أشعب في مكة
مرت الأيام وأشعب لا يسمع خبرًا عن بنان. ولا يجد سبيلًا إلى لقمة، فقد عرفه الناس في المدينة فلم تعد تنفع الحيلة ولا الوسيلة، ولم تعد تقع عينه على خوان ولا على قوم أمام طعام، كأنما الناس في لؤمهم قد أصبحوا يأكلون في بطون الأرض أو أجواز السماء. ومشى أشعب غداة ذلك اليوم لا ينتظر شيئًا ولا يفكر في شيء، فدَهَمَ في جانب من جوانب الطريق جماعة يتغدَّون وهم غرباء لم يعرفوه. فقال لهم: سلام عليكم معشر اللئام!
فرفعوا أبصارهم إليه قائلين: «لا والله بل كرام!»
فثنى رجله في الحال وجلس بينهم وهو يقول: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين!
ثم مد يده في القصعة التي بين أيديهم وهو يقول: «ماذا تأكلون؟»
فأرادوا أن يَقِفوا تهجمه، فقالوا في فتور: «نأكل سُمًّا!»
فحشا فمه وازدرد وهو يقول: الحياة بعدكم حرام!
وجعل يجول في القصعة كما يجول الفارس في الميدان. فلما رأوه قد أغار على أكلهم، وكاد يحرمهم زادهم في غير حشمة ولا حياء، نظر بعضهم إلى بعض ثم التفتوا إليه قائلين: أيها الرجل! هل عرفت منا أحدًا؟ فأشار أشعب بإصبعه إلى الطعام وقال: «عرفت هذا.»
فسكتوا عنه، وقد استظرفوه، وتبادلوا الحديث، فعرف منهم أشعب أنهم من أهل مكة، وقد جاءوا في القافلة الأخيرة، وقال أحدهم إن معه رقعة من رجل اسمه بنان في مكة لرجل اسمه أشعب في المدينة، فاهتز أشعب سرورًا وكشف لهم عن حقيقته، وتسلم الرقعة، وقرأها فعلم منها أن صاحبه قد استقر في أحسن حال … وقد بارحته أيام العسر والضيق … وله حرفة شريفة يَدرُّ منها المال، وهو يسأله أن يأتي إليه مع أول قافلة متهيئة للرحيل، كي يعاونه في ذلك العمل ويشاركه في ذلك الكسب الحلال.
•••
قام أشعب من فوره فرحل مع قافلة ذاهبة إلى مكة. ولم يكن معه مال ولا أحمال، ولم يدْرِ كيف غاب عن فطنة بنان، وقد أصبح حسن الحال كما قال، أن يرسل إليه مع الرقعة بما يقيم أَوَده حتى الوصول. لعله خشي أن يأخذ أشعب المال ويكسَل عن تجشم الرحيل. ولم يَعْدَم مثل أشعب الوسيلة، فقد سار مع القافلة على قدميه يغنيهم ويضحكهم. وقد كان سيره أول الأمر إلى جانب ناقة عليها شيخ وشاب، فلحَظ أن الشاب كثير البكاء، فاستعلم فأخبروه أنه عاشق لابنة عمه، وقد فرقت بينهما الأحداث، وأن الشاب اشترك مع ذلك الشيخ في السفر والمئونة وكانا على ضيقة وعسر. فجعلا لهما في كل يوم قرصًا من الخبز. وكان الشيخ متخلع الأضراس بطيء الأكل، فكان الشاب يبطش بالقرص ثم يقعد يشتكي العشق، ويتضور الشيخ جوعًا، وكان اسم ذلك الشاب جعفرًا، فجعل أشعب يغني فيهما قائلًا:
فضحكت القافلة وأنِست إلى أشعب، وحمله معه رجل من التجار يسافر وحده على جمل، فلبث أشعب معه طول الطريق ينزلان ويقومان، والرجل في كل يوم يحضر الطعام ويجهزه وأشعب لا يصنع شيئًا. فقال له الرجل ذات يوم: «قم اليوم فاطبخ.»
فقال أشعب: «لا أُحسِن ذلك.»
فطبخ الرجل، ثم قال لأشعب: «قم فاثرُد.»
فقال أشعب: «والله كسلان.»
فثَرَدَ الرجل، ثم قال: «قم فاغرف.»
فقال أشعب: «أخشى أن ينقلب على ثيابي.»
فغرف الرجل ثم قال لأشعب: «قم الآن فكل.»
فنهض أشعب قائلًا: «قد والله استحييت من كثرة خلافي عليك!» وتقدم إلى الأكل فقام فيه مقام رجلين.
•••
وصل أشعب إلى مكة وسأل عن بنان، فقيل له إنه كان قد استأجر دارًا في مكة يجمع فيها بين الرجال والنساء ويحمل لهم الطعام والشراب. فشكاه الناس إلى والي مكة فنفاه إلى عرفات، فمشى أشعب من ساعته إلى عرفات، فوجد صاحبه قد أقام فيها منزلًا ورأى أمام المنزل قطيعًا من الحمير مرتبَطة، فما رآه بنان داخلًا عليه حتى فتح له ذراعيه وتعانقا، وأخبره بما هو فيه من الرخاء واستواء الحال وأنه لا ينقصه لتمام سرور من يجيئونه غير الغناء والطرب، وهذا لا يقوم به غير أشعب، ولهذا أرسل إليه. فتأمل أشعب المكان وقال لصديقه: «أهذا هو العمل الشريف والكسب الحلال!» فانتهره بنان وقال له: «أليس هذا أشرف من أن ندعو أنفسنا إلى موائد الغير وشرابهم؟ إنما ندعو الآن الناس إلى شرابنا نحن وموائدنا وغنائنا، فماذا في ذلك؟»
فقال له أشعب: أما نفاك والي مكة؟ فكيف يجيئك الناس ها هنا؟
فأجاب بنان: الأمر هين. فقد أرسلت إلى الناس أقول: «ما يمنعكم من أن تعاودوا ما كنتم فيه!» فقالوا: «وأين بك وأنت في عرفات؟» فقلت لهم: «حمار بدرهم وقد صرتم على الأثر فضلًا عن النزهة.» ففعلوا، وما زالوا يفعلون، وتلك حميرهم بالباب.
استطاب أشعب تلك الحياة الجديدة، لقد عرفتْ يدُه ثِقْل الدراهم، وبطنُه الشبع، وظهرُه الكساء، وأصبح الشراب من لزوم عمله، لا يُفيق منه إلا إليه. وهو يُعَد شريك بنان في كل ما ملك، حتى في ذلك الخادم الذي يقوم بخدمتهما.
ولم يدرِ أشعب أين ينفق ماله، ولم يشأ أن يركب حمارًا بالكراء يحمله في غُدُواته ورَوْحاته من مكة إلى عرفات، ومن عرفات إلى مكة. فذهب إلى نخاس بسوق الدواب فقال له: اطلب ما شئت من الثمن، وأعطني حمارًا يليق بي وأليق به.
فقال النخاس وهو ينظر إلى بذخ أشعب: تبغي حمارًا عظيم الهيئة سريع الخطوة؟
فقال أشعب: أبغي حمارًا ليس بالصغير المحتقَر ولا بالكبير المشتهَر، إذا خلا له الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، إن أقللتُ عَلَفَه صبَر، وإن أكثرتُه شكر، وإذا ركبتُه هَامَ، وإن ركبه غيري نام.
فنظر إليه النخاس محملقًا مشدوهًا ثم قال له: يا عبد الله، اصبر … فإن مسخ الله قاضى مكة حمارًا أصبت حاجتك إن شاء الله.
ثم أراه بعد ذلك حمارًا حسن المنظر أنيق المظهر ليس به من الخصال ما طلب أشعب، ولكن فيه من الأمارات ما يغري، فركبه أشعب من ساعته ونقَد الرجل الثمن. ومشى به يتبختر، مِشية لم يعرفها مِن قبلُ لا على قدميه ولا على ظهر دابة. وعاد به إلى عرفات … فلم يخلطه مع الحمير الواقفة بالباب ازدراء لشأنها وتعظيمًا لشأنه. فربطه وحده تحت نافذة بنان، ودخل فألفى مجلس الشراب قائمًا، والرجال والنساء مختلطين. وبنان لِيأسه من غيبة أشعب في السوق، ولِمَا صوَّر له السُّكْر من الوهم والخيلاء، قد حل محل أشعب في الغناء. وإذا القوم يضِجون، يريدون أن يسكتوه وهو لا يريد أن يسكت، وما كادوا يرون أشعب داخلًا حتى هللوا فرحين، وأقبل عليه الرجال وأقبلت النساء، وارتفعت الأصوات تقول له: أسكت لنا صاحبك!
فأراد أن يسكته فلم يستطع، وأقبل الناس على بنان يقولون له: لقد حضر أشعب، فمن أحسن غناء … أنت أو أشعب؟
فقال بنان: أنا شيء وأشعب شيء … أنا أُغَني بدرهم وأسكت بدينار، أما أشعب فيغني بدينار ويسكت بدرهم، فسكوتي إذن أغلى من سكوت أشعب! فوالله ما أسكت حتى تدفعوا الثمن!
فصاح الناس: ندفع والله!
وصاحت النساء تطلب إلى أشعب أن يغني، فقال لهن: بثمنه كما قضى زميلي.
فقلن: ندفع والله!
فسكت بنان، ونهَق الحمار تحت النافذة. فقال أشعب: هذا والله هو وحده الذي طرب لغناء بنان!
ثم شرب رطلَين ورفع عقيرته يغني بصوته الحسن ويشير إلى بنان:
فضحك المجلس وطرب، وانهالت على أشعب آيات الحمد والإعجاب.
•••
مرت الأيام وشاعت في مكة أخبار ذلك المنزل في عرفات، وأعاد أهل مكة الشِّكاية إلى الوالي أن هذين القوادين لا يفتران عن هذا الفعل، حتى فسدت أحداث مكة. فأرسل الوالي الشُّرطة إلى بنان وأشعب ليحضروهما، وكانا قد قاما عن العشاء وامتلأ بطناهما بألوان الطعام. وقد شرب لَيْلَتئذٍ أشعبُ حتى جعل يقول لمن حضر:
ورأى خادمهما الشرطة مقبلِين، فأسرع يخبرهما، وكانا قد أعدا سردابًا يخفيان فيه الناس والحمير إذا وقع خطب من هذه الخطوب. فبادر إلى محو آثار ما كانوا فيه. وكبس الدارَ رجالُ الوالي … فلم يجدوا غير أشعب وبنان … فقادوهما إلى مكة. فذهبا وتركا خادمهما يطلق الناس إذا لاحت ساعة الأمن والسلامة. ودخل الرجال بأشعب على الوالي، فلما رآه قال: ليس هذا ببنان، من أنت أيها الرجل؟
فغمز أشعب بعينه وقال: «خادمك وعبدك!»
ولحَظ الوالي من حركاته ما جعله يقول لرجاله: هذا الرجل شارب.
فقال أشعب: «لا … أصلحك الله!»
فقال الوالي: «استنكِهوه!»
فأقبل الرجال على أشعب فشموا رائحة فمه، ثم قالوا: إن نكهته لا تَبِين عليه.
فقال الوالي: «قيئوه!»
فصاح أشعب: وإن لم أقئ شرابًا فمن يضمن لي عشائي؟!
ولم يكد يتم عبارته حتى دخل بقية الرجال ببنان. فما إن رأى الوالي بنان حتى عرفه وصاح به: يا عدو الله! طردتك من مكة فصرت تفسد في المشعر الحرام!
فقال بنان: «يكذبون عليَّ، أصلح الله الأمير.»
فأمر الوالي بوضعهما في الحبس حتى الصباح. وما إن طلع النهار وجلس الوالي في مجلسه حتى أمر بأصحاب الشكاية فأُحضروا. فسألهم الدليل فقالوا: «أصلحك الله، الدليل على صحة ما نقول أن تأمر بجميع حمير مكة فترسل بها أُمَناء إلى عرفات، فيُطْلِقوها، فإن وقفتْ كعادتها على منزله دون المنازل، فنحن غير كاذبين ولا مُبطِلين.»
فقال الوالي: «نعم، إن في هذا لدليلًا وشاهدًا عدلًا.»
وأمر من ساعته بحمير من حمُر مكة التي للكراء، فأُرسلت وأُطلقت فإذا هي تصير إلى منزل بنان لا تلوي على شيء، كأنها به عليمة خبيرة. فلما علم الوالي بذلك قال: «ما بعد هذا شيء … جرِّدوه!»
فأتى الرجال ببنان وجرَّدوه من ثيابه، فلما نظر إلى السياط التفت إلى الأمير قائلًا: «لا بد أصلحك الله من ضربي؟»
فقال: «نعم يا عدو الله!»
فقال بنان: والله ما في ذلك شيء هو أشد على نفسي من أن يشمت بنا أهل العراق ويضحكوا منا، ويقولوا: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير!
فضحك الوالي، وفكر قليلًا، ثم قال: أتحب أن أخَلِّيَ سبيلك؟ … على شرط …
– وما هو حفظك الله وأبقاك!
– أن تغادر من ساعتك أنت وصاحبك هذه البلاد.
•••
ذهب بنان وأشعب توًّا إلى عرفات ليحملا متاعهما ويرحلا كما أمر الوالي. فوجدا خادمهما قد سبقهما إلى النية، فوضع الدراهم والملابس وما خف وغلا في صُرَر، وتهيأ للهرب. فوثب عليه بنان فضربه ضربًا مبرِّحًا، فقال أشعب: ماذا تصنع؟ لا تضرب العبد كل هذا الضرب فقد دفعتُ فيه كما دفعتَ أنت … وحقي فيه كحقك أنت!
فقال بنان: إني أضرب نصيبي منه!
فأشار أشعب إلى الصُّرر: وهذه؟
فقال بنان: كل شيء يُقْسَم بيننا بالعدل.
فقام أشعب إلى الخادم فضربه هو أيضًا قائلًا: وأنا أضرب حصتي فيه.
فانفلت منهما العبد وكان جَلْدًا نشيطًا ذكيًّا، ورفع ثيابه وسَلَحَ عليهما وقال: «اقسما هذه على قدر الحصص!»
وولى الأدبار. وبقيا هما مشغولَين يومهما بجمع ما استطاعا جمعه وبيع ما قدرا على بيعه، وخرجا من ذلك النعيم آسفَين.