أشعب وبنان

ما وافى عصر ذلك اليوم حتى جاء أشعب رسولٌ يحمل رقعة من القَينة الجميلة تستنجزه فيها الوعد، وتخبره أنها راحلة في الغد إلى شأن من شئونها في الكوفة، وتُعرِّض له في ختامها بجفاء قلبه وزيف وُده وتبدي له رِيبتها فيما يظهره لها من الوجد. فلم يدر أشعب ما يفعل ولا كيف يجيب. فأمسك آخر الأمر بالرقعة وكتب في ذيلها:

أنا والله أهواك
ولكن ليس لي نفقة
فإما كنتِ تهويني
فقد حلَّت لي الصدقة

فذهب الرسول بهذا الرد إلى الجارية، وخرج أشعب إلى الطريق يستنشق الهواء ويفكر في أمر العشاء، وإذا العشيقة قد أقبلت بعد قليل، فما كاد يراها حتى وقف في مكانه حائرًا لا حَراك به.

فسلمت عليه وقالت: لا تخش شيئًا … إنما أتيت لأودعك قبل رحيلي غدًا. والله لولا اشتغالي اليوم بإعداد حوائجي ومتاعي وإخلاء داري لوافيتك بما تشهيت عليَّ من تلك الأطعمة التي يحبها قلبك وتهيم بها معدتك!

فقال لها: وماذا أنت صانعة في الكوفة؟ أذاهبة للغناء؟

فقالت: «نعم، إنك فيما أظن قد رضيتني حَذاقة به ومعرفة.»

فقال: «نعم، ولكن اختلفي أيضًا إلى مجمع مولى الزبير فإنه حسن الغناء، فاعلقي من غنائه أصواتًا عشرة. فإنك والله لخليقة أن تَفتِني الناسك وتخرجيه من صومعته ساجدًا لك».

فقالت: كنت أود أن أتزود منك الليلة بصوت أو صوتين.

فسُقط في يد أشعب، وارتبك واشتدت حيرته فلم يدر ما يصنع، وتفكر لحظة، ثم قال في نفسه: «ما لي إلا منزل بنان!» ونظر إليها ثم قال: «اتبعيني!»

وسار وهو يقلب الأمر على وجوهه، إنه لا يجهل أن وقوع طفيلي على طفيلي لا يجوز، ولكن وجود الحسناء معه فيه العذر والحجة، وقد يرق بنان لجمالها فيتسع صدره وتنبسط يده ويوَفي الضيافة حقها. واقتربا من الباب، فاستوقفها، ثم ذهب فنادى رفيقه فخرج إليه، فقال همسًا: أكمِل الخير! معي وجه صبيح، يعدل الدنيا بما فيها، وقد حصل عليَّ ضيقة وعسر وإملاق.

فقال بنان على الفور: قد شكوتَ أنت والله مما كدتُ أُباديك أنا لشكواه!

غير أنه نظر إلى ناحية المرأة ورأى رشاقة قَدِّها فقال: ائت بها والله المستعان!

فدخلت القينة خلف أشعب، واستقبلها بنان بالتحية، فسَفَرت فإذا هو يرى وجهًا رقيقًا كأنه كوكب به عينان مملوءتان سحرًا وأنف كأنه قصَبةُ دُر، وفم كأنه جُرح يقطر دمًا. وردت عليه التحية بلسان فصيح، فحار بصره وذهب لبه وجل خَطْبه وتلجلج لسانه وتغللت رجلاه، ثم ثاب إليه عقله فدعاه للجلوس في صدر المكان، وسألها قائلًا: أيتها الجارية! إنسية أنت أم جنية، سمائية أم أرضية؟!

فضحكت القينة وقالت: «بل إنسية أرضية واسمي رشا».

فسُرَّ أشعب واطمأن قلبه لِمَا رأى من افتتان بنان، وأنشد بصوته الرخيم وصناعته البارعة:

رشَأٌ لولا ملاحته
خَلَت الدنيا من الفتن
كل يوم يَسترقُّ له
حسنُه عبدًا بلا ثمن

وأشار بإصبعه إلى بنان، فقال بنان: إي والله عبد بلا ثمن، لو سمحت بذلك سيدتي!

فابتسمت له الجارية ابتسامة طار لها لبه فقال: إنك والله لتختلسين الأرواح بحلاوة ابتسامتك وتُذهلين الألباب ببراعة منطقك، فكيف لو كنت تجيدين الغناء؟

فتبادلت القينة مع أشعب النظر، ثم انطلقت تغني:

ولي كبد مقروحة، من يبيعني
بها كبدًا ليست بذات قروح؟
أبى الناس، كل الناس، لا يشترونها
ومن يشتري ذا علة بصحيح؟

فطرب أشعب. وقام بنان من فوره فجلس بين يدي الجارية وقال: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق، لو كانت الدنيا لي كلها صُرَرًا في كمي لقطَّعتها لك، فأما إذا لم يكن لي من ذلك شيء، فاللهم اجعل كل حسنة لي لك، وكل سيئة عليك عليَّ!

فابتسمت رشا وقالت: جزاك الله خيرًا … فوالله ما يقوم الوالد لولده بما قمتَ به لنا.

فقام أشعب من فوره وقعد بين يديها وقال: كل مملوك لي حر وكل امرأة لي طالق إن كان وهب لك شيئًا أو حمل عنك وزرًا … فهو ما له حسنة يهبها لك، ولا عليك سيئة يحملها عنك. فلأي شيء تحمدينه وتشكرينه؟

فضحكت وضحك بنان … وأمسك بنان بيدها فلثمها وقال: بحقي عندك …

– ماذا؟

– تزيدين في السماع.

فنظرت إليه وقالت: وأنت، كيف علمك بالغناء؟

فقال مرتبكًا: علم لا أحمده.

فقالت: فعلام إذن أنفخ بغير نار؟! … ما منعك من معرفته؟

فتدخل أشعب قائلًا: «منعه من معرفته أن له صوتًا أقبح من وجهي!»

فنظرت القينة إلى بنان وقالت باسمة: لن أردك مع ذلك خائبًا … أزيدك في السماع! وانطلقت تغني:

أنا التي لم ير مثلي بشرُ
كلامي اللؤلؤ حين ينتشرُ
أَسحَرُ من شئتُ ولست أُسحر
إن سمع الناس كلامي كفروا

فاستخف أشعبَ الطرب، ولم يدر ما يصنع فنهض في الحال ونزع عمامته عن رأسه وألقى بها من النافذة. فصاح به بنان: ويلك، ما فعلت بعمامتك؟

فقال أشعب: تصدقت بها على الشيطان الذي أجرى هذا الكلام وهذا الغناء على لسانها!

فأخذ بنان للفور عمامته هو أيضًا ورمى بها من النافذة قائلًا: أتسبقني أنت إلى بر الشيطان؟!

وضحكت الجارية، وضحك الجميع، وخرج أشعب إلى الطريق يأتي بعمامته، وخرج بنان خلفه يفعل مثله، فما كادا ينفردان حتى همس أشعب في أذن صاحبه: ويحك! متى الطعام والشراب؟ هذا والله لا يليق.

فأخرج بنان من ثيابه منديلًا نفيسًا يضن به ويحرص عليه، وقال: لا أملك والله غير هذا المنديل.

فاختطفه أشعب من يده قائلًا: هو البغية.

فقال بنان: «خذه … لا بارك الله لك فيه!»

وجرى أشعب به توًّا إلى السوق.

عاد أشعب مع المساء، وقد باع المنديل بدينار، واشترى لحمًا وخبزًا ونبيذًا، ودخل على صاحبه بنان والجارية، فإذا هما يتساقطان حديثًا كأنه قطع الروض الممطور، وإذا بنان يقول لها في شبه همس:

أتُرى الزمان يسرنا بتلاق
ويضم مشتاقًا إلى مشتاق؟

فتجيبه هي بصوت خفي وترجيع شجي:

ما للزمان يقال فيه؟ وإنما
أنت الزمان، فسُرَّنا بتلاق

فوقف أشعب على رأسيهما قائلًا: «ما شاء الله! ما شاء الله!»

فانتبها مذعورَين، والتفت بنان إلى رفيقه قائلًا: «ما صنعت؟»

فوضع أشعب بينهما الطعام والشراب، وأخبره بما فعل، فقال له بنان: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجهٍ نظيف بلا نُقْلٍ ولا ريحانٍ ولا طِيب؟ اذهب فأكمِل الخير!

فخرج أشعب يكمل الخير وهو يعدو عدوًا حتى لا تطول له غيبة.

•••

وأقبل أشعب بالنُّقْل والريحان والطيب وهو يلهث. وكان ظلام الليل قد هبط، فألفى باب الدار مفتوحًا كعهده به عند خروجه، فدخل. وإذا هو لا يرى لصاحبيه ولا لشيء مما كان قد أتى به أثرًا. فسُقط في يده وبقي متلهفًا حائرًا يرجم الظنون ويجيل الفكر سائر وقته، حتى مضى من الليل جزء، ونفد صبره، فقال في نفسه: أفلا أدور في البيت لعل البحث يوقفني على أثر؟

ونهض يجوس خلال الدار، وإذا هو يقف على باب سرداب، وإذا صاحباه قد هبطا فيه وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه، فأكلا وشربا وتنعما. فلما أيقن أشعب ذلك دلَّى رأسه ثم نادى زميله: ويلك يا بنان!

فلم يجبه أحد. فرفع صوته ونادى ثلاثًا. فأجابه آخرَ الأمر صوتُ بنان من أعماق السرداب:

وأمسيت في ليلين بالشعر والدجى
وشمسين من كأسٍ ووجه حبيب

ثم سكت الصوت. وأراد أشعب أن يستجلب كلام صاحبيه، فلم يجيباه.

فبات وحده ليلة يقصُر عمر الدهر عن ساعة منها طولًا وغمًّا. وطلع النهار، فخرج إليه بنان، فما كاد يراه حتى وثب إليه صائحًا: أهذا يصح يا بنان؟

وجعل يؤنبه، فقال له بنان: يا صفيق الوجه! منزلي ومنديلي وطعامي وشرابي، فما شأنك في الوسط؟!

فبُهت أشعب لحظة، ورأى الجواب مفحمًا فقال «متمحكًا»: حق القيادة والفضول، والله لا غير!

وظهرت الجارية في تلك اللحظة، فولى بنان وجهه إليها وقال لها: بحياتي ألَا أعطيتِه حق قيادته وفضوله!

فقالت باسمة: «أما حق قيادته فعَرْك أذنه. وأما حق فضوله فصفع قفاه.»

فنظر أشعب إليها فاغرًا فاه. واستقبله بنان على الفور فعرك أذنه وصفعه، فالتفت أشعب قائلًا: ما هذا؟

فأجاب بنان: «الحكم.»

فوضع أشعب يده على مكان الصفعة ونظر إلى بنان شزرًا: الحكم؟!

فقال بنان باسمًا: نعم، جرى الحكم عليك بما جرى لك من العدل والاستحقاق.

•••

مرت أيام ضاقت فيها الدنيا بأشعب حتى نسي شكل الخبز وطعم اللحم. فخرج من الجوع يهيم في الأسواق، فلم يظفر بشيء، ولم يفتح الله عليه بمنظر أكل ولا آكلين، ولم يبلغ أذنيه حتى مجرد ذكر الطعام، سوى قول جماعة مروا به في الطريق يتحدثون في أمر المسيح الدجال. فقال أحدهم: إن الدجال رجل يخرج في سنةِ قحطٍ معه «جَرادق» أصبهاني، وملح «دَراني» و«أَنجُذان» سَرَخْسِي!

فتلمظ أشعب وصاح فيهم: هذا، عافاكم الله، رجل يستحق أن يُستمع له ويُطاع!

ثم سار في طريقه على غير هدى، حتى قادته قدماه إلى بيت صديقه بنان، فوقف تحت نافذته وأنشد:

أنا في حالٍ تعالى الله ربي أي حال
ليس لي شيء إذا قيل: «لمن ذا؟» قلت: «ذا لي»
لقد أفلست حتى محت الشمس خيالي
ولقد أفلست حتى حل أكلي لعيالي

فأطل عليه بنان من النافذة وقال له: «ادخل!»

فدخل أشعب مسرعًا يقول: «حفظك الله وأبقاك!»

وجعل يتنسم رائحة قُتار أو طعام في البيت فبادره بنان بقوله: إني لم أدْعُك من أجل ذلك! فأنا حالي كحالك، إنما قد خطر لي خاطر لعل فيه النجاة لي ولك.

– ما هو، أصلحك الله؟

– ما قولك لو رحلنا معًا اليوم إلى مكة فقد نجد فيها رزقًا؟ وقديمًا قالوا: في السفر سبع فوائد. ونحن والله لا نبغي غير فائدة واحدة هي: الطعام ومعاشرة الكرام.

– وكيف لنا بالسفر؟

– اليوم ترحل قافلة إلى مكة، لي فيها من يحملني ويحملك بغير نفقة … فهلم بنا!

مضى أشعب وبنان من ساعتهما إلى القافلة. وكان اليوم يوم جمعة. فبينما هما في الطريق مرا بمسجد قد ازدحمت فيه الناس تصلي الجمعة. فتمهل أشعب وحدثته نفسه بالصلاة، فأخبر زميله، فانتهره وثناه عن رغبته، فأصر أشعب قائلًا: أريد أن أستعين ببركات الصلاة على وعثاء الفلاة.

– اذهب أنت وحدك، ولئن فاتتك القافلة ليس عليَّ لوم.

– إنما هي ركعة أستودع بها المدينة.

ومشى بنان في طريقه. وعرَّج أشعب على المسجد ودخل. وكانت الصلاة قد بُدئت. ووجد الصف تامًّا. فلم يستطع أن يقوم وحده، فجذب ثوب شيخ أمامه في الصف ليتأخر فيقوم معه، فلما تأخر الشيخ ورأى أشعب الفرج تقدم فقام في موضع الشيخ وترك الشيخ قائمًا خلفه في قفاه ويدعو الله عليه. وكان الإمام من سوء الطالع رجلًا مبطاءً ثقيل الحركات، فجعل يقرأ فاتحة الكتاب بقراءة «حمزة»؛ مد وهمزة، ثم انحنى للركوع بنوع من الخشوع لم يعهده أشعب من قبل، ثم رفع رأسه ويده وقال: «سمع الله لمن حمده» وقام حتى ما شك أشعب أنه قد نام.

وحل بأشعب الغم وأيقن بفوات القافلة. وضرب الإمامُ بيمناه وأكبَّ لجبينه ثم انكب لوجهه، وأشعب يتقلى على نار الصبر، ويتقلب على جمر الغيظ، وليس له إلا السكوت والإذعان، أو الكلام والقبر، لما يعلم من خشونة القوم في ذلك المقام لو أنه قطع الصلاة قبل ختامها. فنزل على حكم الضرورة وقد قنط من الرحل والرحيل. ثم راجعه الأمل فرفع رأسه ينتهز فرصة، فلم ير بين الصفوف فرجة، فعاد إلى السجود يائسًا، حتى كبر الإمام للقعود وقام إلى الركعة الثانية فقرأ الفاتحة وسورة القارعة قراءة استوفى بها عمر الساعة، وكاد يستنزف أرواح القوم. فلما فرغ من ركعتيه وأقبل على التشهد ومال إلى التحية، وقال أشعب في نفسه: «لقد سهل الله المخرج وقرب الفرج»، إذا رجل قد قام من بين الناس صائحًا: «أيها الناس من كان منكم يحب النبي والصحابة فليعرني سمعه ساعة.» فلم ير أشعب مناصًا من أن يلزم مكانه كما فعل جميع الناس.

وصاح الرجل: «أيها الناس! خليق بي ألَّا أقول غير الحق ولا أشهد إلا بالصدق. قد جئتكم ببشارة من نبيكم، ولكني لا أؤديها حتى يطهر الله هذا المسجد من كل نذل يجحد نبوته.»

فربط هذا القول أشعبَ بالقيود وشده بالحبال، فلو تحرك بعدئذٍ وقام من بين الناس لكان هو ذلك النذل الجاحد في نظر الجميع، ومضى الرجل يقول: «رأيته في المنام كالشمس تحت الغمام والبدر ليل التمام، يسير والنجوم تتبعه، ويسحب الذيل والملائكة ترفعه، ولقد علمني دعاءً أوصاني أن أعلمه أمته، فكتبته على هذه الأوراق بمسك وزعفران، فمن دفع لي ثمن القرطاس أعطيته.»

فانهالت الدراهم على الرجل حتى حيرته، ورأى أشعب ذلك فتعجب من حذق الرجل واحتياله لرزقه، وجعل يتأمل فصاحته في وقاحته، ورَبْطَه الناس بهذه الحيلة البارعة، وأَخْذَه المال الوافر بهذه الوسيلة اليسيرة!

وخرج أشعب من المسجد وهو يفكر في الأمر ويقول في نفسه: «ما كان أحرانا أن نحتال للعيش بمثل هذه الحيل، بدلًا من انتظار الولائم والأعراس!» وسار في طريقه حتى بلغ مكان القافلة فعلم أنها رحلت بصاحبه، فعاد خائبًا في غم وجوع لا يدري أين يذهب ولا كيف يجد غداءه، وإذا هو برجل من ريف المدينة يسوق حماره وعلى وجهه أمارات السذاجة، فقال في نفسه: «ظفرنا والله بصيد ثمين.»

وأقبل على الريفي صائحًا: «حياك الله يا أبا زيد! من أين أقبلت؟ وأين نزلت؟ ومتى وافيت؟ هلم إلى بيتي!»

فوقف الرجل دهشًا يقول: «لست بأبي زيد، ولكني أبو عبيد».

فقال أشعب في صوت المستدرِك: «نعم، لعن الله الشيطان وأبعد النسيان، أنسانيك والله طول العهد، كيف حال أبيك؟»

فقال الرجل: «لقد نبت الربيع على قبره.»

فصاح أشعب: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!»

ومد يده إلى صدره يريد أن يمزق قميصه من الجزع، فقبض الريفي على يده قائلًا: «نشدتك الله لا تمزقه!»

فأظهر أشعب التجلد والطاعة، وأبقى على ثوبه ثم جذب يد الريفي قائلًا: هلم إلى بيتي كي نتغدى، أو إلى السوق نشتري شواء، نعم … السوق أقرب وطعامها أشهى.

ومشى به إلى حانوت شواء تتصاعد رائحة دخانه شهية إلى الأنوف فتحرك أفواه البطون، وقال أشعب لصاحب الحانوت: «أفرز لأبي زيد من هذا الشواء!»

ونظر إلى صوانيَ معروضةٍ وقال: «ثم زِنْ له من تلك الحلوى، واختر له من تلك الأطباق، وانضِدْ عليها أوراق الرُّقاق ورُشَّ عليها شيئًا من السكَّر وماء الورد ليأكله أبو زيد هنيئًا.»

فانحنى الشوَّاء بساطوره على ذلك اللحم الطري. وقطَّع وقدَّم إلى أشعب والريفي، فجلسا وأكلا حتى استوفيا. فقال أشعب لصاحب الحلوى: زن لأبي زيد من اللَّوْزِينَج رطلَين، فهو أجرى في الحلوق، وليكن رقيق القشر كثيف الحشو لؤلؤي الدُّهن يذوب كالصمغ قبل المضغ، ليأكله أبو زيد هنيئًا.

فوزن صاحب الحلوى لهما. وقعد الرجلان وشمرا حتى استوفياه، فقال أشعب للريفي: «يا أبا زيد، ما أحوجنا إلى ماء مشعشع بالثلج يبرد جوفنا بعد هذه الأكلة النظيفة!»

فقال الريفي: «صدقت.»

فقام أشعب وهو يقول له: «اجلس يا أبا زيد ولا تبرح حتى نأتيك بسقاء!» وخرج أشعب فائزًا بالسلامة ومعدة مملوءة.

ومضى النهار، وعلم الريفي من إبطاء أشعب أنه لن يعود ونفد صبره من طول الانتظار، فقام إلى حماره، فلمحه صاحب الحانوت فتعلق بثوبه وقال له: «أين ثمن ما أكلت؟»

فقال الريفي: «لقد أكلته ضيفًا.»

فلكمه صاحب الحانوت لكمة، وثنَّى عليها بلطمة وقال له: «متى كنا دعوناك؟» هاك فخذ …

ونزل عليه الشوَّاء لكمًا ولطمًا وهو يقول: زِنْ يا أبا الوقاحة عشرين!

وجعل الريفي يصرخ ويلعن ويصيح: «لعن الله ذلك الشيخ المحتال، لقد قلت له أنا أبو عبيد، فيقول لي أنت أبو زيد!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤