حيلة شيطانية

لبث أشعب وبنان على هذه الحال أيامًا ينفقان مما عندهما على طَيب الطعام وجيد الشراب، إلى أن أوشك ما جمعاه أن ينضب، ولمحا شبح الفاقة والجوع يقترب، فحدثتهما النفس أن يصنعا ها هنا ما صنعاه في عرفات، ولكن على نسق آخر، خوفًا من سوء العاقبة. فبعث أشعب إلى الجارية «رشا» فحضرت، وأعد هو وبنان منزلًا في زقاق العطارين يشرف على السوق. وأوصيا الجارية أن تَخطِر بقدِّها المائس أمام المسجد إذا اجتمع الناس لصلاة العصر. فمضت وعلى وجهها خمار أسود تَزهَر من تحته عيناها كأنهما النجوم، فما كادت تسير خطوات حتى سمعت خلفها من يهمس في أذنها:

قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بزاهد متعبد؟
قد كان شمَّر للصلاة ثيابه
حتى خطرتِ له بباب المسجد
رُدي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه، بحق دين محمد!

فالتفتت، فرأت رجلًا ليس من أهل البلد نظيف الهيئة، وقور الطلعة يُحِد إليها النظر. فقالت له: اتبعني.

فقال لها: «إن شريطتي الحلال.»

فقالت له: قبحك الله، ومن يريدك على حرام؟

فخجل الرجل. وغلبته نفسه على رأيه فتبعها. ومشيا حتى دخلا الزقاق وبلغا المنزل. وصعِدت الجارية درجة وقالت للرجل: اصعد.

فصعِد … فقالت له: إن لي وجهًا أحسن من العافية، مع صوت كصوت «ابن سُريج» وترنم «مَعْبد» وتيه «ابن عائشة»، أجمع لك هذا كله في بدنٍ واحدٍ بأشقر سليم.

فقال لها: وما أشقر سليم؟

فقالت: بدينارٍ واحد، يومَك وليلَتك. فإذا أقمتَ جعلتُ الدينار صداقًا وتزويجًا صحيحًا.

فقال الرجل: لك ذلك إذا جُمِعَ لي ما ذكرتِ.

فأجلسته في صدر الدار وخلعت خمارها. ورأى الرجل جمالها، فذهب عقله. وقامت الجارية فقال لها: إلى أين جُعلْتُ فداك!

– ألبس وأتهيأ.

فصاح الرجل: بالله لا تَمَسِّي غُمرًا ولا طِيبًا، فحسبك بدلالك وعطرك.

فابتسمت له ابتسامة أجهزت عليه، وذهبت، وجاء الغلام، فحيا الرجل أجمل تحية، وأسرَّ له في أذنه: أأخبرتك شريطتها؟

فقال الرجل: لا والله … ما شريطتها؟

فقال الخادم: لعلها نسيت تخبرك. هي والله أفتك من «عمرو بن مَعْدِ يكَرِب» وأشجع من «ربيعة بن مُكَدَّم» ولستَ بواصلٍ إليها حتى تَسكَر وتُغلَب على عقلها، فإذا بلغَتْ ذلك الحال ففيها مطمع.

فقال الرجل: ما أهون ذلك وأسهله!

فأردف الخادم: ثم شيء آخر …

– ما هو؟

– اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها وتراك مجرَّدًا مقبلًا مدبرًا.

فقال الرجل: وهذا أيضًا أفعله.

وتركه الغلام ومضى. وأقبلت الجارية تموج ظُرفًا وتَميس لطفًا فقالت: هلم دينارك!

فأخرج الرجل دينارًا نبذه إليها فصفقت فأجابها العبد. فقالت له: قل لأبي الحسن وأبي الحسين هلما الساعة.

ومضى قليل، فإذا شيخان خاضبان نبيلان، هما أشعب وبنان، قد أقبلا فصعِدا، فقصت الجارية عليهما القصة، وغمزت لهما بعينها غمزة خفيفة لم يلحظها الرجل، فقام أحدهما فخطب وأجاب الآخر. ودعيا الرجل فأقر بالتزويج وأقرت الجارية، ودعا الشاهدان بالبركة، ثم نهضا وخرجا واستحيا الرجل أن يحمِّل المرأة شيئًا من المئونة فأخرج دينارًا آخر دفعه إليها وقال: اجعلي هذا لِطِيبك.

فقالت له: يا أخي … لست ممن يمس طِيبًا لرجل، إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت.

فقال لها: فاجعليه إذن لعشائنا الليلة.

قالت: أما هذا فنعم.

ونهضت فأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه. ثم عادت قبل المساء، فدعت بالخوان والنبيذ، فتعشيا وشربا. وأمسكت بالعود واندفعت تغني:

راحوا يصيدون الظباء وإنني
لأرى تصيدها عليَّ حراما
أعزز عليَّ بأن أُرَوِّع شِبهَها
أو أن تذوق على يدَيَّ حِماما

فكاد الرجل يُجَن سرورًا وطربًا. وقال لها: جُعِلْت فداك، من يغني هذا؟

قالت: اشترك فيه جماعة، هو لمعبد، وتغنى به ابن سُريج وابن عائشة.

وجعل الرجل يحتال لتدنو منه فتأبى عليه. ثم غنت بصوت لم يفهمه للشقاء الذي كُتِبَ عليه:

كأني بالمجرَّد قد علَتْه
نعال القوم أو خشب السواري

فقال لها: جُعِلْت فداك، ما أفهم هذا البيت؟ ولا أحسبه مما يُتغنى به!

قالت: أنا أول من تغنى به.

فقال: إنما هو بيتٌ عابرٌ لا ثاني له؟

قالت: معه آخر ليس هذا وقته … هو آخر ما أتغنى به.

فسكت الرجل، وجعل لا ينازعها في شيء إجلالًا لها، إلى أن أذَّنَت العِشاء، فوضعت عودها. فقام فصلى العشاء، وما يدري كم صلى عجلة وشوقًا.

وفرغ من صلاته فأقبل عليها يقول: تأذنين جُعِلْت فداك في الدنو منك!

فقالت: تجرد!

وأشارت إلى ثيابها كأنها تريد أن تتجرد، فكاد الرجل يشق ثيابه عجلةً للخروج منها. فتجرد، وقام بين يديها، فقالت له: امض إلى زاوية البيت، وأقبِل وأدبِر، حتى أراك مقبلًا ومدبرًا!

وإذا في زاوية البيت حصير في الغرفة على الطريق فخطر الرجل عليه. وإذا تحته خَرْق إلى السوق. وإذا الرجل يجد نفسه في السوق مجردًا عاريًا كما ولدته أمه، وإذا الشيخان الشاهدان «أشعب وبنان» قد أعدَّا نعالهما على قفاه، واستعانا بأهل السوق، فما أبقوا فيه عظمًا صحيحًا. وبينما الرجل يُضرب بنعالٍ مخصوفة وأيدٍ مشدودة، إذا صوت تغني به الجارية من فوق البيت:

ولو علم المجرَّد ما أردنا
لحاربَنا المجرَّد بالصحاري

فقال الرجل في نفسه: هذا والله وقت هذا البيت.

أمعن أشعب وبنان في هذا السبيل بمثل هذه الأساليب، حتى ضجت الناس وعمت الشكوى. وبلغ الأمر والي المدينة، وكان شديد الورع، صارم الخُلق، عبوس الوجه. فأرسل في طلب هذين المفسدين، وأمر بهما للفور فجُرِّدا من ثيابهما وضُربا ثلاثين سوطًا. وأمر بأموالهما الحرام فضُمت إلى بيت المال.

وتحمل أشعب وبنان الضرب، ولكنهما لم يتحملا كارثة ذَهاب المال، فصاح أشعب يستأذن على الوالي فأذن له. فبكى بين يديه وتباكى وقال: أصلحك الله! أنُجرَّد من ثيابنا ومن مالنا في يومٍ واحد.

فقال له الوالي: يا عدو الله! لقد كنتما تجردان الناس من هذا وذاك في ليلة واحدة.

ورأى أشعب ألا حيلة له مع هذا الوالي إلا أن يضحكه، فلعله إن ضحك عفا. فجعل يقص عليه طريف النوادر، والوالي في إطراقه وتقطيبه وعبوسه، لا يَعبر وجهَه خيالُ ابتسامة. وسكت أشعب قانطًا.

فرفع الوالي رأسه وقال له: لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك.

فقال أشعب: «قد فعلت.»

فقال له الوالي: «أسمعني ما حفظت من الحديث.»

فتنحنح أشعب ثم قال: حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي قال: «من كان فيه خصلتان كُتِبَ عند الله خالصًا مخلصًا.»

فقال له الوالي: هذا حديث حسن، فما هاتان الخصلتان؟

فحار أشعب وتفكر لحظة ثم قال: نسي نافع واحدة.

فقال الوالي: «والأخرى؟»

فقال أشعب: والأخرى … نسيتها أنا.

فلم يُجب الوالي … ولم يزد على أن أمر بأشعب فضُرِبَ ثلاثين أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤