سنة تلاتين ومايتين وألف (١٨١٤م)
استهل المحرم بيوم التلات، وفي خامسه وصل نجاب من الحجاز، وعلى يده مكاتبات بالأخبار عن الباشا والحجاج بأنهم حجوا ووقفوا بعرفة وقضوا المناسك.
وفي تاسعه حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية إلى داره بالجمالية.
وفي عاشره يوم الخميس وصل في ليلته قابجي وعلى يده تقرير للباشا من الحجاز إلى ساحل القصير، فضربوا لذلك مدافع من القلعة.
وفي صبحها خرج ابن الباشا وأخوه وكذلك أكابر دولتهم إلى ناحية البساتين، ومنهم من عدَّى النيل إلى البر الغربي لملاقاته على مقتضى عادته في عجلته في الحضور وعلى حساب مضي الأيام من يوم وصوله إلى القصير، فغابوا في انتظاره حتى انقضى النهار ثم رجعوا.
وفي صبح اليوم التاني خرجوا ثم عادوا إلى دورهم آخر النهار، واستمروا على الخروج والرجوع تلاتة أيام ولم يحضر، وكثر لغط الناس عند ذلك واختلفت رواياتهم وأقاويلهم مدةً ليلًا ونهارًا، ثم ظهر كذلك هذا الخبر وأن الباشا لم يزل بأرض الحجاز، وقيل: إن سبب إشاعة خبر مجيه أنه وصل إلى ساحل القصير سفينة بها سبعة عشر شخصًا من العسكر، فسألهم الوكيل الكاين بالقصير عن مجيهم، فأجابوه: إنهم مقدمة الباشا، وإنه واصل في أثرهم، فعندما سمع جوابهم أرسل خطابًا إلى كاتب من الأقباط بقنا يعرِّفه بقدوم الباشا، فكتب ذلك القبطي خطابًا إلى وكيل شخص من أعيان كتبة الأقباط بأسيوط يسمى المعلم بشارة، فعندما وصله الجواب أرسل جوابًا إلى موكله بشارة المذكور بمصر بذلك الخبر.
وفي الحال طلع به إلى القلعة وأعطاه لإبراهيم باشا، فانتقل به إبراهيم باشا إلى مجلس كتخدا بك، فخلع كتخدا بك على بشارة خلعة وأمر بضرب المدافع، ونزلت المبشرون وانتشروا بالبشاير إلى بيوت الأعيان وأخذ البقاشيش.
ولما حصل التراخي والتباطؤ والتأخر في الحضور بعد الإشاعة أخذ الناس في اختلاق الروايات والأقاويل كعادتهم، فمنهم من يقول حضر مهزومًا، ومنهم من يقول مجروحًا، ومنهم من يثبت موته، والشي الذي أوجب في الناس هذه التخليطات ما شاهدوه من حركات أهل الدولة وانتقال نساهم من المدينة وطلوعهم إلى القلعة بمتاعهم وإخلا الكثير منهم البيوت، وانتقال طايفة الأرنؤد من الدور المتباعدة واجتماعهم وسكناهم بناحية خطة عابدين.
وكذلك انتقل إبراهيم باشا إلى القلعة ونقل إليها الكثير من متاعه.
وأغربُ من هذا كله إشاعة اتفاق عظما الدولة على ولاية إبراهيم باشا على الأحكام عوضًا عن أبيه في يوم الخميس، ويرتبون له موكبًا يركب فيه ذلك اليوم ويشق من وسط المدينة، واجتمع الناس للفرجة عليه واصطفوا على المساطب والدكاكين فلم يحصل، وظهر كذب ذلك كله وبطلانه.
واتفق في أثنا ذلك من زيادة الأوهام والتخبيلات أن رضوان كاشف المعروف بالشعراوي سَدَّ باب داره التي بالشارع بخط باب الشعرية، وفتح له بابًا صغيرًا من داخل العطفة التي بظاهره، فأوشى بعض مبغضيه إلى كتخدا بك فعلته في هذا الوقت، والناس يزداد بهم الوهم ويعتقدون صحة ما دار بينهم من الأكاذيب، وخصوصًا كونه من الأعيان المعروفين، فطلبه كتخدا بك وقال له: لأي شي سددت باب دارك، وما الذي قاله المنجم لك؟ فقال: إن طايفة من العساكر تشاجروا بالخطة ودخلوا إلى الدار وأزعجونا فسددتها من ناحية الشارع بُعدًا من الشر وخوفًا مما جرى على داري سابقًا من النهب، فلم يلتفت لكلامه وأمر بقتله فشفع فيه صالح بك السلحدار وحسن أغا مستحفظان، فعفا عنه من القتل وأمر بضربه فبطحوه وضربوه بالعصي، ثم نزل بصحبته الأغا إلى داره وفتح الباب كما كان.
وفي رابع عشرينه وصلت مكاتبات من الديار الحجازية من عند الباشا وخلافه مؤرخة في تالت عشر ذي الحجة يذكرون فيها أن الباشا بمكة وطوسون باشا ابنه بالمدينة، وحسن باشا وأخاه عابدين بك وخلافهم بالكلخة ما بين الطايف وتربة.
واستهل شهر صفر الخير بيوم الخميس (سنة ١٢٣٠)
في غرته أعيد إلى مشيخة الحنفية الشيخ أحمد إسماعيل الطهطاوي، ولبس الخلع من الشيخ الشنواني شيخ الأزهر، ثم من الباشا وباقي المشايخ وأرباب المظاهر، ولم يختلف عليه اثنان.
في خامس عشرينه نودي بنقص مصارفة أصناف المعاملة، وقد وصل صرف الريال الفرانسة من الفضة العددية إلى تلتماية وأربعين نصفًا، عنها تمانية قروش ونصف، فنودي عليه بنقص نصف قرش، والمحبوب وصل إلى عشرة قروش، فنودي عليه بتسعة قروش، وشددوا في هذه المناداة تشديدًا زايدًا، وقُتل كل من زاد على ذلك من غير معارضة، وكتبوا مراسيم إلى جميع البنادر وفيها التشديد والتهديد والانتقام ممن يزيد.
وفي أواخره التزم المعلم غالي بمال الجزية التي تُطلب من النصارى على خمسة وثمانين كيسًا؛ وسبب ذلك أن بعض أتباع المقيد لقبض الجوالي قبض على شخص من النصارى، وكان من قسوسهم، وشدد عليه في الطلب وأهانه، فأنهوا الأمر إلى المعلم غالي ففعل ذلك قصدًا لمنع الإيذاء عن أبناء جنسه، ويكون الطلب منه عليهم ومنع المتظاهرين بالإسلام عنهم.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم السبت (سنة ١٢٣٠)
في تاسعه وصلت قافلة طياري من الحجاز قدم صحبتها السيد عبد الله الأقماعي، ومعها هجانة من الحجاز وعلى يدهم مكاتبات، وفيها الأخبار والبشرى بنصرة الباشا على العرب، وأنه استولى على تربة وغَنِمَ منها جِمالًا وغنايم وأخذ منهم أسرى، فلما وصلت الأخبار بذلك انطلق المبشرون إلى بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش، وضربوا في صبحها مدافع كثيرة من القلعة.
وفي يوم التلات حادي عشره كان المولد النبوي، فنودي في صبحه بزينة المدينة وبولاق ومصر القديمة، ووقود القناديل والسهر تلاتة أيام بلياليها، فلما أصبح يوم الأربع والزينة بحالها إلى بعد أذان العصر، نودي برفعها ففرح أهل الأسواق بإزالتها ورفعها لما يحصل لهم من التكاليف والسهر في البرد والهوا، خصوصًا وقد حصل في آخر ليلة رياح شديدة باردة.
وفي هذه الأيام سافر محمود بك والمعلم غالي ومن يصحبهم من النصارى والأقباط، وأخذوا معهم طايفة من الكتبة الأفندية المختصين بالروزنامة، ومنهم محمد أفندي ابن حسين أفندي المنفصل عن الروزنامة، ونزلوا لإعادة قياس الأراضي وتحرير الري والشراقي، وسبقهم القياسون بالأقصاب، نزلوا وسرحوا قبلهم بنحو عشرة أيام، وشرع كشاف النواحي في قبض الترويجة من المزارعين، وفرضوا على كل فدان الأدنى تسع ريالات إلى خمسة عشر بحسب جودة الأراضي وردايتها، وهذا الطلب في غير وقته؛ لأنه لم يحصل حصاد للزرع، وليس عند الفلاحين ما يقتاتون منه، ومن العجب أنه لم يقع مطر في هذه السنة أبدًا، ومضت أيام الشتا ودخل فصل الربيع ولم يقع غيث أبدًا سوى ما كان يحصل بعض الأيام من غيوم وأهوية غريبة، ينزل مع هبوبها بعض رشاش قليل لا تبتل الأرض منه، ويجف بالهواء بمجرد نزوله.
وفي أواخره ورد لحضرة الباشا هدية من بلاد الإنكليز، وفيها طيور مختلفة الأجناس والأشكال كبار وصغار، وفيها ما يتكلم ويحاكي، وآلة مصنوعة لنقل الماء يقال لها الطلمبة، وهي تنقل الماء المسافة البعيدة، ومن الأسفل إلى العلو، ومرآة زجاج نجف كبيرة قطعة واحدة، وساعة تضرب مقامات موسيقى في كل ربع يمضي من الساعة بأنغام مطربة، وشمعدان به حركة غريبة كلما طالت فتيلة الشمعة غمر بحركة لطيفة، فيخرج منه شخص لطيف من جانبه فيقص راس الفتيلة بمقص لطيف بيده، ويعود راجعًا إلى داخل الشمعدان؛ هذا ما بلغني ممن ادَّعى أنه شاهد ذلك.
وفيه عملوا تسعيرة على المبيعات والمأكولات، مثل اللحم والسمن والجبن والشمع، ونادوا بنقص أسعارها نقصًا فاحشًا، وشددوا في ذلك بالتنكيل والشنق والتعليق وخرم الآناف، فارتفع السمن والزبد والزيت من الحوانيت وأخفوه، وطفقوا يبيعونه في العشيات بالسعر الذي يختارونه على الزبون، وأما السمن فلكثرة طلبه لأهل الدولة شح وجوده، وإذا ورد منه شي خطفوه وأخذوه من الطريق بالسعر الذي سعَّره الحاكم، وانعدم وجوده عند القبانية، وإذا بيع منه شي بيع سرًّا بأقصى الثمن، وأما السكر والصابون فبلغا الغاية في غلو الثمن وقلة الوجود؛ لأن إبراهيم باشا احتكر السكر بأجمعه الذي يأتي من الصعيد، وليس بغير الجهة القبلية شي منه، فيبيعه على ذمته، وهو في الحقيقة لأبيه ثم صار نفس الباشا يعطيه لأهل المطابخ بالثمن الذي يعينه عليهم، ويشاركهم في ربحه؛ فزاد غلو ثمنه على الناس، وبيع الرطل من السكر الصعيدي الذي كان يباع بخمسة أنصاف فضة بثمانين نصفًا، وأما الصابون ففرضوا على تجاره غرامة فامتنع وجوده، وبيع الرطل الواحد منه خفية بستين نصفًا وأكثر، وفي هذه الأيام غلا سعر الحنطة والفول، وبيع الأردب بألف ومايتي نصف فضة خلاف الكلف والأجرة، مع أن الأهراء والشون ببولاق ملآنة بالغلال، ويأكلها السوس، ولا يُخرجون منها للبيع شيًّا حتى قيل لكتخدا بك في إخراج شي منها يباع في الناس فلم يأذن، وكأنه لم يكن مأذونًا من مخدومه.
واستهل شهر ربيع التاني بيوم الاتنين (سنة ١٢٣٠)
في تامنه عمل محرم بك الكورنتيلة بالجيزة على نسق السنة الماضية من إخراج الناس وإزعاجهم تطيُّرًا وخوفًا من الطاعون.
وفيه خوزقوا شيخ عرب بلى فيما بين قبة العزب والهمايل بعد حبسه أربعة أشهر.
وفي يوم الجمعة تامن عشرينه ضربت مدافع، وأشيع الخبر بوصول شخص عسكري بمكاتبات من الباشا وخلافه، والخبر بقدوم الباشا، وانتشرت المبشرون إلى بيوت الأعيان وأصحاب المظاهر على عاداتهم لأخذ البقاشيش، فمِن قايل إنه وصل إلى القصير، ومِن قايل إنه نزل إلى السفينة بالبحر، ومنهم من يقول إنه حضر إلى السويس، ثم اختلفت الروايات وقالوا إن الذي وصل إلى السويس حريم الباشا فقط، ثم تبين كذب هذه الأقاويل وأنها مكاتبات فقط مؤرخة أواخر شهر صفر يذكرون فيها أن الباشا حصل له نصر واستولى على ناحية يقال لها بيشة ورنية وقتل الكثير من الوهابيين، وأنه عازم على الذهاب إلى ناحية قنفدة، ثم ينزل بعد ذلك البحر ويأتي إلى مصر، ووصل الخبر بوفاة الشيخ إبراهيم كاتب الصرة.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم التلات (سنة ١٢٣٠)
في سادسه يوم الأحد ضُربت مدافع بعد الظهيرة لورود مكاتبة بأن الباشا استولى على ناحية من النواحي جهة قنفدة.
وفي يوم الجمعة تامن عشره وصل المحمل إلى بركة الحج وصحبته من بقي من رجال الركب مثل خطيب الجبل والصيرفي والمحملجية، ووردت مكاتبات بالقبض على طامي الذي جرى منه ما جرى في وقايع قنفدة السابقة وقتله العساكر، فلم يزل راجح الذي اصطلح مع الباشا ينصب له الحبايل حتى صاده.
وذلك أنه عمل لابن أخيه مبلغًا من المال إن هو أوقعه في شركه، فعمل له وليمة ودعاه إلى محله فأتاه آمنًا، فقبض عليه طمعًا في المال، وأتوا به إلى عرضي الباشا فوجهه إلى بندر جدة في الحال، وأنزلوه السفينة وحضروا به إلى السويس وعجلوا بحضوره، فلما وصل إلى البركة والمحمل إذ ذاك بها خرجت جميع العساكر في ليلة الاتنين حادي عشرينه، وانجروا في صبحها طوايف وخلفهم المحمل، وبعد مرورهم دخلوا بطامي المذكور وهو راكب على هجين وفي رقبته الحديد والجنزير مربوط في عنق الهجين، وصورته رجل شهم عظيم اللحية وهو لابس عباية عبداني، ويقرأ وهو راكب، وعملوا في ذلك اليوم شنكًا ومدافع، وحضر أيضًا عابدين بك وتوجه إلى داره في ليلة الاتنين.
واستهل شهر جمادى الثانية بيوم الخميس (سنة ١٢٣٠)
في خامسه وصلت عساكر في داوات إلى السويس، وحضروا إلى مصر، وعلى روسهم شلنجات فضة إعلامًا، وإشارة بأنهم مجاهدون وعايدون من غزو الكفار، وأنهم افتتحوا بلاد الحرمين وطردوا المخالفين لديانتهم، حتى إن طوسون باشا وحسن باشا كتبا في إمضاهما على المراسلات بعد اسمهما لفظة المغازي، والله أعلم بخلقه.
وفي تاسعه أخرجوا عساكر كثيرة، وجهوهم إلى الثغور ومحافظة الأساكل خوفًا من طارق يطرق الثغور؛ لأنه أشيع أن بونابارته كبير الفرنساوية خرج من الجزيرة التي كان بها، ورجع إلى فرنسا وملكها وأغار على بلاد الجورنة، وخرج بعمارة كبيرة لا يعلم قصده إلى أي جهة يريد، فربما طرق ثغر إسكندرية أو دمياط على حين غفلة، وقيل غير ذلك.
وسيل كتخدا بك عن سبب خروجهم فقال: خوفًا عليهم من الطاعون، ولئلا يوخموا المدينة؛ لأنه وقع في هذه السنة موتان بالطاعون، وهلك الكثير من العسكر وأهل البلدة والأطفال والجواري والعبيد، خصوصًا السودان، فإنه لم يبقَ منهم إلا القليل النادر وخلت منهم الدور.
وفي منتصفه أخرج كتخدا بك صدقة تفرق على الأولاد الأيتام الذين يقرون بالكتاتيب، ويَدْعُون برفع الطاعون، فكانوا يجمعونهم ويأتي بهم فُقهاهم إلى بيت حسين كتخدا الكتخدا عند حيضان مُصْلى، ويدفعون لكل صغير ورقة بها ستون نصفًا فضة، يأخذ منها جزأً الذي يجمع الطايفة منهم، ويدعي أنه معلمهم زيادة عن حصته؛ لأن معظم المكاتب مغلوقة وليس بها أحد بسبب تعطيل الأوقاف وقطع إيرادهم، وصار لهذه الأطفال جلبة وغوغا في الأسواق وعلى بيت الذي يقسم عليهم.
واستهل شهر رجب بيوم الجمعة (سنة ١٢٣٠)
في سادسه يوم الأربع وصلت هجانة من ناحية قبلي، وأخبروا بوصول الباشا إلى القصير، فخلع عليهم كتخدا بك كساوي، ولم يأمر بعمل شنك ولا مدافع حتى يتحقق صحة الخبر.
وفي ليلة الجمعة تامنه احترق بيت طاهر باشا بالأزبكية والبيت الذي بجواره أيضًا.
وفي يوم الجمعة المذكورة قبل العصر ضربت مدافع كثيرة من القلعة والجيزة، وذلك عندما ثبت وتحقق ورود الباشا إلى قنا وقوص، ووصل أيضًا حريم الباشا وطلعوا إلى قصر شبرا، وركب للسلام عليها جميع نسا الأكابر والأعيان بهداياهم وتقادمهم، ومنعوا المارين من المسافرين والفلاحين الواصلين من الأرياف المرور من تحت القصر، الذي هو الطريق المعتادة للمسافرين، فكانوا يذهبون ويمرون من طريق استحدثوها منعطفة خلف تلك الطريق ومستبعدة بمسافة طويلة.
وفي ليلة الخميس رابع عشره انخسف جرم القمر جميعه بعد الساعة التالتة، وكان في آخر برج القوس.
وفي ليلة الجمعة خامس عشره وصل الباشا إلى الجيزة ليلًا فأقام بها إلى آخر الليل، ثم حضر إلى داره بالأزبكية فأقام بها يومين، وحضر كتخدا بك وأكابر دولته للسلام عليه فلم يأذن لأحد، وكذلك مشايخ الوقت ذهبوا ورجعوا، ولم يجتمع به أحد سوى تاني يوم.
وترادفت عليه التقادم والهدايا من كل نوع من أكابر الدولة والنصارى بأجناسهم، خصوصًا الأرمن وخلافهم بكل صنف من التحف حتى السراري البيض بالحلي والجواهر وغير ذلك، وأشيع في الناس في المصر وفي القرى بأنه تاب عن الظلم وعزم على إقامة العدل، وأنه نذر على نفسه أنه إذا رجع منصورًا واستولى على أرض الحجاز أفرج للناس عن حصصهم، ورد الأرزاق الإحباسية إلى أهلها.
وزادوا على هذه الإشاعة أنه فعل ذلك في البلاد القبلية ورد كل شي إلى أصله، وتناقلوا ذلك في جميع النواحي، وباتوا يتخيلونه في أحلامهم.
ولما مضى من وقت حضوره تلاتة أيام كتبوا أوراقًا لمشاهير الملتزمين، مضمونها أنه بلغ حضرة أفندينا ما فعله الأقباط من ظلم الملتزمين والجور عليهم في فايظهم فلم يرضَ بذلك، والحال أنكم تحضرون بعد أربعة أيام، وتحاسبوا على فايظكم وتقبضونه، فإن أفندينا لا يرضى بالظلم، وعلى الأوراق إمضا الدفتردار، ففرح أكثر المغفلين بهذا الكلام واعتقدوا صحته.
وأشاعوا أيضًا أنه نصب تجاه قصر شبرا خوازيق للمعلم غالي وأكابر القبط.
وفي رابع عشرينه حضر الكثير من أصحاب الأرزاق الكاينين بالقرى والبلاد مشايخ وأشرافًا وفلاحين، ومعهم بيارق وأعلام مستبشرين وفرحين بما سمعوه وأشاعوه، وذهبوا إلى الباشا وهو يعمل رماحة بناحية القبة برمي بنادق كثيرة وميدان تعليم، فلما رآهم وأخبروه عن سبب مجيهم فأمر بضربهم وطردهم، ففعلوا بهم ذلك ورجعوا خايبين.
وفيه حضر محمود بك والمعلم غالي من سرحتهما وقابلا الباشا، وخلع عليهما وكساهما وألبسهما فراوي سمور، فركب المعلم غالي وعليه الخلعة وشق من وسط المدينة وخلفه عدة كثيرة من الأقباط ليراه الناس ويكمد الأعدا ويبطل ما قيل من التقولات، ثم أقام هو ومحمود بك أيامًا قليلة ورجعا لأشغالهما وتتميم أفعالهما من تحرير القياس وجبي الأموال.
وكانا أرسلا قبل حضورهما عدة كثيرة من الجِمال الحاملة للأموال في كل يوم قطارات بعضها أثر بعض من الشرقية والغربية والمنوفية وباقي الأقاليم.
وفيه حضر شيخ طرهونة بجهة قبلي، ويسمى كريم بضم الكاف وفتح الرا وتشديد الياء وسكون الميم، وكان عاصيًا على الباشا ولم يقابله أبدًا، فلم يزل يحتال عليه إبراهيم باشا ويصالحه ويُمنِّيه حتى أتى إليه وقابله وأمَّنه، فلما حضر الباشا أبوه من الحجاز أتاه على أمان ابنه، وقدم معه هدية وأربعين من الإبل، فقبل هديته ثم أمر برمي عنقه بالرميلة.
واستهل شهر شعبان (سنة ١٢٣٠) بيوم الأحد
والناس في أمر مريج من قطع أرزاقهم، وأرباب الالتزامات والحصص التي ضبطها الباشا ورفع أيديهم عن التصرف في شي منها خلا طين الأوسية، فإنه سامحهم فيه سوى ما زاد عن الروك الذي قاسوه فإنه لديوانه، ووعدهم بصرف المال الحر المعين بالسند الديواني فقط بعد التحرير والمحاققة ومناقضة الكتبة الأقباط في القوايم.
وأقاموا منتظرين إنجاز وعده أيامًا يغدون ويروحون ويسألون الكتبة ومن له صلة بهم، وقد ضاق خناقهم من التفليس وقطع الإيراد ورضوا بالأقل وتشوَّفوا لحصوله، وكل قليل يوعدون بعد أربعة أيام أو تلاتة أيام حتى تحرر الدفاتر، فإذا تحررت قيل: إن الباشا أمر بتغييرها وتحريرها على نسق آخر، ويكرر ذلك ثانيًا وتالتًا على حسب تفاوت المتحصل في السنين، وما يتوفره في الخزينة قليلًا أو كثيرًا.
وفيه وصل رجل تركي على طريق دمياط، يزعم أنه عاش من العمر زمنًا طويلًا، وأنه أدرك أوايل القرن العاشر ويذكر أنه حضر إلى مصر مع السلطان، وأدرك وقته وواقعته مع السلطان الغوري، وكان في ذلك الوقت تابعًا لبعض البيرقدارية، وشاع ذكره وحكى من رآه أن ذاته تخالف دعواه، وامتحنه البعض في مذاكرة الأخبار والوقايع فحصل منه تخليط ثم أمر الباشا بنفيه وإبعاده فأنزلوه في مركب وغاب خبره، فيقال إنهم أغرقوه، والله أعلم.
وفي خامس عشرينه عملوا الديوان ببيت الدفتردار وفتحوا باب صرف الفايظ على أرباب حصص الالتزام فجعلوا يعطون منه جانبًا، وأكثر ما يعطونه نصف القدر الذي قرروه وأقل وأزيد قليلًا.
وفيه أمر الباشا لجميع العساكر بالخروج إلى الميدان لعمل التعليم والرماحة خارج باب النصر، حيث قبة العزب فخرجوا من تلت الليل الأخير، وأخذوا في الرماحة والبندقة المتواصلة المتتابعة، مثل الرعود على طريقة الإفرنج، وذلك قُبَيل الفجر إلى الضحوة.
ولما انقضى ذلك رجعوا داخلين إلى المدينة في كبكبة عظيمة، حتى زحموا الطرق بخيولهم من كل ناحية، وداسوا أشخاصًا من الناس بخيولهم، بل حميرًا أيضًا.
وأشيع أن الباشا قصده إحصا العسكر وترتيبهم على النظام الجديد وأوضاع الإفرنج، ويلبسهم الملابس المقمطة ويغير شكلهم، وركب في تاني يوم إلى بولاق، وجمع عساكر ابنه إسماعيل باشا وصنَّفهم على الطريقة المعروفة بالنظام الجديد وعرَّفهم قصده، فعل ذلك بجميع العساكر، ومن أبى ذلك قابله بالضرب والطرد والنفي بعد سلبه حتى من ثيابه.
ثم ركب من بولاق وذهب إلى شبرا، وحصل في العسكر قلقلة ولغط وتناجوا فيما بينهم، وتفرق الكثير منهم عن مخاديمهم وأكابرهم، ووافقهم على النفور بعض أعيانهم واتفقوا على غدر الباشا.
ثم إن الباشا ركب من قصر شبرا وحضر إلى بيت الأزبكية ليلة الجمعة تامن عشرينه، وقد اجتمع عند عابدين بك بداره جماعة من أكابرهم في وليمة، وفيهم حجو بك وعبد الله أغا صاري جلة وحسن أغا الأزرنجلي، فتفاوضوا بينهم أمر الباشا وما هو شارع فيه.
واتفقوا على الهجوم عليه في داره بالأزبكية في الفجرية، ثم إن عابدين بك غافلهم وتركهم في أنسهم وخرج متنكرًا مسرعًا إلى الباشا وأخبره ورجع إلى أصحابه، فأسرع الباشا في الحال الركوب في سادس ساعة من الليل، وطلب عساكر طاهر باشا فركبوا معه وحوَّط المنزل بالعساكر.
ثم أخلف الطريق وذهب على ناحية الناصرية ومرمى النشاب، وصعد إلى القلعة وتبعه من يثق به من العساكر وانخرم أمر المتوافقين، ولم يسعهم الرجوع عن عزيمتهم فساروا إلى بيت الباشا يريدون نهبه، فمانعهم المرابطون وتضاربوا بالرصاص والبنادق، وقتل بينهم أشخاص ولم ينالوا غرضًا.
فساروا على ناحية القلعة واجتمعوا بالرميلة وقراميدان، وتحيروا في أمرهم واشتد غيظهم، وعلموا أو وقوفهم بالرميلة لا يجدي شيًّا، وقد أظهروا المخاصمة، ولا ثمرة تعود عليهم في رجوعهم وسكونهم، بل ينكسف بالهم وتنذلُّ أنفسُهم ويلحقهم اللوم من أقرانهم الذين لم ينضموا إليهم، فأجمع رأيهم لسو طباعهم وخبث عقيدتهم وطرايقهم أنهم يتفرقون في شوارع المدينة، وينهبون متاع الرعية وأموالهم، فإذا فعلوا ذلك فيكثر جمعهم وتقوى شوكتهم ويشاركهم المتخلفون عنهم لرغبة الجميع في القبايح الذميمة، ويعودون بالغنيمة، ويحوصلون من الحواصل ولا يضيع سعيهم في الباطل، كما يقال في المثل: ما قَدَرْ على ضرب الحمار فضربَ البردعة.
ونزلوا على وسط قصبة المدينة على الصليبة وعلى السروجية، وهم يكسرون ويهشمون أبواب الحوانيت المغلوقة وينهبون ما فيها؛ لأن الناس لما تسامعوا بالحركة أغلقوا حوانيتهم وأبوابهم، وتركوا أسبابهم طلبًا للسلامة، وعندما شاهد باقيهم ذلك أسرعوا اللحوق وبادروا معهم للنهب والخطف، بل وشاركهم الكثير من الشطار والزُّعْر والعامة المقلين والجياع ومن لا دين له، وعند ذلك كثر جمعهم ومضوا على طريقهم إلى قصبة رضوان إلى داخل باب زويلة، وكسروا حوانيت السكرية وأخذوا ما وجدوه من الدراهم وما أحبوه من أصناف السكر، فجعلوا يأكلون ويحملون ويبددون الذي لم يأخذوه، ويلقونه تحت الأرجل في الطريق، وكسروا أواني الحلوى وقدور المربيات، وفيها ما هو الصيني والبباغوري والإفرنجي، ومجامع الأشربة، وأقراص الحلوى الملونة والرشال والملبس والفانيد والحماض والبنفسج، وبعد أن يأكلوا ويحملوا هم وأتباعهم ومن انضاف لهم من الأوباش البلدية والحرافيش والجعيدية، يلقون ما فضل عنهم على قارعة الطريق، بحيث صار السوق من حدِّ باب زويلة إلى المناخلية مع اتساعه وطوله مرسومًا، ومنقوشًا بألوان السكاكر وأقراص الحلوى الملونة وأعسال المربيات سايلة على الأرض.
وكان أهل ذلك السوق المتسببون جددوا وطبخوا أنواع المربيات والأشربة عند وفور الفواكه وكثرتها في أوانها، وهو هذا الشهر المبارك، مثل الخوخ والتفاح والبرقوق والتوت والقرع المسير والحصرم والسفرجل، وملوا الأوعية وصففوها على حوانيتهم للمبيع، وخصوصًا على موسم شهر رمضان.
ومضوا في سيرهم إلى العقادين الرومي والغورية والأشرفية وسوق الصاغة، ووصلت طايفة إلى سوق مرجوش، فكسروا أبواب الحوانيت والوكايل والخانات، ونهبوا ما في حواصل التجار من الأقمشة المحلاوي والبز والحرير والزردخان.
ولما وصلت طايفة إلى راس خان الخليلي وأرادوا العبور والنهب، فزعت فيهم الأتراك والأرنؤد الذين يتعاطون التجارة الساكنون بخان اللبن والنحاس وغيرهما، وضربوا عليهم الرصاص، وكذلك من سوق الصرماتية والأتراك الخردجية الساكنون بالرباع بباب الزهومة، جعلوا يرمون عليهم من الطيقان بالرصاص حتى ردوهم ومنعوهم.
وكذلك تعصبت طايفة المغاربة الكاينون بالفحامين والكعكيين رموا عليهم بالرصاص وطردوهم عن تلك الناحية، وأغلقوا البوابات التي على روس العطف، وجلس عند كل درب أناس ومِنْ فوقهم أناس من أهل الخطة بالرصاص تمنع الواصل إليهم، ووصلت طايفة إلى خان الحمزاوي، فعالجوا في بابه حتى كسروا الخوخة التي في الباب، وعبروا الخان وكسروا حواصل التجار من نصارى الشوام وغيرهم، ونهبوا ما وجدوه من النقود وأنواع الأقمشة الهندية والشامية والمقصبات وبالات الجوخ والقطيفة والأصوفة وأنواع الأطلس والألاجات والسلاوي والجنفس والصندل والحَبَر وأنواع الشيت والحرير الخام والإبريسم وغير ذلك، وتبعهم الخدم والعامة في النهب وأخرجوا ما في الدكاكين والحواصل من أنواع الأقمشة، وأخذوا ما أعجبهم واختاروه وانتقوه، وتركوا ما تركوه ولم يقدروا على حمله مطروحًا على الأرض ودهليز الخان وخارج السوق، يطئون عليه الأرجل والنعالات، ويعدو القوي على الضعيف فيأخذ ما معه من الأشياء الثمينة، وقتل بعضهم البعض.
وكسروا أبواب الدكاكين التي خارج خان بالخطة، وأخرجوا ما فيها من التحف والأواني الصيني والزجاج المذهب والكاسات البلور والصحون والأطباق والفناجين البيشة، وأنواع الخردة، وأخذوا ما أعجبهم وما وجدوه من نقود ودراهم، وهشموا البواقي وكسروه وألقوه على الأرض تحت الأرجل شُقَافًا متنوعة.
وكذلك فعلوا بسوق البندقانيين وما به من حوانيت العطارين، وطرحوا أنواع الأشيا العطرية بوسط الشارع تداس بالأرجل أيضًا، وفعلوا ما لا خير فيه من نهب أموال الناس والإتلاف، ولولا الذين تصدوا لدفعهم ومنعهم بالبنادق والكرانك وغلق البوابات لكان الوقع أفظع من ذلك، ولنهبوا أيضًا البيوت وفجروا بالنسا والعياذ بالله، ولكن الله سلَّم، وشاركهم في فعلهم الكثير من الأوباش والمغاربة المدافعين أيضًا، فإنهم أخذوا أشيا كثيرة، وكانوا يقبضون على من يمر بهم ممن يقدرون عليه من النهابين، ويأخذون ما معهم لأنفسهم، وإذا هشمت العساكر حانوتًا وخطفوا منها شيًّا ولحقهم من يطردهم عنها، استأصل اللاحقون ما فيها، واستباح الناس أموال بعضهم البعض.
وكان هذا الحادث الذي لم نسمع بنظيره في دولة من الدول في ظرف خمس ساعات، وذلك من قبيل صلاة الجمعة إلى قبيل العصر، حصل للناس في هذه المدة اليسيرة من الانزعاج والخوف الشديد ونهب الأموال وإتلاف الأسباب والبضايع ما لا يوصف.
ولم تُصَلَّ الجمعة في ذلك اليوم، وأُغلقت المساجد الكاينة بداخل المدينة، وأخذ الناس حِذرهم ولبسوا أسلحتهم وأغلقوا البوابات وقعدوا على الكرانك والمرابط والمتاريس، وسهروا الليالي وأقاموا على التحذر والتحفظ والتخوف أيامًا وليالي.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه الموافق لآخر يوم من شهر أبيب القبطي أوفى النيل المبارك أذرعه، وكان ذلك اليوم أيضًا ليلة رؤية هلال رمضان، فصادف حصول الموسمين في آن واحد، فلم يعمل فيها موسم ولا شنك على العادة، ولم يركب المحتسب ولا أرباب الحرف بموكبهم وطبولهم وزمورهم، وكذلك شنك قطع الخليج وما كان يعمل في ليلته من المهرجان في النيل وسواحله وعند السد، وكذلك في صبحه وفي البيوت المطلة على الخليج، فبطل ذلك جميعه ولم يشعر بهما أحد وصام الناس باجتهادهم.
وكان وفاء النيل في هذه السنة من النوادر، فإن النيل لم تحصل فيه الزيادة بطول الأيام التي مضت من شهر أبيب إلا شيًّا يسيرًا، حتى حصل في الناس وهْم زايد وغلا سعر الغلة ورفعوها من السواحل والعرصات، فأفاض المولى في النيل واندفعت فيه الزيادة العظيمة، وفي ليلتين أوفى أذرعه قبل مظنته، فإن الوفا لا يقع في الغالب إلا في شهر مسرى، ولم يحصل في أواخر أبيب إلا في النادر.
وإني لم أدركه في سنين عمري أو في أبيب إلا مرة واحدة، وذلك في سنة تلات وثمانين وماية وألف، فتكون المدة بين تلك وهذه المدة سبعًا وأربعين سنة.
وفيه أرسل الباشا بطلب السيد محمد المحروقي، فطلع إليه وصحبته عدة كبيرة من عسكر المغاربة لخفارته، فلما واجهه قال له: هذا الذي حصل للناس من نهب أموالهم في صحايفي، والقصد أنكم تتقدمون لأرباب المنهوبات وتجمعونهم بديوان خاص طايفة بعد أخرى، وتكتبون قوايم لكل طايفة بما ضاع لها على وجه التحرير والصحة، وأنا أقوم لهم بدفعه بالغًا ما بلغ، فشكر له ودعا له ونزل إلى داره وعرَّف الناس بذلك وشاع بينهم، فحصل لأربابه بعض الاطمينان.
وطلع إلى الباشا كبار العسكر مثل عابدين بك ودبوس أوغلي وحجو بك ومحو بك، واعتذروا وتنصلوا وذكروا وأقروا أن هذا الواقع اشتركت فيه طوايف العسكر، وفيهم من طوايفهم وعساكرهم، ولا يخفاه خبثُ طباعهم، فتقدم إليهم بأن يتفقدوا بالفحص وإحصا ما حازه وأخذه كلٌّ من طوايفهم وعساكرهم وشدَّد عليهم في الأمر بذلك، فأجابوه بالسمع والطاعة وامتثلوا لأمره، وأخذوا في جمع ما يمكنهم وإرساله إلى القلعة، وركبوا وشقوا بشوارع المدينة وأمامهم المناداة بالأمان، وأحضر الباشا المعمار وأمره بجمع النجارين والمعمرين وإشغالهم في تعمير ما تكسر من أخشاب الدكاكين والأسواق، ويدفع لهم أجرتهم، وكذلك الأخشاب على طرف الميري.
واستهل شهر رمضان بيوم الاتنين (سنة ١٢٣٠)
والناس في أمر مريج، وتخوُّف شديد، وملازمون للسهر على الكرانك، ويتحاشون المشي والذهاب والمجي، وكل أهل خطة ملازم لخطته وحارته، وكل وقت يذكرون وينقلون بينهم روايات وحكايات ووقايع مزعجات، وتطاولت أيدي العساكر بالتعدي والأذية والفتك والقتل لمن ينفردون به من الرعية.
وفي تاني ليلة طلع السيد محمد المحروقي، وطلع صحبته الشيخ محمد الدواخلي نقيب الأشراف وابن الشيخ العروسي وابن الصاوي المتعينون في مشيخة الوقت، وصحبتهم شيخ الغورية وطايفته وقد ابتدوا بهم في إملا ما نُهب لهم من حوانيتهم بعدما حرروها عند السيد محمد المحروقي، وتحليفهم بعد الإملا على صدق دعواهم، وبعد التحليف والمحاققة يتجاوز عن بعضه لحضرة الباشا ثم يثبتون له الباقي، فاستقر لأهل الغورية خاصة ماية وتمانون كيسًا، فدفع لهم تلتيها وأخر لهم التلت، وهو ستون كيسًا يستوفونها فيما بعد، إما عن عُروضهم إن ظهر لهم منها شي، أو من الخزينة.
ولازم الجماعة الطلوع والنزول في كل ليلة لتحرير بواقي المنهوبات، وأيضًا استقر لأهل خان الحمزاوي نحو تلاتة آلاف كيس كذلك، ولطايفة السكرية نحو من سبعين كيسًا خُصمت لهم من تمن السكر الذي يبتاعونه من الباشا.
واستمر الباشا بالقلعة يدير أموره ويجذب قلوب الناس من الرعية وأكابر دولته لما يفعله من بذل المال ورد المنهوبات، حتى ترك الناس يسخطون على العسكر ويترضون عنه، ولو لم يفعل ذلك وثارت العساكر هذه الثورة ولم يقع منهم نهب ولا تعدي لساعدتهم الرعية، واجتمعت عليهم أهالي القرى وأرباب الإقطاعات لشدة نكايتهم من الباشا بضبط الرزق والالتزامات وقياس الأراضي وقطع المعايش، وذلك من سو تدبير العسكر وسعادة الباشا وحُسن سياسته باستجلابه الخواطر وتملقها بالكلام اللين والتصنع، ويلوم على فعل العسكر ويقول بمسمع الحاضرين: ما ذنب الناس معهم خصوصًا خصامهم معي أو مع الرعية، ها أنا لي منزل بالأزبكية فيه أموال وجواهر وأمتعة وأشيا كثيرة وسراية ابني إسماعيل باشا ببولاق ومنزل الدفتردار، ونحو ذلك، ويتحسبل ويتحوقل ويعمل فكرته ويدبر أمره في أمر العسكر وعظماهم، وينعم عليهم ويعطيهم الأموال الكثيرة والأكياس العديدة لأنفسهم وعساكرهم، وتنتبذ طايفة منهم ويقولون: نحن لم ننهب ولم يحصل لنا كسب فيعطيهم ويفرق فيهم المقادير العظيمة، فأنعم على عابدين بك بألف كيس، ولغيره دون ذلك.
وفي أثنا ذلك أخرج جردة من عسكر الدلاة ليسافروا إلى الديار الحجازية، فبرزوا إلى خارج باب الفتوح حيث المكان المسمى بالشيخ قمر، ونصبوا هناك وطاقهم وخرجت أحمالهم وأثقالهم.
وفي ليلة الخميس ثارت طايفة الطبجية، وخاضوا وضجوا وهم نحو الأربعماية، وطلبوا نفقة فأمر لهم بخمسة وعشرين كيسًا، ففرقت فيهم فسكتوا، وفي يوم الخميس المذكور نزل كتخدا بك وشق من وسط المدينة، ونزل عند جامع الغورية وجلس فيه، ورسم لأهل السوق بفتح حوانيتهم وأن يجلسوا فيها، فامتثلوا وفتحوا الحوانيت وجلسوا على تخوُّف، كل ذلك من عدم الراحة والهدوِّ وتوقُّع المكروه والتطيُّر من العسكر، وتعدِّي السفها منهم في بعض الأحايين والتحزر والاحتراس.
وأما النصارى فإنهم حصنوا مساكنهم ونواحيهم وحاراتهم، وسدوا المنافذ وبنوا كرانك، واستعدوا بالأسلحة والبنادق وأمدهم الباشا بالبارود وآلات الحرب دون المسلمين، حتى إنهم استأذنوا كتخدا بك في سد بعض الحارات النافذة التي يخشون وقوع الضرر منها فمنع من ذلك، وأما النصارى فلم يمنعهم، وقد تقدم ذكر فعله مع رضوان كاشف عندما سد باب داره وفتحه من جهة أخرى، وعززه وضربه وبهدله بوسط الديوان.
وفيه وصل نجيب أفندي وهو قبي كتخدا الباشا عند الدولة إلى بولاق، فركب إليه كتخدا بك وأكابر الدولة والأغا والوالي، وقابلوه ونظموا له موكبًا من بولاق إلى القلعة، ودخل من باب النصر وحضر صحبته خلع برسم الباشا وولده طوسون باشا وسيفان وشلنجان وهدايا وأحقاق نشوق مجوهرة، وعملوا لوصوله شنكًا ومدافع من القلعة وبولاق.
وفيه ارتحل الدلاة المسافرون إلى الحجاز ودخل حجو بك إلى المدينة بطايفته.
وفي ضحوة ذلك اليوم بعد انفضاض أمر الموكب حصل في الناس زعجة وكرشات، وأغلقوا البوابات والدروب، واتصل هذا الانزعاج بجميع النواحي حتى إلى بولاق ومصر القديمة، ولم يظهر لذلك أصل ولا سبب من الأسباب مطلقًا.
وفي تلك الليلة ألبس الباشا حجو بك خلعة، وتوَّجَهُ بطرطور طويل وجعله أميرًا على طايفة من الدلاة، وانخلع هو وأتباعه من طريقتهم التركية التي كانوا عليها، وهولا الطايفة التي يقال لهم دلاة ينسبون أنفسهم إلى طريقة سيدنا عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — وأكثرهم من نواحي الشام وجبال الدروز والمتاولة وتلك النواحي، يركبون الأكاديش وعلى روسهم الطراطير السود مصنوعة من جلود الغنم الصغار، طول الطرطور نحو ذراع وإذا دخل الكنيف نزعه من على راسه ووضعه على عتبة الكنيف، وما أدري أذلك تعظيم له عن مصاحبته معه في الكنيف، أو الخوف والحذر من سقوطه إن انصدم بأسكفة الباب في صحن المرحاض أو الملاقي؟
وهولا الطايفة مشهورة في دولة العثمانيين بالشجاعة والإقدام في الحروب، ويوجد فيهم من هو على طريقة حميدة، ومنهم دون ذلك، وقليل ما هم، ولكونهم من تمام النظام رتبهم الباشا من أجناسه وأتراكه خلاف الأجناس الغريبة، ومَن بقي مِن أوليك يكون تبعًا لا متبوعًا.
وفي يوم التلات سادس عشره حصل مثل ذلك المتقدم من الانزعاج والكرشات، بل أكثر من المرة الأولى، ورمحت الرامحون وأغلقت الحوانيت، وطلبت الناس الساقين الذين ينقلون الماء من الخليج، وبيعت القربة بعشرة أنصاف فضة والراوية بأربعين، فنزل الأغا وأغات التبديل وأمامهم المناداة بالأمان، وينادون على العساكر أيضًا ومنعهم من حمل البنادق، ويأمرون الناس بالتحفظ واستمر هذا الأمر والارتجاج إلى قبيل العصر، وسكن الحال وكثر مرور السقايين وبيعت القربة بخمسة أنصاف والراوية بخمسة عشر، ولم يظهر لهذه الحركة سبب أيضًا، وتقوَّل الناس بطول نهار ذلك اليوم أصنافًا وأنواعًا من الروايات والأقاويل التي لا أصل لها.
وفي يوم الأربع سابع عشره حضر الشريف راجح من الحجاز، ودخل المدينة وهو راكب على هجين وصحبته خمسة أنفار على هجن أيضًا، معهم أشخاص من الأرنؤد من أتباع حسن باشا الذي بالحجاز، فطلعوا به إلى القلعة ثم أنزلوه إلى منزل أحمد أغا أخي كتخدا بك.
وفي ليلة الخميس قلد الباشا عبد الله أغا المعروف بصاري جلة، وجعله كبيرًا على طايفة من الينكجرية أيضًا، وجعل على رأسه الطربوش الطويل المرخي على ظهره كما هي عادتهم وأتباعه، وكان من جملة المتهومين بالمخامرة على الباشا.
وفيه برز أمر الباشا لكبار العسكر بركوب جميع عساكرهم الخيول ومنعهم من حمل البنادق، ولا يكون منهم راجل أو حامل للبندقية إلا من كان من أتباع الشرطة والأحكام، مثل الوالي والأغا وأغات التبديل.
ولازم كتخدا بك وأيوب أغا تابع إبراهيم أغا أغات التبديل والوالي المرور بالشوارع والجلوس في مراكز الأسواق، مثل: الغورية والجمالية وباب الحمزاوي وباب زويلة وباب الخرق، وأكثر أتباعهم مفطرون في نهار رمضان ومتجاهرون بذلك من غير احتشام ولا مبالاة بانتهاك حرمة شهر الصوم، ويجلسون على الحوانيت والمساطب يأكلون ويشربون الدخان، ويأتي أحدهم وبيده شبك الدخان فيدني مجمرته لأنف ابن البلد على غفلة منه، وينفخ فيه على سبيل السخرية والهذيان بالصايم، وزادوا في الغي والتعدي وخطف النسا نهارًا وجهارًا حتى اتفق أن شخصًا منهم أدخل امرأة إلى جامع الأشرفية، وزنى بها في المسجد بعد صلاة الظهر في نهار رمضان.
وفي أواخره عملوا حساب أهل سوق مرجوش، فبلغ ذلك أربعماية وخمسين كيسًا قبضوا ثلثيها، وتأخر لهم الثلث، كل ذلك خلاف النقود لهم ولغيرهم مثل تجار الحمزاوي، وهو شي كثير ومبالغ عظيمة، فإن الباشا منع من ذكرها وقال لأي شي يدخرون في حوانيتهم وحواصلهم النقود ولا يتجرون فيها.
واتفق بتاجر من أهل سوق أمير الجيوش أنه ذهب من حاصلة من حواصل الخان تمانية آلاف فرانسة، فلم يذكرها ومات قهرًا، وكذلك ضاع لأهالي خان الحمزاوي من صرر الأموال والنقود والودايع والرهونات والمصاغ والجوهر مما يرهنه النسا على ثمن ما يشترونه من التجار والتفاصيل والمقصبات، أو على ما يتأخر عليهم من الأثمان ما لا يدخل تحت الحصر ويُسْتحيى من ذكره، وضاع لرجل يبيع الفسيخ والبطارخ تجاه الحمزاوي من حانوته أربعة آلاف فرانسة فلم يذكرها، وأمثال ذلك كثير.
وانقضى شهر رمضان والناس في أمر مريج وخوف وانزعاج وتوقع المكروه، ولم ينزل الباشا من القلعة بطول الشهر، وذلك على خلاف عادته، فإنه لا يقدر على الاستقرار بمكانٍ أيامًا، وطبيعته الحركة حتى في الكلام، وكبار العساكر والسيد محمد المحروقي ومن يصحبه من المشايخ ونقيب الأشراف مستمرون على الطلوع والنزول في كل يوم وليلة، وللمتقيدين بالمنهوبين ديوان خاص، وفرق الباشا كساوي العيد على أربابها.
ولم يظهر في هذه القضية شخص معين، والكثير من العساكر الذين يمشون مع الناس في الأسواق يظهرون الخلاف والسخط، ويظهر منهم التعدي ويخطفون عمايم الناس والنسا جهارًا، ويتوعدون الناس بعودهم في النهب، وكأنما بينهم وبين أهل البلدة عداوة قديمة أو ثارات يخلِّصونها منهم، وفيهم من يظهر التأسف والتندم واللوم على المعتدين ويسفه رأيهم، وهو المحروم الذي غاب عن ذلك.
وبالجملة فكل ذلك تقادير إلهية وقضايا سماوية ونقمة حلت بأهل الإقليم وأهله من كل ناحية، نسأل الله العفو والسلامة وحسن العاقبة.
ومما اتفق أن بعض الناس زاد بهم الوهم، فنقل ماله من حانوته أو حاصله الكاين ببعض الوكايل أو الخانات إلى منزله أو حرز آخر، فسرقها السراق وحانوته أو حاصله لم يصبه ما أصاب غيره، وتعدد نظير ذلك لأشخاص كثيرة، وذلك من فعل أهل البلدة يراقبون بعضهم بعضًا، ويداورونهم في أوقات الغفلات في مثل هذه الحركات، ومنهم من اتهم خدمه وأتباعه وتهددهم وشكاهم إلى حكام الشرطة، ويغرم مالًا على ذلك أيضًا وهم بريون، ولا يفيده إلا ارتكاب الإثم والفضيحة وعداوة الأهل والخدم وزيادة الغرم، وغالب ما بأيدي التجار أموال الشركا والودايع والرهونات ويطالبه أربابها، ومنهم قليل الديانة وذهب من حانوته أشيا وبقي أشيا، فادَّعى ضياع الكل لقوة الشبهة.
واستهل شهر شوال بيوم التلات (سنة ١٢٣٠)
وهو يوم عيد الفطر وكان في غاية البرود والخمول عديم البهجة من كل شي، ولم يظهر فيه من علامات الأعياد إلا فطر الصايمين، ولم يغير أحد ملبوسه، بل ولا فصَّل ثيابًا مطلقًا ولا شيًّا جديدًا، ومن تقدم له ثوب وقطعه وفصله في شعبان تأخر عند الخياط مرهونًا على مصاريفه ولوازمه، لتعطيل جميع الأسباب من بطانة وعقادة وغيرها، حتى إذا مات ميت لم يدرك أهله كفنه إلا بمشقة عظيمة، وكسد في هذا العيد سوق الخياطين وما أشبههم من لوازم الأعياد، ولم يعمل فيه كعك ولا شريك ولا سمك مملح ولا نُقْل، ولم يخرجوا إلى الجبَّانات والمدافن أيضًا كعادتهم، ولا نصبوا خيامًا على المقابر، ولم يحسن في هذه الحادثة إلا امتناع هذه الأمور، وخصوصًا خروج النسا إلى المقابر، فإنه لا يخرج منهن إلا بعض حرافيشهن على تخوف، ووقع لبعضهن من العسكر ما وقع عند باب النصر والجامع الأحمر.
وفي تالته نزل الباشا من القلعة من باب الجبل، وهو في عدة من عسكر الدلاة والأتراك الخيالة والمشاة وصحبته عابدين بك، وذهب إلى ناحية الآثار فَعيَّد على يوسف باشا المنفصل عن الشام؛ لأنه مقيم هناك لتغيير الهوا بسبب مرضه، ثم عدى إلى الجيزة وبات بها عند صهره محرم بك، ولما أصبح ركب السفاين وانحدر إلى شبرا وبات بقصره، ورجع إلى منزله بالأزبكية ثم طلع إلى القلعة.
وفي يوم التلات ثامنه عمل ديوانًا وجمع المشايخ المتصدرين وخاطبهم بقوله إنه يريد أن يفرج عن حصص الملتزمين، ويترك لهم وساياهم يؤجرونها ويزرعونها لأنفسهم، ويرتب نظامًا لأجل راحة الناس.
وقد أمر الأفندية كتَّاب الروزنامة بتحرير دفاتر، وأمهلهم اثني عشر يومًا يحررون في ظرفها الدفاتر على الوجه المرضي، فأثنوا عليه خيرًا ودعوا له، فقال الشيخ الشنواني: ونرجو من أفندينا أيضًا الإفراج عن الرزق الإحباسية كذلك.
فقال: كذلك ننظر في محاسبات الملتزمين ونحررها على الوجه المرضي أيضًا، ومن أراد منهم أن يتصرف في حصته ويلتزم بخلاص ما عليها من المال الميري لجهة الديوان من الفلاحين بموجب المساحة والقياس، صرَّفناه فيها، وإلا أبقاها على طرفنا ويقبض فايظه الذي يقع عليه التحرير من الخزينة نقدًا وعدًّا، فدعوا له أيضًا وسكتوا.
فقال لهم: تكلموا فإني ما طلبتكم إلا للمشورة معكم، فلم يفتح الله عليهم بكلمة يقولها أحدهم غير الدعا له.
على أن الكلام ضايع؛ لأنها حيل ومخادعة تروج على أهل الغفلات، ويتوصل بها إلى إبراز ما يرومه من المرادات، وعند ذلك انفض المجلس وانطلقت المبشرون على الملتزمين بالبشاير وهو الالتزام لتصرفهم، ويأخذون منهم البقاشيش، مع أن الصورة معلومة والكيفية مجهولة، ومعظم السبب في ذكره ذلك أن معظم حصص الالتزام كان بأيدي العساكر وعظماهم وزوجاتهم، وقد انحرفت طباعهم وتكدرت أمزجتهم بمنعهم عنه وحجزهم عن التصرف، ولم يسهل بهم ذلك، فمنهم من كظم غيظه وفي نفسه ما فيها، ومنهم من لم يطق الكتمان وبارز بالمخالفة والتسلط على من لا جناية عليه؛ فلذلك الباشا أعلن في ديوانه بهذا الكلام بمسمع منهم لتسكن حدتهم وتبرد حرارتهم إلى أن يتم أمر تدبيره معهم.
وفيه وصلت هجانة وأخبار ومكاتبات من الديار الحجازية بوقوع الصلح بين طوسون باشا وعبد الله بن مسعود، الذي تولى بعد موت أبيه كبيرًا على الوهابية، وأن عبد الله المذكور ترك الحروب والقتال وأذعن للطاعة وحقن الدما، وحضر من جماعة الوهابية نحو العشرين نفرًا من الأنفار إلى طوسون باشا، ووصل منهم اثنان إلى مصر.
فكأن الباشا لم يعجبه هذا الصلح، ولم يظهر عليه علامات الرِّضَى بذلك، ولم يحسن نزل الواصلين، ولما اجتمعا به وخاطبهما عاتبهما على المخالفة فاعتذرا وذكرا أن الأمير مسعود المُتَوَفَّى كان فيه عناد وحدة مزاج، وكان يريد الملك وإقامة الدين، وأما ابنه الأمير عبد الله فإنه لين الجانب والعريكة، ويكره سفك الدما على طريقة سلفه الأمير عبد العزيز المرحوم، فإنه كان مسالمًا للدولة، حتى إن المرحوم الوزير يوسف باشا حين كان بالمدينة كان بينه وبينه غاية الصداقة، ولم يقع بينهما منازعة ولا مخالفة في شي، ولم يحصل التفاقم والخلاف إلا في أيام الأمير مسعود.
ومعظم الأمر للشريف غالب، بخلاف الأمير عبد الله فإنه أحسن السير وترك الخلاف، وأمَّن الطرق والسبل للحجاج والمسافرين ونحو ذلك من الكلمات والعبارات المستحسنات.
وانقضى المجلس وانصرفا إلى المحل الذي أُمِرا بالنزول فيه، ومعهما بعض أتراك ملازمون لصحبتهما مع أتباعهما في الركوب والذهاب والإياب، فإنه أطلق لهما الإذن إلى أي محل أراداه، فكانا يركبان ويمران بالشوارع بأتباعهما ومن يصحبهما، ويتفرجان على البلدة وأهلها، ودخلا إلى الجامع الأزهر في وقت لم يكن به أحد من المتصدرين للإقرا والتدريس، وسألوا عن أهل مذهب الإمام أحمد بن حنبل — رضي الله عنه — وعن الكتب الفقهية المصنفة في مذهبه وأقواله ليشتروها، فلم يجدا فردًا من أهل مذهبه، وانقرضوا من أرض مصر بالكلية، واشتريا نسخًا من كتب التفسير والحديث مثل الخازن والكشَّاف والسنن على مذاهب الفقهاء للبَغَوي، والكتب الستة المجمع على صحتها، وغير ذلك.
وقد اجتمعت بهما مرتين فوجدت منهما أُنْسًا وطلاقة لسان واطلاعًا وتضلعًا ومعرفة بالأخبار والنوادر، مع التواضع وتهذيب الأخلاق وحسن الأدب في الخطاب والتفقه في الدين، واستحضار الفروع الفقهية واختلاف المذاهب فيها ما يفوق الوصف، واسم أحدهما عبد الله والآخر عبد العزيز وهو الأكبر حسًّا ومعنًى.
وفي يوم السبت تاسع عشره خرجوا بالمحمل إلى الريدانية خارج باب النصر، وشقوا به من وسط المدينة، وأميرُ الركب شخص من الدلاة يسمى أوزن علي وفوق راسه طرطور الدلاتية، ومعظم الموكب من عساكر الدلاة وعلى روسهم الطراطير السود بذاتهم المستبشعة، وقد عَمَّ الأقاليم المسخ في كل شي، فقد تغص الطبيعة وتتكدر النفس إذا شاهدت ذلك أو سمعت به، وقد كانت نظارة الموكب السالفة في أيام المصريين ونظامها وحسنها وترتيبها وفخامتها وجمالها وزينتها التي لم يكن لها نظير في الربع المعمور، ويُضرب بها المثل في الدنيا كما قال قايلهم فيها:
فقد فقدت هذه التلاتة في جملة المفقودات.
وفي تالت عشرينه وصل قابجي وعلى يده تقرير ولاية مصر لمحمد علي باشا على السنة الجديدة، فعملوا لذلك الواصل موكبًا من بولاق إلى القلعة، وضربوا مدافع وشنكًا وبنادق.
واستهل شهر ذي القعدة الحرام بيوم الأربع (سنة ١٢٣٠)
في سادس عشره سافر الباشا إلى إسكندرية، وأخذ صحبته عابدين بك وإسماعيل باشا وولده وغيرهما من كبراهم وعظماهم، وسافر أيضًا نجيب أفندي وسليمان أغا وكيل دار السعادة سابقًا تابع صالح بك المصرلي المحمدي إلى دار السلطنة، وأصحب معهما الباشا إلى الدولة وأكابرهم الهدايا من الخيول المهارى والسروج المكللة بالذهب واللؤلؤ والمخيش، وتعابي الأقمشة الهندية المتنوعة من الكشمير والمقصبات والتحف، ومن الذهب المضروب السكة أربعة قناطير، ومن الفضة الثقيلة في الوزن والعيار عدة قناطير، ومن السكر المكرر مرارًا وأنواع الشراب في القدور الصيني وغير ذلك.
وفيه وردت الأخبار بوصول طوسون باشا إلى الطور، فهرعت أكابرهم وأعيانهم إلى ملاقاته وأخذوا في الاهتمام وإحضار الهدايا والتقادم، وركبت الخوندات والنسا والستات أفواجًا يطلعن إلى القلعة ليهنين والدته بقدومه.
وفي غايته وصل طوسون باشا إلى السويس فضربوا مدافع إعلامًا بقدومه، وحضر نجيب أفندي راجعًا من إسكندرية لأجل ملاقاته؛ لأنه قبي كتخداه اليوم أيضًا عند الدولة كما هو لوالده.
واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الجمعة (سنة ١٢٣٠)
في رابعه يوم الاتنين نودي بزينة الشارع الأعظم لدخول طوسون باشا سرورًا بقدومه، فلما أصبح يوم التلات خامسه احتفل الناس بزينة الحوانيت بالشارع وعملوا له موكبًا حافلًا، ودخل من باب النصر وعلى راسه الطلخان وشعار الوزارة، وطلع إلى القلعة وضربوا في ذلك اليوم مدافع كثيرة وشنكًا وحراقات.
وفي ليلة الجمعة خامس عشره سافر طوسون باشا المذكور إلى إسكندرية ليراه أبوه ويسلم هو عليه، وليرى هو ولدًا له وُلد في غيبته يسمى عباس بك أصحبه معه جده مع حاضنته، وسنه دون السنتين، يقال: إن جده قصد إرساله إلى دار السلطنة فلم يسهل بأبيه ذلك وشق عليه فارقه، وخصوصًا كونه لم يرَه، وسافر صحبة طوسون باشا نجيب أفندي عائدًا إلى إسكندرية.
وفي يوم السبت تالت عشرينه حضر طوسون باشا إلى مصر راجعًا من إسكندرية في تطريدة ومعه ولده، فكانت مدة غيبته ذهابًا وإيابًا تمانية أيام، فطلع إلى القلعة وصار ينزل إلى بستان بطريق بولاق ظاهر التبانة عمَّره كتخدا بك، وبنى به قصرًا فيقيم به غالب الأيام التي أقامها بمصر.
وانقضت السنة وما تجدد فيها من استمرار المبتدعات والمكوس والتحكير، وإهمال السوقة والمتسببين حتى عَمَّ غلو الأسعار في كل شي، حتى بلغ سعْر كل صنف عشرة أمثال سعره في الأيام الخالية مع الحجر على الإيراد وأسباب المعاش، فلا يهنأ بعيش في الجملة إلا من كان مكَّاسًا أو في خدمة من خدم الدولة مع كونه على خطر، فإنه وقع لكثير ممن تقدم في منصب أو خدمة أنه حوسب وأهين وألزم بما رافعوه فيه، وقد استهلكه في نفقات نفسه وحواشيه، فباع ما يملكه واستدان وأصبح مبئوسًا مديونًا، وصارت المعايش ضَنْكًا، وخصوصًا الواقع في اختلاف المعاملات والنقود والزيادة في صرفها وأسعارها، واحتجاج الباعة والتجار والمتسببين بذلك.
ولما حدث عليها من مال المكس مع طمعهم أيضًا، وخصوصًا سَفَلة الأسواق وبياعي الخضارات والجزارين والزياتين، فإنهم يدفعون ما هو مرتب عليهم للمحتسب مياومة ومشاهرة، ويخلصون أضعافه من الناس، ولا رادع لهم بل يسعِّرون لأنفسهم، حتى إن البطيخ في أوان كثرته تباع الواحدة التي كانت تساوي نصفين بعشرين وتلاتين، والرطل من العنب الشرقاوي الذي كان يباع في السابق بنصف واحد، يبيعونه يومًا بعشرة ويومًا باثني عشر ويومًا بثمانية، وقس على ذلك الخوخ والبرقوق والمشمش.
وأما الزبيب والتين واللوز والبندق والجوز والأشيا التي يقال لها الياميش، التي تجلب من بلاد الروم، فبلغت الغاية في الثمن، بل قد لا توجد في أكثر الأوقات.
وكذلك ما يجلب من الشام مثل الملبن والقمر الدين والمشمش الحموي والعناب، وكذلك الفستق والصنوبر وغير ذلك مما يطول شرحه ويزداد بطول الزمان قبحه.
مات في هذه السنة العلامة الأوحد والفهامة الأمجد محقق عصره ووحيد دهره الجامع لأشتات العلوم والمنفرد بتحقيق المنطوق والمفهوم، بقية الفصحا والفضلا المتقدمين والمتميز عن المتأخرين، الشيخ محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي، وُلد ببلدة دسوق من قرى مصر، وحضر إلى مصر وحفظ القرآن وجوَّده على الشيخ محمد المنير، ولازم حضور دروس الشيخ علي الصعيدي والشيخ الدردير، وتلقَّى الكثير من المعقولات عن الشيخ محمد الجناحي الشهير الشافعي، وهو مالكي، ولازم الوالد حسن الجبرتي مدة طويلة، وتلقى عنه بواسطة الشيخ محمد بن إسماعيل النفراوي علم الحكمة والهيئة والهندسة وفن التوقيت، وحضر عليه أيضًا في فقه الحنفية وفي المطول وغيره برواق الجبرت بالأزهر، وتصدر للإقرا والتدريس وإفادة الطلبة، وكان فريدًا في تسهيل المعاني وتبيين المباني، يفك كل مشكل بواضح تقريره، ويفتح كل مغلق برايق تحريره، ودرسه مجمع أذكيا الطلاب والمهرة من ذوي الأفهام والألباب، مع لين جانب وديانة وحسن خلق وتواضع وعدم تصنع وإطراح تكلف، جاريًا على سجيته لا يرتكب ما يتكلفه غيره من التعاظم وفخامة الألفاظ؛ ولهذا كثر الآخذون عليه والمترددون إليه.
وله تأليفات واضحة العبارات سهلة المأخذ ملتزمة بتوضيح المشكل، فمن تآليفه حاشية على مختصر السعد على التلخيص، وحاشية على شرح الشيخ الدردير على سيدي خليل في فقه المالكية، وحاشية على شرح الجلال المحلي على البُردة، وحاشية على الكبرى للإمام السنوسي، وحاشية على شرحه للصغرى، وحاشية على شرح الرسالة الوضعية، هذا ما عُني بجمعه وكتابته وبقي مسودات لم يتيسر له جمعها.
ولم يزل على حالته في الإفادة والإلقا والإفتا، وخطه حسن، وخلقه أحسن، إلى أن تعلل، وتُوُفِّيَ يوم الأربع الحادي والعشرين من شهر ربيع الثاني، وخرجوا بجنازته من درب الدليل، وصُلِّي عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودُفن بتربة المجاورين بالمدفن الذي بداخل المحل الذي يسمى بالطاولية، وقام بكلفة تجهيزه وتكفينه ومصاريف ومدفنه الجناب المكرم السيد محمد المحروقي، وكذلك مصاريف الميتم بمنزله، وأرسل من قيَّده لذلك من أتباعه بإدارة المطبخ ولوازمه من الأغنام والسمن والأرز والعسل والحطب والفحم والقهوة وجميع الاحتياجات للمقرين، ومن يأتي لتعزية أولاده، جزاه الله خيرًا.
واستمر إجراه لذلك في التلات جمع المعتادة بالمنزل وما يعمل في صبح يوم الجمعة بالمدفن من الكعك والشريك الذي يفرق على الفقرا والحاضرين والتُّربيَّة والخدمة، وقد رثاه أمثل من عنه أخذ وأكمل، من له تتلمذ صاحبنا العلامة وصديقنا الفهامة المنفرد الآن بالعلوم الحكمية، والمشار إليه في العلوم الأدبية، صاحب الإنشاء البديع، والنظم الذي هو كزهر الربيع، الشيخ حسن العطار — حفظه الله من الأغيار — بقوله شعرًا:
ومات الأستاذ الفريد واللوزعي المجيد، الإمام العلامة والنحرير الفهامة، الفقيه النحوي الأصولي الجدلي المنطقي، الشيخ محمد المهدي الحفني، ووالده من الأقباط، وأسلم هو صغيرًا دون البلوغ على يد الشيخ الحفني، وحلت عليه أنظاره وأشرقت عليه أنواره، وفارق أهله وتبرأ منهم، وحضنه الشيخ ورباه وأحبه، واستمر بمنزله مع أولاده واعتنى بشأنه، وقرا القرآن، ولما ترعرع اشتغل بطلب العلم وحفظ متن أبي شجاع وألفية النحو والمتون، ولازم دروس الشيخ وأخيه الشيخ يوسف وغيرهما من أشياخ الوقت مثل: الشيخ العدوي والشيخ عطية الأجهوري والشيخ الدردير والبيلي والجمل والخِرْشي وعبد الرحمن المقري والشرقاوي وغيرهم، واجتهد في التحصيل ليلًا ونهارًا ومهَر وأنجب، ولازم في غالب مجالس الذكر عند الشيخ الدردير بعد وفاة الشيخ الحفني، وتصدر للتدريس في سنة تسعين وماية وألف.
ولما مات الشيخ محمد الهلباوي سنة اتنين وتسعين جلس مكانه بالأزهر، وقرا شرح الألفية لابن عقيل، ولازم الإلقا وتقرير الدروس مع الفصاحة وحسن البيان والتفهيم وسلامة التعبير، وإيضاح العبارات وتحقيق المشكلات، ونما أمرُه واشتُهر ذكره وبَعُد صيتُه.
ولم يزل أمره ينمو واسمه يسمو مع حسْن السَّمْت، ووجاهة الطلعة وجمال الهيئة وبشاشة الوجه، وطلاقة اللسان وسرعة الجواب واستحضار الصواب في ترداد الخطاب ومسايرة الأصحاب.
وصاهر الشيخ محمد الحريري الحنفي على ابنته، وأقبلت عليه الدنيا وتداخل في الأكابر ونال منهم حظًّا وافرًا بحسن معاشرته وحلاوة ألفاظه وتنميق كلماته، ويقضي أشغاله منهم ومن حواشيهم وحريماتهم، ويخاطب كلًّا بما يليق به ويناسبه، واتحد إسماعيل بك كتخدا حسن باشا الجزايرلي، وعاشره وأكثر من الترداد عليه.
فلما أتته ولاية مصر واستقر بالقلعة واظب على الطلوع والنزول إلى القلعة ويبيت عنده غالب الليالي، وأنعم عليه بالخلع والعطايا والكساوي، ورتب له وظايف في الضربخانة والسلخانة والجوالي.
ووقع في ولايته الطاعون الذي أفنى غالب أُمرا مصر وأهلها، وذلك سنة خمس ومايتين وألف، فاختص بما أحبه مما انحل عن الموتى من إقطاعات ورزق وغيرها، وزادت ثروته ورغبته وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، وعانى الشركات والمتاجر في كثير من الأشيا مثل الكتان والقطن والأرز وغير ذلك من الأصناف.
والتزم بعده حصص بالبحيرة مثل شابور وخلافها بالمنوفية والجيزة والغربية، وابتنى دارًا عظيمة بالأزبكية بناحية الرويعي بما يقابلها من الجهة الأخرى عند الساباط.
ولما حضرت الفرنساوية إلى الديار المصرية وخافهم الناس وخرج الكثير من الأعيان وغيرهم هاربًا من مصر، تأخر المترجم عن الخروج، ولم ينقبض كغيره عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم وانضم إليهم وسايرهم ولاطفهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعته ووثقوا بقوله، فكان هو المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة العظمى بينهم وبين الناس في قضاياهم وحوايجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم، حتى لقب عندهم وعند الناس بكاتم السر.
ولما رتبوا الديوان الذي رتبوه لإجراء الأحكام بين المسلمين في قضاياهم ودعاويهم، كان هو المشار إليه فيه، وخَدَمة الديوان الموظفين فيه تحت أوامره، وإذا ركب أو مشى يمشون حوله وأمامه وبأيديهم العصي يوسعون له الطريق، وراج أمره في أيامهم جدًّا، وزاد إيراده وجمعه واحتوى بلادًا وجهات وأرزاقًا، وأقاموا وكيلًا عنهم في أشيا كثيرة وبلاد وقرى يُجبى إليه خراجها ويصرف عنها ما يصرفه، ويأتيه الفلاحون منها ومن غيرها بالهدايا والأغنام والسمن والعسل وما جرت به العادة، ويتقدمون إليه بدعاويهم وشكاويهم ويفعل بهم ما كان يفعله أرباب الالتزامات من الحبس والضرب وأخذ المصالح.
وصار له أعوان وأتباع وخدم من وُجها الناس ومَن دونهم، يرسل منهم لجبي الأموال من القرى وفي مراسلاته في القضايا العامة، ويبعث الأمان للفارين والهاربين من الفرنسيس الراحلين إلى بلاد الشام والمختفين بالقرى من الأجناد وغيرهم، فيرسل إليهم أوراقًا بالعود إلى أوطانهم إما باستدعاهم وطلبهم ذلك، وإما من باب الشفقة والمعروف منه عليهم، ويحمي دورهم وحريمهم ويمانع عنهم في غيابهم، ويكون له المنة العظيمة التي يستحق بها الجوايز الجزيلة.
وبالجملة فكان بوجوده وتصدره في تلك الأيام النفع العام، سد بعقله ثقوبًا واسعة الخروق وداوى برأيه جروحًا وفتوقًا، لا سيما أيام الهيازع والخصومات والتنازع، وما يكدر طباع الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلاقاه بمراهم كلماته ويسكن حدتهم بملاطفاته.
ولما مضت أيامهم وتنكست أعلامهم وارتحلوا عن الأقطار المصرية ووردت الدولة العثمانية، كان المترجم أعظم المتصدرين في مقابلتهم، وأوجه الوجها في مخاطبتهم ومكالمتهم، ولم يتأخر عن حالته في ظهوره، ولازمهم في عشيانه وبكوره، وبهرهم بتحيله واحتياله، واسترهبهم بسحره وحباله، واتحد بشريف أفندي الدفتردار وواظبه الليل والنهار، وتمم معه أغراضه في جميع تعلقاته وتقرير وظايفه والتزاماته ومسموحاته، واستجد غير ذلك مما ينتقيه من الديوان وكل ذلك من غير مقابلة ولا حلوان.
وتزوج بعدة زوجات ورُزق أولادًا ذكورًا وإناثًا، فمنهم الشيخ محمد أمين وهو من ابنة الشيخ الحريري، وتمذهب حنفيًّا على مذهب جده.
وآخر يسمى محمد تقي الدين تُوُفِّيَ في حياة والده من نحو خمس عشرة سنة أو أكثر عن نحو عشرين سنة، وكان مالكيًّا بإشارة أبيه.
والشيخ عبد الهادي، وتُوُفِّيَ بعد أبيه، وكان شافعي المذهب، وعقدوا له درسًا بعد موت أبيه، فلم تطل أيامه.
وزوَّج أولاده وبناته وعمل لهم مهمات وأفراحًا، استجلب بها هدايا من أعيان المسلمين والنصارى والنسا الأكابر والتجار وغيرهم.
ثم احترقت داره التي أنشاها بالأزبكية في حرابة الفرنساوية مع العثمانيين والمصريين عند مجي الوزير المرة الأولى، فشرع في بنا دار عند باب الشعرية ولم يتمها، بل تركها وأهملها وهي منهدمة، ولم يُحدث بها شيًّا من الأبنية.
ثم إنه تزوج بابنة الشيخ أحمد البشاري، وكانت تحت بعض الأجناد في دار جهة التبانة بالقرب من سوق السلاح وسويقة العزى، يذهب إليها في بعض الأحيان.
واشترى دارًا عظيمة بناحية الموسكي، وكانت لبعض عَتْقَى بقايا الأمرا الأقدمين، وهي دار واسعة الأرجا ذات رحبتين متسعتين، والرحبة الخارجة التي يسلك إليها باب الزقاق الكبير على ظهر قنطرة الخليج التي تُعرف الآن بقنطرة الحفناوي لقربها من داره، وبهذه الدار مجالس وقيعان متسعة، ومن جملتها قاعة عظيمة ذات تلات لواوين مفروشة أرضها وحيطانها بأنواع الرخام الملون والقيشاني، مطلة على بستان عظيم مغروس بأنواع الأشجار، وهو أيضًا من حقوق الدار، وتنتهي حدود هذه الدار إلى حارة المناصرة وإلى كوم الشيخ سلامة وحارة الإفرنج من الناحية الأخرى.
ولما عمل بزارها وعقد عقد شراها من أصحابها، ودفع لهم بعض دراهم يقال لها «العربون»، وكتب حجة المشتري وسكنها، أخذ يوعدهم بدفع الثمن، ويماطلهم كعادته في دفع الحقوق، ثم تركهم وسافر إلى دمياط، وجعل يطوف البلاد التي تحت التزامه وغيرها مثل المحلة الكبيرة وطندتا وإسكندرية، وغاب نحو الخمس سنوات، ومات في غيبته بعض أصحاب الدار التي اشتراها منه، وبقي من مستحقيها امرأة، فكانت تتظلم وتشتكي وتراسله فأعرضت أمرها لكتخدا بك والباشا، إلى أن حضر إلى مصر وقبضت منه ما أمكنها من ثمن استحقاقها.
وبنى ابنه المسمى بأمين بقطعة من أرضها دارًا جهة حارة المناصرة، وهي مطلة على البستان ومختلطة به ونافذة إليه، وجعل لها بابًا من المناصرة ينفذ منه إلى الأزبكية وقنطرة الأمير حسين، أنفق عليها جملة كبيرة من المال بحيث إن المرخمين أقاموا في شغلهم نحو أربع سنوات خلاف من عداهم من أرباب الأشغال وتجهيز الأدوات من الأخشاب وغيرها من أنواع الاحتياجات. ويتعاطى ابنه المذكور التجارة أيضًا والشركة في كثير من الأصناف خلاف الإيراد الواسع الخاص به.
ولما رجع المترجم من سرحته إلى مصر أقام مصاحبًا ليسير الخمول، وتقيد لإلقا الدروس بالأزهر أشهرًا، ويعاني مع ذلك الاشتغال والتولع بعلم ومطالعة ما صُنِّف فيها، ويدبر مع بعض أصحابه في دورهم بإغراه من مالهم إلى أن بدت الوحشة بين الباشا والسيد عمر مكرم، فتولى كِبْر السعي عليه سِرًّا هو وباقي الجماعة حَسَدًا وطمعًا ليخلص لهم الأمر دونه حتى أوقعوا به كما تقدم ذكر ذلك في حوادث سنة أربع وعشرين، وفي أثنا هذه الحادثة طلب من الباشا إذنًا في قبض استحقاقه من ثمن غلال الأنبار في مدة غيابه، فأمر بدفعها له من الخزينة نقدًا بالثمن الذي قدره لنفسه، وهو خمسة وعشرون كيسًا.
وفي اليوم الذي خرج فيه السيد عمر مكرم، أنعم عليه الباشا أيضًا بنظر وقف سنان باشا ونظر ضريح الشافعي بعرضه له بطلب النظرين، وكانا تحت يد السيد عمر يتحصل منهما مال كثير، وعند ذلك رجع إلى حالته الأولى التي كان قد انقبض عن بعضها من كثرة السعي والترداد على الباشا وأكابر دولته في القضايا والشفاعات وأمور الالتزام والفايظ والرزق والأطيان وما يتعلق به في بلاد الصعيد والفيوم، ومحاسبة الشركا، وازدحمت عليه الناس وشرع يقرا بالأزهر، فإذا حضر اجتمع حول درسه طابق من الناس، فإذا فرغ تكبكب عليه أرباب الدعاوى والفتاوى، فيكتب لهذا ويوعد ذلك ويسوِّف آخر، ويذهب مع مَن يريد أن يذهب معه لحاجته، فيقطع نهاره وليله طوافًا وسعيًا وذهابًا وإيابًا لا يستقر بمكان، ولا يعثر به صاحب حاجة إلا نادرًا، ولا يبيت من بيوته إلا في الجمعة مرة أو مرتين، ويتفق مجيه إلى داره بعد العشا الأخيرة، وغالب لياليه في غيرها.
وإذا غاب لا يعلم طريقه إلا بعض أتباعه، فيذهب إلى بولاق مثلًا فيقيم بها عدة أيام وليالي، ينتقل في الأماكن عند شركاه ومن يعاملهم من الأمنا والخصاصين والأبزار وغيرهم، أو يذهب إلى بلدة نهية بالجيزة أو غيرها فيقيم أيامًا أيضًا، وهكذا دأبه قديمًا، وإذا قيل له في ذلك قال: أنا بيتي ظَهر بغلتي.
وعلى ما كان فيه من الغنى وكثرة الإيراد والمصرف تراه مفقود اللذة عديم الراحة البدنية والنفسية، وإنما ذلك لأولاده والمقيمين أيضًا بداره، ويتفق أنه يذبح بداره التلاتة أغنام لضيوف النسا عند الحريم، ولا يأكل منها شيًّا بل يتركها ويذهب إلى بعض أغراضه ببولاق مثلًا، ويتغذى بالجبن الحلوم أو الفسيخ أو البطارخ، ويبيت بأي مكان ولو على نخ حصير في أي محل كان.
ولما مات الشيخ سلميان الفيومي عن زوجته المعروفة بالسحراوية، وكانت من نسا القدما مشهورة بالغنى وكثرة الإيراد تزوجت بالشيخ الفيومي حماية لمالها، وكانت طاعنة في السن فاشترت له جارية بيضاء، وأعتقتها وزوَّجتها له، ولم يدخل بها ومات عنهما وعن زوجته الأخرى، ثم ماتت السحراوية المذكورة لا عن وارث في غضون طنطنة المترجم، فوضع يده على دارها ومالها وجواريها وتعلقاتها من عقار والتزام وغيره، وزوج الجارية لابنه عبد الهادي، وكأنها سقطت بمالها ونوالها في بير عميق.
ولما جرد الباشا وعين العساكر إلى الحجاز مع ابنه طوسون باشا، اختار أن يصحب معه من أهل العلم فكان المتعين لذلك المترجم مع السيد أحمد الطهطاوي، وأنعم عليه بأكياس وترحيله للنفقة، فلما وقعت الهزيمة بالصفرا رجع مع الراجعين.
ولما تُوُفِّيَ الشيخ الشرقاوي تعين المترجم لمشيخة الجامع ثم انتقضت عليه، وقلدوها الشيخ الشنواني كما تقدم ذكر ذلك، فلم يظهر إلا الانشراح وعدم التأثر من الانكساف، وحضر إليه الشيخ الشنواني فخلع عليه فروة سمور خاص، وزاد في إكرامه.
وبآخره تملك دارًا بالكعكيين على شريطته في مشترواته، وهي التي كانت سكن الشيخ الحفني قبل سكناه بالموسكي، ثم تملكها الشيخ المرحوم عبد الرحمن العريشي، ثم ابن الخنفري ثم لا أدرى لمن آلت بعد ذلك، فلما أخذها شرع في تجديدها وتعميرها وفتح بها مرمة واسعة وأحضر أخشابًا كثيرة وأحجارًا وبلاطًا ورخامًا. وبجانبها زاوية قديمة بها مدافن فهدمها وأدخلها في الدار، وأخرج عظام الموتى من قبورهم ودفنهم بتربة المجاورين كما أخبرني عن ذلك من لفظه.
وعمل مكان الزاوية قاعة لطيفة بخارجها فسحة يتوصل إليها من حوش الدار، وجعل مكان القبور مخابي وعليها طوابق، وأسكن في تلك الدار إحدى زوجاته، وهي التي كانت الشيخ الدنجيهي الدمياطي، تزوج بها بدمياط، وأحضرها إلى مصر وأسكنها بهذه الدار ومعها ضرتها التي كانت من شابور.
وأكثر من المبيت فيها مع استمرار العمارة، فلما كان في آخر المحرم توعك أيامًا، ثم عُوفِي وذهب إلى الحمام وهناه الناس بالعافية ومشى إلى جيرانه يتحدث عندهم كعادته مثل الخواجا سيدي محمد بن الحاج طاهر، والسيد صالح الفيومي، فخرج ليلة الجمعة التاني من شهر صفر وذهب عند عثمان بن سلامة السناري، فتحدث عندهم حصة من الليل وتفكهوا، ثم قام ذاهبًا إلى داره ماشيًا على أقدامه وصحبته صاحبنا الشيخ خليل الصفتي يحادثه حتى وصل إلى داره المذكورة، وانصرف الشيخ خليل إلى داره أيضًا، ومضى نحو ساعة وإذا بتابع الشيخ المهدي يناديه ويطلبه إليه، فقام في الحين ودخل إليه فوجده راقدًا في المكان الذي ينبش منه القبور فجس يده، فقال له النسا: إنه ميت، وأخبرت زوجته أنه جامعها ثم استلقى وفارق الدنيا.
وأرسلوا إلى أولاده فحضروا وحملوه في تابوت إلى الدار الكبيرة بالموسكي ليلًا، وشاع موته، وجُهِّزَ وصُلِّي عليه بالأزهر في مشهد حافل جدًّا، ودُفن عند الشيخ الحفني بجانب القبر «فسبحان الحي الذي لا يموت» فرحم الله عبدًا زهد في الفاني وعمل لما بعده، ونظر إلى هذه الدار بعين الاعتبار، نسأله التوفيق والقناعة وحسن الخاتمة، عن نحو خمس وسبعين سنة.
وحاصل أمر المرحوم المترجم أنه كان من فحول العلما يدرس الكتب الصعاب في المعقول والمنقول بالتحقيق والتدقيق ويقررها بالحاصل، وانتفع عليه الكثير من الطلبة، منهم الآن مدرسون مشتهَرون ومميزون بين نُظراهم من أهل العصر، ولو استمر على طريقه في الدنيا لكان نادرة عصره، وأدَّاه ذلك إلى قطع الاشتغال، وإذا شرع في الإقرا فلا يتم الكتاب في الغالب، ويحضر الدرس في الجمعة يومًا أو يومين ويهمل كذلك، ولم يصنف تأليفًا ولا رسالة في فن من الفنون مع تأهله لذلك، ولم يعانِ الشعر والنظم، ونثره في المراسلات ونحوها متوسط في بعض القوافي السهلة، وتقيد بقراة الحكم لابن عطا الله بعد العصر في رمضان التلات سنين الأخيرة.
ومات الأستاذ العلامة والنحرير الفهامة الفقيه النبيه المهذب المتواضع، الشيخ مصطفى بن محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الشهير بالصفدي القلعاوي الشافعي، وُلد في شهر ربيع الأول من سنة ثمانٍ وخمسين وماية وألف، وتفقه على الشيخ الملوي والسحيمي والبراوي والحفني، ولازم شيخنا الشيخ أحمد العروسي، وانتفع عليه وأذن له في الفتيا عن لسانه، وجمع من تقريراته واقتطف من تحقيقاته.
وألَّف وصنَّف وكتَب حاشية على ابن قاسم الغزي على أبي شجاع في الفقه، وحاشية على شرح المطول للسعد التفتازاني على التخليص، وشرح شرح السمرقندي على الرسالة العضدية في علم الوضع، وله منظومة في آداب البحث وشرحها، ومنظومة في أحكام الجن وشرحها، ومنظومة لمتن التهذيب في المنطق وشرحها، وديوان شعر سماه إتحاف الناظرين في مدح سيد المرسلين، وعدة من الرسايل في معضلات المسايل وغير ذلك.
وكان سكنه بقلعة الجبل ويأتي في كل يوم إلى الأزهر للإقرا والإفادة، فلما أمر الباشا سكان القلعة بإخلاها والنزول منها إلى المدينة، فنزلوا إلى المدينة وتركوا دورهم وأوطانهم، نزل المترجم مع من نزل، وسكن بحارة أمير الجيوش جهة باب الشعرية، ولم يزل هناك حتى تمرض أيامًا، وتُوُفِّيَ ليلة السبت سابع عشري شهر رمضان، وصُلِّي عليه بالأزهر ودُفن بزاوية الشيخ سراج الدين البلقيني بحارة بين السيارج — رحمه الله تعالى.
فإنه كان من أحسن من رأينا سمتًا وعلمًا وصلاحًا وتواضعًا وانكسارًا وانجماعًا عن خلطة الكثير من الناس، مقبلًا على شأنه راضيًا مرضيًّا طاهرًا نقيًّا لطيف المزاج جدًّا محبوبًا للناس — عفا الله عنه وغفر لنا وله.
ومات الشيخ الفاضل الأجل الأمثل والوجيه المفضل الشيخ حسين بن حسن كناني بن علي المنصوري الحنفي، تفقه على خاله الشيخ مصطفى بن سليمان المنصوري، والشيخ محمد الدلجي والشيخ أحمد الفارسي، والشيخ عمر الدبركي والشيخ محمد المصيلحي، وأقرا في فقه المذهب دروسًا في محل جده لأمه بالأزهر، وسكن داره بحارة الحبانية على بركة الفيل مع أخيه الشيخ عبد الرحمن، ثم انتقلا في حوادث الفرنساوية إلى حارة الأزهر، ولما كانت حادثة خروج السيد عمر مكرم النقيب من مصر إلى دمياط وكتبوا فيه عرضًا للدولة وامتنع السيد أحمد الطهطاوي من الشهادة عليه — كما تقدم — وتعصبوا عليه وعزلوه من مشيخة الحنفية قلدوها المترجم فلم يزل فيها حتى تمرض، وتُوُفِّيَ يوم التلات تاسع عشري لمحرم، وصُلِّي عليه بالأزهر ودُفن بتربة المجاورين — رحمه الله وإيانا.
ومات البليغ النجيب والنبيه الأريب نادرة الزمان وفريد الأوان، أخونا ومحبنا في الله تعالى ومن أجله، السيد إسماعيل بن سعد الشهير بالخشاب، كان أبوه نجارًا ثم فتح له مخزنًا لبيع الخشب تجاه تكية الكلشني بالقرب من باب زويلة، ووُلد له المترجم وأخوه إبراهيم ومحمد، وهو أصغرهما، فتولع السيد إسماعيل المترجم بحفظ القرآن ثم بطلب العلم، ولازم حضور السيد علي المقدسي وغيره من أفاضل الوقت، وأنجب في فقه الشافعية والمعقول بقدر الحاجة وتثقيف اللسان والفروع الفقهية الواجبة والفرايض، وتنزل في حرفة الشهادة بالمحكمة الكبيرة لضرورة التكسب في المعاش ومصارف العيال، وتمسك بمطالعة الكتب الأدبية والتصوف والتاريخ، وأولع بذلك وحفظ أشيا كثيرة من الأشعار والمراسلات وحكايات الصوفية وما تكلموا فيه من الحقائق، حتى صار نادرة عصره في المحاضرات والمحاورات، واستحضار المناسبات والماجريات، وقال الشعر الرايق ونثر النثر الفايق، وصحب بسبب ما احتوى عليه من دماثة الأخلاق ولطف السجايا وكرم الشمايل، وخفة الروح كثيرًا من أرباب المظاهر والريسا من الكتاب والأمرا والتجار، وتنافسوا في صحبته وتفاخروا بمجالسته، ومنهم مصطفى بك المحمدي أمير الحاج وحسن أفندي الغربية، وشيخ السادات، وغيرهم من الأماثل، فيرتاحون لمنادمته، وينتقلون على طيب مفاكهته، وحسن مخاطبته، ولطف عباراته، وكان الوقت إذ ذاك غاصًّا بالأكابر والريسا وأرباب الفضايل، والناس في بلهنية من العيش، وأمن من المخاوف والطيش.
وللمترجم — رحمه الله — قوة استحضار في إبدا المناسبات بحسب ما يقتضيه حال المجلس، فكان يجالس ويشاكل كل جليس بما يُدخل عليه السرور في الخطاب، ويجلب عقله بلطف محادثته كما يفعل بالعقول الشراب.
ولما رتب الفرنساوية ديوانًا لقضايا المسلمين تعين المترجم في كتابة التاريخ لحوادث الديوان وما يقع فيه من ذلك اليوم؛ لأن القوم كان لهم مزيد اعتنا بضبط الحوادث اليومية في جميع دواوينهم وأماكن أحكامهم، ثم يجمعون المتفرق في ملخص يرفع في سجلهم بعد أن يطبعوا منه نسخًا عديدة يوزعونها في جميع الجيش، حتى لمن يكون منهم في غير المصر من قرى الأرياف، فتجد أخبار الأمس معلومه للجليل والحقير منهم.
فلما رتبوا ذلك الديوان — كما ذكر — كان هو المتقيد برقم كل ما يصدر في المجلس من أمر أو نهى أو خطاب أو خطا أو صواب، وقرروا له في كل شهر سبعة آلاف نصف فضة، فلم يزل متقيدًا في تلك الوظيفة مدة ولاية عبد الله جاك مِنُو حتى ارتحلوا من الإقليم مضافة لما هو فيه من حرفة الشهادة بالمحكمة، وديوانهم هذا ضحوه يومين في الجمعة، فجمع من ذلك عدة كراريس ولا أدري ما فعل بها.
وبعد أن رجع صاحبنا العلامة الشيخ حسن العطار من سياحته، مازج المذكور وخالطه ورافقه ووافقه ولازمه، فكان كثيرًا ما يبيتان معًا، ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر، وألطف من اتساق نظم الدرر، وكثيرًا ما كانا يتنادمان بداري لما بيني وبينهما من الصحبة الأكيدة والمودة العتيدة، فكانا يرتاحان عندي ويطرحان التكلفات التي هي على النفس شديدة ويتمثلان بقول من قال:
ثم يتجاذبان أطراف الكلام فيجولان في كل فن من الفنون الأدبية والتواريخ والمحاضرات، فتارة يتشاكيان تغير الزمان وتكدر الإخوان، وأخرى يترنمان بمحاسن الغزلان، وما وقع لهما من صد وهجران ووصل وإحسان، فكانت تجري بينهما منادمات أرق من زهر الرياض، وأفتك بالعقول من الحدق المراض، وهما حينئذٍ فريدا وقتهما ووحيدا عصرهما، لم يُعزَّزا في ذلك الوقت بتالت؛ إذ ليس من يدانيهما فضلًا عن مساواتهما في تلك الشئون، التي أربت على المتاني والمتالت، واستمرت صحبتهما وتزايدت على طول الأيام مودتهما، حتى تُوُفِّيَ المترجم، وبقي بعده الشيخ حسن فريدًا عمن يشاكله ويناشده ويتجارى معه ويحاوره، فسكت بعد حسن البيان، وترك نظم الشعر والنثر إلا بقدر الضرورة ونفاق أهل العصر، وذلك لتفاقم الخطوب وتزايد الكروب، وفقد الإخوان وعدم الخلان، واشتغل بما هو خير من ذلك وأبقى ثوابًا فيما هنالك من تقدير العلوم وتحقيقها، والتأليفات المتنوعة في الفنون المختلفة وتنميقها.
وهو الآن على ما هو عليه من السعي في خدمة العلم وإقرا الكتب الصعبة، وله بذلك شهرة بين الطلاب.
وقد جمع المذكور للمترجم ديوان شعره وهو صغير الحجم له شهرة بين المتأدبين بمصر، ولهم به عناية ووفور رغبة، وقد كان قبل تملك الفرنسيس لمصر، كان للمترجم تردد على شيخ السادات المكنى بأبي الأنوار المُتَوَفَّى في العام قبل الماضي، واستغرق كل شعره في مديحه، وكان له فيه غلو زايد وتأدب في الجلوس والحديث انتُقد فيه، وليم عليه هذه الأمور حتى كان لا يخاطبه إلا بضمير الغيبة، حتى ربما وقع ذلك في بعض آيات وأحاديث كما قدمنا الإشارة بذلك في ترجمته، وكان ذلك يوافق غرضه لما جُبل عليه من التعاظم.
وقد كان جلساه لما رأوا محبته لذلك يتشبهون بالمترجم في سلوك هذه الشئون، مع أنه لا داعي ولا باعث لارتكاب هذه المعاصي طلبًا لمرضاة من هو كثير التلون على جلساه، وإنما الناس شأنهم التقليد، وفي طباعهم الميل إلى أرباب الدنيا، ولو لم ينلهم منها شي، ولم يكن للمترجم شي يعاب به إلا هذه الارتكابات.
ولما وردت الفرنساوية لمصر اتفق أن علق شابًّا من ريسا كتَّابهم، كان جميل الصورة لطيف الطبع عالمًا ببعض العلوم العربية، مايلًا إلى اكتساب النكات الأدبية، فصيح اللسان بالعربي، يحفظ كثيرًا من الشعر؛ فلتلك المجانسة مال كلٌّ منهما للآخر ووقع بينما توادد وتصافٍ، حتى كان لا يقدر أحدهما على مفارقة الآخر، فكان المترجم تارة يذهب لداره وتارة يزوره هو، ويقع بينهما من لطف المحاورة ما يُتعجب منه، وعند ذلك قال المترجم الشعر الرايق ونظم الغزل الفايق.
فمما قاله فيه:
وله في آخر يسمى ريج:
ولما نظم الشيخ حسن موشحته التي يقول فيها شعرًا:
وهي طويلة مذكورة في ديوانه، عارضه المترجم المذكور بقوله في معشوقه الذي ذكرناه:
وبقيتها في ديوانه. وقال أيضًا وهو مما يعتني به:
إلى آخرها.
ولم يزل المترجم على حالته ورقته ولطافته مع ما كان عليه من كرم النفس والعفة والنزاهة، والتولع لمعالي الأمور والتكسب وكثرة الإنفاق، وسكنى الدور الواسعة والحزم، وكان له صاحب يسمى أحمد العطار بباب الفتوح، تُوُفِّيَ وتزوج هو بزوجته، وهي نَصَف، وأقام معها نحو تلاتين سنة، ولها ولد صغير من المُتَوَفَّى فتبنَّاه ورباه ورفَّهه بالملابس وأشفق به أضعاف والد بولده، ولما بلغ عمل له مهمًا وزوَّجه ودعا الناس إلى ولايمه، وأنفق عليه في ذلك إنفاقًا كثيرة، وبعد نحو سنة تمرَّض ذلك الغلام أشهرًا، فصرف عليه وعلى معالجته جملة من المال، ومات فجزع عليه جزعًا شديدًا ويبكي وينتحب، وعمل له مأتمًا وعزا، واختارت أمه دفنه بجامع الكردي بالحسينية، ورتبت له رواتب وقراء، واتخذت مسكنًا ملاصقًا لقبره وأقامت به نحو التلاتين سنة، مع دوام عمل الشريك والكعك بالعجمية والسكر وطبخ الأطعمة للمقرين والزايرين، ثم ملازمة الميت واتخاذ ما ذكر في كل جمعة على الدوام، والمترجم طوع يدها في كل ما طلبته وما كلفته به تسخيرًا من الله تعالى.
وكل ما وصل إلى يده من حرام أو حلال، فهو مستهلك عليها وعلى أقاربها وخدمها لا لذة له في ذلك حسية ولا معنوية؛ لأنها في ذاتها عجوز شوها، وهو في نفسه نحيف البنية ضعيف الحركة جدًّا، بل معدومها، وابتُلي بحصر البول وسلسه القليل مع الحُرقة والتألم استدام بها مدة طويلة، حتى لزم الفراش أيامًا.
وتُوُفِّيَ يوم السبت تاني شهر الحجة الحرام بمنزله الذي استأجره بدرب قِرْمز بين القصرين، وصلينا عليه بالأزهر في مشهد حافل، ودُفن عند ابنه المذكور بالحسينية، وكثيرًا ما كنت أتذكر قول القائل:
مع أنه كان كثير الانتقاد على غيره فيما لا يداني فعلَه وانقياده إلى المرأة وحواشيها، نسأل الله السلامة والعافية وحسن العافية، كما قيل من تكملة ما تقدم: