارف، وأيقن بالشر، وعلم أنه قد ابتُلي، ولم يلبث أشعب حتى قبض على قفا الشبوطة فانتزع الجانبين جميعًا واكتسح ما على الوجهين. فلما أكل أشعب جميع أطايبها وبقي الكندي في النِّظارة، ولم يبق في يده مما كان يأمله في تلك السمكة إلا الغيظ الشديد، بينما هو يرى أشعب يَفْرِي الفَرِيَّ ويلتهم الْتهامًا، صاح به: حسبك حتى لا يقتلك الطعام!

فأجاب أشعب وفمه ممتلئ: إذا كان الأجل موقوتًا، فلأن أموت شبعًا أحب إليَّ من أن أموت جوعًا!

وقنط الكندي من الأكل مع هذين الرجلين، فانصرف إلى الحديث مع جاره الساكن، واتفق معه على الزيادة في الكراء كما طلب، وشيعه إلى الباب ثم عاد إلى الضيفين فوجدهما قد قاما عن المائدة ولم يبق عليها شيء يؤكل. وبنان يتجشأ ويقول: لعن الله «القدَرية» … من كان يستطيع أن يصرفني عن أكل هذا الطعام، وقد كان في اللوح المحفوظ أني سآكله!

فكظم الكندي غيظه وقال في نفسه: تعال غدًا فإن وجدت شيئًا فالعن «القدرية» والعن آباءهم وأمهاتهم!

وجلس الضيفان بعد أن غسلا أيديهما يتخللان من الطعام، وهما على خير ما يكون الإنسان راحةً وهناء. وجعل الكندي ينظر إلى خوانه منتهَك الحرمة، عليه بقايا العظام والأشواك كأنها جثث القتلى بعد المعركة، فساورته الهموم وتحركت فيه غريزة البخل، وشعر بالكرب والغم. فما تمالك نفسه، وأقبل عليهما يقول في نبرة المتوسل: أسألكما بالله الذي لا شيء أعظم منه، أنا الساعة أيسر وأغنى، أو قبل أن تأكلوا طعامي؟

فقالا معًا: ما نشك أنك حين كنت والطعام في ملكك كنت أغنى وأيسر.

قال: فأنا الساعة أقرب إلى الفقر أم تلك الساعة؟

قالا: بل أنت الساعة أقرب إلى الفقر.

فلم يحتمل الكارثة، وصاح في نبرة ألم وندم وغضب: آه! من ذا الذي يلومني إذن على ترك دعوة قوم قربوني من الفقر وباعدوني من الغنى، وكلما دعوتهم أكثر كنت من الفقر أقرب؟!

فرأى أشعب الخطر والضرر كله في ترك هذا الرجل على هذه العقيدة فأسرع يقول له: ولكن قد فاتك أمر: إنك الليلة إنما تنفق اليسير لتجني الكثير. ما هذا الطعام القليل النفقة الخفيف المئونة إلى جانب ما سوف تتقاضاه من هذا الساكن الجديد كراءً لدارك الخالية؟ أما كنت تقول الساعةَ إن الغُرم بالغُنم؟! … فأنت والله في آخر الأمر الغانم الرابح!

فتفكر الكندي لحظة وبدا عليه الاقتناع، فاطمأن في الحال قلبه، وانفرجت أساريره، وضحك للمرة الأولى ضحكة الارتياح … وقال: إذن فادعُ لي!

فرفع أشعب يديه إلى السماء وقال: مَنَّ الله عليك بصحة الجسم وبسطة اليد وسعة الصدر وكثرة الأكل ونقاء المعدة، وأمتعك بضِرس طَحون ومعدة هَضوم، مع السعة والدعة والأمن والعافية! … هذه دعوةٌ مغفولٌ عنها!

جعل أشعب وبنان يُدللان الكندي ويفكهانه ولم يشكا أنه سيدعو إليهما تلك الليلة بنبيذ فيملآن بيته إلى الفجر نزهة ونشوة، ولكن الكندي جعل يتغافل ويتناوم. فلمَّح له أشعب بما يصبو إليه قائلًا: إن المجلس والله ليس فيه غناء ولا نبيذ … فهو كالبيت الخرب!

فلم يُسمَع لكلامه صدًى. وطال تغافل الكندي فلم يجد أشعب بُدًّا من التصريح. فأقبل عليه يقول: اجعلها مرة ليس لها أخت … ودعوة لن تعود إلى مثلها … واضحك واطرَب ليلة في العمر بقليل من نبيذ!

ولما بلغ منه ومنهما المجهود، ورأى الكندي أنهما مقيمان مصران، غير منصرفين قبل أن يظفرا منه بما طمعا فيه، قام فأحضر لهما قِربة نبيذ مع أكواب ووضعهما بين يدَي أشعب وقال له: الآن غَنِّ وأطربني والآمرُ الله.

فانقض أشعب وبنان على الكئوس. وشرب بنان شرب العطشان الصادي. وأفرغ أشعب كأسه في جوفه وهو يرفع عقيرته منشدًا:

امدح الكأس ومن أبدعها
واهجُ قومًا قتلونا بالعطش
إنما الكأس ربيع باكر
فإذا ما لم نذقها لم نعِش

فطرب الكندي للصوت ولكنه قال كالمخاطب نفسه: والله ما قتلوكم بالعطش، ولكنكم أنتم قتلتم أنفسكم بالشرَه.

وملأ كأسه وقال: غن أيها المغني!

فملأ أشعب كأسه وصاح بصوته الجميل:

لا تحفلن بقول اللائم اللاحي
واشرب على الورد من مشمولة الراح
كأسًا إذا انحدرت في حلق شاربها
أغناك لألاؤها عن كل مصباح

فصاح الكندي من الطرب صيحة مدوية دهت الضيفين. وأفرغ في حلقه كأسا أخرى وهو يقول:

اسقني حتى تراني مائلًا
وترى عمران ديني قد خرب

وسكِر الكندي. وأمعن أشعب في الغناء:

ما زلت أَسْتَلُّ رُوح الدَّنِّ من لُطُف
وأستقي دمه من جَنْب مجروح
حتى انثنيت ولي رُوحان في جسدي
والدن مُنطَرِح جسمًا بلا رُوح

فطرب الكندي ولم يدر ما يصنع من شدة الطرب، فشق قميصه وقال لأشعب: افعل بنفسك مثل ما فعلت بنفسي.

فنظر إليه أشعب دهشًا … فصاح الكندي: ويلك، شق أيضًا أنت قميصك!

فقال أشعب جزِعًا: أصلحك الله! أتريد أن أشقه وليس لي غيره!

فقال الكندي: «شقه وأنا أكسوك غدًا.»

فأجاب أشعب: «فأنا إذن أشقه غدًا.»

فقال الكندي: «وأنا ماذا أصنع بشقك غدًا؟»

فقال أشعب: «وأنا ماذا أرجو من شقه الساعة؟»

ولبثا في ذلك وقتًا يتساومان، وبنان ينظر إليهما ويعجب، وأخيرًا صاح في الكندي: ما كل هذا؟ إني لم أسمع قط بإنسان يحاور ويناظر في الوقت الذي إنما يشق فيه القميص من غلبة الطرب! إذا كنت طربت الآن حقًّا، فاكْسُه الآن القميص!

وهزت الكندي نشوة الخمر ونخزة الوهم، في غفلة من غريزته النائمة فقام يتعثر إلى قميص جديد عنده فأتى به وكساه أشعب. فلما صار القميص على أشعب، خاف البَدَوات، وعلم أن ذلك من هَفَوات السكر، فتحين الفرص، وأوهم الكندي أنه ذاهب لقضاء حاجة ثم مضى توًّا إلى منزله بالقميص فجعله «بَرنَكانًا» لامرأته.

ومضى من الليل أكثره وركب النوم الكندي وبنان، وهما ما برحا في انتظار عودة المطرب، فانطرح بنان على الأرض جاعلًا فراشه البساط ومرفقته يده. ولم يكن في المكان غير مِرفقة ومِخدة، فأراد الكندي إكرام ضيفه فأخذ المِخدة فرمى بها إلى بنان فأباها وردها عليه. وأبَى الكندي، وأبَى هو، ولبثا هكذا يتطارحان التأدب ويتقارضان المجاملة في لسان متلعثم وجِذع متمايل، إلى أن صاح صاحب البيت آخر الأمر: سبحان الله! كيف يكون أن تتوسد مِرفقك وعندي فضل مِخدة؟!

فأذعن بنان وأخذها فوضعها تحت خده. ومر بعض الليل دون أن يغرَق بنان في النوم؛ ليُبْس الفراش ورداءة الموضع. وظن الكندي أن الضيف قد نام، فجاء قليلًا قليلًا حتى سل المِخدة من تحت رأسه، فلما رآه بنان قد مضى بها ضحك وقال: «قد كنت عن هذا غنيًّا!»

فارتبك الكندي وقال: «إنما جئت لأسوي رأسك.»

فأجاب بنان: «إني لم أكلمك حتى وَلَّيت بالمِخدة.»

فأجاب الكندي: «كنت لهذا جئت، فلما صارت المخدة في يدي، نسيت ما جئت له، والنبيذ — ما علمتَ — والله يذهب بالحفظ أجمع!»

وأراد الكندي أن يرد عليه المخدة، فأبى بنان، فألح وألح … وعادت المناظرة والمحاورة والمطارحة من جديد … فلم يخلصهما منها إلا غلبة النوم الثقيل في الهزيع الأخير من الليل … فانطرحا كأنهما حجَران والمخدة عن كثب منهما منطرحة منفردة وحيدة.

وطلع النهار وأحس بنان ضرب الشمس في وجهه فنهض ونظر حوله مذعورًا، فأدرك ما كان فيه. ورأى الكندي ممددًا يغط على مقربة منه فأسرع إلى نعله فحمله في يديه وانطلق إلى الطريق قبل أن يستيقظ.

وعلا النهار … وأقبل أهل البيت ينقرون على باب الحجرة، فصحا الكندي وفرك عينيه وألقى نظرة على المكان فهم منها كل شيء، فبحث عن الضيفين فلم يجدهما، فصاح صيحة منكرة، ووضع نعله في قدميه وانطلق إلى مسكن أشعب فدق عليه الباب، فخرج له، فقال له: أين الساكن؟

– لقد تركته بين يديك، فأنت الذي تُسأل عنه.

– وأين القميص؟

– إنك قد وهبتني إياه.

فقال الكندي مقاطعًا في رفق مصطنع: أما علمت أن هبة السكران وشراءه وبيعه وصدقته وطلاقه لا يجوز؟ فإني أكره ألا يكون لي حمد ولا شكر، وأن يوجه الناس هذا مني على السكْر، فرُد عليَّ القميص حتى أهبه لك صاحيًا عن طيب نفس، فإني لا أحب أن يذهب شيء من مالي باطلًا.

فلم يتحرك أشعب لهذا القول. وعلم الكندي أن مغنيه ونديمه ومستأجره لا تنطلي عليه هذه الحجج. فأقبل عليه يقول متلطفًا: يا أشعب، إن الناس يمزحون ويلعبون ولا يؤاخَذون بشيء، فرُد القميص عافاك الله!

فقال أشعب مبتسمًا: «إني والله قد خفت هذا بعينه، فلم أضع جنبي إلى الأرض حتى جئت به لامرأتي. وقد زدت في الكُمين وحذفت المقاديم، فإن أردت بعد هذا كله أن تأخذه فخذه.»

فقال الكندي على الفور: نعم آخذه، لأنه يصلح لامرأتي كما يصلح لامرأتك … ومَدَّ ذراعه.

فقال أشعب: «إنه عند الصباغ.»

فقال الكندي: «هاته.»

– ليس أنا أسلمته إليه.

فعلم الكندي أنه قد وقع، ولا حيلة له ولا منفذ ولا أمل ولا رجاء، فقال في زفرة حارة من كبد محروقة: بأبي وأمي، صدق رسول الله حيث يقول: «جُمِعَ الشر كله في بيت وأُغلق عليه، فكان مفتاحه السكْر!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤