أوطيفرون
- أشخاص الحوار: سقراط، أوطيفرون.
- المنظر: دهليز كبير القضاة.
أوطيفرون
:
فيم تَرْكك اللوقيون Lyceum١ يا سقراط؟ وماذا تصنع في دهليز كبير القضاة؟ يقينًا إنك لم تجئ مثلي في شأن
قضية أمام القاضي.
سقراط
:
لست بصدد قضية يا أوطيفرون! إنما هو اتهام كما يسميه الأثينيون.
أوطيفرون
:
ماذا؟ أحسب أن أحدًا قد رماك باتهام؛ لأنني لا أصدق أن تقف أنت من غيرك موقف
المتهِم.
سقراط
:
كلا ولا ريب.
أوطيفرون
:
إذن؛ فقد آخذك امرؤ باتهام؟
سقراط
:
نعم.
أوطيفرون
:
ومن هو ذا؟
سقراط
:
شاب نكرة يا أوطيفرون، لا أكاد أعرفه، اسمه مليتس وهو من أهل مدينة بتثيس Pitthis، ولعلك ذاكر صورته؛ فله منقار، وشعر طويل مستقيم، ولحية شعثاء.
أوطيفرون
:
كلا، لست أذكره يا سقراط، ولكن بأية تهمة رماك؟
سقراط
:
بأية تهمة؟ إنها اتهام خطير يدل على أنه ذو خُلق عظيم، ولا ينبغي بلا ريب أن يُزدرَى
من أجله؛ فهو يقول إنه يَعْلم كيف يَفسد الشباب، ومن هم المفسدون.
ويُخيَّلُ إليَّ أنه لا بد أن يكون رجلًا حكيمًا، فلما رآني نقيض الرجل الحكيم أشار عني، وهو معتزم أن يتهمني بإفساد أصدقائه من الشبان. وستكون الدولة — وهي أمنا — حكمًا في هذا. إنه الوحيد بين ساستنا الذي أراه قد بدأ بدءًا صحيحًا في غرس الفضيلة في الشباب. فهو كالزارع القدير، يُعنَى بالنبات الصغير أول ما يُعنَى، فيباعد بيننا وبينه؛ لأننا متلِفوه، وما تلك إلا خطوة أولى إذا ما أتمها توجه بعنايته إلى الغصون المكتهلة، ولو استمر كما بدأ لأصبح للشعب مُصلحًا جد عظيم.
ويُخيَّلُ إليَّ أنه لا بد أن يكون رجلًا حكيمًا، فلما رآني نقيض الرجل الحكيم أشار عني، وهو معتزم أن يتهمني بإفساد أصدقائه من الشبان. وستكون الدولة — وهي أمنا — حكمًا في هذا. إنه الوحيد بين ساستنا الذي أراه قد بدأ بدءًا صحيحًا في غرس الفضيلة في الشباب. فهو كالزارع القدير، يُعنَى بالنبات الصغير أول ما يُعنَى، فيباعد بيننا وبينه؛ لأننا متلِفوه، وما تلك إلا خطوة أولى إذا ما أتمها توجه بعنايته إلى الغصون المكتهلة، ولو استمر كما بدأ لأصبح للشعب مُصلحًا جد عظيم.
أوطيفرون
:
أرجو له أن يستطيع، ولكني كم أخشى يا سقراط أن يكون العكس هو الصحيح، فرأيي أنه
بمهاجمته إياك إنما يصوب ضربة إلى الدولة في أساسها، ولكن كيف تفسد الشباب في زعمه؟
سقراط
:
إنه يوجه إليَّ اتهامًا عجيبًا يثير الدهشة فور سماعه؛ فهو يقول إني شاعر أو مبتدع
للآلهة؛ فأختلق آلهة جديدة وأنكر وجود الآلهة القديمة، هذا هو أساس دعواه.
أوطيفرون
:
أفهم ما تقول يا سقراط؛ فهو يريد أن يتهمك بالعلامة المعهودة التي تأتيك من حين
إلى حين كما تقول. وسيقدمك إلى المحكمة لأنه يظن أنك ذو بدعة في الدين، ولعله يعلم ما
أعلمه
علم اليقين من أن مثل هذه التهمة سهلة القبول لدى الناس؛ فأنا حين أتحدث في الجماعة عن
أشياء مقدَّسة وأتنبأ لهم بالمستقبل يهزءون مني ويظنون أني مجنون، ومع ذلك فكل كلمة مما
أقوله
حق، ولكنهم يغارون مِنَّا جميعًا، فيجب علينا أن نستبسل ونهاجمهم.
سقراط
:
ليس ضحكهم يا عزيزي أوطيفرون بذي خطر؛ فقد يُقال عن رجل إنه حكيم، ولكن الأثينيين
فيما أحسب لا يكلفون أنفسهم عناء بشأنه إلا إذا أخذ يبث في الناس حكمته، عندئذٍ يأخذهم
الغضب لسبب ما، وقد يكون لغيرةٍ فيهم، كما تقول أنت.
أوطيفرون
:
لا ينتظر أن أختبر خلقهم على هذا النحو.
سقراط
:
أظن أنك لن تفعل؛ لأنك متحفظ في سلوكك، ويندر أن تبث حكمتك. أمَّا أنا فقد تعودت
مُحسنًا أن أُفرغ ما بنفسي لكل إنسان، بل إني لأود أن أؤجر المستمع، وإني لأخشى أن يظن
الأثينيون أني كثير الثرثرة، فلو حدث — كما سبق لي القول — أن اكتفَوْا بسخريتهم مني،
كما زعمتَ
أنهم فعلوا معك؛ إذن لأنفقنا الوقت في المحكمة في مرح شديد. ولكن قد يأخذهم الجد، وعندئذٍ
لا يستطيع أن يُنبئ بالخاتمة إلا أنتم معشرَ المنجِّمين.
أوطيفرون
:
أظن يا سقراط أن الأمر سينتهي بلا شيء، وأنك رابح قضيتك كما أظنني كاسبًا
لقضيتي.
سقراط
:
وما قضيتك يا أوطيفرون، أأنت المتهِم أم المتهَم؟
أوطيفرون
:
أنا المتهِم.
سقراط
:
ومَنْ تتَّهِم؟
أوطيفرون
:
ستظنني مجنونًا حين أنبئك.
سقراط
:
لماذا؟ أللهارب أجنحة؟٢
أوطيفرون
:
لا! إنه لا يمتاز بحضور البديهة في سنه هذه.
سقراط
:
ومن هو ذا؟
أوطيفرون
:
إنه أبي.
سقراط
:
أبوك يا رفيقي العزيز؟!
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
وبماذا اتهمتَه؟
أوطيفرون
:
بالقتل يا سقراط.
سقراط
:
يا للآلهة يا أوطيفرون! ما أقل ما يعلم غمار الناس عن الحق والصواب، إنه لا بد
للإنسان أن يكون ممتازًا وأن يكون قد خطا في الحكمة خطوات فسيحة، حتى يستطيع أن يتلمس
سبيله
إلى مثل هذه الدعوى.
أوطيفرون
:
حقًّا يا سقراط، لا بد أن يكون كذلك.
سقراط
:
أحسب أن الرجل الذي قتله أبوك كان أحد أقربائك، ولا شبهة في هذا؛ لأنه لو كان
غريبًا لما فكرت قطُّ في اتهامه.
أوطيفرون
:
يدهشني يا سقراط أن أراك تفرق بين القريب والغريب؛ إذ لا شك أن جُرمك هو هو في
كلتا الحالتين، إذا أنت ظاهرت القاتل عن عمد؛ حيث ينبغي عليك أن تبرئ نفسك وتبرئه بإقامة
الدعوى عليه. فالسؤال الصحيح هو هل قتل القتيل عدلًا؟ فإن كان قد قتل عدلًا، فواجبك أن
تدع
الأمر جانبًا، أمَّا إذا كان ظلمًا فلا بد أن تشكو القاتل، حتى لو كان يساكنك تحت سقف
واحد،
ويطعم معك على مائدة واحدة. وقتيلنا هذا كان رجلًا فقيرًا يعتمد على معونتي، وكان يشتغل
فلاحًا في حقلنا في ناكسوس Naxos.٣ وذات يوم أخذته نشوة الخمر فاعترك مع خادم بالمنزل وقتله، فكبَّله أبي يدًا
وقدمًا وقذف به في خندق، ثم أرسل إلى أثينا ليستفتيَ كاهنًا عما يجب أن يفعل به. وكان
في
ذلك الحين لا يأبه له ولا يُعنى به لأنه اعتبره قاتلًا، وظن أن لن يقع ضرر جسيم حتى ولو
أصابه الموت، وذلك بعينه ما حدث؛ فقد أثر فيه البرد والجوع والأغلال التي تكبله تأثيرًا
أدى
إلى موته قبل عودة الرسول من لدن الكاهن، وأبي وأسرتي غاضبان مني لنيابتي عن القاتل في
اتهام أبي زاعمين أنه لم يقتله، وأنه حتى لو فعل ذلك فما الميت إلا قاتل، وما ينبغي لي
أن
أأبه له؛ لأن ابنًا يتهم أباه فهو فاجر؛ ذلك يدل يا سقراط على مبلغ علمهم الضئيل برأي
الآلهة
في التقوى والفجور.
سقراط
:
يا لله يا أوطيفرون! وهل بلغ علمك بالدين وبالتقوى وبالفجور مبلغ الدقة العظيمة
بحيث لو سلَّمنا أن الظروف كانت كما تُروَى، فلا تخشى أنك أنت كذلك قد ترتكب شيئًا من
الفجور في
إقامة الدعوى على أبيك؟
أوطيفرون
:
إن أفضل ما في أوطيفرون، وهو ما يميزه يا سقراط من سائر الناس، هو دقة علمه
بمثل هذه المسائل جميعًا، وهل تراني أصلُح لشيء لو سلبتني ذلك العلم؟
سقراط
:
أيها الصديق النادر! أحسب أن خير ما أصنعه أن أكون تلميذًا لك؛ وإذن فسأتحدَّى
مليتس قبل أن تحين المحاكمة معه، وسأقول له: إنني ما فتئت عظيم الشغف بالمسائل الدينية؛
فما
دام يتهمني بطيش الخيال والإبداع في الدين؛ فقد أصبحت تلميذًا لك. إنك يا مليتس — هكذا
سأسوق إليه القول — تعترف بأن أوطيفرون لاهوتيٌّ عظيم، وبأنه سديد الرأي، فإذا اعترفت
به وجب
أن تعترف بي، وألا تدعوني للمحكمة. أمَّا إذا أنكرته فقد وجب عليك أن تبدأ باتهامه لأنه
مُعلِّمي، ولأنه سيكون فسادًا، لا للشبان، بل للشيوخ؛ أعني فسادًا لي لأنه يعلمني، وفسادًا
لأبيه إذ ينذره ويعاقبه. فإذا أبَى مليتس أن يُصغي إليَّ، ومضى في سبيله دون أن ينقل
الدعوى
مني إليك، فخير ما أصنعه أن أكرر هذا التحدي في المحكمة.
أوطيفرون
:
نعم ولا ريب يا سقراط، فإذا ما حاول أن يتهمني؛ فأنا المخطئ إن لم أجد له
مغمزًا فتوجِّه إليه المحكمة من القول أكثر جِدًّا مما توجهه إليَّ.
سقراط
:
ولما كنت يا صديقي العزيز أعلم عنك هذا؛ فأنا راغب في أن أكون تلميذًا لك؛ إذ يلوح
لي أنك لست ملحوظًا من أحد، فلم يلحظك حتى مليتس هذا، ولكن عينيه الحادتين قد استكشفتاني
على الفور فاتهمني بالفجور؛ وعلى ذلك فأنا أتوسل إليك أن تُنبئني حقيقة التقوى والفجور
التي
قلت إنك تعلمها جيد العلم، كما تنبئني بطبيعة القتل وسائر ضروب الاعتداء على الآلهة،
ما
هي؟ أليست التقوى في كل فعل هي هي دائمًا؟ وكذلك الفجور، أليس دائمًا نقيض التقوى؟ ثم
أليس
هو هو دائمًا، فله تعريف واحد يشمل كل ما هو فاجر؟
أوطيفرون
:
كن على يقين من ذلك يا سقراط.
سقراط
:
وما التقوى وما الفجور؟
أوطيفرون
:
التقوى هي أن تفعل كما أنا فاعل؛ أعني أن تقيم الدعوى على من يقترف جريمة القتل
أو الزندقة أو ما إلى ذلك من الجرائم، سواء كان أباك أم أمك أم كائنًا من كان، فذلك لا
يبدل
من الأمر شيئًا. وأمَّا الفجور فهو ألا تقيم على هؤلاء الدعوى. وأرجو أن ترى يا سقراط
الدليل الساطع الذي أقيمه لك على صدق ما أقول، وهو دليل سُقته بالفعل إلى سائر الناس؛
برهانًا على مبدأ أن الفاجر لا ينبغي أن ينجو من العقاب كائنًا من يكون. ألا ترى إلى
الناس
كيف يعدون «زيوس» أفضل الآلهة وأقدمهم مع اعترافهم بأنه كَبَّل سلفه «كرونوس Cronos» لأنه مزق
أبناءه تمزيقًا مروعًا، بل إنهم ليقرون أنه أنزل العقاب بأبيه نفسه «أورانوس Uranus» لسبب
شبيه بهذا، عقابًا يفوق الوصف، ثم يغضبون مني إذا أنا أقمت الدعوى على أبي، وهكذا ترى
الناس
يتناقضون في موقفهم إزاء الآلهة وإزائي.
سقراط
:
ألا يجوز يا أوطيفرون أن أكون قد رُميتُ بالفجور لأني أمقتُ هذه الأقاصيص التي تُروى
عن الآلهة؟ وإذن فأحسب أن الناس قد أخطئوا فهمي، ولكن ما دمتَ أنت تسلِّم بها وأنت الخبير
بها،
فخيرُ ما أصنعه هو أن أستسلم لحكمتك العليا. ماذا أقول غير هذا، وأنا معترف بأنني لا
أعلم
عنها شيئًا نشدتك حب «زيوس» إلا أنبأتني هل تعتقد حقًّا في صدقها؟
أوطيفرون
:
نعم يا سقراط، بل وهنالك من الأشياء ما هو أشد عجبًا والناس عنها غافلون.
سقراط
:
وهل تعتقد حقًّا أن الآلهة كان يحارب بعضها بعضًا، وأن قد نشبت بينها معارك ومواقع
حامية، كما يقول الشعراء، وما تستطيع أن تراه مبسوطًا في تآليف الأعلام من رجال الفن؟
إن
المعابد ملأى بها، وإنك لترى بخاصة ثوب Athene — الذي يُقدَّم إلى الأكروبوليس عند Panathenaea٤ العظيمة موشًّى بها. أكل هذه القصص عن الآلهة حق يا أوطيفرون؟
أوطيفرون
:
نعم يا سقراط، وأعود فأقول إنني أستطيع أن أنبئك بأشياء كثيرة أخرى عن الآلهة
تثير منك أبلغ الدهشة إذا أنت أصغيت إليها.
سقراط
:
أودُّ هذا، ولكن أحب أن تنبئنيها في ساعة أخرى من فراغي، أمَّا الآن فأوثر أن أسمع
منك جوابًا دقيقًا لم تعطنيه حتى الآن يا صديقي عن سؤالي: ما التقوى؟ إذ إنك لم تُجِب
حين
سألتك إلا بقولك: إنها فعل ما أنت فاعل؛ أي اتهام أبيك بالقتل.
أوطيفرون
:
وما قلته لك يا سقراط حق.
سقراط
:
لست أشك في ذلك يا أوطيفرون، ولكني أحسبك مسلِّمًا بأن هنالك في التقوى أفعالًا
كثيرةً أخرى.
أوطيفرون
:
نعم هنالك.
سقراط
:
تذكر أني لم أطلب إليك أن تضرب لي للتقوى مثلين أو ثلاثة، بل أن تشرح الفكرة
العامة التي من أجلها تكون الأشياء التقية كلها تقية. ألا تذكر أن ثمة فكرة واحدة من
أجلها
كان الفاجر فاجرًا والتقيُّ تقيًّا؟
أوطيفرون
:
أذكر ذلك.
سقراط
:
أنبئني ما حقيقة هذه الفكرة، حتى يكون لديَّ معيار أنظر إليه، وأقيس به الأفعال،
سواء في ذلك أفعالك أم أفعال سواك، وحينئذٍ أستطيع أن أقول إن هذا العمل المعيَّن تقي
وإن ذلك
فاجر.
أوطيفرون
:
سأنبئك إن أردت.
سقراط
:
لشد ما أريد.
أوطيفرون
:
إذن فالتقوى هي ما هو عزيز لدى الآلهة، والفجور هو ما ليس بعزيز لديهم.
سقراط
:
جد جميل يا أوطيفرون، لقد أدليت لي الآن بالجواب الذي أردت، لكني لا أستطيع حتى
الآن أن أقرر إن كان كلُّ ما تقوله حقًّا أم لا، ولو أنني لا أشك في أنك ستقيم الدليل
على صدق
عبارتك.
أوطيفرون
:
بالطبع.
سقراط
:
إذن فتعالَ معي نختبر ما نقول، إن هذا الشيء أو هذا الشخص عزيز لدى الآلهة فهو تقي،
وذلك الشيء أو ذاك الشخص ممقوت من الآلهة فهو فاجر. فكأن التقوى والفجور طرفان يناقض
كل
واحد منهما الآخر، ألم نقُل هذا!
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
ألم نحس التعبير عنه؟
أوطيفرون
:
نعم يا سقراط، إني أعتقد ذلك، لقد قلنا ذلك من غير شك.
سقراط
:
وماذا يحدث لو اختلف الآلهة في الرأي، هذا فضلًا عما سلَّمنا به يا أوطيفرون من أن
للآلهة ما يعادونه وما يمقتونه، ومن أن بينهم شيئًا من أوجه الخلاف.
أوطيفرون
:
نعم، لقد قلنا ذلك أيضًا.
سقراط
:
وأي ضرب من الخلاف يولد العداوة والغضب؟ افرض مثلًا يا صديقي العزيز أنك اختلفت
وإياي على عدد، هل هذا النوع من الخلاف يعادي بيننا ويفرق أحدنا عن الآخر؟ ألسنا نلجأ
من
فورنا إلى الحساب ونفض ما بيننا من خلاف بعملية حسابية؟
أوطيفرون
:
هذا حق.
سقراط
:
أو هبنا اختلفنا على أطوال، ألسنا نسارع إلى القياس لنفض الخلاف؟
أوطيفرون
:
جد صحيح.
سقراط
:
كما نمحو ما بيننا من تضاد حول الثقيل والخفيف بأن نلجأ إلى آلة وازنة؟
أوطيفرون
:
لا ريب في هذا.
سقراط
:
ولكن أي أنواع الخلاف لا يمكن تسويتها على هذا النحو، وأيها إذن يُثير فينا الغضب
ويقفنا موقف العداوة أحدنا من الآخر؟ أظن أن الجواب لا يحضرك الآن؛ وعلى ذلك فأنا أبسط
رأيي
بأن هذه العداوة إنما تنشأ حينما يكون موضوع الخلاف هو العادل والظالم والخيِّر والشرير،
والشريف والوضيع. أليست هذه نقط الخلاف بين الناس والتي نشتجر بسببها؛ إذ نشتجر أنا وأنت
وكلنا جميعًا حينما نعجز عن تسوية أوجه الخلاف تسوية مُرضية؟
أوطيفرون
:
نعم يا سقراط، إن أوجه الخلاف التي نشتجر حولها هي في حقيقتها كما تصف.
سقراط
:
أي أوطيفرون النبيل! أوَليس التشاجر بين الآلهة حينما وقع هو شيء كهذا في
طبيعته؟
أوطيفرون
:
لا شك في أنه كذلك؟
سقراط
:
إن بينهم خلافًا في الرأي كما تقول عن الخيِّر والشرير والعادل والجائر والشريف
والوضيع، فلو لم يكن بينهم هذا الخلاف لما كان بينهم اشتجار، أليس كذلك؟
أوطيفرون
:
إنك جد مصيب.
سقراط
:
ألا ترى أن كل إنسان يحب ما يراه نبيلًا وعادلًا وخيِّرًا، ويمقت نقيض
هؤلاء؟
أوطيفرون
:
جد صحيح.
سقراط
:
ولكن الناس كما تقول يرون أشياء بعينها، فيعدها بعضهم عادلة، ويعدها بعضهم جائرة،
وهم يتنازعون حولها، فتنشأ لهذا بينهم الحروب والمعارك.
أوطيفرون
:
جد صحيح.
سقراط
:
إذن فأشياء بعينها يكرهها الآلهة ويحبها الآلهة، وهي ممقوتة منهم وعزيزة لديهم في
وقت معًا؟
أوطيفرون
:
صحيح.
سقراط
:
وعلى هذا الأساس تكون أشياء بعينها يا أوطيفرون تقية وفاجرة معًا؟
أوطيفرون
:
أظن ذلك.
سقراط
:
إذن فيدهشني يا صديقي العزيز أن أراك لا تجيب السؤال الذي سألتكه، فلا ريب أني لم
أطلب إليك أن تذكر لي الفعل الذي يكون تقيًّا وفاجرًا معًا، ولكن ها قد بدا لي أن الآلهة
يحبون ما يكرهون؛ وعلى ذلك يا أوطيفرون فقد يرجح أن تكون في عقابك لأبيك فاعلًا ما يرضي
«زيوس»، وما يغضب «كرونوس» أو «أورانوس» وما يقبله «هفسيتوس Hephaestus»٥ وما يرفضه «هري here»، وقد يكون هنالك من الآلهة الآخرين من يكون بينهم خلاف في
الرأي شبيه بهذا.
أوطيفرون
:
ولكني أعتقد يا سقراط أن الآلهة جميعًا سيتفقون على وجوب عقاب القاتل، فلن يكون
ثمة من خلاف في الرأي حول هذا.
سقراط
:
حسنًا، فلنتحدث عن البشر يا أوطيفرون. فهل سمعتَ قطُّ أحدًا يقيم الحجة على أنه ينبغي
أن يُطلَق سراح القاتل أو فاعل الشر أيًّا كان؟
أوطيفرون
:
إني لأقرر أن هذه هي المشاكل التي لا ينفك الناس يجادلون فيها، ولا سيَّما في
ساحات القانون. إنهم يقترفون كل ضروب الجرائم، ثم لا يحجمون عن قول أو فعل دفاعًا عن
أنفسهم.
سقراط
:
ولكن هل يعترفون بجرمهم يا أوطيفرون، ثم يزعمون ألا ينبغي أن ينزل بهم
عقاب؟
أوطيفرون
:
لا، إنهم لا يفعلون.
سقراط
:
إذن فهنالك من الأشياء ما لا يستطيعون لها قولًا ولا فعلًا؛ لأنهم لا يجرءون أن
يقيموا الدليل على وجوب إفلات المذنبين من العقاب، بل يعمدون إلى إنكار جرمهم. أليس
كذلك؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
إذن فهم لا يزعمون أن فاعل الشر لا يجوز أن يُعاقَب، ولكنهم يجادلون في مَن هو
فاعل الشر، وماذا فعل ومتى!
أوطيفرون
:
صحيح.
سقراط
:
وهذا نفسه هو موقف الآلهة إن كانوا كما تقول أنت يختلفون في العادل والجائر. وإن
كان بعضهم يُثبت أن الظلم قد يحدث بينهم بينا ينكر ذلك آخرون. فلا ريب في أن الله والإنسان
كليهما لا يجرؤان قطُّ أن يقولا إن مرتكب الظلم لا ينبغي أن يُعاقَب.
أوطيفرون
:
هذا حق في أساسه يا سقراط.
سقراط
:
ولكنهم يختلفون في التفصيلات، سواء في ذلك الآلهة والناس. فإذا كان ثمة بينهم من
نزاع فإنما يتنازعون على فعل معين يكون موضوع البحث، فيُقرر بعضهم أنه عادل ويُثبت الآخرون
أنه جائر. أليس ذلك صحيحًا؟
أوطيفرون
:
إنه جد صحيح.
سقراط
:
إذن فأنبئني — أي عزيزي أوطيفرون — فذلك أقْوَم لتعليمي وإرشادي، أيَّ برهان تقيم على
أن بين آراء الآلهة كلهم إجماعًا على أن خادمًا جريمته القتل فكبله بالأغلال سيد القتيل،
فمات بفعل الأغلال قبل أن يعلم مكبِّله من رسل الله ماذا ينبغي أن يفعل به، يكون قد مات
ظلمًا؟ وأي برهان تقيم على أن ابنًا ينبغي أن يقيم على أبيه الدعوى نيابة عن مثل ذلك
الخادم، مُتَّهِمًا إياه بالقتل؟ كيف تبرهن على أن الآلهة جميعًا تتفق اتفاقًا تامًّا
على قبول
فعله؟ أقِمْ لي الدليل على أنهم يفعلون ذلك أمدح لك فعلتَك ما حَيِيت.
أوطيفرون
:
إنه عمل مُضنٍ، ولكني أستطيع أن أوضح لك الأمر وضوحًا تامًّا.
سقراط
:
أفهم ما تقول؛ فأنت تريد أني لست سريع الفهم كالقضاة؛ إذ حُتِّم عليك أن تبرهن لهم
على أن الفعل جائر ومكروه من الآلهة.
أوطيفرون
:
نعم يا سقراط، لا شك في هذا، ولا سيَّما إن أنصتوا لما أقول.
سقراط
:
إنهم لا بد منصتون إن رأوا أنك متكلم قدير. لقد اختلجتْ في نفسي فكرة إذ كنت تتحدث.
قلت لنفسي ماذا عسى أن أفيد إن أقام لي أوطيفرون الدليل على أن الآلهة جميعًا يَعدُّون
موت
العبد ظلمًا؟ كيف يزيدني ذلك علمًا عن حقيقة التقوى والفجور؟ إذ لو سلَّمنا أن هذا الفعل
قد
يكون مكروهًا من الآلهة؛ فليس هذا التحديد تعريفًا دقيقًا للتقوى والفجور، فلقد رأينا
أن ما
تكرهه الآلهة هو في نفس الوقت سارٌّ لهم وعزيز لديهم؛ وعلى ذلك فلا أطلب إليك يا أوطيفرون
أن
تقيم على هذا دليلًا، وسأفرض — إن أردت — أن الآلهة جميعًا تنكر مثل هذا الفعل وتمقته،
ولكني سأعدِّل التعريف بحيث يكون أن ما يُجمع الآلهة على كرهه فهو فاجر، وأن ما يحبونه
تقي
مقدَّس، وأن ما يحبه بعضهم ويكرهه بعضهم الآخر فهو تقي وفاجر معًا، أو لا هو هذا ولا
ذاك؛ فهل
توافق على هذا التعريف للتقوى والفجور؟
أوطيفرون
:
لِمَ لا أوافق يا سقراط؟
سقراط
:
لِمَ لا توافق! يقيني يا أوطيفرون أن ليس ثمة ما يبرر — فيما أعلم — ألا يكون
التعريف هكذا. أمَّا هل يفيدك قبول هذا التعريف فائدة عظيمة في تعليمي الذي وعدتني به،
فذلك
أمر موكول لك النظر فيه.
أوطيفرون
:
نعم، ينبغي أن أقول إن ما تُجمع الآلهة على حبه تقي مقدَّس، وإن نقيضه الذي يُجمعون
على كرهه فاجر.
سقراط
:
هل يجب علينا أن نبحث في صحة هذا يا أوطيفرون، أم نسلِّم بالعبارة تسليمًا، متخذين
من أنفسنا ومن سوانا حجة نعتمد عليها؟ ماذا ترى؟
أوطيفرون
:
يجب أن نبحثها، وأعتقد أن العبارة ستصمد لتجربة البحث.
سقراط
:
أي صديقي العزيز! لن تمضي برهة قصيرة، حتى نزداد علمًا، غير أني أود أن أعلم قبل
كل شيء إذا كان التقي أو المقدَّس محببًا لدى الآلهة لأنه مقدَّس، أم أنه مقدَّس لأنه
محبب
لديهم.
أوطيفرون
:
لا أفهم ما تريد يا سقراط.
سقراط
:
سأحاول الشرح: إننا نفرق في حديثنا بين أن تَحملَ وأن تُحملَ، وبين أن تقود وأن
تقاد، وبين أن تَرى وأن تُرى، وإنك لتعلم أن ثمة اختلافًا في هذه الحالات جميعًا، كما
تعلم
كذلك مواضع هذا الخلاف؟
أوطيفرون
:
أحسبني أفهم ما تقول.
سقراط
:
ثم أليس المحبوب متميِّزًا من المحب؟
أوطيفرون
:
يقينًا.
سقراط
:
هذا جميل، إذن فحدِّثني أيكون الشيء المحمول في حالة الحمل لأنه محمول أم لسبب
آخر؟
أوطيفرون
:
كلا، بل لهذا السبب.
سقراط
:
وهل هذا صحيح بالنسبة لما يُقاد وما يُرى؟
أوطيفرون
:
حقًّا.
سقراط
:
ولا يكون الشيء مرئيًّا لأن في الإمكان رؤيته، بل على العكس هو ممكن الرؤية لأنه
مرئي، كما لا يكون الشيء منقادًا لأنه في حالة الانقياد، أو محمولًا لأنه في حالة الحمل،
بل
العكس هو الصحيح. أظن يا أوطيفرون أن ما أقصده أصبح يسير الفهم. وإنما أقصد أن أية حالة
من
حالات الفعل أو العاطفة تتضمن فعلًا أو عاطفةً سابقةً لها؛ فالشيء لا يتحول لأنه متحول
ولكنه في حالة التحول لأنه يتحول، كما أن الشيء لا يتألم لأنه في حالة الألم، ولكنه في
حالة
الألم لأنه يتألم، ألا توافق؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
ألا يكون الشيء المحبوب في حالة من حالات التحول أو الألم؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
وما مر بنا في الأمثلة السابقة صحيح هنا، فحالة كون الشيء محبوبًا تتبع فِعْلَ
كونه محبوبًا، ولكن لا يتبع الفعلُ الحالةَ.
أوطيفرون
:
يقينًا.
سقراط
:
وماذا تقول عن التقوى يا أوطيفرون؟ أليست التقوى بناء على تعريفك محبوبة لدى الآلهة جميعًا؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
لأنها تقية أو مقدَّسة أم لسبب آخر؟
أوطيفرون
:
لا، بل لهذا السبب.
سقراط
:
إنها محبوبة لأنها مقدَّسة وليست مقدَّسة لأنها محبوبة؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
وما هو عزيز لدى الآلهة يكون محبوبًا لديهم، وهو في هذه الحالة من حب الآلهة له
لأنه محبوب لديهم؟
أوطيفرون
:
يقينًا.
سقراط
:
إذن فما هو عزيز لدى الآلهة، أي أوطيفرون، ليس مقدَّسًا، ولا ما هو مقدَّس محبوب لدى
الله، كما تقرر أنت، ولكنهما شيئان مختلفان.
أوطيفرون
:
ماذا تريد يا سقراط؟
سقراط
:
أريد أننا قد سلَّمنا بأن المقدَّس محبوب لدى الله لأنه مقدَّس، وليس هو مقدَّسًا لأنه
محبوب.
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
أما ما هو عزيز لدى الآلهة فهو عزيز لأنه محبوب، وليس هو محبوبًا لأنه
عزيز.
أوطيفرون
:
حقًّا.
سقراط
:
ولكن يا صديقي أوطيفرون إذا كان ما هو مقدَّس نفسَ ما هو عزيز لدى الله، وكان
محبوبًا لأنه مقدَّس، لكان ما هو عزيز لدى الله محبوبًا لأنه عزيز لدى الله. أمَّا إذا
كان ما
هو عزيز لدى الله عزيزًا لأنه محبوب لديه، لكان ما هو مقدَّس مقدَّسًا لأنه محبوب لديه.
ولكنك
ترى أن الأمر على عكس ذلك، وأنهما مختلفان أشد الخلاف أحدهما عن الآخر؛ فأولهما من نوع
يُحَبُّ لأنه محبوب، وأمَّا الثاني فمحبوب لأنه من نوع يُحَبُّ. وهكذا يلوح لي يا أفلاطون،
حين أسألك عن جوهر القداسة، أنك تجيبني بالعَرَض فقط لا بالجوهر؛ أعني عَرَض كونها محبوبة
لدى الآلهة جميعًا، ثم إنك لتأبى مع ذلك أن تشرح لي حقيقة القداسة، ولهذا أتوسل إليك
أن
تتفضل عليَّ، فلا تخفِ كنزك عني، وأن تنبئني مرة أخرى ما حقيقة القداسة أو التقوى؟ هل
هي
عزيزة لدى الآلهة أم لا (فذلك أمر لن نشتجر فيه) ثم ما الفجور؟
أوطيفرون
:
حقًّا يا سقراط، لست أدري كيف أعبر عما أريد؛ إذ يلوح أن براهيننا تدور ثم تفلت
مِنَّا، على نحو لا أدريه، أيًّا كان الأساس الذي نقيمها عليه.
سقراط
:
ألا إن ألفاظك يا أوطيفرون لشبيهة بنسجِ سَلَفِي ديدالوس Deadalus،٦ ولو كنتُ أنا قائلها أو موحيها لجاز لك أن تقول إن براهيني تفر ولا تستقر حيث
وُضعت لأنني من سلالة ديدالوس. أما والآراء آراؤك أنت فينبغي أن تلتمس سخرية أخرى، فآراؤك
بغير شك مضطربة كما اعترفت بنفسك.
أوطيفرون
:
لا يا سقراط؛ فما أزال أزعم أنك أنت ديدالوس الذي يُحدِث في البراهين الاضطراب،
فلست أنا، ولا ريب، الذي يقلقها، ولكنك أنت الذي تضطرها أن تتحرك أو تدور. ولو كان أمرها
بيدي وحدي لما أصابها اضطراب قط.
سقراط
:
إذن فلا بد أن أكون أعظم من ديدالوس؛ إذ بَيْنَا هو لم يستطع أن يحرك إلا ما صنعتْ
يداه، تراني أحرك صنائع سواي. ولكن الجميل في الأمر هو أنني لا أودُّ أن أفعل ذلك، بل
إني
لأستغني عن حكمة ديدالوس وثروة تانتالوس Tantalus٧ إن أتيح لي أن أمسكها (أي الصنائع) وأقوِّي دعائمها. ولكن دعْ هذا فسأحاول بنفسي
أن أدلك كيف تعلِّمني حقيقة التقوى؛ لأني أراك كسولًا. وأرجو ألا تتذمر من العمل. حدِّثني
إذن، هل العدل والتقوى شيء واحد أم التقوى جزء من العدل؟ أليس ما هو تقي عادلًا
بالضرورة؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
ثم أليس كل ما هو عادل تقيًّا؟ أو أليس ما هو تقي عادلًا كله، أمَّا ما هو عادل
فتقي بعضه فقط لا كله؟
أوطيفرون
:
لست أفهمك يا سقراط.
سقراط
:
ومع ذلك فأنا أعلم أنك أحكم مني بقدر ما أنت أصغر مني، ولكني أعود فأقول، أي صديقي
المحترم، إن غزارة حكمتك ولَّدت فيك الكسل. أرجو أن تُجهد نفسك؛ فالحق أن ليس فهم قولي
عسيرًا، وأستطيع أن أشرح لك ما أريد بمَثَلٍ مما لا أريد؛ فقد أنشد الشاعر «ستاسينوس» Stasinus٨ قائلًا:
أمَّا أنا فلست أوافق هذا الشاعر. أأنبئك في أي شيء أخالفه؟
إنك لن تروي شيئًا عن زيوس، مبدع
هذه الأشياء كلها وخالقها؛ إذ حيث
يكون الخوف يكون التقديس إلى جانبه
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
لست أرى أنه حيث يكون الخوف يكون إلى جانبه التقديس لأنني على يقين أن كثيرًا من
الناس يخشى الفقر والمرض وسائر هذه الشرور، ولكني لا أراهم يقدسون ما يخشون.
أوطيفرون
:
جد صحيح.
سقراط
:
ولكن حيث يكون التقديس يكون الخوف لأن من يحس شعور التقديس والعار من ارتكاب فعل
ما، يخاف ويخشى سوء الأحدوثة.
أوطيفرون
:
لا شك.
سقراط
:
إذن فنحن مخطئون في قولنا إنه حيث يكون الخوف يكون التقديس أيضًا. ويجب أن نقول
إنه حيث يكون التقديس يوجد الخوف كذلك. ولكنك لا ترى التقديس دائمًا حيث ترى الخوف؛ لأن
الخوف فكرة أوسع والتقديس جزء من الخوف، كما أن الفردي جزء من العدد والعدد فكرة أوسع
من
الفردي. أظن أنك تدري الآن ما أقول؟
أوطيفرون
:
أدركه تمام الإدراك.
سقراط
:
ذلك هو نوع السؤال الذي أردت أن أثيره حين سألتك هل العادل تقي دائمًا، أم التقي
دائمًا عادل. وهل من الجائز ألا تكون عدالة حيث لا تكون التقوى؛ لأن العدالة فكرة أوسع،
وليست التقوى إلا جزءًا منها. أأنت مخالفي في هذا؟
أوطيفرون
:
لا، أظن أنك على حق تام.
سقراط
:
إذن، فإذا كانت التقوى جزءًا من العدالة؛ فأحسب أن واجبنا أن نبحث أي جزء هو؟ إذا
أنت تابعت البحث في الأحوال السالفة، فسألتني مثلًا ما العدد الزوجي، وأي جزء من العدد
تُرى
يكون الزوجي، لما ألفيت عسرًا في الجواب بأنه العدد الذي يمثِّل رقمًا له جانبان متساويان.
ألست توافق؟
أوطيفرون
:
نعم، إني موافقك تمامًا.
سقراط
:
وعلى مثل هذا النحو، أريد أن تنبئني أي جزء من العدالة ترى تكون التقوى أو
القداسة؛ لكي أستطيع أن أطلب إلى مليتس ألا يأخذني بالظلم أو يتهمني بالفجور ما دمت الآن
قد
تزودت منك بعلم صحيح عن طبيعة التقوى أو القداسة ونقيضها!
أوطيفرون
:
يلوح لي أن التقوى أو القداسة يا سقراط هي ذلك الجزء من العدالة الذي نخدم به
الله، وأمَّا الجزء الآخر من العدالة فنخدم به صالح الناس.
سقراط
:
هذا حسن يا أوطيفرون، ولكن لا تزال عندي مسألة يسيرة أريد أن أستزيد بها علمًا. ما
معنى «الخدمة»؟ إذ من العسير أن تطلق لفظ الخدمة، حين تتحدث عن الآلهة، بنفس المعنى الذي
تطلقه به حين تتحدث عن سائر الأشياء. فيُقال مثلًا إن الجياد بحاجة إلى الخدمة، وليس
كل
إنسان قادرًا أن يخدمها، إنما يستطيع ذلك الشخص الماهر في سياسة الجياد دون غيره. أليس
كذلك؟
أوطيفرون
:
يقينًا.
سقراط
:
وأنا أظن أن فن سياسة الجياد هو فن خدمتها؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
كذلك ليس كل إنسان قادرًا على خدمة الكلاب، إنما الكفء لذلك هو الصائد
وحده؟
أوطيفرون
:
صحيح.
سقراط
:
وأرى أيضًا أن فن الصائد هو فن خدمة الكلاب؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
كما أن فن راعي الأبقار هو فن خدمتها؟
أوطيفرون
:
جد صحيح.
سقراط
:
وهل على هذا النحو نفسه تكون القداسة أو التقوى هي فن خدمة الآلهة؟ أذلك ما قصدت
إليه يا أوطيفرون؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
وهلا يُقصَد دائمًا بالخدمة أن تكون لخير أو لنفع المخدوم؟ فكما رأيت في حالة
الجياد أنها حين وُجهت إليها خدمة السائس، أفادت وتحسنت، أليس كذلك؟
أوطيفرون
:
صحيح.
سقراط
:
كما تستفيد الكلام من فن الصائد، والثيران من فن راعيها، وسائر الأشياء جميعًا
تتجه أو تُوَجَّه لخيرها لا لأذاها؟
أوطيفرون
:
يقينًا إنها لن تتجه لأذاها.
سقراط
:
ولكن لخيرها؟
أوطيفرون
:
بالطبع.
سقراط
:
وهل التقوى أو القداسة التي عرفناها بأنها فن خدمة الآلهة، تنفعها أو تُقوِّمها؟
هل تزعم أنك حين تؤدي شعيرة تصلح شأن واحد من الآلهة؟
أوطيفرون
:
لا، لا. يقينًا لم يكن ذلك ما قصدتُ إليه.
سقراط
:
وأنا يا أوطيفرون لم أفرض قطُّ أنك قصدتَ إلى ذلك، لقد وجهتُ إليك سؤالي عن طبيعة
الخدمة لأنني كنت أظن أنك لم تقصد إلى مثل هذا.
أوطيفرون
:
لقد أنصفتني يا سقراط، ليس هذا هو نوع الخدمة التي أُريد.
سقراط
:
جميل، ولكن ينبغي لي أن أعود فأسألك ما تلك الخدمة للآلهة التي تُسَمَّى
بالتقوى؟
أوطيفرون
:
إنه يا سقراط ذلك النوع من الخدمة الذي يؤديه الخَدَمَةُ لسادتهم.
سقراط
:
أفهم ما تريد. نوع من الخِدْمَة للآلهة.
أوطيفرون
:
هو كذلك.
سقراط
:
والطب أيضًا ضربٌ من الخدمة التي يُقصَد منها الوصول إلى غرض معين — إلى الصحة —
أليس كذلك؟
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
كذلك هنالك فن يخدم صانع السفن يُقصَد به الوصول إلى نتيجة معينة.
أوطيفرون
:
نعم يا سقراط، يُقصَد به بناء السفينة.
سقراط
:
كما أن هنالك فنًّا يخدم البناء، وهو يرمي إلى تشييد الدور.
أوطيفرون
:
نعم.
سقراط
:
والآن حدِّثني يا صديقي العزيز عن الفن الذي يخدم الآلهة، أي غرض يعمل ذلك الفن
على أدائه، فلا ريب في أنك بذلك عليم، إذا كنت بين الأحياء من الرجال أكثرهم علمًا بالدين
كما تقول.
أوطيفرون
:
وإنما أقول الحق يا سقراط.
سقراط
:
حدِّثني إذن، نعم حدِّثني ما هو العمل الجميل الذي تؤديه الآلهة بفضل خدماتنا
لهم؟
أوطيفرون
:
إنهم يعملون يا سقراط أعمالًا كثيرةً وجميلةً.
سقراط
:
وكذلك القائد يا صديقي، فإنه يعمل أعمالًا كثيرةً وجميلةً، ولكن من اليسير أن نذكر
أهم أعمال القائد، ألست ترى أن النصر في الحرب هو أهم أعماله؟
أوطيفرون
:
يقينًا.
سقراط
:
وكذلك أعمال الزارع كثيرة وجميلة، إذا لم أكن مخطئًا، ولكن عمله الرئيسي هو إنتاج
الطعام من الأرض.
أوطيفرون
:
هو كذلك.
سقراط
:
ومن الأشياء الكثيرة الجميلة التي يؤديها الآلهة، أيُّها الرئيسيُّ الهام؟
أوطيفرون
:
لقد أنبأتك فيما سلف يا سقراط أن الإحاطة بكل هذه الأشياء على وجه الدقة جد
مضنية، ولأقُل لك في بساطة إن التقوى أو القداسة هي أن تعلم كيف تَسُرُّ الآلهة في القول
والعمل بالصلاة والضحايا، وفي مثل هذه التقوى خلاص الأسرات والدول، كما أن دمارها وخرابها
هما في العمل الفاجر الذي يُغضب الآلهة.
سقراط
:
أظنك كنت تستطيع أن تجيب في عبارة أوجز بكثير من هذه — لو أردت — عن السؤال
الرئيسي الذي وجهتُه إليك يا أوطيفرون، ولكني أرى في وضوح أنك لا تريد أن تعلمني، فذلك
جلي،
وإلا فلماذا درت بالحديث إذ بلغنا بيت القصيد، فلو أنك أجبتني إذن لعلمت بحقٍّ طبيعة
التقوى،
ولما كنت باعتباري سائلًا متعمِّدًا بالضرورة على المجيب فلا بد أن أتبعه إلى حيث يقودني.
فلا يسعني إلا أن أُعيد السؤال: ما التقيُّ وما التقوى؟ أتريد أن تقول إنهما ضربٌ من
علم
الصلاة والتضحية؟
أوطيفرون
:
نعم، إني أريد ذلك.
سقراط
:
والتضحية هي قربان للآلهة، والصلاة طلب منهم.
أوطيفرون
:
نعم يا سقراط.
سقراط
:
وعلى هذا الأساس إذن تكون التقوى هي علم الأخذ والعطاء؟
أوطيفرون
:
إنك تفهمني الآن يا سقراط فهمًا جيِّدًا.
سقراط
:
نعم يا صديقي، وعلة ذلك أنني تلميذ متحمس لعلمك؛ فأنا ألقي بالي إليه؛ وعلى ذلك
فلن يفلت مني شيء مما تقول. تفضَّل إذن فنبئني ما طبيعة هذه الخدمة للآلهة؟ أهي في رأيك
تَقَدُّمُنا إليهم بالرجاء وتقديمنا لهم العطايا؟
أوطيفرون
:
نعم هذا ما أعني.
سقراط
:
أليست الوسيلة الصحيحة لرجائهم هي أن نطلب منهم ما نريد.
أوطيفرون
:
يقينًا.
سقراط
:
والوسيلة الصحيحة للعطاء هي أن نعطيهم في المقابل ما يريدونه مِنَّا، فلا خير في
فن يعطي لأي أحد ما لا يريد.
أوطيفرون
:
جد صحيح يا سقراط.
سقراط
:
إذن فالتقوى يا أوطيفرون هي فن لدى الآلهة والناس، يتصلون به فريق بفريق.
أوطيفرون
:
نستطيع أن نستخدم هذا التعبير — إن أردت.
سقراط
:
ولكني لست حريصًا على حب شيء غير الحق، ومع ذلك فأحب أن تدلُّني أي نفع تجنيه
الآلهة من عطايانا؟ فليس من شك في نفع ما يعطوننا إياه؛ إذ ليس ثمة من خير لا يهبوننا
إياه.
أمَّا كيف نستطيع نحن أن نعطي لهم خيرًا في مقابل ما أعطونا فأبعد ما يكون عن هذه الدرجة
من
الوضوح. فإذا كانوا يعطوننا كل شيء ولا نعطيهم شيئًا فذلك مبادلة لنا فيها الصفقة من
دونهم.
أوطيفرون
:
وهل يُخيَّلُ إليك يا سقراط أن الآلهة تجني من عطايانا نفعًا ما؟
سقراط
:
فإن كانوا لا يجنون شيئًا يا أوطيفرون؛ فأي معنًى لما نقدم لهم من العطايا؟
أوطيفرون
:
ليس ذلك إلا جزية الشرف، وهو كما أسلفت لك القول يسرُّ الآلهة.
سقراط
:
التقوى إذن تسر الآلهة، ولكنها ليست بنافعة لهم أو عزيزة لديهم؟
أوطيفرون
:
إني أرى أنه ليس ثمة ما هو أعز لدى الآلهة منها.
سقراط
:
وإذن فأنت تعيد القول مرة أخرى بأن التقوى عزيزة لدى الآلهة.
أوطيفرون
:
يقينًا.
سقراط
:
أوَتعجَب وأنت تقول هذا إذ ترى عبارتك لا تَثبُتُ بل تعمد إلى الهروب؟ أتتهمني
بأني «ديدالوس» الذي يؤدي بها إلى الهروب، ولا تدرك أن ثمة فنانًا آخر أعظم جِدًّا في
فنه
من ديدالوس؟ فهو يجعلها تدور في دائرة، وذلك الفنان هو أنت؛ لأن البحث كما ترى يدور إلى
حيث
بدأ. ألم نقل إن المقدَّس أو التقي ليس هو بنفسه ما تحبه الآلهة؟ أنسيت؟
أوطيفرون
:
أذكر جَيِّدًا.
سقراط
:
ثم ألا تقول الآن إن ما تحبه الآلهة مقدَّس؟ ثم أليس ذلك نفسه ما هو عزيز لديهم؟ هل
ترى؟
أوطيفرون
:
صحيح.
سقراط
:
إذًا فقد أخطأنا فيما قررناه سالفًا، وإلا فإن كُنَّا قد أصبنا فنحن مخطئون
الآن.
أوطيفرون
:
أحد الاثنين صحيح بغير شك.
سقراط
:
فإذن فلنبدأ من جديد ونتساءل: ما التقوى؟ ذلك بحث لن أملَّ قطُّ من متابعته ما
استطعتُ إلى ذلك سبيلًا. وأتوسل إليك ألَّا تهزأ مني بل أن تشحذ ذهنك وتنبئني بالحقيقة
لأنه
إن كان بين الناس من يعلم فهو أنت؛ وعلى ذلك فلا بدَّ أن أحتجزك مثل «بروتيوس Proteus»٩ حتى تخبرني؛ فلست أشك أنك لو لم تكن تعلم علم اليقين طبيعة التقوى والفجور لما
اتهمتَ قطُّ أباك الشيخ نيابةً عن العبد بتهمة القتل. إنك لو لم تكن تعلم ذلك لما استهدفتَ
لمثل
هذا الخطر؛ أعني ارتكاب الخطأ عن مرأًى من الآلهة، ولاحترمت آراء الناس احترامًا عظيمًا.
لذلك فأنا على يقين أنك عليم بطبيعة التقوى والفجور. أبْدِ علمك إذن يا صديقي أوطيفرون
ولا
تُخْفِه.
أوطيفرون
:
في وقت آخر يا سقراط؛ لأنني عجلان ولا بد أن أذهب الآن.
سقراط
:
وا أسفاه يا رفيقي. وهل تُخلِّفُني في يأس؟ لقد كنت أؤمل أنك ستعلمني طبيعة التقوى
والفجور. وعندئذٍ أستطيع أن أبرئ نفسي من مليتس ومن دعواه. كنت سأقول له: إنني استنرت
بأوطيفرون ونبذت بدَعي وتأملاتي الطائشة التي انغمست فيها بسبب الجهل. وإنني أوشك الآن
أن
أحيا حياة أفضل.
١
Lyceum اسم ملعب وحديقة تخترقهما المماشي المعروشة بالقرب من معبد «أبولو» في
أثينا، وفي ذلك المكان كان أرسطو يعلِّم تلاميذه وهم مشاة إلى جانبه؛ ومن هنا سُمِّيَت
مدرسته الفلسفية بمدرسة المشَّائين، ولقد استُخدم هذا الاسم في كثير من اللغات الحديثة
بمعنى معهد.
٢
يريد: هل المتهم حاضر البديهة ماهر في التخلص؟!
٣
Naxos جزيرة في بحر إيجه تُعرَف بخصب تربتها ووفرة محصولها، وبخاصة في الكروم
وما يُستخرَج منها من نبيذ؛ ولهذا جُعلتْ مركزًا لعبادة إله الخمر «باكوس Bacchus».
٤
Panathenaea أقدم الأعياد الأثينية، وأهمها، وقد كان في بادئ الأمر احتفالًا
دينيًّا يُقام إجلالًا للإلهة «أثينا» حامية مدينة أثينا؛ فلما وحد ثيسيوس Theseus
البلاد كلها تحت حكومة واحدة جعل الاحتفال بإلهة مدينة أثينا عيدًا عامًّا للدولة كلها،
وغيَّر الاسم القديم «أثينى» فجعله «بان أثينى». يُلاحَظ أن المقطع الأوَّل Pan
معناه وحدة أو جامعة.
٥
Hephaestus هو إله النار في الأساطير اليونانية القديمة.
٦
Deadalus تقول الأساطير اليونانية إنه مَثَّال قديم، وقد نُسبت إليه آثار في
العمارة كثيرة. تروي الأساطير أنه لما غضب عليه أحد الآلهة صنع لنفسه ولابنه أجنحة
وطارا إلى صقلية. وكان اليونان القدماء ينسبون إليه كل بناء أو تمثال لم يُعرف له
صانع. والحقيقة أن اسم «ديدالوس» رمز فقط يرمز إلى مرحلة من مراحل الفن عند اليونان
حيث كان الخشب هو المادة الأساسية في فن النحت.
٧
Tantalus هو في الأساطير اليونانية ابن زيوس، فكان يحضر اجتماعات الآلهة، غير
أنه أذاع بين الناس بعض الأسرار الإلهية، كما يُروَى عنه أنه قتل ابنه وقدمه طعامًا
للآلهة ليختبر ما لهم من قوة الملاحظة. من أجل هذا وغيره من التهم، قضى عليه الآلهة
أن يقف في الماء حتى العنق، وأن تتدلى فوق رأسه عناقيد الفاكهة، فإذا أراد أن يجرع
من الماء الذي حوله أفلت منه الماء، وإذا أراد أن يطعم من الفاكهة التي فوق رأسه
بعدت عنه ولم تمكِّنه من أخذها.
٨
Stasninus شاعر قديم يُقال إنه كتب ملحمة في أحد عشر فصلًا، والمفروض أن
ملحمته تلك (واسمها Cypira) كانت أسبق من إلياذة هومر.
٩
Proteus تروي الأساطير اليونانية أنه رجل كهل كان يعيش في البحر، وقد اشتهر
بقدرته على التنبؤ. ويقول «هومر» إنه كان يعيش في جزيرة «فاروس Pharos» بالقرب من
مصب النيل. كان اليونان يعتقدون أنه يعلم كل أحداث الماضي وكل ما يقع في الحاضر وما
تخبئه الأيام في المستقبل، غير أنه لم يكن يرضى أن يبوحَ بشيء مما يعرف، فإذا أراد
أحد أن يستفسره شيئًا، داهمه في منتصف النهار في كهفه الذي كان يقضي به عادةً ساعة
القيلولة، ثم ربطه وأوثق قيوده حتى لا يفلت منه قبل أن يصرح له بما جاء يستفسر
عنه.