أشعب في الحمام
عاد أشعب وبنان إلى المدينة، فدخلاها دخول الظافرين، خلفهما عبدهما الهارب — وقد راجعاه وأرضياه — يحمل لهما الصرر والخيرات. وقد تعاهدا على أن يقيما معًا في منزل واحد لينفقا فيه هذا المال معًا. وذهب أشعب إلى داره أول الأمر، فرأى امرأته وعياله وترك لهم بعض النفقة، وعرَّج على الكِندي يسأل عن خبره ويضحك من أطواره، ويرى كيف وَقْع العودة عليه، فسأل عنه فقيل له إنه خرج فغبَّر من بُكرة الصباح ليقتضي رجلًا خمسة دراهم فَضَلَتْ دَينًا عليه، وأن هذا ما يشغله منذ أيام طويلة، فهو يخرج من أجل هذا الدَّين من أول النهار فلا يرجع إلا مع آخره لبعد الشُّقة وكثرة المماطلة، فجلس أشعب ينتظره حتى رجع، فما وقع نظر الكندي على أشعب ببابه حتى امتقع لونه، فابتدره أشعب صائحًا: لا تخش شيئًا، بأبي أنت وأمي!
وقص عليه أخبار الرحلة، وأراه ما هو فيه من النعمة فأشرق وجه الكندي، وجعل ينظر إلى ثوب أشعب النظيف معجبًا أول الأمر، غير أنه عاد فهز رأسه وقال متفاخرًا: لا والله … أين ذلك القميص!
فلم يفطن أشعب وقال: أي قميص؟!
وفجأة تذكر الليلة التي سكِر فيها الكندي، فضحك حتى دمعت عيناه، فأراد أن يسُره ويهون عليه تلك المصيبة التي ما زال يذكرها، فدعاه إلى طعام وشراب في ذلك المنزل الذي جعله هو وبنان لمنادمتهما. ومضى أشعب فأخبر صديقه وشريكه ليُعِدَّ وليمة في ذلك المساء.
ورأى أشعب أن شعره قد طال وبدنه قد اتسخ من طول السفر، فقال للخادم: اختر لنا حمَّامًا نظيف البقعة طيب الهواء معتدل الماء، وحلاقًا خفيف اليد حديد المُوسَى قليل الفضول.
فقاده الغلام إلى ما أراد، ودخل أشعب الحمام، فلم يَرُعْه إلا رجل قد دخل على أثره وعمَد إلى قطعة طين فلطخ بها جبينه ووضعها على رأسه ثم خرج، ودخل آخر فجعل يدلِّكه دلكًا يكُد العظام ويغمزه غمزًا يهدُّ الأوصال، ثم عمد إلى رأسه يغسله ويرسل عليه الماء، وإذا الأول قد عاد فرأى الثاني منهمكًا في العمل فلكمه لكمة كادت تطيِّر أسنانه وقال له: يا لُكَع، ما لك ولهذا الرأس وهو لي؟
فقام إليه المضروب وعطف عليه بلطمة كادت تُضيع صوابه، وقال له: بل هذا الرأس حقي وملكي وفي يدي.
وتلاكما حتى تعبا، وتجاذبا الأثواب وسارا يتحاكمان إلى صاحب الحمام. فقال له الأول: أنا صاحب هذا الرأس؛ لأني لطخت جبينه ووضعت عليه الطين.
وقال الثاني: بل أنا مالكه؛ لأني غسلته ودلَّكت صاحبه.
فقال الحمامي: ائتوني بالزَّبون أسألْه لأيكما هذا الرأس؟
فذهب الرجلان إلى أشعب وقالا له: لنا عندك شهادة، فقم معنا!
وكان أشعب ما زال موضوعًا في مكانه وضعًا، لم يفهم مما حدث أمامه شيئًا، ولا أدرك لهذا الشجار معنًى، فنهض وسار معهما إلى صاحب الحمام، فابتدره الحمامي قائلًا: يا رجل لا تقل غير الصدق ولا تشهد بغير الحق، قل لي: هذا الرأس لأيهما؟
فوقف أشعب دهشًا مشدوهًا لحظة، ثم قال: يا عافاك الله، هذا رأسي أنا، قد صحبني طول الطريق من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى عرفات، وما شككت أنه لي.
فقال له الحمامي منتهرًا: اسكت يا فضولي!
ثم مال إلى أحد الخَصمين وقال له: يا هذا … إلى متى هذه المنافسة بينكما على رأسٍ صغير الشأن قليل الخطر!
ثم عرَّج على الخَصم الآخر وقال مهونًا عليه: وأنت يا هذا! هَبْ أنك لم تر رأس هذا التيس!
فقام أشعب من ذلك المكان خجِلًا، وارتدى ثيابه على عجل وانسل من الحمام، فوجد خادمه المنتظِر بالباب يقول له: نعيمًا إن شاء الله!
فهوى في الحال بكفه على قفا الخادم: أنعم الله عليك بهذا!