أشعب والحلاق

أسرع أشعب فدخل المنزل وأوصى الغلام أن يأتيه بحلاق، وأن يحذر هذه المرة، فلا يحضره فضوليًّا ولا ثرثارًا. فحسبه ما ذهب من الوقت في غير شيء، سوى ما رآه من شجار وما لحقه من سباب!

فانصرف وعاد برجُل، دخل فسلَّم، وما هو إلا أن دارت يده على وجه أشعب حتى قال له: جُعِلْت فداك، هذا وجه لا أعرفه، فمن أنت؟

فقال أشعب: اسمي أشعب.

فقال الحلاق: بأبي أنت وأمي، هذا الاسم لا يجهله أحد في المدينة! ومن أين قدمت؟ فإني أرى أثر السفر عليك؟

فقال أشعب: من مكة.

فقال الحلاق: حياك الله، من أرض النعمة والرفاهة، وبلد رسول الله الكريم. لقد حضرت في شهر رمضان جامعها وقد أُشعلَت فيه المصابيح وأُقيمَت التراويح.

وجعل يقص قصة طويلة لا آخر لها ولا معنى، وأشعب يصبِّر نفسه. وفرغ الحلاق من القصة فعاد يسأل: وأي شيء أقدمك؟ أصلحك الله!

فأجاب أشعب: أقدمني الزمن وتقلباته، ولكن إذا فرغتَ سأخبرك بالأمور على وجهها.

فقال: وتعرِّفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها.

فقال أشعب: نعم.

وكان الخادم واقفًا على مقربة منهما. فنظر إليه أشعب نظرة قاسية.

فدنا منه الغلام وهمس في أذنه معتذرًا: لن أجد حلاقًا يسكت حتى يفرغ!

ومالت الشمس إلى الغروب. ولم يفرغ الحلاق من الكلام، ولم يفرغ مما جاء له، وأخيرًا قال: لو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكنت قد حلقت رأسك. فهل ترى أن نبتدئ؟

فأسرع أشعب قائلًا: وماذا كنت تصنع فيما مضى من الوقت؟

ونهض فوثب بعيدًا. وما إن استوثق أنه أفلت من يد الحلاق ومَواسيه، حتى صاح في الخادم: علِّق هذا الحلاق من العَقِبَين.

فهجم عليه الخادم بسواعده القوية وعلقه كما أمر. فقال له أشعب: جُعِلْت فداك، سألتني عن المنازل والسكك التي قدمت عليها، وأنا مشغول في ذلك الوقت، وظننت أنك مشغول بعملك، فأنا أقصها عليك الآن، فاستمع: خرجنا من مكة في المساء فنزلنا بئرًا ذات نخيل في ظهيرة الغد. يا غلام، أوجِع!

فضربه العبد عشَرة أسواط. فقال أشعب: وركبنا عند المساء فنزلنا عين ماء حولها عشب عند طلوع النهار. يا غلام، أوجِع!

فضربه الخادم عشَرة أخرى. وقال أشعب: ثم ركبنا ضحى اليوم وسرنا إلى نَجْع وقد أشرفنا على الأصيل. يا غلام، أوجع!

فضربه العبد عشَرة ثالثة. وقال أشعب: وبعدئذٍ ركبنا وسرنا حتى وجدنا …

فصاح الحلاق مقاطعًا: يا سيدي، سألتك بالله إلى أين تريد أن تبلغ؟

فقال أشعب: إلى المدينة.

– لست تبلغها حتى تقتلني.

فقال أشعب: أتركك على ألا تعود؟

فصاح الحلاق: والله لا أعود أبدًا.

فتركه. وكان المساء قد أقبل. وحضر بنان والكندي … وأبصرا الخادم يحل وثاق الحلاق، فسألا فأخبرهما أشعب الخبر.

فقال الكندي: وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤