سنة ثمانٍ وعشرين ومايتين وألف (١٨١٣م)
استهل المحرم بيوم الاتنين (سنة ١٢٢٨)
فيه وصل الخبر من الجهة القبلية بأن إبراهيم بك ابن الباشا قبض على أحمد أفندي ابن حافظ أفندي الذي بيده دفاتر الرزق الإحباسية وشنقه، وضرب قاسم أفندي ابن أمين الدين كاتب الشهر عَلْقَةً قوية، وكان والده يصحبهما معه ليباشرا معه الأمور ويعرفاه الأحوال، وكان قاسم أفندي خصيصًا به مثل الوزير والصاحب والنديم، ورتب له الباشا في كل سنة تمانين كيسًا خلاف الخروج والكساوي، وشرط عليه المناصحة في كشف المستورات وما يكون فيه تحصيل الأموال، فكأنه قصر في كشف بعض الأشيا وأرسل إلى والده يعلمه بخيانته هو وكاتب الأرزاق، وأنهما منهمكان في ملاذِّهما، فأذن له في فعله بهما ما ذكر، وأخذ ما كانا جمعاه لأنفسهما، وأظهر أنه إنما فعل ذلك بهما عقوبة على ارتكابهما المعصية.
وفي عشرينه حضر إبراهيم بك المذكور إلى مصر وفيه حصلت منافسة بين حسين أفندي الروزنامجي وبين شخصين من كتَّابه، وهما مصطفى أفندي باش جاجرت وقيطاس أفندي، ولعل ذلك بإغراء باطني على حسين أفندي، فرفعا أمرهما إلى الباشا وعرفاه عن مصارف وأمور يفعلها حسين أفندي ويخفيها عن الباشا، وأنه إذا حوسب على السنين الماضية يطلع عليه ألوف من الأكياس، فعندما سمع ذلك أمرهما بمباشرة حسابه عن أربع سنوات متقدمة، فخرجا من عنده وأخذا صحبتهما مباشرًا تركيًّا، ونزلوا على حسين غفلة بعد العصر وتوجهوا إلى منزل أخيه عثمان أفندي السروجي، ففتحوا خزانة الدفاتر وأخذوها بتمامها إلى بيت ابن الباشا إبراهيم بك الدفتردار.
واجتمعوا في صبحها للمحاققة والحساب مع أخيه عثمان أفندي المذكور، واستمروا في المناقشة والمحاققة عدة أيام مع المرافعة والميل الكلي على حسين أفندي، ويذهبون في كل ليلة يخبرون الباشا بما يفعلون وبالقدر الذي ظهر عليه فيعجبه ذلك ويثني عليهما ويحرضهما على التدقيق، فتنتفخ أوداجهما ويزيدان في الممانعة والمدافعة والمرافعة في الحساب، وحسين أفندي على جليته ويظن أنه على عادته في كونه مطلق التصرف في الأموال الميرية، ويبلغها إذا سيل فيها للقايم بالدولة إيرادًا ومصرفًا ليكون إجمالًا لا تفصيلًا لكونه أمينًا وعَدْلًا، وكان الإيراد والمصرف محررًا أو مضبوطًا في الدفاتر التي بأيدي الأفندية الكتَّاب ومن انضم إليهم من كتَّاب اليهود في دفاترهم أيضًا بالعبراني، لتكون كل فرقة شاهدة وضابطة على الأخرى.
فلما استقل هذا الباشا بمملكة الديار المصرية، واستغول في تحصيل الأموال بأي وجه، واستحدث أقلام المكوس وجعلها في دفاتر تحت أيدي الأفندية وكتبة الروزنامة، فصارت من جملة الأموال الميرية في قبضها وصرفها وتحاويلها، والباشا مرخي العنان للروزنامجي ومرخص له في الإذن والتصرف، والروزنامجي كذلك مرخي العنان لأحد خواص كتَّابه المعروف بأحمد اليتيم لفطانته ودرايته، فكان هو المشار إليه من دون الجميع، ويتطاول عليهم ويمقت من فعل فعلًا دون إطلاعه، وربما سبه ولو كان كبيرًا أو أعلى منزلة منه في فنه، فيمتلي غيظًا وينقطع عن حضور الديوان فيهمله ولا يسأل عنه، والأفندي الكبير الذي لا يخرج عن رأيه لكونه سادًّا مسد الجميع، فدبروا على أحمد أفندي المذكور وحفروا له وأغروا به حتى نكبه الباشا، وصادره في تمانين كيسًا، ومخدومه حسين أفندي في أربعماية كيس.
وانقطع أحمد أفندي عن حضور الديوان وتقدم المتأخر وضم الباشا إلى ديوانهم من طرفه خليل أفندي، وسموه كاتب الذمة، بمعنى أنه لا يكتب تحويلًا ولا ورقة ميري ولا خلاف ذلك مما يسطر في ديوانهم حتى يطلع عليه خليل أفندي المذكور ويرسم عليه علامته، فأحاط علمه بجميع أسرارهم، وكل قليل يستخبر منه الباشا فيحيطه بمعلوماته، ولم يزل حتى تحول ديوانهم وانتقل إلى بيت خليل أفندي تجاه منزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية، وترأس بالديوان قاسم أفندي كاتب الشهر وقريبه قيطاس أفندي ومصطفى أفندي باش جاجرت، وبعد مدة أشهر سافر إبراهيم بك وأخذ صحبته قاسم أفندي على الصورة المتقدمة.
والروزنامجي وولده محمد أفندي يراعيان جانب رفيقيه ولا يتعرضان لهما فيما يتصدران له ويضمنانه في عهدتهما، فلما وصل الخبر بنكبة إبراهيم بك لقاسم أفندي فعند ذلك قصرا معهما، وأظهر ابن الروزنامجي مكمون غيظه في حقهما، ومانعهما أيضًا وخشن القول لهما، فاتفقا على إنهاء الحال إلى باب الباشا ففعلا ما ذكر.
وكان حسين أفندي عندما استأذن الباشا في صرف الجامكية السايرة للعامة والخاصة، فأذن له صرف ما يتعلق بمشايخ العلم والأفندية الكتبة والسيد محمد المحروقي بالكامل وما عداهم ربع استحقاقهم، وكتب له فرمانًا بذلك، فقال له الروزنامجي: في بعضهم من يستحق المراعاة كبعض أهل العلم الخاملين، وأهل الحرمين المهاجرين ومستوطنين بمصر بعيالهم، وليس لهم إيراد يتعيشون منه إلا ما هو مرتب لهم من العلايف في كل سنة، وكذلك بعض الملتزمين الذين اعتادوا سداد ما عليهم من الميري، وبعضه بما لهم من الإتلافات والعلايف والغلال، فقال له: النظر في ذلك لرأيك، فإن هذا الشي يعسر ضبط جزئياته، فاعتمد ذلك وطفق يفعل في البعض بالنصف والبعض بالثلث أو الثلثين، وأما العامة والأرامل فيصرف لهم الربع لا غير حسب الأمر، ويقاسون في تحصيل ربع استحقاقهم الشدايد من السعي وتكرار الذهاب والتسويف والرجوع في الأكثر من غير شي مع بُعد المسافة، وفيهم الكثير من العواجز فلما ترافعوا في الحساب مانع المتصدر فيما زاد على الربع، وطلع إلى الباشا فعرفه بذلك، فقال الباشا: لا تخصموا له إلا ما كان بإذني وفرماني، وما كان بدون ذلك فلا، وأنكر الحال السابق منه له، وقال: هو متبرع فيما فعله، فتأخر عليه مبلغ كبير في مدة أربع سنوات.
وكذلك كان يحول عليه حوالات لكبار العسكر برسول من أتباعه، فلا يسعه الممانعة ويدفع القدر المحول عليه بدون فرمان اتكالًا على الحالة التي هو معه عليها، فرجعوا عليه في كثير من ذلك وتأخر عليه مبلغ كبير أيضًا فتمموا حساب سنة واحدة على هذا النسق فبلغت نحو الألف كيس ومايتي كيس وكسور تبلغ في الأربع سنوات خمسة آلاف كيس، فتقلق حسن أفندي وتحير في أمره وزاد وسواسه ولم يجد مغيثًا ولا شافعًا ولا دافعًا.
وفي أواخره عمل الباشا مهمًا لختان ابن بونابارته الخازندار الغايب ببلاد الحجاز، وعملوا له زفة في يوم الجمعة بعد الصلاة اجتمع الناس للفرجة عليها.
وفيه أيضًا زاد الإرجاف بحصول الطاعون وواقع الموت منه بإسكندرية، فأمر الباشا كورنتيلة بثغر رشيد ودمياط والبرلس وشبرا، وأرسل إلى الكاشف الذي بالبحيرة بمنع المسافرين المارين من البر، وأمر أيضًا بقراءة صحيح البخاري بالأزهر، وكذلك يقرون بالمساجد والزوايا سورة الملك والأحقاف في كل ليلة بنية رفع الوبا، فاجتمعوا إلا قليلًا بالأزهر نحو تلاتة أيام، ثم تركوا ذلك وتكاسلوا عن الحضور.
وفي يوم الاتنين تاسع عشرينه كسفت الشمس وقت الصحوة، وكان المنكسف منها نحو تلاتة أرباع الجرم، وكانت الشمس في برج الدلو أيام الشتا، فأظلم الجو إلا قليلًا ولم ينتبه له كثير من الناس لظنهم أنها غيوم متراكمة؛ لأنهم في فصل الشتا.
واستهل شهر صفر بيوم الأربع (سنة ١٢٢٨)
فيه في أخريات النهار هبت ريح جنوبية غريبة عاصفة باردة، واستمرت لعصر يوم السبت، وكانت قوتها يوم الجمعة أثارت غبارًا أصفر ورمالًا مع غيم مطبق وقتام ورش مطر قليل في بعض الأوقات.
وفي يوم التلات سابعه وردت بشاير من البلاد الحجازية باستيلا العساكر على جدة ومكة من غير حرب؛ وذلك أنه لما انهزمت الأتراك في العلم الماضي، ورجعوا على الصورة التي رجعوا عليها مشتتين ومتفرقين، وفيهم من حضر من طريق السويس، ومنهم من أتى من البر، ومنهم من حضر من ناحية القصير، ونفى الباشا من استعجل بالهزيمة والرجوع من غير أمره ويخشى صولته ويرى في نفسه أنه أحق بالرياسة منه، مثل: صالح قوج وسليمان وحجو وأخرجهم من مصر واستراح منهم، ثم قتل أحمد أغا لاظ جدد ترتيبًا آخر، وعرفه كبرا العرب الذين استمالهم واندرجوا معه وشيخ الحويطات أن الذي حصل لهم إنما هو من العرب الموهبين، وهم عرب حرب والصفرا وأنهم مجهودون، والوهابية لا يعطونهم شيًّا ويقولون لهم: قاتلوا عن دينكم وبلادكم، فإن بذلتم لهم الأموال وأغدقتم عليهم بالإنعام والعطا ارتدوا ورجعوا وصاروا معكم وملَّكوكم البلاد، فاجتهد الباشا في جمع الأموال بأي وجه كان، واستأنف الطلب ورتب الأمور وأشاع الخروج بنفسه، ونصب العرضي خارج باب النصر، وذلك في شهر شعبان.
وخرج بالموكب كما تقدم وجلس بالصيوان وقرر السفر في المقدمة بونابارته الخازندار، وأعطاه صناديق الأموال والكساوي ورافق معه عابدين بك ومن يصحبهما، وواظب على الخروج إلى العرضي والرجوع، تارة إلى القلعة وتارة إلى الأزبكية والجيزة وقصر شبرا، ويعمل الرماحة والميدان في يومي الخميس والاتنين والمصاف على طرايق حرب الإفرنج.
وسافر بونابارته في أواخر شعبان، واستمر العرضي منصوبًا والطلب كذلك مطلوبًا والعساكر واردة من بلادها على طريق إسكندرية ودمياط، ويخرج الكثير إلى العرضي ويستمرون على الدخول إلى المدينة في الصباح لقضا أشغالهم والرجوع أخريات النهار، مع تعدي أذاهم للباعة والحمارة وغيرهم.
ولما غدر الباشا بأحمد أغا لاظ وقتله في أواخر رمضان، ولم يبقَ أحد ممن يخشى سطوته، وسافر عابدين بك في شوال، وارتحل بعده بنحو شهر مصطفى بك دالي باشا وصحبته عدة وافرة من العسكر، ثم سافر أيضًا يحيى أغا ومعه نحو الخمسماية، وهكذا كل قليل ترحل طايفة بعد أخرى، والعرضي كما هو وميدان الرماحة وكذلك.
ولما وصل بونابارته إلى ينبع البر أخذوا في تأليف العربان واستمالتهم، وذهب إليهم ابن شديد الحويطي ومن معه وتقابلوا مع شيخ حرب، ولم يزالوا به حتى وافقهم وحضروا به إلى بونابارته فأكرمه وخلع عليه الخلع، وكذلك على من حضر من أكابر العربان، فألبسهم الكساوي والفراوي السمور والشالات الكشميري، ففرق عليهم من الكشمير ملء أربع سحاحير وصب عليهم الأموال، وأعطى لشيخ حرب ماية ألف فرانسة عين، وحضر باقي المشايخ فخلع عليهم وفرق فيهم فخص شيخ حرب بمفرده تمانية عشر ألف فرانسة، ثم رتب لهم علايف تصرف لهم في كل شهر، لكل شخص خمسة فرانسة وغِرارة عدس، فعند ذلك ملَّكوهم الأرض، والذي كان متأمرًا بالمدينة من جنسهم فاستمالوه أيضًا، وسلم لهم المدينة، وكل ذلك بمخامرة الشريف غالب أمير مكة وتدبيره وإشارته، فلما تم ذلك أظهر الشريف غالب أمره وملَّكهم مكة والمدينة.
وكان ابن مسعود الوهابي حضر في الموسم وحج ثم ارتحل إلى الطايف، وبعد رحيله فعل الشريف غالب فعله، وسيلقى جزاه، ولما وصلت البشاير بذلك في يوم التلات سابعه ضربوا مدافع كثيرة، ونودي في صبح ذلك بزينة المدينة ومصر وبولاق، فزينوا خمسة أيام أولها الأربع وآخرها الأحد.
وقاسى الناس في ليالي هذه الأيام العذاب الأليم من شدة البرد والصقيع وسهر الليل الطويل، وكان ذلك في قوة فصل الشتا، وكل صاحب حانوت جالس فيها وبين يديه مجمرة نار يتدفا ويصطلي بحرارتها وهو ملتف بالعباية والأكسية الصوف أو اللحاف.
وخرج الباشا من ليلة الأربع المذكور ونصبت الخيام، وخرجت الجِمال المحملة باللوازم من الفرش والأواني وأزيار الماء والبارود لعمل الشنانك والحرايق، وفي كل يوم يعمل مرماح وشنك عظيم مهول بالمدافع وبنادق الرصاص المتواصلة من غير فاصل، مثل الرعود والطبول من طلوع الشمس إلى قريب الظهر، وفي أول يوم من أيام الرمي أصيب إبراهيم بك ابن الباشا برصاصة في كتفه أصابت شخصًا من السواس، ونفذت منه إليه، وهي باردة فتعلل بسببها وخرج بعد يومين في عربة إلى العرضي ثم رجع.
ولما كان يوم الأحد وقت الزوال، ركب الباشا وطلع إلى القلعة وقلعوا خيام الشنك وحملوا الجمال ودخلت طوايف العسكر، وأذن للناس بقلع الزينة ونزول التعاليق وكان الناس قد عمروا القناديل، وأشاعوا أنه سبعة أيام، فلما حصل الإذن بالرفع فكأنما نشطوا من عقال وخلصوا من السجون لما قاسوه من البرد والسهر، وتعطيل الأشغال وكساد الصنايع، والتكليف بما لا طاقة لهم به، وفيهم من لا يملك قوت عياله أو تعمير سراجه، فيكلف مع ذلك هذه التكاليف، وكتب الباشا بالبشاير إلى دار السلطنة وأرسلها صحبة أمين جاويش، وكذلك إلى جميع النواحي، وأنعم بالمناصب على خواصه.
وفي هذا الشهر وردت أخبار بوقوع أمطار وثلوج كثيرة بناحية بحري وبإسكندرية ورشيد بحدود الغربية والمنوفية والبحيرة وشدة برد، ومات من ذلك أناس وبهايم والزروع البدرية، وطفَّ على وجه الماء أسماك موتى كثيرة فكان موج البحر يلقيه على الشطوط، وغرق كثير من السفن من الرياح العواصف التي هبَّت في أول الشهر.
وفي سابعه يوم وصول البشارة أحضر الباشا حسين أفندي الروزنامجي وخلع عليه خلعة الإبقا على منصبه في الروزنامة، وقرر عليه ألفين وخمسماية كيس، وذلك أنهم لما رافعوه في الحساب على الطريقة المذكورة، أرسل إليه الباشا بطلب خمسماية كيس من أصل الحساب فضاق خناقه ولم يجد له شافعًا ولا ذا مرحمة، فأرسل ولده إلى محمود بك الدويدار يستجير فيه وليكون واسطة بينه وبين الباشا، وهو رجل ظاهره خلاف باطنه، فذهب معه إلى الباشا فبش في وجهه ورحب به وأجلسه محمود بك في ناحية من المجلس، وتناجى هو مع الباشا ورجع إليه يقول له: إنه يقول: إن الحساب لم يتم إلى هذا الحين، وإنه ظهر على أبيك تاريخ أمس خمسة آلاف كيس وزيادة، وأنا تكلمت معه وتشفعت عنده في ترك باقي الحساب والمسامحة في نصف المبلغ والكسور فيكون الباقي ألفين وخمسماية كيس تقومون بدفعها، فقال: ومن أين لنا هذا القدر العظيم وقد عزلنا من المنصب أيضًا حتى كنا نتداين ولا يأمننا الناس إذا كان القدر دون هذا أيضًا؟ فرجع إلى الباشا وعاد إليه يقول له: لم يمكني تضعيف القدر سوى ما سامح فيه، وأما المنصب فهو عليكم وفي غد يطلع والدك ويتجدد عليه الإبقا وينكمد الخصم، وعلى الله السداد، ونهض وقبَّل يده وتوجه فنزل إلى دارهم وأخبر والده بما حصل، فزاد كربه ولم يسعه إلا التسليم، وركب في صبحها وطلع إلى الباشا فخلع عليه ونزل إلى داره بقهره، وشرع في بيع تعلقاته وما يتحصل لديه.
وفي يوم الاتنين تالت عشره خلع الباشا على مصطفى أفندي ونزل إلى داره وأتاه الناس يهنوه بالمنصب.
وفي يوم الأربع تالت عشرينه وردت بشاير بتملُّكهم الطايف وهروب المضايفي منها، فعملوا شنكًا وضربوا مدافع كثيرة من القلعة وغيرها تلاتة أيام في كل وقت أذان، وشرع الباشا في تشهيل ولده إسماعيل باشا بالبشارة ليسافر إلى إسلامبول، وتاريخ تملُّكها في سادس عشرين المحرم.
وفي هذه الأيام ابتدعوا تحرير الموازين وعملوا لذلك ديوانًا بالقلعة، وأمروا بإبطال موازين الباعة وإحضار ما عندهم من الصنج، فيزنون الصنجة فإن كانت زايدة أو ناقصة أخذوها وأبقوها عندهم، وإن كانت محررة الوزن ختموها بختم وأخذوا على كل ختم صنجة تلاتة أنصاف فضة، وهي النصف أوقية والأوقية إلى الرطل الذي يكون وزنه غير محور يعطوه رطلًا من حديد ويدفع ثمنه ماية نصف فضة، والنصف رطل خمسون، وهكذا، وهو باب ينجمع منه أكياس كثيرة.
وفيه أيضًا طلب الباشا من عرب الفوايد غرامة سبعين ألف فرانسة، فعصوا ورمحوا بإقليم الجيزة وأخذوا المواشي وشلحوا من صادفوه، ورمح كاشف الجيزة عليهم فصادف منهم أباعر محملة أمتعة لهم وصحبتهم نسا وأولاد فأخذهم ورجع بهم.
وفيه سافر إبراهيم بك ابن الباشا إلى ناحية قبلي، ووصلت الأخبار بوقوع الطاعون بإسكندرية، فاشتد خوف الباشا والعسكر مع قساوتهم وعسفهم وعدم مرحمتهم.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس (سنة ١٢٢٨)
فيه قلدوا شخصًا يسمى حسين البرلي، وهو الكتخدا عند الكتخدا بك، وجعلوه في منصب بيت المال وعزلوا رجب أغا وكان إنسانًا سهلًا لا بأس به، فلما تولى هذا أرسل لجميع مشايخ الخطط والحارات، وقيد عليهم بأنهم يخبرونه بكل من مات من ذَكر أو أنثى ولو كان ذا أولاد أو ورثة أو غير ذلك، وكذلك على حوانيت الأموات، وأرسل فرمانات إلى بلاد الأرياف والبنادر بمعنى ذلك.
وفي يوم الأحد رابعه طلب الباشا حسين أفندي الروزنامجي، وطلب منه ما قرره عليه، وكان قد باع حصصه وأملاكه ودار مسكنه، فلم يوفِّ إلا خمسماية كيس، فقال له: ما لك لم توفِّ القدر المطلوب؟ وما هذا التأخير وأنا محتاج إلى المال؟ فقال: لم يبقَ عندي شي، وقد بعت التزامي وأملاكي وبيتي وتداينت من الربويين حتى وفيت خمسماية كيس، وها أنا بين يديك، وقال له: هذا كلام لا يروج عليَّ ولا ينفعك، بل أخرج المال المدفون، فقال: لم يكن عندي مال مدفون، وأما الذي أخبرك عنه، فيذهب فيخرجه من محله، فحنق منه وسبه وقبض على لحيته ولطمه على وجهه وجرد السيف ليضربه، فترجى فيه الكتخدا والحاضرون فأمر به فبطحوه، وأمر القواسة الأتراك بضربه فضربوه بالعصي المفضضة التي بأيديهم بعد أن ضربه هو بيده عدة عصي وشج جبهته، حتى أتوا عليه ثم أقاموه وألبسوه فروته وحملوه وهو مغشي عليه، وأركبوه حمارًا وأحاط به خدمه وأتباعه حتى أوصلوه إلى منزله، وأرسل معه جماعة من العسكر يلازمونه ولا يدعونه يدخل إلى حريمه ولا يصل إليه منهم أحد، وركب في أثره محمود بك الدويدار بأمر الباشا وعبر داره ودار أخيه عثمان أفندي المذكور وأخذه صحبته إلى القلعة وسجنوه.
وأما ولده وأخواه فإنهم تغيبوا من وقت الطلب واختفوا، ونزل إليه في اليوم التاني إبراهيم أغا أغات الباب يطالبه بغلاق تمانماية كيس وقتئذٍ، فقال له: وكيف أحصِّل شيًّا وأنا رجل ضعيف وأخي عثمان عندكم في الترسيم، وهو الذي يعينني ويقضي أشغالي، وأخذتم دفاتري المختصة بأحوالي مع ما أخذتموه من الدفاتر، فأقام عنده إبراهيم أغا برهة ثم ركب إلى الباشا وكلمه في ذلك، فأطلقوا له أخاه ليسعى في التحصيل.
وفي حادي عشره عدى الباشا إلى بر الجيزة بقصد السفر إلى بلاد الفيوم، وأخذ صحبته كتبة مباشرين مسلمين ونصارى، وأشاع أن سفره إلى الصعيد ليكشف على الأراضي وروكها، وارتحل في ليلة التلات تالت عشره بعد أن وجه ابنه إسماعيل إلى الديار الرومية في تلك الليلة بالبشارة.
وفي خامس عشرينه حضر لطيف أغا راجعًا من إسلامبول، وكان قد توجه ببشارة فتح الحرمين، وأخبروا أنه لما وصل إلى قرب دار السلطنة خرج لملاقاته الأعيان، وعند دخوله إلى البلدة عملوا له موكبًا عظيمًا مشى فيه أعيان الدولة وأكابرهم، وصحبته عدة مفاتيح زعموا أنها مفاتيح مكة وجدة والمدينة، وضعوها على صفايح الذهب والفضة، وأمامها البخورات في مجامر الذهب والفضة والعطر والطيب، وخلفهم الطبول والزمور وعملوا لذلك شنكًا ومدافع، وأنعم عليه السلطان وأعطاه هدايا وكذلك أكابر الدولة، وأنعم عليه الخنكار بطوخين وصار يقال له لطيف باشا.
وفيه وردت الأخبار بقدوم قهوجي باشا، ومعه خلع وأطوق للباشا وعدة أطواخ بولايات لمن يختار تقليده، فاحتفل الباشا به عندما وصلته أخباره، وأرسل إلى أمرا الثغور بإسكندرية ودمياط بالاعتنا بملاقاته عند وروده على أي ثغر منها.
وفيه حضر خليل بك حاكم إسكندرية إلى مصر فرارًا من الطاعون؛ لأنه قد فشا بها ومات أكثر عسكره وأتباعه.
واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأحد (سنة ١٢٢٨)
في تامنه حضر الباشا على حين غفلة من الفيوم إلى الجيزة، وأخبروا أنه لما وصل إلى ناحية بني سويف ركب بغلة سريعة العدْو ومعه بعض خواصه على الهجن والبغال، فوصل إلى الفيوم في أربع ساعات، وانقطع أكثر المرافقين له ومات منهم سبعة عشر هجينًا.
وفي يوم التلات عاشره عملوا مولد المشهد الحسيني المعتاد، وتقيد لتنظيمه السيد المحروقي الذي تولى النظارة عليه، وجلس ببيت السادات المجاور للمشهد بعد أن أخلوه له، وفي ذلك اليوم أمر الباشا بعمل كورنتيلة بالجيزة ونوَّه بإقامته بها، وزاد به الخوف والوهم من الطاعون لحصول القليل منه بمصر، وهلك الحكيم الفرنساوي وبعض نصارى أروام وهم يعتقدون صحة الكورنتيلة وأنها تمنع الطاعون، وقاضي الشريعة الذي هو قاضي العسكر يحقق قولهم ويمشي على مذهبهم، ولرغبة الباشا في الحياة الدنيا وكذلك أهل دايرته وخوفهم من الموت يصدقون لهم، حتى إنه اتفق أنه مات بالمحكمة عند القاضي شخص من أتباعه فأمر بحرق ثيابه وغسل المحل الذي مات فيه وتبخيره بالبخورات، وكذلك غسل الأواني التي كان يمسها وبخروها.
وأمروا أصحاب الشرطة أنهم يأمرون الناس وأصحاب الأسواق بالكنس والرش والتنظيف في كل وقت ونشر الثياب، وإذا ورد عليهم مكاتبات خرقوها بالسكاكين، ودخنوها بالبخور قبل ورودها.
ولما عزم الباشا على كورنتيلة الجيزة أرسل في ذلك اليوم بأن ينادوا بها على سكانها بأن من كان يملك قوته وقوت عياله ستين يومًا وأحب الإقامة فليمكث بالبلدة، وإلا فليخرج منها ويذهب ويسكن حيث أراد في غيرها، ولهم مهلة أربع ساعات، فانزعج سكان الجيزة وخرج من خرج وأقام من أقام، وكان ذلك وقت الحصاد ولهم مزارع وأسباب مع مجاوريهم من أهل القرى، ولا يخفى احتياجات الشخص لنفسه وعياله وبهايمه، فمنعوا جميع ذلك حتى سدوا خروق السور والأبواب ومنعوا المعادي مطلقًا.
وأقام الباشا ببيت الأزبكية لا يجتمع بأحد من الناس إلى يوم الجمعة، فعدى في ذلك اليوم وقت الفجر، وطلع إلى قصر الجيزة وأوقف مركبين: الأولى ببر الجيزة والأخرى في مقابلتها ببر مصر القديمة، فإذا أرسل الكتخدا أو المعلم غالي إليه مراسلة ناولها المرسل للمقيد بذلك في طرف مزارق بعد تبخير الورقة بالشيح واللبان والكبريت، ويتناولها منه الآخر بمزارق آخر على بُعد منهما وعاد راجعًا، فإذا قرب من البر تناولها المنتظر له أيضًا بمزارق وغمسها في الخل وبخرها بالبخور المذكور، ثم يوصلها لحضرة المشار إليه بكيفية أخرى، فأقام أيامًا وسافر إلى الفيوم ورجع كما ذكر، وأرسل مماليكه ومن يعز عليه ويخاف عليه من الموت إلى أسيوط.
وفي يوم السبت سابعه نودي بالأسواق بأن السيد محمد المحروقي شاه بندر التجار بمصر، وله الحكم على جميع التجار وأهل الحرف والمتسببين في قضاياهم وقوانينهم وله الأمر والنهي فيهم.
وفيه وصل إلى مصر عدة كبيرة من العساكر الرومية على طريق دمياط، ونصبوا لهم وطاقًا خارج باب النصر وحضر فيهم نحو الخمسماية نفر أرباب صنايع بنايين ونجارين وخراطين، فأنزلوهم بوكالة بخط الخليفة.
وفي يوم الأحد تامنه تقلد الحسبة الخواجا محمود حسن، ولبس الخلعة وركب وشق المدينة وأماه الميزان، فرسم برد الموازين إلى الأرطال الزياتي التي عبره الرطل منها أربع عشرة أوقية في جميع الأدهان والخضروات على العادة القديمة، ونقص من أسعار اللحم وغيره، ففرح الناس بذلك، ولكن لم يستمر ذلك.
وفي يوم الأربع حادي عشره بين الظهر والعصر كانت السما مصحية، والشمس مضية صافية، فما هو إلا والسما والجو طلع به غيم وقتام ورياح نكبا غريبة جنوبية، وأظلم ضو الشمس وأرعدت رعدتين التانية أعظم من الأولى، وبرق ظهر ضوه وأمطرت مطرًا متوسطًا ثم سكن الريح وانجلت السما وقت العصر، وكان ذلك سابع بشنس القبطي وآخر يوم من نيسان الرومي، فسبحان الملك الفعال مغير الشون والأحوال، وحصل في تاليه يوم الجمعة مثل ذلك الوقت أيضًا غيوم ورعود كثيرة ومطر أزيد من اليوم الأول.
واستهل شهر جمادى التاني (سنة ١٢٢٨)
في تاني عشره وصل في النيل على طريق دمياط أغا من طرف الدولة يقال له قهوجي باشا السلطان، فاعتنى الباشا بشأنه وحضر إلى قصره بشبرا، وأمر بإحضاره عدة من المدافع وآلات الشنك وعملوا أمام القصر بساحل النيل تعاليق وقناديل وقدات، ونبه على الطوايف بالاجتماع بملابسهم وزينتهم، ووصل الأغا المذكور يوم الأحد فخرج الأغوات والسفاشية والصقالبة وهم لابسون القواويق وجميع العساكر الخيالة ليلًا، فما طلعت الشمس حتى اجتمعوا بأسرهم جهة شبرا، وانتظموا في موكب ودخلوا من باب النصر، وتقدمهم طوايف الدلاة وأكابرهم، ويتلوهم أرباب المناصب مثل: الأغا والوالي والمحتسب وبواقي وجاقات المصرية، ثم موكب كتخدا بك وبعده موكب الأغا الواصل، وفي أثره ما وصل معه من الخلع، وهي أربع بقج وخنجران مجوهران وسيف وتلات شلنجات عليها ريش مجوهرة، وخلف ذلك العساكر الخيالة والتفكجية وخلفهم النوبة التركية.
فكان مدة مرورهم نحو ساعتين وربع وليس فيهم رَجَّالة مشاة سوى الخدم وقليل عسكر مشاة، وأما بقية العسكر فهم متفرقون بالأسواق والأزقة كالجراد المنتشر، خلاف من يرد منهم في كل وقت من الأجناس المختلفة برًّا وبحرًا، فمن الخلع الواردة ما هو مختص بالباشا وهو فروة وخنجر وريشة بشلنج وأطواخ، ولابنه إبراهيم بك مثل ذلك.
وأسكنوا ذلك الأغا ورفيقه وأتباعهما بمنزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية بقنطرة الدكة، وأرسل بإحضار ولده من ناحية قبلي، فحضر على الهجن ولبس الخلعة بولايته على الصعيد، فنزل بالجيزة وعدى إلى بر الجيزة، وعندما وصل إلى البر أمر بتغريق السفينة بما فيها من الفرش، ثم أخرجوها، وكذلك أمر من معه من الرجال بالغطوس في الماء وغسل ثيابهم، كل ذلك خوفا من ريحة الطاعون وتطيُّرًا وهروبًا من الموت.
وفي خامس عشرينه سافر إبراهيم بك راجعًا إلى الصعيد.
وفيه حضر عرضي الباشا الذي كان سافر في ربيع الأول إلى الجهة القبلية، ومعه الكتبة أيضًا المسلمون لتحرير حساب الأقباط ومساحة الأراضي.
وفي أواخره نودي على أهل الجيزة باستمرار الكورنتيلة شهرَي رجب وشعبان، وأن يعطوا لهم فسحة للمتسببين والباعة تلاتة أيام، وكذلك لمن يخرج أو إذا دخل لا يخرج إذا كان عنده ما يكفيه ويكفي عياله في مدة الشهرين، والتلاتة أيام المفسح لهم فيها ليقضوا أشغالهم واحتياجاتهم، فخرج أهل البلدة بأسرهم ولم يبقَ منهم إلا القليل النادر القادر، وأيضًا تفرقوا في البلاد وبقي الكثير منهم حول البلدة وفي الغيطان حول بيادرهم وأجرانهم، وعملوا لهم أعشاشًا تظلهم من حر الشمس ووهج الهجير، وينادي المقيم بالبلدة بحاجته من أعلى السور لرفيقه أو صاحبه الذي هو خارج البلدة، فيجيبه ويرد جوابه من مكان بعيد، ولا يمكنونهم من تناول الأشيا، وأما العسكر فإنهم يدخلون ويخرجون ويقضون حوايجهم ويشترون الخضروات والبطيخ وغيره، ويبيعونه على المقيمين بالبلدة بأغلى الأتمان، وإذا أراد أحد من أهل البلدة الخروج منعوه من أخذ شي من متاعه أو شاته أو حماره، ولا يخرج إلا مجردًا بطوله.
وفي أواخره وصل من الديار الرومية واصل وعلى يده مرسوم، فقري بالمحكمة في يوم الأحد تامن عشرينه بحضرة كتخدا بك والقاضي والمشايخ وأكابر الدولة والجم الغفير من الناس، ومضمونه الأمر للخطبا في المساجد يوم الجمعة على المنابر بأن يقولوا عند الدعا للسلطان، فيقولوا: السلطان ابن السلطان بتكرير لفظ السلطان تلات مرات محمود خان ابن السلطان عبد الحميد خان ابن السلطان أحمد خان المغازي خادم الحرمين الشريفين؛ لأنه استحق أن ينعت بهذه النعوت لكون عساكره افتتحت بلاد الحرمين، وغزت الخوارج وأخرجتهم منها؛ لأن المفتي أفتاهم بأنهم كفار لتكفيرهم المسلمين ويجعلونهم مشركين، ولخروجهم على السلطان وقتلهم الأنفس، وأن من قاتلهم يكون مغزيًا ومجاهدًا وشهيدًا إذا قُتل، ولما انقضى المجلس ضربوا مدافع كثيرة من القلعة وبولاق والجيزة، وعملوا شنكًا واستمر ضربهم المدافع عند كل أذان عشرة أيام وذلك ونحوه من الخور.
واستهل شهر رجب (سنة ١٢٢٨)
في منتصفه حضر بونابارته الخازندار من الديار الحجازية على طريق القصير.
وفي أواخره سافر قهوجي باشا الذي تقدَّم ذكْر حضوره بالخلع والشلنجات والخناجر بعدما أعطى خدمته مبلغًا من الأكياس، وأصحب معه من الباشا هدية عظيمة لصاحب الدولة وأكابرها، وقدره من الذهب العين أربعون ألف دينار، ومن النصفيات يعني نصف الدينار ستون ألفًا، ومن فروق البن خمسماية فرق، ومن السكر المكرر مرتين ماية قنطار، ومن المكرر مرة واحدة مايتي قنطار، ومايتا قدر صيني الذي يقال له أسكي معدن مملوة بالمربيات وأنواع الشربات الممسك المطيب المختلف الأنواع، ومن الخيول خمسون جوادًا مرختة بالجوهر والنمركش واللؤلؤ والمرجان، وخمسون حصانًا من غير رخوت، وأقمشة هندية كشميري، ومقصبات وشاهي ومهترخان في عدة تعابي بقج وبخور عود وعنبر وأشيا أخرى.
وفيه أيضًا حضر أغا يقال له جانم أفندي وصحبته مرسوم قري بالديوان في يوم الاتنين مضمونه البشارة بمولود وُلد للسلطان وسموه عثمان، واجتمع لسماع ذلك المشايخ والأعيان وضربوا بعد قراته شنكًا ومدافع، واستمر ذلك سبعة أيام في كل وقت من الأوقات الخمسة.
وفي يوم التلات عشرينه الموافق لتالت عشره مسرى القبطي أوفى النيل المبارك أذرعه، ونودي بذلك في الأسواق على العادة، وكثر اجتماع غوغا الناس للخروج إلى الروضة وناحية السد والولايم في البيوت المطلة على الخليج، وما يحصل من اجتماع الأخلاط أمام جري الماء كما هو المعتاد في كل سنة، وأنه إذا نودي بالوفا حصل ذلك الاجتماع في تلك الليلة وكسروا السد في صبحها عادة لا تتخلف فيما نعلم، فلما كان آخر النهار ورد الخبر بأن الباشا أمر بتأخير فتح الخليج إلى يوم الخميس تانيه فكان كذلك.
وخرج الباشا في صبح يوم الخميس، وكسر السد وجرى الماء في الخليج، وتكلف أرباب الدور المطلة على الخليج كلفة تانية لضيفانهم.
واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة (سنة ١٢٢٨)
وفي خامسه يوم التلات حضر ابن الباشا المسمى إسماعيل من الديار الرومية، ووصل إلى ساحل النيل بشبرا، وضربوا لوصوله مدافع من القلعة وبولاق وشبرا والجيزة، وتقدم أنه توجه ببشارة الحرمين وأكرمته الدولة وأعطوه أطواخًا.
وفي عاشره حضر قاصد من الديار الرومية، ووصل إلى ساحل النيل وصحبته بشارة بمولودة وُلدت لحضرة السلطان، فعملوا الديوان بالقلعة واجتمع به المشايخ والأعيان وأكابر الدولة، وقري الفرمان الواصل في شان ذلك، وفي مضمونه الأمر للكافة بالفرح والسرور وعمل الشنك، وبعد الفراغ من ذلك ضُربت المدافع من أبراج القلعة، واستمر ضربها في كل وقت أذان خمسة أيام، وهذا لم يُعهد في الدولة الماضية إلا للأولاد الذكور، وأما الإناث فليس لهن ذكر.
وفي ليلة الأربع سابع عشرينه عمل الباشا جمعية ببيت الأزبكية، وأحضر الأعيان والمشايخ والقضاة التلاتة، وهم: بهجت أفندي المنفصل عن قضا مصر، وصديق أفندي المتوجه إلى قضا مكة المنفصل عن قضا مصر العام الذي قبله، والقاضي المتوجه إلى المدينة، فعقدوا عقد ابنه إسماعيل باشا على ابنة عارف بك التي حضرت بصحبته من الديار الرومية، وعقدوا عقد أخته ابنة الباشا على محمد أفندي الذي تقلد الدفتردارية، ولما تم ذلك قدموا لهم تعابي بقج، في كل واحدة أربع قطع من الأقمشة الهندية، وهي: شال كشميري، وطاقة مسجر، وطاقة قطني هندي، وطاقة شاهي، وفرقوا على الدون من الناس الحاضرين محارم.
ثم إن الباشا شرع في الاهتمام إلى سفر الحجاز وتشهيل المطاليب واللوازم، فمن جملة ذلك أربعون صندوقًا من الصفيح المشمع داخلها بالشمع والمصطكي وبالخشب من خارج وفوق الخشب جلود البقر المدبوغ، ليودع بها ماء النيل المغلي لشربه وشرب خاصته، ومثلها في كل شهر يتقيد بعمل ذلك وغيره السيد المحروقي ويرسله في كل شهر.
واستهل شهر شوال بيوم الأحد (سنة ١٢٢٨)
في سابعه يوم السبت أداروا كسوة الكعبة، وكانت مصنوعة من نحو خمس سنوات ومودوعة في مكان بالمشهد الحسيني، فأخرجوها في مستهل الشهر، وقد توسخت لطول المدة، فحلوها ومسحوها، وكان عليها اسم السلطان مصطفى فغيروه وكتبوا اسم السلطان محمود، فاجتمع الناس للفرجة عليها، وكان المباشر لها الريس حسن المحروقي فركب في موكبها.
وفي ليلة السبت رابع عشره خرج محمد علي باشا مسافرًا إلى الحجاز، وكان خروجه وقت طلوع الفجر من يوم السبت المذكور إلى بركة الحاج، وخرج الأعيان والمشايخ لوداعه بعد طلوع النهار، فأخذوا خاطره ورجعوا آخر النهار، وركب هو متوجهًا إلى السويس بعد مضي تمان ساعات وربع من النهار، وبرزت الخيالة والسفاشية إلى خارج باب النصر ليذهبوا على طريق البر.
وقبل خروج الباشا بيومين قَدِمت هجانة مبشرون بالقبض على عثمان المضايفي بناحية الطايف، وكان قد جرد على الطايف فبرز إليه الشريف غالب وصحبته عساكر الأتراك والعربان فحاربوه وحاربهم، فأصيب جواده فنزل إلى الأرض واختلط بالعسكر فلم يعرفوه، فخرج من بينهم ومشى وتباعد عنهم نحو أربع ساعات، فصادفه جماعة من جند الشريف فقبضوا عليه، وأصابته جراحة، وعندما سقط من بين قومه ارتفع الحرب فيما بين الفريقين، أخريات النهار، ولما أحضروه إلى الشريف غالب جعل في رقبته الجنزير، والمضايفي هذا زوج أخت الشريف، وخرج عنه وانضم إلى الوهابيين فكان أعظم أعوانهم، وهو الذي كان يحارب لهم ويقاتل ويجمع قبايل العربان ويدعو لهم عدة سنين، ويوجه السرايا على المخالفين، ونما أمره واشتهر لذلك ذكره في الأقطار، وهو الذي كان افتتح الطايف وحاربها وحاصرها وقتل الرجال وسبى النسا، وهدم قبة ابن عباس الغريبة الشكل والوصف، وكان هو المحارب للعسكر مع عربان حَرْب في العام الماضي بناحية الصفرا والجديدة، وهزمهم وشتت شملهم.
ولما قبضوا عليه أحضروه إلى جدة واستمر في الترسيم عند الشريف ليأخذ بذلك وجاهة عند الأتراك، الذي هو على ملتهم ويتحقق لديهم نصحه لهم ومسالمته إياهم، وسيلقى قريبًا منهم جزا فعله ووبال أمره كما سيُتلى عليك بعضُه بعد قليل.
واستهل شهر ذي القعدة بيوم التلات (سنة ١٢٢٨)
وفي أوايله وردت أخبار من الجهة الرومية بأن عساكر العثمانيين استولوا على بلاد بلغار من أيدي طايفة الصرب، وكانوا استولوا عليها نيفًا وأربعين سنة، والله أعلم بصحة ذلك.
وفيه عُزل محمود حسن من الحسبة وتقلدها عثمان أغا المعروف بالورداني.
وفي خامس عشره وصل عثمان المضايفي صحبة المتسفرين معه إلى الرَّيدانية آخر الليل وأشيع ذلك، فلما طلعت الشمس ضربوا مدافع من القلعة إعلامًا وسرورًا بوصوله أسيرًا، وركب صالح بك السلحدار في عدة كبيرة وخرجوا لملاقاته وإحضاره، فلما واجهه صالح بك نزع من عنقه الحديد وأركبه هجينًا ودخل به إلى المدينة، وأمامه الجاويشية والقواسة الأتراك وبأيديهم العصيُّ المفضضة وخلفه صالح بك وطوايفه، وطلعوا به إلى القلعة وأدخله إلى مجلس كتخدا بك وصحبته حسن باشا وطاهر باشا وباقي أعيانهم، ونجيب أفندي قبي كتخدا الباشا ووكيله بباب الدولة، وكان متأخرًا عن السفر ينتظر قدوم المضايفي ليأخذه بصحبته إلى دار السلطنة، فلما دخل عليهم أجلسوه معهم فحدثوه ساعة وهو يجيبهم من جنس كلامهم بأحسن خطاب وأفصح جواب، وفيه سكون وتؤدة في الخطاب، وظاهر عليه آثار الإمارة والحشمة والنجابة ومعرفة مواقع الكلام، حتى قال الجماعة لبعضهم البعض: يا أسفا على مثل هذا إذا ذهب إلى إسلامبول يقتلونه، ولم يزل يتحدث معهم حصة ثم أحضروا الطعام فواكلهم.
ثم أخذه كتخدا بك إلى منزله، فأقام عنده مكرَّمًا تلاتًا، حتى تمم نجيب أفندي أشغاله فأركبوه وتوجهوا به إلى بولاق وأنزلوه في السفينة مع نجيب أفندي ووضعوا في عنقه الجنزير، وانحدروا طالبين الديار الرومية، وذلك يوم الاتنين حادي عشرينه.
وفي أواخره وصلت أخبار بأن مسعود الوهابي أرسل قصادًا من طرفه إلى ناحية جدة فقابلوا طوسون باشا، والشريف غالب خلع عليهم وأخذهم إلى أبيه فخاطبهم وسألهم عما جاءوا فيه، فقالوا: الأمير مسعود الوهابي يطلب الإفراج عن المضايفي ويفتديه بماية ألف فرانسة، وكذلك يريد إجرا الصلح بينه وبينكم وكف القتال، فقال لهم: فإنه سافر إلى الدولة، وأما الصلح فلا نأباه بشروط، وهو أن يدفع لنا كل ما صرفناه على العساكر من أول ابتدا الحرب إلى وقت تاريخه، وأن يأتي بكل ما أخذه واستلمه من الجواهر والذخاير التي كانت بالحجرة الشريفة، وكذلك ثمن ما استُهلك منها، وأن يأتي بعد ذلك ويتلاقى معي وأتعاهد معه ويتم صلحنا بعد ذلك، وإن أبى ذلك ولم يأتِ فنحن ذاهبون إليه، فقالوا له: اكتب له جوابًا، فقال: لا أكتب جوابًا؛ لأنه لم يرسل معكم جوابًا ولا كتابًا، وكما أرسلكم بمجرد الكلام فعودوا إليه كذلك، فلما أصبح الصباح وقت انصرافهم أمر باجتماع العساكر، فاجتمعوا ونصبوا ميدان الحرب والرمي المتتابع من البنادق والمدافع ليشاهد الرسل ذلك ويروه ويخبروا عنه مرسلهم.
واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الأربع (سنة ١٢٢٨)
في ليلة الأحد تاسع عشره وقعت كاينة لطيف باشا؛ وذلك أن المذكور مملوك الباشا أهداه له عارف بك، وهو عارف أفندي بن خليل باشا المنفصل عن قضا مصر من نحو خمس سنوات، واختص به الباشا وأحبه ورقاه في الخدم والمناصب إلى أن جعله انختار أغاسي أي: صاحب المفتاح، وصار له حرمة زايدة وكلمة في باب الباشا وشهرة، فلما حصلت النصرة للعسكر واستولَوْا على المدينة وأتوا بمفاتيح زعموا أنها مفاتيح المدينة، كان هو المتعين بها للسفر للديار الرومية بالبشارة للدولة، وأرسلوا صحبته المضايفي الذي كان متأمرًا بالمدينة، ولما وصل إلى دار السلطنة ووصلت أخباره احتفل أهل الدولة بشانه احتفالًا زايدًا، ونزلوا لملاقاته في المركب في مسافة بعيدة، ودخلوا إلى إسلامبول في موكب جليل وأبهة عظيمة إلى الغاية، وسَعَتْ أعيانُ الدولة وعظماها بين يديه مشاةً وركبانًا، وكان يومُ دخوله يومًا مشهودًا، وقتلوا المضايفي المذكور في ذلك اليوم وعلقوه على باب السراية، وعملوا شنانك ومدافع وأفراحًا وولايم.
وأنعم السلطان على لطيف المذكور وأعطاه أطواخًا، وأرسل إليه أعيان الدولة الهدايا والتحف، ورجع إلى مصر في أبهة زايدة، وداخله الغرور وتعاظم في نفسه، ولم يحتفل الباشا بأمره وكذلك أهلُ دولته لكونه من جنس المماليك، وأيضًا قد تأسست عداوتهم في نفوسهم وكراهتهم له أشد من كراهتهم لأبنائنا، وخصوصًا كتخدا بك، فإنه أشد الناس عداوة وبغضًا في جنس المماليك.
وطفق يلقي لمخدومه ما يغير خاطره عليه، ومنها أنه يضم أجناسه من المماليك البطالين ليكونوا عُزْوته ويغترون به؛ بحيث إن الباشا فوض إليه الأمر إن ظهر منه شي في غيابه، وسافر الباشا في أثر ذلك واستمر لطيف باشا مع الجماعة في صَلَف وهم يُحْدِقون عليه ويَرْصُدُون حركاته، ويتوقعون ما يوجب الإيقاع به وهو في غفلة وتيه لا يظن بهم سوءًا، فطلب من الكتخدا الزيادة في رواتبه وعلايفه لسعة دايرته وكثرة حواشيه ومصاريفه، فقال له الكتخدا: أما أنا لست صاحب الأمر، وقد كان هنا الباشا ولم يزدك شيًّا، فراسِلْه وكاتِبْه، فإن أمر بشي فأنا لا أخالف مأمورياته، وتزايد هو والحاضرون في الكلام والمفاقمة ففارقهم على غير حاله.
ونزل إلى داره وأرسل في العشية إلى مماليك الباشا ليحضروا إليه في الصباح ليعمل معهم ميدان رماحة على العادة، وأسر إليهم أن يصحبوا ما خف من متاعهم وأسلحتهم، فلما أصبحوا استعدوا كما أشار إليهم وشدوا خيولهم ووصل خبرهم إلى الكتخدا، فطلب كبيرَهم وسأله، فأخبره أن لطيف باشا طلبهم ليعمل معهم رماحة، فقال: إن هذا اليوم ليس هو موعد الرماحة، ومنعهم من الركوب، وفي الحال أحضر حسن باشا وطاهر باشا وأحمد أغا المسمى بونابارته الخازندار، وصالح بك السلحدار وإبراهيم أغا أغات الباب ومحو بك وخلافهم، ودبوس أوغلي وإسماعيل باشا ابن الباشا ومحمود بك الدويدار، وتوافق الجميع على الإيقاع به.
وأصبحوا يوم السبت مجتمعين وقد بلغه الخبر وأخذوا عليه الطرق، وأرسلوا يطلبونه للحضور في مجلسهم فامتنع وقال: ما المراد من حضوري؟ فنزل إليه دبوس أوغلي وخدعه فلم يقبل، فركب وعاد إليه ثانيًا يأمره بالخروج من مصر إن لم يحضر مجلسهم، فقال: أما الحضور فلا يكون وأما الخروج فلا أخالف فيه بشرط أن يكون بكفالة حسن باشا أو طاهر باشا، فإني لا آمن أن يتبعوني ويقتلوني، خصوصًا وقد أوقفوا العسكر بجميع الطرق، ففارقه دبوس أوغلي فتحير في أمره وأمر بشد الخيول وأراد الركوب فلم يتسع له ذلك.
ولم يزل في نقض وإبرام إلى الليل فشركوا الجهات وأبواب المدينة أيضًا بالعساكر وكثر جمعهم بالقلعة وأبوابها، وفي تاسع ساعة من الليل نزل حسن باشا ومحو بك في نحو الألفين من العسكر، واحتاطوا بداره بسويقة العزى، وقد أغلق داره فصاروا يضربون عليه بالبنادق والقرابين إلى آخر الليل، فلما أعياهم ذلك هجموا على دور الناس التي حوله وتسلقوا عليه من الأسطحة، ونزلوا إلى سطح داره وقتلوا من صادفوه من عسكره وأتباعه، واختفى هو في مخباة أسفل الدار مع ستة أشخاص من الجواري ومملوك واحد، وعلم بمكانهم أغات الحريم فداروا في الدار يفتشون عليه فلم يجدوه، فنهبوا جميع ما في الدار ولم يتركوا بها شيًّا، وسَبَوا الحريم والجواري والمماليك والعبيد، وكذلك ما حوله وما جاوره من دور الناس ودور حواشيه وهم نيف وعشرون دارًا، حتى حوانيت الباعة وغيرهم التي بالخطة، ودار علي كتخدا صالح الفلاح.
هذا ما جرى بتلك الناحية، وباقي نواحي المدينة لا يدرون بشي من ذلك إلا أنهم لما طلع نهار يوم الأحد وخرج الناس إلى الأسواق والشوارع، وجدوا العساكر مايجة وأبواب البلد مغلوقة وحولها العساكر مجتمعة، ومنهم من يعدو ومعه شي من المنهوبات، فامتنع الناس من فتح الحوانيت والقهاوي التي من عادتهم التبكير بفتحها، وظنوا ظنًّا.
واستمر لطيف باشا بالمخبأة إلى الليل، واشتد به الخوف وتيقن أن العبد الطواشي سينم عليه ويعرِّفهم بمكانه، فلما أظلم الليل وفرغوا من النهب والتفتيش وخلا المكان، خرج من المخبأة بمفرده ونط من الأسطحة حتى خلص إلى دار خازنداره وصحبته كبير عسكره وآخر يسمى يوسف كاشف دياب من بقايا الأجناد المصرية، وباتوا بقية تلك الليلة ويوم الاتنين، والكتخدا وأهل دولته يدأبون في الفحص والتفتيش عليه، ويتهمون كثيرًا من الناس بمعرفة مكانه، ومحمود بك داره بالقرب من داره أوقف أشخاصًا من عسكره على الأسطحة ليلًا ونهارًا لرصده.
وكان المذكور له اعتقاد في شخص يسمى حسن أفندي اللبلبي، ولبلب لفظ تركي علم على الحمص الجوهر أي: المقلي، ومن شان حسن أفندي هذا أنه رجل درويش يدخل بيوت الأعيان والأكابر من الناس الأتراك وغيرهم، وفي جيوبه من ذلك الحمص، فيفرق على أهل المجلس منه ويلاطفهم ويضاحكهم ويمزح معهم ويعرف باللغة التركية ويجانس الفريقين، فمن أعطاه شيًّا أخذه ومن لم يعطِه لم يطلب منه شيًّا، وبعضهم يقول له: انظر ضميري أو فالي فيعد على سبحته أزواجًا وأفرادًا ثم يقول: ضميرك كذا كذا، فيضحكون منه، فوشى بحسن أفندي هذا إلى كتخدا بك وباقي الجماعة بأنه كان يقول لطيف باشا أنه سيلي سيادة مصر وأحكامها ويقول له هذا وقت انتهاز الفرصة في غيبة الباشا ونحو ذلك، وجسموا الدعوى وأنه كان يعتقد صحة كلامه ويزوره في داره، ورتب له ترتيبًا وأشاعوا أنه أراد أن يضم إليه أجناس المماليك والخاملين من العساكر وغيرهم ويعطيهم نفقات، ويريد إثارة فتنة ويغتال الكتخدا بك وحسن باشا وأمثالهما على حين غفلة، ويتملك القلعة والبلد وأن اللبلبي يغريه على ذلك، وكل وقت يقول له جا وقتك ونحو ذلك من الكلام الذي المولى — جل جلاله — أعلم بصحته، فأرسل كتخدا بك إلى اللبلبي فحضر بين يديه في يوم الاتنين فسأله عنه فقال: لا أدري، فقال: انظر في حسابك هل نجده أم لا، فمسك سبحته وعدها كعادته وقال: إنكم تجدونه وتقتلونه، ثم إن الكتخدا أشار إلى أعوانه فأخذوه ونزلوا به وأركبوه على حماره، وذهبوا به إلى بولاق فأنزله في مركب وانحدروا به إلى شلقان وشلحوه من ثيابه وأغرقوه في البحر.
وفي ذلك اليوم عرفهم أغات حريم لطيف باشا بعد أن هددوه وقرروه عن محل أستاذه، وأخبرهم أنه في المخبأة وأراهم المكان، ففتحوه فوجدوا به الجواري الستة والمملوك ولم يجدوه معهم، فسألوهم عنه فقالوا: إنه كان معنا وخرج ليلة أمس ولم يُعلم أين ذهب، فأخرجوهم وأخذوا ما وجدوه في المخبأة من متاع وسروج ومصاغ ونقود وغير ذلك، فلما كان بعد الغروب من ليلة التلات اشتد بلطيف باشا الخوف والقلق، فأراد أن ينتقل من بيت الخازندار إلى مكان آخر، فطلع إلى السطح وصعد على حايط يريد النزول منها هو ورفيقه البيوكباشي ليخلص إلى حوش مجاور لتلك الدار فنظرهما شخص من العسكر المرصد بأعلى سطح دار محمود بك الدويدار، فصاح على القريبين منه لينتبهوا له فعندما صاح ضربه لطيف باشا رصاصة فأصابته، وتنبهت المرصدون بالنواحي عند سماع الصيحة وبندقة الرصاصة، وتسارعوا إليه من كل ناحية وقبضوا عليه وعلى ورفيقه وأتوا بهما إلى محمود بك، فبات عنده ورمحت المبشرون إلى بيوت الأعيان يبشرونهم بالقبض عليه، ويأخذون على ذلك البقاشيش.
فلما طلع نهار يوم التلات طلع به محمود بك إلى القلعة، وقد اجتمع أكابرهم بديوان الكتخدا واتفقوا على قتله، ووافقهم على ذلك إسماعيل ابن الباشا بما نمقوه عليه؛ لأنه في الأصل مملوك صهره عارف بيك، فعندما وصل إلى الدرج قبض عليه الأعوان وهو بجانب محمود بك، فقبض بيده على علاقة سيفه وهو يقول بالتركي: «عرظندايم»، يعني: أنا في عرضك، وماتت يده على قيطان السيف فأخرج بعضهم سكينًا وقطع القيطان وجذبوه إلى أسفل سلم الركوبة، وأخذوا عمامته وضربه المشاعلي بالسيف ضربات، ووقع إلى الأرض ولم ينقطع عنقه، فكملوا ذبحه مثل الشاة وقطعوا راسه وفعلوا برفيقه كذلك، وعلقوا روسهما تجاه باب زويلة طول النهار.
وفي تاني يوم وهو يوم الأربع تاني عشرينه أحضروا أيضًا يوسف كاشف دياب وقتلوه أيضًا عند باب زويلة وانقضى أمرهم، والله أعلم بحقيقة الحال، وفتح أهل الأسواق حوانيتهم بعدما تخيل الناس بأنها ستكون فتنة عظيمة وأن العسكر ينهبون المدينة، وخصوصًا الكاينين بالعرضي خارج باب النصر، فإنهم جياع وبردانون وغالبهم مفلس؛ لأن معظمهم من الجدد الواردين الذين لم يحصل لهم كسب من نهب أو حادث واقع أدركوه، ولولا أنهم أوقفوا عساكر عند الأبواب منعتهم من العبور لحصل منهم غاية الضرر.
وانقضت السنة وحوادثها التي ربما استمرت إلى ما شا الله بدوامها وانقضاها.
فمنها أن الباشا لما فرغ من أمر الجهة القبلية بعدما ولى ابنه إبراهيم باشا عليها، وحرر أراضي الصعيد وقاس جملة أراضيه وفدنه وضبطه بأجمعه ولم يترك منه إلا ما قل، وضبط لديوانه جميع الأراضي الميرية والإقطاعات التي كانت للملتزمين من الأمرا والهوارة وذوي البيوت القديمة والرِّزق إحباسية والسراوي والمتأخرات والمرصد على الأهالي والخيرات وعلى البر والصدقة وغير ذلك، مثل مصارف الولاية التي رتبها أهالي الخير المتقدمون لأربابها، رغبة منهم في الخير وتوسعة على الفقرا المحتاجين وذوي البيوت والدواوير المفتوحة المعدة لإطعام الضيفان والواردين والقاصدين وأبنا السبيل والمسافرين.
فمن ذلك أن بناحية سهاج دار الشيخ عارف، وهو رجل مشهور كأسلافه ومُعْتَقَد بتلك الناحية وغيرها، ومنزله محط لرجال الوافدين والقاصدين من الأكابر والأصاغر والفقرا والمحتاجين، فيقرر لكلٍّ بما يليق بهم ويرتب لهم التراتيب والاحتياجات، وعند انصرافهم بعد قضا أشغالهم يزودهم ويهاديهم بالغلال والسمن والعسل والتمر والأغنام، وهذا دأبه ودأب أسلافه من قبله على الدوام والاستمرار.
ورزقته المرصدة التي يزرعها وينفق منها ستماية فدان فضبطوها ولم يسمحوا له منها إلا بماية فدان بعد التوسط والترجي والتشفع، وأمثال ذلك بجرجا وأسيوط ومنفلوط وفرشوط وغيرها، وإذا قال المتشفع والمترجي للمتأمر: ينبغي مراعاة مثل هذا ومسامحته؛ لأنه يطعم الطعام وتنزل بداره الضيفان، فيقول: ومن كلفه بذلك؟ فيقال له: وكيف يفعل إذا نزلت به الضيوف على حسب ما اعتادوه؟ فيقول: يشترون ما يأكلون بدراهمهم من أكياسهم أو يغلقون أبوابهم ويستقلون بأنفسهم وعيالهم ويقتصدون في معايشهم فيعتادون ذلك، وهذا الذي يفعلونه تبذير وإسراف ونحو ذلك على حسب حالهم وشانهم في بلادهم، ويقول: الديوان أحق بهذا؛ فإن عليه مصاريف ونفقات ومهمات ومحاربات الأعدا وخصوصًا افتتاح بلاد الحجاز.
ولما حضر إبراهيم باشا إلى مصر وكان أبوه على أهبة السفر إلى الحجاز حضر الكثير من أهالي الصعيد يشكون ما نزل بهم، ويستغيثون ويتشفعون بوُجها المشايخ وغيرهم، فإذا خوطب الباشا في شي من ذلك يعتذر بأنه مشغول البال واهتمامه بالسفر، وأنه أناط أمر الجهة القبلية وأحكامها وتعلقاتها لابنه إبراهيم باشا، وأن الدولة قلدته ولاية الصعيد، فأنا لا علاقة لي بذلك، وإذا خوطب ابنه أجابهم بعد المحاججة بما تقدَّم ذكره ونحو ذلك، وإذا قيل له هذا على مسجد، فيقول: كشفت على المساجد فوجدتها خرابًا والنظار عليها يأكلون الإيراد، والخزينة أولى منهم، ويكفيهم أني أسامحهم فيما أكلوه في السنين الماضية، والذي وجدته عامرًا أطلقت له ما يكفيه وزيادة، وإني وجدت لبعض المساجد أطيانًا واسعة وهي خراب ومعطلة، والمسجد يكفيه مؤذن واحد وأجرته نصفان، والإمام مثل ذلك، وأما فرشه وإسراجه، فإني أرتب له راتبًا من الديوان في كل سنة، فإذا تكرر عليه الرجا أحال الأمر على أبيه، ولا يمكن العود إليه لحركاته وتنقلاته وكثرة أشغاله وزوغانه.
ولما زاد الحال بكثرة المتشكين والواردين وبرز الباشا للسفر، بل وسافر بالفعل، فلم يمكث بعده ابنه إلا أيامًا قليلة يبيت بالجيزة ليلة وعند أخيه ببولاق ليلة أخرى، ثم سافر راجعًا إلى الصعيد يتمم ما بقي عليه لأهله من العذاب الشديد، فإنه فعل بهم فعل التتار عندما جالوا بالأقطار، وأذل أعزة أهله، وأساء أسوأ السو معهم في فعله، فيسلب نعمهم وأموالهم ويأخذ أبقارهم وأغنامهم، ويحاسبهم على ما كان في تصرفهم واستهلكوه، أو يحتج عليهم بذنب لم يقترفوه، ثم يفرض عليهم المغارم الهايلة والمقادير من الأموال التي ليست أيديهم إليها طايلة، ويلزمهم بتحصيلها وغلاقها وتعجيلها فتعجز أيديهم عن الإتمام، فعند ذلك يجري عليهم أنواع الآلام من الضرب والتعليق والكي بالنار والتحريق، فإنه بلغني — والعهدة على الناقل — أنه ربط الرجل ممدودًا على خشبة طويلة ومسك بطرفيها الرجال وجعلوا يقلبونه على النار المضرمة مثل الكباب، وليس ذلك ببعيد على شاب جاهل سنه دون العشرين عامًا وحضر من بلده ولم يرَ غير ما هو فيه، لم يؤدبه مؤدب ولا يعرف شريعة ولا مأمورات ولا منهيات، وسمعت أن قايلًا قال له: وحق من أعطاك، قال: ومن هو الذي أعطاني؟ قال له: ربك، قال له: إنه لم يعطِني شيًّا، والذي أعطاني أبي، فلو كان الذي قلت فإنه كان يعطيني وأنا ببلدي، وقد جيت وعلى راسي قبع مزفَّت مثل المقلاة؛ فلهذا لم تبلغه دعوى ولم يتخلق إلا بالأخلاق التي درَّبه عليها والده وهي تحصيل المال بأي وجه كان، فأنزل بأهل الصعيد الذل والهوان، فلقد كان به من المقادم والهوارة كل شهم يستحي الريس من مكالمته والنظر إليه بالملابس الفاخرة والأكراك السمور والخيول المُسَوَّمَة والأنعام والأتباع والجند والعبيد والأكمام الواسعة والمضايف والإنعامات والإغداقات والتصدقات، وخصوصًا أكابرهم المشهورين، وهمَّام وما أدراك ما همام وقد تقدم في ترجمته ما يغني عن الإعادة، فخربت دور الجميع وتشتتوا وماتوا غربا، ومن عَسُر عليه مفارقة وطنه جرى عليه ما جرى على غيره، وصار في عداد المزارعين.
وقد رأيت بعض بني همام وقد حضروا إلى مصر ليعرضوا حالهم على الباشا لعله يرفق بهم ويسامحهم في بعض ما ضبطه ابنه من تعلقاتهم يتعيشون به وهم أولاد عبد الكريم وشاهين ولدَي همام الكبير، ومعهم حريمهم وجواريهم وزوجة عبد الكريم، ويقولون لها الست الكبيرة، وهي أم أولاده، فلما وصلوا إلى ساحل مصر القديمة ورأى أرباب ديوان المكس الجواري، وعدتهم تلاتة حجزوهم وطالبوهم بكمركهن، فقالوا: هولا جوارينا للخدمة وليسوا مجلوبين للبيع، فلم يعبئوا بذلك وقبضوا منهم ما قبضوه، ثم إنهم لم يتمكنوا من الباشا وكان إذ ذاك قد توجه إلى الفيوم وعاد إلى العرضي مسافرًا إلى الحجاز، فاستمروا بمصر حتى نفدت نفقاتهم، ورأيتهم مرة مارين بالشارع وهم مخلقنون وفيهم صغير مراهق، واتفق أنهم تفاقموا مع ابن عمهم وهو عمر، وشكوه إلى مصطفى بك دالي باشا بأنه حاف عليهم في أشيا من استحقاقهم، دعوى مفلس على مفلس، فأحضره وحبسه مدة وما أدري ما حصل لهم بعد ذلك، وهكذا تخفض العالي وتعلى من سفل، اللهم إنا نعوذ بك من زوال النعم ونزول النقم.
وأما من مات في هذه السنة
فمات الأستاذ الشهير والجهبذ النحرير الريس المفضل والفريد المبجل، نادرة عصره ووحيد دهره، الشيخ شمس الدين محمد أبو الأنوار بن عبد الرحمن المعروف بابن عارفين، سبط بني الوفا وخليفة السادات الحنفا، وشيخ سجادتها، ومحط رحال سيادتها وشهرته غنية عن مزيد الإفصاح، ومناقبه أظهر من البيان والإيضاح.
وأمه السيدة صفية بنت الأستاذ جمال الدين يوسف أبي الأرشاد بن وفا، وتزوج بها الخواجا عبد الرحمن المعروف بعارفين، فأولدها المترجم وأخاه الشيخ يوسف، وكان أسن منه فتربى مع أخيه في حجر السيادة والصيانة والحشمة، وقرا القرآن وتولع بطلب العلم وحضر دروس أشياخ الوقت، وتلقى طريقة أسلافه وأورادهم وأحزابهم عن خاله الأستاذ شمس الدين محمد أبو الأشراق بن وفا عن عمه الشيخ عبد الخالق عن أبيه الشيخ يوسف أبي الأرشاد عن والده أبي التخصيص عبد الوهاب إلى آخر السند المنتهي إلى الأستاذ أبي الحسن الشاذلي.
ولازم العلامة القدوة الشيخ موسى البجيرمي فحضر عليه، كما ذكره في برنامج شيوخه، أم البراهين وشرح المصنف عليها والآجرومية وشرحها للشيخ خالد، وشرح الستين مسيلة للجلال المحلي، وهو أول أشياخه، ثم لازم الشيخ خليل المغربي فحضر عليه شرح إيساغوجي لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وشرح العصام على السمرقندية، والفاكهي على القطر ومتن التوضيح، والأشموني على الخلاصة، ورسالة الوضع والمغني، وحضر دروس شيخ الشيوخ الشيخ أحمد الميجري الملوي في صحيح البخاري، والشيخ عبد السلام على الجوهرة، وأجازه بمروياته ومولفاته الإجازة العامة، وكذلك أجازه الشيخ أحمد الجوهري الشافعي إجازةً عامةً وإجازةً خاصةً بطريقة مولاي عبد الله الشريف، ولازم وقرا وشارك ولده الشيخ محمدًا الجوهري الصغير.
وحضر أيضًا دروس الأستاذ الحفني في شرح التلخيص للسعد التفتازاني، وشرح التحرير لشيخ الإسلام، وشرح الألفية لابن عقيل والأشموني، وحضر دروس الشيخ عمر الطحلاوي المالكي في شرح الآجرومية للشيخ خالد، وشيًّا من شرح الهمزية للحافظ ابن حَجَر، وشيًّا من تفسير الجلالين والبيضاوي، وحضر الشيخ مصطفى السندوبي الشافعي في شرح ابن قاسم الغزي على أبي شجاع، وعلى السيد البليدي في شرح التهذيب للخبيصي، وعلى الشيخ عطية الأجهوري الشافعي في شرح الخطيب على أبي شجاع، وشرح التحرير لشيخ الإسلام وتفسير الجلالين، وعلى الشيخ محمد الناري شرح السلم لمصنفه، وشرح التحرير، وعلى الشيخ أحمد القوصي شرح الورقات الكبير لابن قاسم العبادي، وسمع المسلسل بالأولية من عالم أهل المغرب في وقته الشيخ محمد بن سودة التاودي الفاسي المالكي عند وروده مصر في سنة اتنين وتمانين وماية وألف بقصد الحج، وكتب له إجازة بخطه مع سنده، وإجازة أيضًا بدلايل الخيرات وأحزاب الشاذلي، وكذلك تلقى الإجازة من الأستاذ المسلك عبد الوهاب بن عبد السلام العفيفي المرزوقي، وتلقى أيضًا من إمام الحرم المالكي الشيخ إبراهيم ابن الريس محمد الزمزمي الإجازة بالمسبعات، واستجازه هو أيضًا بما لإسلافه من الأحزاب، وكنَّاه بأبي الفوز، وذلك في سنة تسع وسبعين وماية وألف بمكة سنة حجة المترجم.
ولما مات السيد محمد أبو هادي وانقرضت بموته سلسلة أولاده الذكور، وذلك في سنة ست وسبعين وماية وألف، تاقت نفس المترجم لخلافة بيتهم، وتهيأ لذلك ولبس التاج أيضًا والعصابة التي يجعلونها عليه فلم يتم له ذلك، وعورض بسيدي أحمد بن إسماعيل بك المعروف بالدالي المكنى بأبي الأمداد؛ لأنه في طبقته في النسب، وأمه السيدة أم المفاخر ابنة الشيخ عبد الخالق باتفاق أرباب الحل والعقد لكونه من بيت الإمارة، وقد صار منزلهم كمنازل الأمرا في الاتساع والتأنق والمجالس المزخرفة والقيعان والقصور، وفي ضمنه البستان بالنخيل والأشجار، وما يجتنى منها من الفواكه والثمار؛ لأن معظم الوجاهة والسيادة في هذه الأزمان بالمساكن الأنيقة والملابس الفاخرة وكثرة الإيراد والخدم والحشم، خصوصًا إن اقترن بذلك شي من المزايا المتعدية من بذل الإحسان وإكرام الضيفان، فعند ذلك يصير ربه قطب الزمان وفريد العصر والأوان، فلو فرضنا أن شخصًا اجتمعت فيه أوصاف الكمالات المعنوية والمعارف اللدنية وخلا عما ذُكر وكان صعلوكًا قليل المال كثير العيال، فلا يعد في الرجال ولا يلتفت إليه بحال، حِكَم إلهية وأحكام ربانية.
فلما تقلدها سيدي أحمد المذكور دون المترجم، بقي متطلعًا يسلي نفسه بالأماني، ثم قصد الحج في سنة تسع وسبعين كما ذُكر، فلما عاد من الحج تزوج بوالدة الشيخ محمد أبي هادي وأسكنها بمنزل ملاصق لدار الخليفة توصلًا وتقربًا لمأموله، ولم تطل مدة الشيخ أبي الأمداد وتُوُفِّيَ سنة اثنتين وتمانين كما ذكرناه في ترجمته، وعند ذلك لم يبقَ للمترجم معارض، وقد مهد أحواله وتثبت أمره مع من يخشى صولته ومعارضته من الأشياخ وغيرهم، ودفن السيد أحمد وركب المترجم في صبحها مع أشياخ الوقت والشيخ أحمد البكري وجماعة الحزب ونقباهم إلى الرباط بالخرنفش، ودخل إلى خلوة جدهم فجلس بها ساعة وقرا أرباب الحزب وظيفتهم، ثم ركب مع المشايخ إلى أمير البلدة وكان إذ ذاك علي بك فخلع عليه وركبوا إلى دارهم ومحل سيادتهم المعهودة، وأصبح متقلدًا خلافة أسلافهم ومشيخة سجادتهم، فكان لها أهلًّا ومحلًّا وتقدم على أخيه الشيخ يوسف مع كونه أسن منه لما فيه من زياده الفضيلة، ولما ثبطه به من مخادعته وسلامة صدر أخيه وحسن ظنه فيه.
وانتظم أمره وأحسن سلوكه بشهامة وحشمة ورياسة وتؤدة وأدب مع الأشياخ والأقران، وتحبب إلى أرباب المظاهر والأكابر واستجلاب الخواطر وسلوك الطرايق الحميدة والتباعد عن الأمور المخلة بالمروة، والأخذ بالحزم والرفق مع الاشتغال في بعض الأحيان بالمطالعة والمذاكرة في المسايل الدينية والأدبية، ومعاشرة الفضلا ومجالستهم والمناقشة معهم في النكات، واقتنا الكتب من كل فن، كل ذلك مع الجد والتحصيل للأسباب الدنيوية، وما يتوصل به إلى كثرة الإيراد بحسن تداخل وجميل طريقة مبعدة عما يخل بالمقدار، بحيث يقضي مرامه من العظيم وجميل الفضل له، ويراسل ويكاتب ويشاحح على أدنى شي ويحاسب ولا يدفع لأرباب الأقلام عوايدهم المقررة في الدفاتر، بل يرون أن أخذها منه من الكباير، وكذلك دواوين المكوس المبني على الإجحاف، فكل ما نسب له فيها فهو معاف، وكلما طال الأمد زاد المدد وخصوصًا إذا تقلبت الدول وارتفعت السفل، كان الأسبق القديم في أعينهم هو الجليل العظيم، وهم لديه صغار لا ينظر إليهم إلا بعين الاحتقار، ولما انقرضت بقايا الشيوخ الذين كان يهابهم ويخضع لهم ويتأدب معهم، وكانوا على طرايق الأقدمين في العفة والانجماع، بخل بتعظيم العلم وأهله والتباعد عن بني الدنيا إلا بقدر الضرورة، وخلف مِن بعدهم مَن هم على خلاف ذلك، وهم أعاظم مدرسي الوقت، فأحدقوا به وأكثروا من الترداد عليه وعلى موايده وبالغوا في تعظيمه وتقبيل يده، ومدحوه بالقصايد البليغة طمعًا في صلاته وجوايزه القليلة وحصول الشهرة لهم وزوال الخمول والتعارف بمن يتردد إلى داره من الأمرا والأكابر، وزاد هو أيضًا وجهًا ووجاهة بمجالستهم ولا يريهم فضلًا بسعيهم إليه، ويزداد كبرًا وتيهًا، وبلغ به أنه لا يقوم لأكثرهم إذا دخل عليه، ومنهم من يدخل بغاية الأدب فيضم ثيابه، ويقول عند مشاهدته: يا مولاي يا واحد، فيجيبه هو بقوله: يا مولاي يا دايم يا علي يا حكيم، فإذا حصل بالقرب منه بنحو ذراعين حبى على ركبتيه ومد يمينه لتقبيل يده أو طرف ثوبه، وأما الأدون فلا يقبل إلا طرف ثوبه، وكذلك أتباعه وخدمه الخواص، وإذا كان من أهل الذمة أو كبار المباشرين وقبلوا يده وخاطبهم في أشغاله وهم قيام وانصرفوا، طلب الطست والإبريق وغسل يده بالصابون لإزالة أثر أفواههم، ولا يجيب في رد التحية إلا بقول: خير خير، ولا يقطع غالب أوقاته مع مجالسيه وخاصته ومسامرته إلا بانتقاد أهل مصره وغيبة أهل عصره، وتنبسط نفسه لذلك وإليه يصغى كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ.
وفي سنة تسعين وماية وألف ورد إلى مصر عبد الرزاق أفندي ريس الكتَّاب ومن أكابر أهل الدولة، فتداخل معه واصطحب به وأهدى إليه هدايا واستدعاه وأضافه، وحضر في ذلك العام محمد باشا المعروف بالعزتي واليًا على مصر، فأنهى إليه بمعونة الريس المذكور احتياج زاوية أسلافه للعمارة، ودعا الباشا لزيارة قبورهم في يوم المولد المعتاد السنوي، وذكر له المقصود وأظهر به بعض الخلل، وزين له ذلك الفعل وأنه من تمام الشعاير الإسلامية والمشاهد التي يجب الاعتنا بشأنها، والسعي والطواف بحرمها، وكان المعين والسفير والمساعد في ذلك أيضًا شيخنا محدث العصر السيد محمد مرتضى، وهو عند العثمانيين مقبول القول، وكان عبد الرزاق الريس يتلقى عنه المسلسلات والإجازات، وقرا عليه مقامات الحريري، فأجاب الباشا ووعد بإتمام ذلك، وكاتب الدولة وورد الأمر بإطلاق خمسين كيسًا لمصرف العمارة من خزينة مصر، فشرع في هدم حوايطها ووسَّعها عن وضعها الأصلي واندرس في جدرانها قبور ومدافن، وحوطها وزخرفها بالنقوش وأنواع الرخام الملون والمموَّه بالذهب والأعمدة الرخام، ثم كاتب الدولة وأنهى أن ذلك القدر لم يكفِ وأن العمارة لم تكمل، والإحسان بالإتمام، فأطلقوا له خمسين كيسًا أخرى، وأتمها على هذا الوضع الذي هي عليه الآن.
وأنشأ حولها مساكن ومخادع، ووسع القصر الملاصق لها المختص به لجلوسه ومواضع الحريم أيام المولد، ثم أرسل في أثر ذلك كتخداه ووزيره الشيخ إبراهيم السندوبي إلى دار السلطنة بمكاتبات وأعرض لرجال الدولة، والتمس رفع ما على قرية زفتا وغيرها مما في حوزه من الالتزام من المال الميري الذي يدفع إلى الديوان في كل سنة، وكان إبراهيم المذكور غاية في الدها والحيل الساسانية والتصنعات الشيطانية والتخليطات الوهمية وتقلبات الملامتية، فتمم مرامه بما ابتدعه من المخرقة والإيهامات الملفقة، ولم يدفع ما جرت به العادة من العوايد بل اجتلب خلاف ذلك فوايد.
ولما حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر على راس القرن وخرج الأمرا المصريون إلى الجهة القبلية، واستباح أموالهم وقبض على نساهم وأولادهم، وأمر بإنزالهم سوق المزاد وبيعهم زاعمًا أنهم أرِقَّا لبيت المال، وفعل ذلك فاجتمع الأشياخ وذهبوا إليه فكان المخاطب له المترجم قايلًا له: أنت أتيت إلى هذه البلدة وأرسلك السلطان إلى إقامة العدل ورفع الظلم كما تقول أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟! فقال: هولا أرِقَّا لبيت المال، فقال له: هذا لا يجوز ولم يقُل به أحد؛ فاغتاظ غيظًا شديدًا وطلب كاتب ديوانه وقال له: اكتب أسما هولا وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره، فقال له السيد محمود البنوفري: اكتب ما تريد، بل نحن نكتب أسمانا بخطنا، فأُفحم وانكفَّ عن إتمام قصده.
وأيضًا تتبع أموالهم وودايعهم، وكان إبراهيم بك الكبير قد أودع عند المترجم وديعة، وكذلك مراد بك أودع عند محمد أفندي البكري وديعته، وعلم حسن باشا فأرسل عسكرًا إلى السيد البكري فلم تسعه المخالفة وسلم ما عنده، وأرسل كذلك يطلب من المترجم وديعة إبراهيم بك فامتنع من دفعها قايلًا: إن صاحبها لم يمت، وقد كتبت على نفسي وثيقة فلا أسلم ذلك ما دام صاحبها في قيد الحياة، فاشتد غيظ الباشا منه وقصد البطش به فحماه الله منه ببركة الانتصار للحق، فكان يقول: لم أرَ في جميع الممالك التي ولجتها من اجترا على مخالفتي مثل هذا الرجل، فإنه أحرق قلبي.
ولما ارتحل من مصر ورجع المصريون إلى دولتهم حصل مراد بك في حق السيد البكري ما حصل، وغرَّمه مبلغًا عظيمًا باع فيه أقطاعه في نظير تفريطه في وديعته، واحتج عليه بامتناع نظيره، وحصل له قهر تمرض بسببه وتسلسل به المرض حتى مات.
ثم مات — رحمه الله — وكانت منه هفوة ولا بد للجواد من كبوة، ومن لم ينظر في العواقب فليس له الدهر بصاحب، حتى قيل: إنه هو الذي عرَّف حسن باشا عن ذلك لينال به زيادة في الحظوة عنده، ويترك منها حصة لنفسه بقرينة ما ظهر عليه في عقب ذلك من التوسع، وقد غلب على ظنه — بل وظن غالب الناس — انقراض المصريين، وغفلوا عن تقلبات الدهر في كل حين.
وأما المترجم فإنه لما أخذ بالحزم سلم ورد الأمانة إلى صاحبها حين قدم، وحسنت فيهم سيرته وزادت عندهم محبته، وفي عقب ذلك نزل السيد محمد أفندي البكري المذكور عن وظيفته نظر المشهد الحسيني للمترجم، وأرسل إليه بصندوق دفاتر الوقف، وكان نظر المشهد ببيتهم مدة طويلة، ووعده المترجم بأن يبدله عنه وظيفة النظر على وقف الشافعي، فلما حصل الفراغ واحتوى على الدفاتر نكث وطمع على الوظيفتين، بل ومد يده إلى غيرهما لعدم من يعارضه ولا يدافعه من الأمرا وغيرهم، مثل نظر المشهد النفيسي والزينبي وباقي الأضرحة الكثيرة الإيراد، التي يصاد بها الدنيا من ناد وتأتيها الخلايق بالقربانات، وأخذ يحاسب المباشرين وخدمة الأضرحة المذكورة على الإيرادات والنذورات ويحاققهم على الذرات، ويسبهم ويهينهم ويضربهم بالجريد المحمص على أرجلهم، وفعل ذلك بالسيد بدوي مباشر المشهد الحسيني، وهو من وُجها الناس الذين يُخشى جانبهم، ومشهور ومذكور في المصر وغيره.
وكان معظم انقباض السيد البكري، ونزوله عن نظر المشهد ضيق صدره من المذكور ومناكدته له واستيلاه على المحل، ومحصول الوقف والتقصير في مصارفه اللازمة، وينسب التقصير للناظر. وكان — رحمه الله — عظيم الهمة يغلب عليه الحيا والمسامحة ويرى خلاف ذلك من سفاسف الأمور، فتنصل من ذلك وترك فعله لغيره.
فلما أوقع المترجم بالسيد بدوي وباقي عظما السدنة ما أوقع، انقمع الباقون وذلوا وخافوه أشد الخوف، ووشوا على بعضهم البعض، وطفق يطالبهم بالبذور والشموع والأغنام والعجول وما يتحصل من صندوق الضريح من المال، وكانوا يختصون بذلك كله وأقلهم في رفاهية من العيش، وجمع المال مع السفالة والشحاتة حتى من الفقير المعدم المفلس والكسرة الناشفة.
وكان إذا أراد الإيقاع بشخص أو إهانته وخشي عاقبة ذلك أو لومًا يلحقه ممن ينتصر له، مهَّد له الطريق سرًّا قبل الإيقاع به، فإنه لما أراد ضرب السيد بدوي طاف على الشيخ العروسي وأمثاله وأسرهم ما في نفسه.
وامتدت يده أيضًا إلى شهود بيت القاضي، فكان إذا بلغه أن أحدهم كتب حجة استبدال أو إجارة مكان مدة طويلة لناظر أو مستحق، وكان ذلك المكان يَئُول بعد انقراض مستحقيه لضريح من الأضرحة التي تحت نظره، أحضر ذلك الكاتب ووبَّخه ولعنه، ولربما ضربه وأبطل تلك المكاتبة ومحاها من سجل القاضي أو يصالحونه على تنفيذ ذلك، مع أنها لا تَئُول إلى تلك الجهة إلا بعد سنين وأعوام متطاولة.
وقد نص علما الشرع على أن الوقف والنذر للقبور والأضرحة باطل، فإن قيل بصحته على الفقرا، قلنا إن سدنة هذه الأضرحة ليسوا بفقرا، بل هم الآن أغنى الناس، والفقرا حقيقة خلافهم من أولاد الناس الذين لا كسب لهم، والكثير من أهل العلم الخاملين والذين يحسبهم الجاهل أغنيا من التعفف.
ولما استولى المترجم على وظيفة نظر المشهد الحسيني قهر السيد بدوي المباشر المذكور، وأخذ دار سكنه شرقي المسجد وأخرجه منها وهدمها وأنشاها دارًا لنفسه ينزل بها أيام المولد المعتاد، ويأتي إليها في كل جمعة أو جمعتين، ولما تم بناها ونظامها وقرب وقت المولد انتقل إليها بخدمه وحريمه وتقدم إلى حكام الشرطة بأمر الناس والمناداة على أهل الأسواق والحوانيت بالسهر بالليل، ووقود السرج والقناديل خمس عشرة ليلة المولد، وكان في السابق ليلة واحدة.
وأحدثوا في تلك الليالي سيارات وجمعيات وطبولًا وزمورًا ومناور ومشاعل، وجمع خلايق من أوباش العالم الذين ينتسبون إلى الطرايق كالأحمدية والسعدية والشعيبية، ويتجاوبون في وسط الطبول بألفاظ مستهجنة ينادون بها مشايخ طرقهم بكلمات وعبارات تشمئز منها الطباع، وأمرهم بأن يمروا من تحت داره، ودعا أمرا البلدة في ظرف تلك الأيام متفرقين، ودعا عابدين باشا يوم المولد.
ولما سكن بتلك الدار وهي قبالة الميضاة والمراحيض، فكان يتضرر من الريحة فقصد إبطالها من تلك الجهة، فاشترى دارًا قبلي المسجد وهي بجانب حايط المسجد الجنوبية الفاصلة بينها وبين المسجد، وأدخل منها جانبًا في المسجد وزاد فيه مقدار باكية وجعلها مرتفعة عن أرض المسجد درجة لتمتاز عن البنا القديم، وجعل به محرابًا وخلفه خلوة يسلك إليها من باب بصدر الليوان المذكور إلى فسحة لطيفة أمام الخلوة، وبالخلوة شباك مطل على الليوان الصغير الذي بقبة الضريح، وأنشا فيما بقي من الدار ميضاة ومراحيض، وفتح لها بابًا من داخل المسجد من آخره بجانب باب السبيل، وأبطل الميضاة القديمة لانحراف مزاجه وتأَذِّيه من ريحتها، وتحول عبور الناس من داخل وخارج إلى هذه السكة الجديدة، وأتت عليها عدة أيام ففاحت الروايح على المصلين ومن بالمسجد وما انضاف إلى ذلك أيضًا من البلل والتقذير من أرجل الأوباش لقربها من المسجد، فلغط الناس ومن يحضر في أوقات الصلاة من أتراك خان الخليلي والتجار، وشنعوا القالة وقاموا قومة واحدة وأغلقوا الباب وأبطلوا تلك الميضاة ومنعوا من دخولها وساعدهم المتصوفون من أجناسهم، فانكسف بال المترجم لذلك ولم يمكنه تنفيذ فعله، وأعاد الميضاة القديمة كما كانت وجعل المستجدة مربطًا للحمير يستغل أجرته بعد أن أزال تلك الميضاة ومحا أثر ذلك، وكان بنا هذه الزيادة سنة ست بعد المايتين.
ثم زاد في منزل سكنهم زيادة من ناحية البركة المعروفة ببركة الفيل خلف البستان، أخذ في تلك الزيادة مقدارًا كبيرًا من أرض البركة، وأنشا مجلسًا مربعًا متسعًا مطلًّا على البركة من جهتيه، وبوسطه عامود من الرخام، وبلَّط دور قاعته بالرخام وجعل به مخدعًا وخارجه فسحة كبيرة وشبابيكها مطلة على البركة، وصارت القاعة القديمة المعروفة بالغزال الملتفت بابها في ضمن الفسحة وبها باب القيطون، وسمى هذه المنشية الأسعدية، وبتلك الفسحه باب يدخل منه إلى منافع ومرافق، ثم عَنَّ له التغيير والتبديل لأوضاع البيت من ناحية أخرى فهدم الساتر على القاعة الكبيرة وفسحتها، وهي التي يسمونها بأم الأفراح، وهي من إنشا الشيخ أبي التخصيص، وهي أعظم المجالس التي بدارهم مزخرفة بالنقوش الذهب والقيشاني الصيني بجميع حيطانها والرخام الملون، وبها الفسقية والسلسبيل والقمريات الملونة، فكشف حايطها وأدخل فسحتها في رحبة الحوش، وهدم القاعة الأخرى التي كان يصعد إليها بسلم من الفسحة الأخرى، وأبطل الحواصل التي أسفلها وساواها بالأرض، وعمل بها فسقية بالرخام ومرافقها من داخلها، وبها باب يتوصل منه إلى الحريم، وسماها الأنوارية نسبة لكنيته، وأمامها فسحة عظيمة ديوان بدكك وكراسي بجانب البستان، وبها الطرقة والدهليز الممتد بوسط البستان الموصل إلى القاعة المسماة بالغزال والأسعدية.
وهدم المقعد القديم الذي به العامود وقناطره، وما كان بظاهر الحاصل المسمى بحاصل السجادة من الحواصل السفلية، وجعله مسجدًا يصلي فيه الجمعة، ونصب فيه منبرًا للخطبة وذلك لبُعد المساجد الجامعة عن داره وتعاظمه عن السعي الكثير والاختلاط بالعامة، وأخذ قطعة وافرة من بيت كتخدا الجاويشية وسع بها البستان وغرس بها الأشجار والرياحين والثمار.
وأفنى غالب عمره في تحصيل الدنيا وتنظيم المعاش والرفاهية واقتِنا كل مرغوب للنفس وشِرا الجواري والمماليك والعبيد والحبوش والخصيان، والتأنق في المآكل والمشارب والملابس، واستخراج الأدهان والعطريات والمركبات المفرحة والمنعشة للقوة، وتعاظم في نفسه وتعالى على أبنا جنسه، حتى إنه ترفَّع على لبس التاج وحضور المحيا بالأزهر ليلة المعراج، وكذا الحضور في مجلس وردهم الذي هو محل عزهم وفخرهم، وصار يلبس قاووقًا بعمامة خضراء تشبهًا بأكابر الأمرا وبُعدًا عن التشبه بالمتعممين والفقها والمقرئين.
ولما طالت أيامه وماتت أقرانه والذين كان يستحي منهم ويهابهم، وتقلبت عليه الدول واندرجت أكابر الأمرا وتأمر أتباعهم ومماليكهم الذين كانوا يقومون على أقدامهم بين يدي مخاديمهم، وأسيادهم جلوس بالأدب مع المترجم، لا جرم كانت هيبته في قلوبهم أعظم من أسلافهم، واستصغاره هو لهم كذلك؛ فكان يصدعهم بالكلام وينفذ أمره فيهم، ويذكر الأمير الكبير بقوله: ولدنا الأمير فلان، وحوايجه عندهم مقضية وكلامه لديهم مسموع وشفاعته مقبولة، وأوامره نافذة فيهم وفي حواشيهم وحريماتهم، واتفق أن بعض أعاظم المباشرين من الأقباط توقف معه في أمر فأحضره ولعنه وسبه، وكشف رأسه وضربه على دماغه بزخمة من الجلد ولم يراعِ حرمة أميره، وهو إذ ذاك أمير البلدة، ولما شكا إلى مخدومه ما فعل به قال له: وما تريد أن أصنع بشيخ عظيم ضرب نصرانيًّا؟ فرحم الله عظامهم.
واتفق أيضًا أن جماعة من أولاد البلد ووُجهاها اجتمعوا ليلة بمنزل بعض أصحابهم وتباسطوا، فأخذ بعضهم يسخر ويقلد بعض أصحاب المظاهر، فوُشِي للمترجم مجلسهم وأنهم أدرجوه في سخريتهم؛ فتسماهم وأحضرهم واحدًا بعد واحد وعزَّرهم بالضرب والإهانة.
فكان كل قليل يقع في بيته الضرب والإهانة لأفراد من الناس، وكذلك فلاحو الحصص التي حازها والتزم بها، فإنه زاد في خراجهم عن شركاه، ويفرض عليهم زيادات ويحبسهم عليها شهورًا ويضربهم بالكرابيج، وبالجملة فقد قلب الموضوع وغيَّر الرسم المطبوع، بعد أن كان منزلهم محل سلوك ورشاد وولاية واعتقاد، فصار كبيت حاكم الشرطة يخافه من غلط أدنى غلطة.
ويتحاماه الناس من جميع الأجناس، وجُلساه ومرافقوه لا يعارضونه في شي بل يوافقونه، ولا يتكلمون معه إلا بميزان وملاحظة الأركان، ويتأدبون معه في رد الجواب وحذف كاف الخطاب، ونقل الضماير عن وضعها في غالب الألفاظ، بل كلها حتى في الآثار المروية والأحاديث النبوية وغير ذلك من المبالغات وتحسين العبارات، والوصف بالمناقب الجليلة والأوصاف الجميلة، حتى إن السيد حسين المنزلاوي الخطيب كان ينشي خطبًا يخطب بها يوم الجمعة التي يكون المترجم حاضرًا فيها بالمشهد الحسيني وبزاويتهم أيام المولد، ويدرج فيها الإطرا العظيم في المترجم، والتوسل به في كشف المهمات وتفريج الكروب وغفران الذنوب، حتى إني سمعت قايلًا يقول بعد الصلاة: لم يبقَ على الخطيب إلا أن يقول: «اركعوا واسجدوا واعبدوا شيخ السادات.»
ولما قدمت الفرنساوية إلى الديار المصرية في أوايل سنة تلات عشرة ومايتين وألف، لم يتعرضوا له في شي، وراعوا جانبه وأفرجوا عن تعلقاته، وقبلوا شفاعاته وتردد إليه كبيرهم وأعاظمهم، وعمل لهم ولايم، وكنت أصاحبه في الذهاب إلى مساكنهم والتفرج على صنايعهم ونقوشهم وتصاويرهم وغرايسهم، إلى أن حضر ركب العثمانيين في سنة خمس عشرة، وحصلت بينهم المصالحة على انتقال الفرنساوية من أرض مصر ورجوعهم إلى بلادهم على شروط اشترطوها بينهم وبين وزير الدولة العثمانية.
ومنها حسابات تدفع إليهم وأخرى تخصم عليهم، وظن المترجم وخلافه إتمام الأمر والارتحال لا محالة، فعند ذلك لحقه الطمع فذكر مصلحة دفعها لكاتب جيشهم في نظير الإفراج عن تعلقاته، وأرسل يطلبها من بوسليك مدبر الجمهور، وكذلك ما قبضه ترجمانه فقال: هذه عوايد لا بد منها ودخلت في حساب الجمهور، وتغير خاطرهم منه وكانت منه هفوة ترتب عليها بينهم وبينه الجفوة.
ولما انتقض الصلح وحصلت المفاقمة ووقعت المحاربة في داخل المدينة، وتترست العساكر الإسلامية وأهل البلد في النواحي والجهات، وانقطع الجالب عن أهل البلد مدة ستة وتلاتين يومًا التزم أغنيا الناس، وأصحاب المظاهر الإطعام والإنفاق على المحاربين والمقاتلين في جهتهم ونواحيهم، والتزم المترجم كغيره الإنفاق على من حوله.
فلما انقضت أيام المحاربة وانتصر الفرنساوية ورجع الوزير ومن معه إلى جهة الشام منهزمين، فعند ذلك انتقم الفرنساوية من المبارزين لهم بأخذ المال بدلًا عن الأرواح، وقبضوا على المترجم وحبسوه وأهانوه أيامًا، وفرضوا عليه قدرًا عظيمًا من المال قام بدفعه كما ذكرنا ذلك مفصلًا في محله.
وقيل: إن الذي زاد الفرنساوية إغراءً به مراد بك حين اصطلح معهم، وعمل لهم ضيافة ببر الجيزة، وسببه أنه لما دهمت الفرنساوية وطلعوا إسكندرية، ووصل الخبر إلى مصر اجتمع الأمرا بالمساطب وطلبوا المشايخ ليشاوروا في هذا الحادث، فتكلم المترجم وخاطبهم بالتوبيخ، وقال: كل هذا سو فعالكم وظلمكم، وآخر أمرنا معكم ملَّكتمونا للإفرنج، وشافه مراد بك: وخصوصًا بأفعالك وتعديك أنت وأمراك على متاجرهم وأخذ بضايعهم وإهانتهم، فحقدها عليه وكتمها في نفسه حتى اصطلح مع الفرنساوية وألقى إليهم ما ألقاه، ففعلوا به ما ذُكر، وذلك في تاني يوم الضيافة.
فلما رجع العثمانية في السنة التانية إلى مصر بمعونة الإنكليز وصاروا بالقرب من المدينة، حبسوا المترجم مع من حُبس بالقلعة من أرباب المظاهر خوفًا من إحداثهم فتنة بالبلدة، ومات ولده الذي كان سماه محمد نور الله وهو معوَّق وممنوع، فأذنوا له في حضوره جنازة ولده، فنزل وصحبته شخص حرس منهم فلازمه حتى واراه، وعاد به ذلك الحرسي إلى القلعة، وكان هذا الولد مراهقًا له من العمر اثنتا عشرة سنة، كان في أمله أن يكون هو الخليفة في بيتهم من بعده ويأبى الله إلا ما يريد.
ولما انفصل الأمر وارتحل الفرنساوية من أرض مصر ودخل إليها يوسف باشا الوزير ومن معه، تقدم المترجم يشكو إليه حاله وما أصابه، وادَّعى الفقر والإملاق مع أن الفرنساوية لم يحجزوا عنه شيًّا من تعلقاته وإيراده، وجعل شكواه وما حصل له سلمًا للإفراج عن جميع تعلقاته، وإيراده من غير حلوان كغيره من الناس، وزاد على ذلك أشيا ومطالب ومسامحات، ودعا الوزير إلى داره وأفراد رجال الدولة الذين بيدهم مقاليدُ الأمور، وعاد إلى حالته في التعاظم والكبريا.
وارتحل الوزير بعد استقرار محمد باشا خسرو على ولاية مصر، وكان سموحًا، وكذلك شريف أفندي الدفتردار فرمح في غفلتهما، واستكثر في التحصيل والإيراد، إلى أن تقلبت الأحوال وعادت للمصريين في سنة تماني عشرة، ثم خروجهم وما وقع من الحوادث التي تقدم ذكرها.
واستقر محمد علي باشا وثبتت قدمه بمعونة العامة والسيد عمر مكرم بمملكة مصر، وشرع في تمهيد مقاصده، فكان السيد عمر يمانعه فدبَّر على إخراجه من مصر، وجمع المشايخ وأحضر المترجم وخلع عليه وقلَّده النقابة، وأخرج السيد عمر من مصر منفيًّا إلى دمياط، وذلك في سنة أربع وعشرين كما تقدم، ووافق فعلُه ذلك غرضَ المترجم، بل ربما كان بمعونته لحقده الباطني على السيد عمر وتشوُّفه إلى النقابة وادِّعاه أنها كانت ببيتهم؛ لكون الشيخ أبي هادي تولاها أيامًا ثم تولاها بعده أبو الأمداد، ثم نزل عنها لمحمد أفندي البكري الكبير فلم يزل في نفس المترجم التطلع لنقابة الأشراف، ويصرح بقوله: إنها من وظايفنا القديمة، وأحضر بها مرسومات من دار السلطنة، وأخفاه ولم يظهره مدة حياة محمد أفندي البكري الكبير، فلما مات وتقلدها ولده محمد أفندي ادَّعاها وأظهر المرسوم، وشاع خبر ذلك فاجتمع الجم الغفير من الأشراف بالمشهد الحسيني ممانعين وقايلين: لا نرضاه نقيبًا ولا حاكمًا علينا، فلم يتم مراده.
فلما تُوُفِّيَ محمد أفندي الصغير ظن أنه لم يبقَ له فيها منازع، فلا يشعر إلا وقد تقلدها السيد عمر بمعونة مراد بك وإبراهيم بك لصحبته معهما ومرافقته لهما في الغربة حين كان المصريون بالصعيد، فسكت على ضغن وغيظ يخفيه تارة ويظهره أخرى، وخصوصًا وهو يرى أن السيد عمر في ذلك دون ذلك بكثير.
فلما خرج الفرنساوية ودخل الوزير إلى مصر، وصحبته السيد عمر متقلدًا للنقابة كما كان، وانفصل عنها السيد خليل البكري، وارتفع شان السيد عمر وزاد أمره بمباشرة الوقايع وولاية محمد علي باشا، وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهي والمرجع في الأمور الكلية والجزئية، والمترجم يحقد عليه في الباطن ويظهر له خلافه، وهو الآخر كذلك كقول الشاعر:
فلما أخرج الباشا السيد عمر، وتقلد المترجم النقابة وبلغ مأموله، عند ذلك أظهر الكامن في نفسه وصرح بالمكروه في حق السيد عمر ومن ينتمي إليه أو يواليه، وسطر فيه عرضًا محضرًا إلى الدولة نسب إليه فيه أنواعًا من الموبقات التي منها أنه أدخل جماعة من الأقباط في دفتر الأشراف، وقطع أناسًا من الشرفا المستحقين، وصرف راتبهم للأقباط المدخلين.
ومنها أنه تسبب في خراب الإقليم وإثارة الفتن وموالاة البغاة المصريين وتطميعهم في المملكة، حتى إنه وعدهم بالهجوم على البلدة يوم قطع الخليج في غفلة الباشا والناس والعساكر، وأنه هو الذي أغرى المصريين على قتل علي باشا برغل الطرابلسي حين قدم واليًا على مصر، وهو الذي كاتب الإنكليز وطمَّعهم في البلاد مع الألفي حين حضروا إلى إسكندرية وملكوها ونصر الله عليهم العساكر الإسلامية، وغير ذلك من عبارات عكس القضية وتمنيق الأغراض النفسانية، وكتب الأشياخ عليه خطوطهم وطبعوا تحتها ختومهم، ما عدا الطهطاوي الحنفي، فإنه تنحَّى عن الشرور وامتنع من شهادة الزور، فأوسعوه سخطًا ومقتًا وعزلوه من الإفتا، وقد تقدم خبر ذلك في حوادث سنة أربع وعشرين، وإنما المعنى بإعادة ذلك لك هنا تتمة لترجمة المشار إليه، وحذروا من نقصها النسيان لأكثر جملها، فلو سلمت الفكرة من النسيان لفاقت سيرته كان وكان.
وفي سنة ست وعشرين أنشأ دارًا عظيمة بجانب المنزل، وصرف عليها جملًا من المال، وأنشأ بها مجالس وقاعات ورواشن ومنافع ومرافق وفساقي، وأنشا فيها بستانًا غرس فيه أنواع الأشجار المثمرة، وأدخل به ما حازه من دور الأمرا المتخربة، وكان السيد خليل البكري اشترى دارًا بدرب الفرن، وذلك بعد خروج الفرنساوية وخمول أمره وعزله من مشيخة البكرية والنقابة، وأنشا بها بستانًا أنيقًا وأنشا قصرًا برسم ولده مطلًّا على البستان، فلما تُوُفِّيَ السيد خليل تعدى على ولده سيدي أحمد وقهره، وأخذ منه ذلك البستان بأبخس الأتمان وخلطه ببستان الدار الجديدة، وبنى سوره وأحاطه وأقام حايطًا بينه وبين دار المذكور وطمسها وأعماها، وسدت الحايط شبابيك ذلك القصر وأظلمته، ولم يزل كلما طال عمره زاد كِبْره وقَلَّ برُّه وتعدَّى شره، ولما ضعفت قواه تقاعد عن القيام لأعاظم الناس إذا دخل عليه محتجًّا بالإعيا والضعف، ولازم استعمال المنعشات والمركبات المفرحة، ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
وفي شهر شوال من السنة التي تُوُفِّيَ فيها أحضر ابن أخيه سيدي أحمد الذي تولى المشيخة بعده، وألبسه خلعة وتاجًا وجعله وكيلًا عنه في نقابة الأشراف وأركبه فرسًا بعباءة، وأرسله إلى الباشا صحبة سيدي محمد المعروف بأبي دفية وأمامه جاويشية النقابة على العادة، فلما دخلا إلى الباشا وعرَّفه المرسول بأن عمه أقامه وكيلًا عنه، فقال: مبارك، فأشار إليه أن يلبسه خلعة، فقال: إن موكله ألبسه ولم يتقلدها بالأصالة، ولو كنت قلدته أنا كنت أخلع عليه وألبسه، فقام ونزل إلى داره التي أسكنه بها عمه، وهي الدار التي عند المشهد الحسيني، وحضر إليه الناس للسلام والتهنية.
وفي هذه السنة أيضًا عَنَّ للمترجم أن يزيد في المسجد الحسيني زيادة مضافة لزيادته الأولى التي كان زادها في سنة ست ومايتين وألف، فهدم الحايط التي كان بناها الجنوبية، وأدخل القطعة التي كان عمل بها الميضاة وزاد باكية أخرى وصفَّ عواميد، وصارت مع القديمة ليوانًا واحدًا، وشرع في بنا دار عظيمة لينزل فيها وقت مجيه هناك في أيام المولد وغيره، عوضًا عن الدار التي نزل عنها لابن أخيه؛ فتكون هذه بعيدة عن روايح الميضاة القديمة، وتكون بالشارع وتمر من تحتها مواكب الأشاير، ولا يحتاجون إلى تعديهم المسجد ودخولهم من طريق باب القبة، وجعل بالحايط الفاصل بين الزيادة والدار المستجدة شبابيك مطلة على المسجد لينظر منها المجالس والوقودات من يكون بالدار من الحريم وغيرهم، فما هو إلا وقد قرب إتمام ذلك إلا وقد زاد به الإعياء والمرض، وانقطع عن النزول من الحريم، وتمت الزيادة ولم يبقَ إلا إتمام الدار، فيستعجل ويشتم المشد والمهندس، وينسب إليهم إهمال استحثاث العمال، ويقول: قد قرب المولد ولم تكمل الدار فأين نجلس أيام المولد؟ هذا وكل يوم يزيد مرضه، وتورمت قدماه وضعف عن الحركة، وهو يقول ذلك ويؤمل الحياة، فلما زاد به الحال وتحقق الرحيل إلى مغفرة المولى الجليل، أوصى لأتباعه بدراهم، ولذي الفقار الذي كان كتخدا الألفي والآن في خوالة بستان الباشا الذي بشبرا بخمسماية ريال؛ لكون زوجته خشداشة حريمه، وهما من جواري إسماعيل بك الكبير، وليكون معينًا لها ومساعدًا في مهماتها، ولسيدي محمد أبي دفية مثلها في نظير خدمته وتقيده وملازمته له، وأوصى أن لا يُغَسَّل إلا على سريره الهندي الذي كان ينام عليه في حياته ليكون مخالفًا للعالم حتى في حال الموت.
فلما كان يوم الأحد تامن عشره ربيع الأول من السنة انقضى نحبه، وتُوُفِّيَ إلى رحمة الله تعالى وقت العصر وبات بالمنزل ميتًا، فلما أصبح يوم الاتنين غُسِّل وكُفِّن كما أوصى على السرير، وخرجوا بجنازته من المنزل ووصلوا بها إلى الأزهر، فصُلِّي عليه بعدما أنشد المنشد مرثية من إنشا العلامة الشيخ حسن العطار، وجعل براعة استهلالها الإشارة إلى ما كان عليه المترجم من التعاظم والتفاخر.
فقال: سلام على الدنيا فقد ذهب الفخر.
ثم حُمل إلى مشهد أسلافه بالقرافة ودُفن في التربة التي أعدها لنفسه بجانب مقام جدهم، وتقلد مشيخة سجادتهم في ذلك اليوم الشيخ أحمد ابن الشيخ يوسف، وهو ابن عمه وعصبته، وكنيته أبو الإقبال بإجماع من الخاص والعام، وجلس هو وأخوه سيدي يحيى لتلقي العزا، وفي الصباح حضر إلى الرباط بالخرنفش، وكان بزاوية الرباط المذكور خلوة جدهم، أقام بها حين حضر من الغرب إلى مصر، وعادتهم إذا تولى شخص منهم المشيخة، لا بد أن يأتي في الصباح ويدخل الخلوة فيجلس بها حصة لطيفة فيستروحن وتلبسه الولاية، فلما كان المترجم هدم حايط تلك الخلوة زاعمًا أنه خاتمة أولياه، وأنه لم يأتِ من يصلح للمشيخة سواه، كأنه أخذ بذلك عهدًا وميثاقًا، ولم يعلم أن ربه لم يزل خلاقًا، وأن الولاية ليست بفعل العبد ولا بالسعي والقصد، قال الله تعالى في محكم آياته: اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ، وقال سبحانه: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وإِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ، نسأله التوفيق والهداية والحفظ عن أسباب الغواية.
ولما كان ذلك وأحبوا إجرا العادة القديمة حضر المتولي وصحبته أشياخُ الوقت والسيد محمد المحروقي وجماعة الحزب وغيرهم من المتفرجين، وقد جعلوا على محل الخلوة ساترة بدل الحايط المهدوم، ودخل المتولي خلفها وقرا جماعةُ الحزب شيًّا من القرآن، ثم قام النقيب مع الشيخ البكري فتلقوا الشيخ فخرج على الحاضرين متطيلسًا، وصافحهم وركب بصحبتهم إلى القلعة، فخلع عليه كتخدا بك خلعة سمور، وقاموا ونزلوا إلى زاويتهم بالقرافة وأمامهم جماعة الحزب وجاويشية النقابة، فجلسوا حصة وقروا أحزابهم، ثم ركب ورجع إلى المنزل وجلس مع أخيه لعمل المأتم والقراءة الجمعية على العادة، وأرسل كتخدا بك ساعيًا يخبر موته إلى الباشا بالفيوم.
لأنه لما سافر إلى جهة قبلي ووصل إلى ناحية بني سويف، ركب بغلة سريعة العَدْو، وركب خلفه خواصه بالهجن والبغال، فوصلها في أربع ساعات، وانقطع أكثر المتوجهين معه، ومات منهم سبعة عشر هجينًا.
ورجع الساعي بعد تلاتة أيام بجواب الرسالة، ومضمونها عدم التعرض لورثة المُتَوَفَّى حتى يقدم الباشا من غيبته، فبقي الأمر على السكوت أربعة عشر يومًا.
وحضر الباشا ليلة الأحد تامن ربيع الآخر، فبمجرد وصوله إلى الجيزة أرسل بالختم على منزلهم، فما يشعرون إلا وحسين كتخدا الكتخدا بك وبيت المال واصل إليهم ومعهم آخرون، فختموا على المجالس التي بالحريم ومجلس الجلوس الرجالي ختموا على خزاينه.
وقبضوا على الكاتب القبطي المسمى عبد القدوس والفراش وحبسوهما، وعدى الباشا من ليلته إلى بر مصر، وطلع إلى القلعة فركب إليه في صبحها المشايخ وصحبتهم ابن أخي المُتَوَفَّى وهو الذي تولى المشيخة، فخاطبوه وقالوا له كلامًا معناه: أن بيوت الأشياخ مكرمة ولم تجرِ العادة بالختم على أماكنهم، وخصوصًا أن هذا المُتَوَفَّى كان عظيمًا في بابه، وأنتم أخبر به، وكان لكم به مزيد عناية ومراعاة، فقال: نعم، إني لا أريد إهانة بيتهم ولا أطمع في شي مما يتعلق بمشيختهم ولا وظايفهم القديمة، ولا يخفاكم أن المُتَوَفَّى كان طمَّاعًا وجمَّاعًا للمال، وطالت مدته، وحاز التزامات وإقطاعات، وكان لا يحب قرابته ولا يخصهم بشي، بل كتب ما حازه لزوجته وهي جارية نهاية ثمنها ألفا قرش أو أقل أو أكثر، ولم يكتب لأولاد أخيه شيًّا، فلا يصح أن أَمَةً تختص بذلك كله، والخزينة أولى به لاحتياجات مصاريف العساكر ومحاربة الخوارج واستخلاص الحرمين وخزينة السلطان، وأنا أرفع الختم رعاية لخواطركم، فدعوا له وقاموا إلى مجلس الكتخدا.
وخلع على الشيخ المتولي فروة سمور أخرى، وقلد السيد محمد الدواخلي نقابة الأشراف وخلع عليه فروة سمور عوضًا عن سيدي أحمد أبي الإقبال المتولي على خلافة السادات، فانفصل من النقابة ونزلت الجاويشية ولوازم النقابة مثل باش جاويش والكاتب أمام الدواخلي وخلفه، وقلد السيد المحروقي نظارة المشهد الحسيني عوضًا عن المُتَوَفَّى، وكان فرغ بها لابن أخيه فلم ينفذ الباشا ذلك.
وفي تاني يوم حضر الأعوان إلى بيت السادات، وفكوا الختوم وطلبوا سقاء الحريم فأخذوه معهم، وأوجعوه بالضرب وأحضروا البنا وسألوهما عن محل الخبايا، ثم رجعوا إلى المنزل ففتحوا مخبأة مسدودة بالبنا، فوجدوا بها قوالب مساند قطيفة غير محشوة، ووجدوا نحاسًا وقطنًا وأواني صيني، فتركوا ذلك وذهبوا وأبقوا بالدار عدة من العسكر، فباتوا بها ثم رجعوا في تالت يوم وفتحوا مخبأة أخرى، فوجدوا بها أكياسًا مربوطة، فظنوا بداخلها المال ففتحوها فوجدوا بها بن قهوة وبغيرها صابون وشموع عسل ولم يجدوا شيًّا من المال، فتركوا تلك الأشيا ونزلوا إلى قاعة جلوسه، وفتحوا خزانة فوجدوا بها نقودًا فعدوها وحصروها فبلغت ماية وسبعة وعشرين كيسًا فأخذوها.
ثم سعى السيد محمد المحروقي في مصالحة الباشا، حتى قرر عليهم ألف كيس وخمسين كيسًا وخمسة أكياس براني لبيت المال، وخصموا منها الذي وجدوه بالخزانة وطولبوا بالباقي، وذلك بعد التشديد والتهديد على الزوجة وتوعدوها بالتغريق في البحر إن لم تُظهر المال، وأمر الكاتب بحساب إيراده ومصرفه في كل سنة وما صرفه في الأبنية، وينظر ما يتبقى بعد ذلك في مدة سنين ماضية.
فلم يزل السيد محمد المحروقي يدافع ويسعى حتى تقرر القدر المذكور، والتزم هو بدفعه وحولت عليه الحوالات، وضبط الباشا حصص الالتزام باسم الزوجة، ومنها قلقشندة بالقليوبية وسوادة ودفرينة بالجهة القبلية، وغير ذلك.
وبعد انقضا عدة الزوجة استأذن السيد المحروقي الباشا في عقد نكاحها على ابن أخي المُتَوَفَّى الذي هو السيد أحمد أبو الإقبال الذي تولى خلافة بيتهم، فأذن بذلك فحضر في الحال وأجرى العقد بعد أن حكمت عليه بطلاق التي في عصمته، وهي جاريتها زوَّجته بها في حياة عمه، ورُزق منها أولادًا، واستقر المشار إليه في المنزل خليفةً وشيخًا على سجادتهم ومحل سيادتهم، وسكن معه أخوه سيدي يحيى، زادهما الله توفيقًا وخيرًا واتفاقًا، وأشرق نجم المتصدر على أفق السعادة إشراقًا، فهو أبو الإقبال المتحلي بالجمال والكمال.
ومات الشيخ الناسك محمد بن عبد الرحمن اليوسي المغربي.
ورد إلى مصر وحج ورجع ونزل بدار الحاج مصطفى الهجين العطار منجمعًا عن خلطة الناس، والسعي على طريقة حميدة ومذاكرة حسنة، ويأتي إليه الناس يزورونه ويتبركون به ويسألونه الدعا، ويستفهمون منه مسايل فجيب كل إنسان بما ينسر منه، بتواضع وانكسار وتزهيد في الدنيا، وتمرض سنينًا وتُوُفِّيَ يوم التلاتا تامن عشرين المحرم، وصُلِّي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودُفن بجانب الخطيب الشربيني بتربة المجاورين، وهي القرافة الكبرى.