على الخوان

جلس الجميع يتحادثون ساعة قبل أن يُوضع بينهم الخوان وقُدِّمَ الشراب. وحلف أشعب على الحلاق ألا يبرح حتى يحضر معهم العشاء. فقد كفاه من التأديب ما أكله من يد العبد. وأخذ الكندي يجول بنظره في أنحاء المكان ويُعجَب بالرياش. ولمحه بنان فقال له مبتسمًا: أراك شديد العَجَب!

فقال الكندي: إي والله نعم.

ثم أردف سائلًا: ومتى كان الرحيل؟ قبل أن أُهدي أشعبَ القميص بِكَمْ يوم؟

فلم يفطن بنان وقال: أي قميص؟

فابتسم أشعب وتذكر عندئذٍ أمرًا كان يود أن يسأل الكندي فيه. فأقبل عليه يقول: بالله ألا أخبرتنا: إنا نراك لأول مرة تصنع شيئًا الفساد فيه ظاهر والفائدة لك فيه غير مرجوة. أخبرنا عن مضيك كل يوم إلى رجل في آخر السوق لتقتضي منه خمسة دراهم دَينًا عليه … أهو حزم منك؟ لا، إنما الحزم أن يتشدد الإنسان في غير تضييع.

فالتفت الكندي إليه قائلًا: وما هو وجه التضييع؟

فقال أشعب: وجوه التضييع كثيرة؛ فواحدة: أنَّا لا نأمن عليك انتقاض بدنك، وقد خلا ما خلا من سنِّك، وأن تعتلَّ، فتدع التقاضي الكثير بسبب هذا القليل، أو تتشاغل بالبعيد عن القريب، وثانية: أنك إن تجهَد هذا الجهد فلا بد لك من أن تزداد في العشاء، إن كنت ممن يتعشى، أو تتعشى إن كنت ممن لا يتعشى. وهذا إذا اجتمع كان أكثر من خمسة دراهم. وبعدُ فإنك تحتاج أن تشقَّ وسَط السوق وعليك ثيابك، والحَمولة تستقبلك، فمن ها هنا نَتْرة ومن ها هنا جذبة، فإذا الثوب قد أَوْدَى، ومن ذلك أن نعلك تُنقَب وتَرِقُّ، وساق سراويلك تتسخ وتَبلَى، ولعلك أن تعثُر في نعلك فتقُدَّها قدًّا، ولعلك تَهرُتها هَرْتًا من كثرة الذَّهاب والإياب في سبيل هذا الدَّيْن الزهيد. منذ متى وأنت تذهب للمطالبة والاقتضاء؟

فقال الكندي: منذ يومين من تاريخ الليلة التي أهديت فيها لك القميص.

فأخفى أشعب ابتسامة ومضى يقول: مضى إذن وقت طويل وأنت على هذه المشقة تتكبد كل ما ذكرنا لك من الخسائر، ولا تجني إذا جنيت إلا خمسة دراهم. ولما كنا نثق دائما بحكمتك في كل تصرفاتك، فقد أعيتنا والله هذه المشكلة، وأحببنا أن نسألك فيها.

فتنحنح الكندي وقال: أما ما ذكرتم من انتقاض البدن، فإن الذي أخاف على بدني منه هو الدعة وقلة الحركة، وهل رأيتم أصح أبدانًا من الحمالين والطوافين. ولربما أقمت في المنزل لبعض الأمر فأُكثر الصعود والنزول خوفًا من قلة الحركة. وأما التشاغل بالبعيد عن القريب فأنا لا أعرض للبعيد حتى أفرغ من القريب. وأما ما ذكرتم من الزيادة في الطعام فقد أيقنَتْ نفسي واطمأن قلبي على أنه ليس لنفسي عندي إلا ما لها، وأنها إن حاسبتني أيام التعب حاسبتها أيام الراحة. وأما ما ذكرتم من تَلَقي الحَمولة ومن مزاحمة أهل السوق ومن النَّتْر والجذْب فأنا أقطع عُرْض السوق من قبل أن يقوم أهل السوق لصَلاتهم، ثم يكون رجوعي على ظَهر السوق. وأما ما ذكرتم من شأن النعل والسراويل فإني من لَدُن خروجي من منزلي إلى أن أقترب من باب صاحبي فإنما نعلي في يدي وسراويلي في كُمِّي … فإذا صرت إليه لبستُهما، فإذا خرجت من عنده خلعتهما، فهما في ذلك اليوم أوْدَع أبدانًا وأحسن حالًا. بقي الآن لكم مما ذكرتم شيء؟

فقالوا جميعًا في عجلة: لا!

فأردف الكندي باسمًا: ها هنا واحدة تفي بجميع ما ذكرتم.

فقالوا جميعًا في لهفة: ما هي؟

– إذا علم المَدِين القريب، ومن لي عليه ألوف الدنانير، شدة مطالبتي للمدين البعيد، ومن ليس لي عليه إلا الدراهم، أتى بحقي كاملًا ولم يُطمع نفسه في مالي. فهذا تدبير يَجمع لي إلى رجوع مالي طولَ راحة بدني. وليس من الحكمة أن أدع شيئًا من دَين يُطمِع في فَضْلَة ما يَبقى على الغرماء.

وسكت. فقالوا بأجمعهم في صيحة إعجاب: لا والله لا سألناك عن مشكلة أبدًا.

وجاء وقت الطعام، ووضع الغلام الخوان، وقدم «مَضيرة» من لحم الجدي واللبن الحامض والتوابل والأبزار، تُثني على كرم أشعب وبنان وتشهد لهما بالسعة والرخاء، في قصعة عظيمة يزل عنها الطرْف بهاء ورُواء، فما أ خذَتْ من المائدة مكانها، حتى قام الحلاق على قدميه ساخطًا لاعنًا، يسب آكلها وطابخها، فظنه الحاضرون يمزح، فإذا هو جادٌّ في الكلام، وإذا هو يتنحى بعيدًا تنحي السليم عن الأجرب، فرابهم أمرها وخافوا أن يمدوا إليها يدًا، فرفعوها فارتفعت معها قلوبهم وسافرت خلفها عيونهم. وتحلَّب لها فم الكندي وتلمظت لها شفتاه، ولكنه أذعن على مضض، وأقبل كما أقبل الآخرون على الحلاق يسألونه عن أمرها، فتنهد وقال: قصتي معها أطول من مصيبتي فيها!

وسكت، فصاحوا به: تكلم!

فتردد ثم قال: أخاف لو حدثتكم بها ألَّا آمن من غضبكم وإضاعة وقتكم … فزاد بذلك رغبتهم في الاستطلاع فقالوا له جميعًا: تحدث!

فجلس وأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: منذ سنوات ثلاث دعاني حلاق من إخواني الحلاقين، ترك الحرفة بعد أن أثرى وجمع الأموال، إلى أكلة «مَضيرة». ولزمني ملازمة الظل إلى أن تركت حانوتي وزبائني وأجبته إليها، وقمنا. فجعل طول الطريق يثني على زوجته ويفديها بمهجته ويصف حذقها في صناعة المضيرة وتأنقها في طبخها، ويقول: يا صاحبي لو رأيتَها والخرقة في وسطها وهي تدور في المطبخ بين القدور تنفث بفمها النار وتدق بيديها الأبزار، ولو رأيت الدخان وقد غبَّر في ذلك الوجه الجميل، لرأيت منظرًا تحار فيه العيون، وأنا أعشقها لأنها تعشقني، ومن سعادة المرء أن يُرزق المساعدة من حليلته، ولا سيما إذا كانت من طينته، وهي ابنة عمي لَحًّا؛ مدينتها مدينتي وأَرُومتها أرومتي. ولكنها أوسع مني صدرًا، وأحسن خُلقًا.

ومضى يحدثني بصفات زوجته حتى انتهينا إلى الجهة التي يقيم فيها. فقال: يا صاحبي ترى هذه الجهة، هي أشرف موقع بالمدينة، يتنافس الأخيار في نزولها ولا يقطنها غير كل عظيم، وإنما المرء بالجار. وداري في وسطها كالنقطة في الدائرة. انظر إلى داري وقل لي كم تقدر ثمنها … قله تخمينًا.

قلت: الكثير …

فقال: يا سبحان الله! تقول الكثير فقط؟

وتنهد ثم قال: سبحان من يعلم الأشياء!

وانتهينا إلى باب داره فقال: كم تقدِّر يا صاحبي ما أنفقت على هذا الباب؟ أنفقت والله عليه فوق الطاقة. كيف ترى صنعه وشكله؟ أرأيت بالله نظيره؟ انظر إلى دقائق الصنعة فيه، وتأمل حسن تعريجه، فكأنما خُطَّ بالبِركار. ثم هذه الحلقة فيه لقد اشتريتها في سوق الطرائف من عُمران الطرائفي بثلاثة دنانير. وكم فيها من النحاس يا صاحبي! فيها ستة أرطال! بالله دَوِّرْها ثم انقرها وأبصرها.

•••

وقرعنا الباب ودخلنا الدهليز. فقال: عمَّركِ الله يا دار ولا خرَّبكَ يا جدار. تأملْ بالله المعارج، وتبينْ دواخلها وخوارجها، وسلني كيف حصَلت عليها، وكم من حيلة احتلت لها. فلقد كان لي جار يُكنى أبا سليمان، يسكن هذه الدار، وله من المال ما لا يسعه الخَزْن. فمات رحمه الله وخلَّف خلْفًا أتلف المال بين الخمر والزمر، وخشيت أن تذهب الدار فيما ذهب. ويفوتني شراؤها فأتقطع عليها حسراتٍ إلى يوم الممات، فاحتَلْت حتى أقرضت صاحب الدار ما لا أحتاج إليه، وتغافلت عن اقتضائه حتى كادت حاشية حاله تَرِقُّ فسألته أن يجعل داره رهينة لديَّ، ففعل. ثم صبرت عليه إلى أن أفلس وآلت إليَّ الدار بثمن بخس. وأنا بحمد الله محظوظ. وحسبك يا صاحبي أني كنت منذ ليالٍ نائمًا في البيت مع من فيه إذ قُرع علينا الباب. فقلت: من الطارق؟ … فإذا امرأة معها عِقدُ لؤلؤٍ تعرضه للبيع، فأخذته منها أخذة خَلْس، واشتريته بثمن زهيد، وسيكون له ربح وافر بعون الله تعالى. وإنما حدثتك بهذا الحديث لتعلم سعادة حظي. والسعادة تنبِط الماء من الحجارة. الله أكبر، لا ينبئك أصدق من نفسك. ثم إني اشتريت هذا الحصير في المناداة وقد أُخرج من دُور آلِ ثَراء، وكنت أطلب مثله منذ زمن طويل فلا أجد. تأملْ بالله دقته ولينه وصنعته ولونه. وإن كنت سمعت بأبي عُمران الحَصِيري، فهو عَمِلَه، وله ابن يخلفه الآن في حانوته، لا يوجد أعلاق الحُصر إلا عنده، فبحياتي لا اشتريتَ الحُصر إلا من دكانه، فالمؤمن ناصح لإخوانه. ونعود إلى حديث المَضيرة فقد حان وقت الظهر … يا غلام … الطَّسْت والماء.

فقلت: الله أكبر، ربما قرب الفرج.

وتقدم خادمه. فقال: ترى هذا الغلام؟ إنه رومي الأصل، عراقي النشء. تقدم يا غلام؛ وأَحسِر عن رأسك، وانضُ عن ذراعك، وأقبِل وأدبِر.

ففعل الخادم ذلك. وقال صاحب الدار: بالله سلني من اشتراه؟ اشتراه والله أبو مَعْنٍ من النخاس. يا غلام ضع الطَّسْت وهات الإبريق.

فوضعه الغلام، وأخذه المُضيف وقلَّبه بين يديه وأدار فيه النظر، ثم نقره وقال: انظر إلى هذا النحاس الأصفر كأنه قطعة من الذهب، نحاس الشام وصنعة العراق. تأمل حسنه وسلني متى اشتريته؟ اشتريته والله عام المجاعة. يا غلام … الإبريق!

فقدمه. وأخذه رب البيت فقلَّبه بين يديه وقال: أنبوبة منه. لا يصلح هذا الإبريق إلا لهذا الطست. يا غلام أرسل الماء، فقد حان وقت الطعام! بالله ترى هذا الماء ما أصفاه، أزرق كعين السِّنَّور، وكأنه لسان الشمعة في صفاء الدمعة. وهذا المنديل سلني عن قصته … فهو نَسْج جُرجان، وقع إليَّ فاشتريته. فاتخذَت امرأتي بعضه سراويل واتخذْتُ بعضه منديلًا. دخل في سراويلها عشرون ذراعًا. وانتزعتُ انتزاعًا من يدها هذا القَدْر وأسلمتُه إلى المطرِّز حتى صنعه كما تراه وطرَّزه. فادخرتُه للظُّرَّاف من الأضياف أمثالك. يا غلام، الخوان والقِصاع والطعام، فقد كثر الكلام.

فأتى العبد بالخوان، وقلَّبه صاحب البيت، ونقره، وعَجَمَه بأسنانه، وقال: عمَّر الله بغداد، فما أجود متاعها! تأمل بالله هذا الخوان، وانظر إلى خفة وزنه وصلابة عوده وحسن شكله.

فقلت له: هذا الشكل، فمتى الأكل؟

فقال: الآن … عجل يا غلام بالأكل، لكن الخوان قوائمه منه.

فقنطت وقلت في نفسي: قد بقي الخبز وآلاته وصفاته والحنطة من أين اشتراها وكيف اكترى لها حمَّالًا وفي أي رحًى طُحن وكيف عُجن وخُبز، وبقي الحطب ومتى جُلب وكيف صُفف وجُفف. وبقي الخباز ووصفه والدقيق والخمير وشرحه، بقي البَقْل وكيف قُطف ونُظف، وبقيت المَضيرة كيف اشتُرِيَ لحمُها ووُفِّيَ شحمُها ونُصِبَ قِدرُها ودُقَّتْ أبزارها حتى أُجيدَ طبخُها وعُقِدَ مَرَقُها، وهذا خطب يَطِمُّ. فقمت.

فقال: «أين تريد يا صاحبي؟»

فقلت: «حاجة أقضيها.»

فقال: تريد كنيفًا أحسن من مَصِيف الأمير، ويُزري بمقصورة الوزير، قد سُطِّحَ سقفه وفُرِشَت أرضه بالمرمر، يمشي على أرضه الذباب فيَزلق، وعليه باب من ساجٍ وعاج، مزدوجَين أجمل ازدواج، يتمنى الضيف أن يأكل فيه؟

فقلت له: «كُلْ أنت من هذا الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب.» وخرجت من الدار وجعلت أعدو، وهو يتبعني ويصيح بي: يا أبا الفرج … المضيرة!

وظن الصبيان في الطريق أن المضيرة لقب لي، فصاحوا صياحه فضجِرت ورميت أحدهم بحجر، فأصاب الحجر عمامة رجلٍ عابر وغاص في هامته. فأخذت مِن صَفْع الناس بما طاب وخبُث. وضُرِبْت والله حتى نسيت اسمي. ثم حُشرْت إلى الحبس فأقمت عامين في ذلك النحس. وخرجت فنذرت ألا آكل مضيرة طول حياتي. فهل أنا في ذا يا أسيادي وإخواني ظالم؟!

وسكت الحلاق. ونظر إلى الجالسين يَمنة ويَسرة فوجدهم ينفخون ويتلمظون، لا من الجوع، بل من الغيظ. ولم يجدوا كلامًا يقولونه له.

ولم ير أشعب جوابًا يجيب به غير الإشارة إلى العبد والصياح فيه قائلًا: «علِّق هذا الحلاق من العَقِبين، إلى أن نفرغ من العشاء!»

وأرجعوا «المضيرة»، فعادت إليهم بارزة منكمشة كالعجوز الحيزبون، فأكلوها وقد ذهب رُواؤها ومضت لذتها، فجعل الكندي يمضغ ويقول لأشعب: ألم أقل لك: وددت أنك بلغت بهذا الحلاق إلى أن تأتي على نفسه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤