واستهلت سنة إحدى وتلاتين ومايتين وألف (١٨١٥م)
استهل شهر المحرم بيوم السبت، وحاكم مصر وصاحبها وإقطاعها وثغورها، وكذلك بندر جدة ومكة والمدينة المنورة وبلاد الحجاز محمد علي باشا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشا، ولاظ محمد الذي هو كتخدا بك قايمقامه هو المتصدر لإجرا الأحكام بين الناس عن أمر مخدومه، وإبراهيم أغا أغات الباب، والدفتردار محمد أفندي صهر الباشا، والروزنامجي مصطفى أفندي تابع محمد أفندي باش جاكرت سابقًا، وغيطاس أفندي سرجي، وسليمان أفندي الكماخي باشمحاسب ورفيقه أحمد أفندي باشا قلفة، وصالح بك السلحدار وحسن أغا أغات الينكجرية، وعلي أغا الشعراوي زعيم مصر وهو الوالي، وأغات التبديل أحمد أغا وهو أخو حسن أغا المذكور، وكاتب الخزينة ولي خوجة وريس كتبة الأقباط المعلم غالي، وأولاد الباشا إبراهيم باشا حاكم الصعيد، وطوسون باشا فاتح بلاد الحجاز، وإسماعيل باشا ببولاق ومحرم بك صهر الباشا أيضًا على ابنته بالجيزة، أحمد أغا المعروف ببونابارته الخازندار وباقي كشاف الأقاليم وأكابر أعيانهم مثل: دبوس أوغلي وحسن أغا سرششمه، وحجو بك، ومحو بك، وخلافهم.
وفي ذلك اليوم قبض كتخدا بك على المعلم غالي وأمر بحبسه، وكذلك أخوه المسمى فرنسيس وخازنداره المعلم سمعان، وذلك عن أمر مخدومه من إسكندرية؛ لأنه حول عليه الطلب بستة آلاف كيس تأخر أداها إياه من حسابه القديم، فاعتذر بعدم القدرة عن أداها في الحين؛ لأنها بواقي على أربابها، وهو ساعٍ في تحصيلها ويطلب المهلة إلى رجوع الباشا من غيبته، فأرسل الكتخدا بمقالته واعتذاره إلى الباشا.
وانتبذ طايفة من الأقباط في الحط على غالي مع الكتخدا، وعرَّفوه أنه إذا حوسب يظهر عليه تلاتون ألف كيس، فقال لهم: وإن لم يتأخر عليه هذا القدر تكونوا ملزومين به إلى الخزينة، فأجابوه إلى ذلك، فأرسل يعرِّف الباشا بذلك، فورد الأمر بالقبض عليه وعلى أخيه وخازنداره وحبسهم وعزله ومطالبته بستة آلاف كيس القديمة أولًا، ثم حسابه بعد ذلك.
فأحضر المرافعين عليه، وهم: المعلم جرجس الطويل، ومنقريوس البتنوني، وحنا الطويل، وألبسهم خلعًا على رياسة الكتاب عوضًا عن غالي ومن يليه، واستمر غالي في الحبس ثم أحضره مع أخيه وخازنداره، فضربوا أخاه أمامه ثم أمر بضربه، فقال: وأنا أُضرب أيضًا؟ قال: نعم، ثم ضربوه على رجليه بالكرابيج، ورفع وكرر عليه الضرب، وضرب سمعان ألف كرباج حتى أشرف على الهلاك.
ووجدوا في جيبه ألف مشخص بندقي ومايتي محبوب عنها اثنان وعشرون ألف قرض، ثم بعد أيام أفرجوا عن أخيه وسمعان ليسعيا في التحصيل، وهلك سمعان واستمر غالي في السجن وقد رفعوا عنه وعن أخيه العقاب لئلا يموتا.
وفي عاشره رجع الباشا من غيبته من إسكندرية، وأول ما بدأ به إخراج العساكر مع كبراهم إلى ناحية بحري وجهة البحيرة والثغور، فنصبوا خيامهم بالبر الغربي والشرقي تجاه الرحمانية، وأخذوا صحبتهم مدافع وبارودًا وآلات الحرب، واستمر خروجهم في كل يوم، وذلك من مكايده معهم وإبعادهم عن مصر جزا فعلتهم المتقدمة فخرجوا أرسالًا.
واستهل شهر صفر الخير (سنة ١٢٣١)
فيه تشفع جوني الحكيم في المعلم غالي، وأخذه من الحبس إلى داره، والعساكر مستمرون في التشهيل والخروج وهم لا يعلمون المراد بهم، وكثرت الروايات والأخبار والإيهامات والظنون، ومعنى الشعر في بطن الشاعر.
واستهل شهر ربيع الأول (سنة ١٢٣١)
فيه سافر طوسون باشا وأخوه إسماعيل باشا إلى ناحية رشيد، ونصبوا عرضيهما عند الحماد وناحية أبي منضور وحسين بك دالي باشا وخلافه مثل: حسين أغا أزرجنلي ومحو بك وصارى جلة وحجو بك جهة البحيرة، وكل ذلك تواطين وتلبيس للعساكر بكونه أخرج حتى أولاده العزاز للمحافطة، وكذلك الكثير من كبراهم إلى جهة البحر الشرقي ودمياط.
وفي تاني عشره صبيحة المولد النبوي طلب الباشا المشايخ، فلما جلسوا مجلسهم وفيهم الشيخ البكري، أحضروا خلعة وألبسوها له على منصب نقابة الأشراف عوضًا عن السيد محمد الدواخلي، وقد كان الباشا قبل حضورهم أحضر السيد محمد المحروقي وفاوضه في ذلك ورأى أن يقلده إياه، فاعتذر السيد المحروقي واستعفى وقال: أنا متقيد بخدمة أفندينا ومهمات المتاجر والعرب والحجاز، فقال: قد قلدتك إياها فأعطها لمن شيت، فذكر أنها كانت مضافة للشيخ البكري، وهو أولى من غيره، فلما حضروا وتكاملوا ألبسوه الخلعة واستصوب الجماعة ذلك وانصرفوا.
وفي الحال كتب فرمان بإخراج الدواخلي منفيًّا إلى قرية دسوقي، فنزل إليه السيد أحمد الملا الترجمان وصحبته قواس تركي وبيده الفرمان، فدخلوا إليه على حين غفلة وكان بداخل حريمه لم يشعر بشي مما جرى، فخرج إليهم فأعطوه الفرمان فلما قرأه غاب عن حواسه وأجاب بالطاعة، وأمروه بالركوب فركب بغلته وسارا به إلى بولاق، وأنزلوه في قياسة صحبته القواس المعين ومعه مملوكه الصغير الذي كان شراه بعد موت ولده الشيخ سالم الشرقاوي، وانسل مما كان فيه كانسلال الشعرة من العجين، وتفرق الجمع الذي كان حوله.
وشرع الأشياخ في تنميق عرضحال عن لسانهم بأمر الباشا بتعداد جنايات الدواخلي وذنوبه وموجبات عزله، وأن ذلك بترَجِّيهم والتماسهم عزله ونفيه، ويرسل ذلك العرضحال لنقيب الأشراف بدار السلطنة؛ لأن الذي يكون نقيبًا بمصر نيابة عنه، ويرسل إليه الهدية في كل سنة، فالذي نقموه عليه من الذنوب أنه تطاول على حسين أفندي شيخ رواق الترك، وسبه وحبسه من غير جرم؛ وذلك أنه اشترى منه جارية حبشية بقدر من الفراسة، فلما أقبضه الثمن أعطاه بدلها قروشًا بدون الفرق الذي بين المعاملتين، فتوقف السيد حسين وقال: إما تعطيني العين التي وقع عليهم الانفصال أو تكمل فرط النقص، وتشاحا وأدى ذلك إلى سبه وحبسه، وهو رجل كبير متضلع ومدرس وشيخ رواق الأتراك بالأزهر، وهذه القضية سابقة على حادثة نفيه بنحو سنتين، ومنها أيضًا أنه تطاول على السيد منصور اليافي بسبب فتيا رفعت إليه، وهي أن امرأة وقفت وقفًا في مرض موتها وأفتى بصحة الوقف على قول ضعيف، فسبه في ملأ من الجمع وأراد ضربه ونزع عمامته من على رأسه.
ومنها أيضًا أنه يعارض القاضي في أحكامه وينقص محاصيله، ويكتب في بيته وثايق قضايا صلحًا، ويسب أتباع القاضي ورسل المحكمة، ويعارض شيخ الجامع الأزهر في أموره ونحو ذلك.
وعندما سطروه وتمموه وضعوا عليه ختومهم، وأرسلوه إلى إسلامبول.
على أن جناياته عند الباشا ليست هذه النكات الفارغة، بل ولا علم له بها ولا التفات، وإنما هي أشيا ورا ذلك كله ظهر بعضها وخفي عنا باقيها؛ وذلك أن الباشا يحب الشوكة ونفوذ أوامره في كل مرام ولا يصطفي، ويحب من لا يعارضه ولو في جزئية، أو يفتح له بابًا يهب منه ريح الدراهم والدنانير، أو يدله على ما فيه كسب وربح من أي طريق أو سبب من أي ملة كان.
ولما حصلت واقعة قيام العسكر في أواخر السنة الماضية، وأقام الباشا بالقلعة يدبر أمره معهم وألزم أعيان المتظاهرين الطلوع إليه في كل ليلة، وأجل المتعممين الدواخلي وفوضوه في الصعود لكونه معدودًا في العلما ونقيبًا على الأشراف — وهي في رتبة الوالي عند العثمانيين — فداخله الغرور وظن أن الباشا قد حصل في ورطة يطلب النجاة منها بفعل القربات والنذور، ولكونه رآه يسترضي خواطر الرعية المنهوبين ويدفع لهم أثمانها، ويستميل كبار العساكر وينعم عليهم بالمقادير الكثيرة من أكياس المال، ويسترسل معه في المسامرة والمسايرة ولين الخطاب والمذاكرة والمضاحكة.
فلما رأى إقبال الباشا عليه زاد طمعه في الاسترسال معه، فقال له: الله يحفظ أفندينا وينصره على أعداه والمخالفين له، ونرجو من إحسانه بعد هدوِّ سره وسكون هذه الفتنة أن ينعم علينا ويجرينا على عوايدنا في الحمايات والمسامحات بخصوص ما يتعلق بنا من حصص الالتزام والرزق، فأجابه بقوله: نعم، يكون ذلك ولا بد الراحة لكم ولكافة الناس، فدعا له وأنس فؤاده، وقال: الله تعالى يحفظ أفندينا وينصره على أعداه كذلك يكون تمام ما أشرتم به من الراحة لكافة الناس الإفراج عن الرزق الإحباسية على المساجد والفقرا، فقال: نعم، ووعده مواعيده العرقوبية.
كما قيل:
فكان الدواخلي إذا نزل من القلعة إلى داره يحكي في مجلسه ما يكون بينه وبين الباشا من أمثال هذا الكلام ويذيعه في الناس، ولما أمر الباشا الكتَّاب بتحرير حساب الملتزمين على الوجه المرضي بديوان خاص لرجال دايرة الباشا وأكابر العسكر، وذلك بالقلعة تطييبًا لخواطرهم، وديوان آخر في المدينة لعامة الملتزمين، فيحررون للخاصة بالقلعة ما في قوايم مصر وفيهم وما كانوا يأخذونه من المضاف والبراني والهدايا وغير ذلك، والديوان العام التحتاني بخلاف ذلك، فلما رأى الدواخلي ذلك الترتيب قال للباشا: وأنا الفقير محسوبكم من رجال الدايرة، فقال: نعم، وحرروا قوايمه مع أكابر الدولة، وأنعم عليه الباشا بأكياس أيضًا كثيرة زيادة على ذلك.
فلما راق الحال ورتب الباشا أموره مع العسكر، أخذ يذكر الباشا بإنجاز الوعد ويكرر القول عليه وعلى كتخدا بك بقوله: أنتم تكذبون علينا ونحن نكذب على الناس، وأخذ يتطاول على كتبة الأقباط بسبب أمور يلزمهم ويكلفهم بإتمامها، وعذرهم يخفى عنه في تأخيرها فيكلمهم بحضرة الكتخدا ويشتمهم، ويقول لبعضهم: أما اعتبرتم بما حصل للَّعين غالي؟ فيحقدون عليه ويشكون منه للباشا والكتخدا وغير ذلك أمورًا، مثل تعرضه للقاضي في قضاياه وتشكيه منه.
واتفق أنه لما حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية، وكان بصحبته أحمد جلبي ابن ذي الفقار كتخدا الفلاح، وكأنه كان كتخداه بالصعيد، وتشكت الناس من أفاعيله وإغوائه إبراهيم باشا، فاجتمع به الدواخلي عند السيد محمد المحروقي، وحضر قبل ذلك إليه للسلام عليه، وفي كل مرة يوبخه بالكلام ويلومه على أفاعيله بالقول الخشن في ملأ من الناس، فذهب إلى الباشا وبالغ في الشكوى، ويقول فيها: أنا نصحت في خدمة أفندينا جهدي وأظهرت من المخبآت ما عجز عنه غيري، فأجازى عليه من هذا الشيخ ما أسمعنيه من قبيح القول وتجبيهي بين الملأ، وإذا كان محبًّا لأفندينا فلا يكره نفعه ولا النصح في خدمته، وأمثال ذلك مما يخفى عنا خبره؛ فمثل هذه الأمور هي التي أوغرت صدر الباشا على الدواخلي، مع أنها في الحقيقة ليست خلافًا عند من فيه قابلية للخير.
وأنا أقول: إن الذي وقع لهذا الدواخلي إنما هو قصاص وجزا فعله في السيد عمر مكرم، فإنه كان من أكبر الساعين عليه إلى أن عزلوه وأخرجوه من مصر، والجزا من جنس العمل، كما قيل:
ولما جرى على الدواخلي ما جرى من العزل والنفي أظهر الكثير من نظراه المتفقهين الشماتة والفرح، وعملوا ولايم وعزايم ومضاحكات، كما يقال:
وقد زالت هيبتهم ووقارهم من النفوس، وانهمكوا في الأمور الدنيوية والحظوظ النفسانية والوساوس الشيطانية، ومشاركة الجهال في المآثم والمسارعة إلى الولايم في الأفراح والمياتم، يتكالبون على الأسمطة كالبهايم فتراهم في كل دعوة ذاهبين، وعلى الخوانات راكعين، وللكباب والمحمرات خاطفين، وعلى ما وجب عليهم من النصح تاركين.
وفي أواخره شرعوا في عمل مهم عظيم بمنزل ولي أفندي، ويقال له ولي خجا، وهو كاتب الخزينة العامرة، وهو من طايفة الأرنؤد، واختص به الباشا واستأمنه على الأمور، وضم إليه دفاتر الإيراد من جميع وجوه جبايات الأموال من خراج البلاد والمحدثات وحسابات المباشرين، وأنشأ دارًا عظيمة بخطة باب اللوق على البركة المعروفة بأبي الشوارب، وأدخل فيها عدة بيوت بجوانبها وتجاهها على نسق واصطلاح الأبنية الإفرنجية والرومية، وتأنق في زخرفتها واتساعها واستمرت العمارة بها نحو السنتين، ولما كملت وتمت أحضروا القاضي والمشايخ، وعقدوا لولديه على ابنتين من أقارب الباشا بحضرة الأعيان ومن ذكر، واحتفلوا بعمل المهم احتفالًا زايدًا، وتقيد السيد محمد المحروقي بالمصاريف والتنظيم واللوازم، كما كان في أفراح أولاد الباشا، واجتمعت الملاعيب والبهلوانات بالبركة وما حولها وبالشارع، وعلقوا تعاليق قناديل ونجفات وأحمال بلور وزينات، واجتمع الناس للفرجة، وبالليل حراقات ونفوط ومدافع وسواريخ سبع ليالٍ متوالية.
وعملت الزفة يوم الخميس واجتمعت العربات لأرباب الحرف كما تقدم في العام الماضي، بل أزيد؛ وذلك لأن الباشا لم يشاهد أفراح أولاده لكونه كان غايبًا بالديار الحجازية، وحضر الباشا للفرجة وجلس بمدرسة الغورية بقصد الفرجة، وعمل له السيد محمد المحروقي الغدا، وخرجوا بالزفة أوايل النهار وداروا بها دورة طويلة، فلم يمروا بسوق الغورية إلا قريب الغروب أواخر النهار.
واستهل شهر ربيع التاني (سنة ١٢٣١)
وخروج العساكر إلى ناحية بحري مستمر، وأفصح الباشا وذكر في كلامه في مجالسه وبيَّن السر في إخراجهم من المدينة بأن العساكر قد كثروا، وفي إقامتهم بالبلدة مع كثرتهم ضرر وإفساد وضيق على الرعية مع عدم الحاجة إليهم داخل البلدة، الأولى والأحوط أن يكونوا خارجها وحولها مرابطين لحفظ الثغور من طارق على حين غفلة أو حادث خارجي، وليس لهم إلا رواتبهم وعلايفهم تأتيهم في أماكنهم ومراكزهم، والسر الخفي إخراج الذين قصدوا غدره وخيانته ووقع بسبب حركتهم ما وقع من النهب والإزعاج على أواخر شعبان من السنة الماضية.
وكان قد بدأ بإخراج أولاده وخواصه، ثم من تخيل منه واحدًا بعد واحد، وأسرَّ إلى أولاده بما في ضميره، وأصحب مع ولده طوسون باشا شخصًا من خواصه يسمى أحمد أغا البخورجي المدللي.
وأخذ طوسون باشا في تدبير الإيقاع مع من يريد به، فبدأ بمحو بك وهو أعظمهم وأكثرهم جندًا، فأخذ في تأليف عساكره حتى لم يبقَ معه إلا القليل، ثم أرسل في وقت بطلب محو بك عنده في مشورة، فذهب إليه أحمد أغا المدللي المذكور وأسرَّ إليه ما يراد به وأشار إليه بعدم الذهاب، فركب محو بك في الحال وذهب عند الدلاة فأرسلوا إلى مصطفى بك وهو كبير على طايفة من الدلاة وأخو زوجة الباشا وقريبه، وإلى إسماعيل باشا ابن الباشا ليتوسطا في صلح محو بك مع الباشا، وليعفوه ويذهب إلى بلاده، فأرسلا إلى الباشا بالخبر وبما نقله أحمد أغا المدللي إلى محو بك، فسفه رأيه في تصديق المقالة وفي هروبه عند الدلاة، ثم يقول: لولا أن في نفسه خيانة لما فعل ما فعل من التصديق والهروب.
وكان طوسون باشا لمَّا جرى من أحمد أغا ما جرى من نقل الخبر لمحو بك عوَّقه وأرسل إلى أبيه يعلمه بذلك، فطلبه للحضور إليه بمصر، فلما مثل بين يديه وبَّخه وعزَّره بالكلام، وقال له: ترمي الفتن بين أولادي وكبار العسكر، ثم أمر بقتله فنزلوا به إلى باب وزيلة وقطعوا راسه هناك، وتركوه مرميًّا طول النهار ثم رفعوه إلى داره، وعملوا له في صبحها مشهدًا ودفنوه.
وفيه حضر إسماعيل باشا ومصطفى بك إلى مصر.
وفي أواخره حضر شخص يسمى سليم كاشف من الأجناد المصرية مرسلًا من عند بقاياهم من الأمرا، وأتباعهم الذين رماهم الزمان بكلكله، وأقصاهم وأبعدهم عن أوطانهم واستوطنوا دنقلة من بلاد السودان، يتقوتون مما يزرعونه بأيديهم من الدُّخْن، وبينهم وبين أقصى الصعيد مسافة طويلة نحو من أربعين يومًا، وقد طال عليهم الأمد ومات أكثرهم ومعظم ريساهم مثل: عثمان بك حسن وسليم أغا وأحمد أغا شويكار وغيرهم ممن لا علم لنا بخبره أو أخبارهم لبعد المسافة حتى على أهل منازلهم، وبقي ممن لم يمت منهم إبراهيم بك الكبير، وعبد الرحمن بك تابع عثمان بك المرادي، وعثمان بك يوسف، وأحمد بك الألفي زوج عديلة ابنة إبراهيم بك الكبير، وعلي بك أيوب، وبواقي صغار الأمرا والمماليك على ظن خيانتهم، وقد كبر سن إبراهيم بك الكبير وعجزت قواه ووهن جسمه، فلما طالت عليهم الغربة أرسلوا هذا المرسل بمكاتبة إلى الباشا يستعطفونه ويسألونه فضله ويرجون مراحمه بأن ينعم عليهم بالأمان على نفوسهم، ويأذن لهم بالانتقال من دنقلة إلى جهة من أراضي مصر يقيمون بها أيضًا، ويتعيشون فيها بأقل العيش تحت أمانه، ويدفعون ما يجب عليهم من الخراج الذي يقرره عليهم، ولا يتعدون مراسمه وأوامره، فلما حضر وقابل الباشا وتكلم معه وسأله عن حالهم وشأنهم ومن مات ومن لم يمت منهم وهو يخبره خبره، ثم أمره بالانصراف إلى محله الذي نزل فيه إلى أن يرد عليه الجواب، وأنعم عليه بخمسة أكياس.
فأقام أيامًا حتى كتب له جواب رسالته مضمونها أنه أعطاهم الأمان على أنفسهم بشروط شرطها عليهم إن خالفوا منها شرطًا واحدًا، كان أمانهم منقوضًا وعهدهم منكوثًا ويحل بهم ما حل بمن تقدم منهم.
فأول الشروط أنهم إذا عزموا على الانتقال من المحل الذي هم فيه يرسلون أمامهم نجابًا بخبرهم وحركتهم، وانتقالهم ليأتيهم من أعيِّنه لملاقاتهم.
التاني إذا حلوا بأرض الصعيد لا يأخذون من أهل النواحي كُلْفةً ولا دَجاجةً ولا رغيفًا واحدًا، وإنما الذي يتعين لملاقاتهم يقوم لهم بما يحتاجون إليه من مونة وعليق ومصرف.
التالت أني لا أقطعهم شيًّا من الأراضي والنواحي، ولا إقامة في جهة من جهات أراضي مصر، بل يأتون عندي وينزلون على حكمي، ولهم ما يليق بكل واحد منهم من المسكن والتعيين والمصرف، ومن كان ذا قوة قلدته منصبًا أو خدمة تليق به، أو ضممته إلى بعض الأكابر من ريسا العسكر، وإن كان ضعيفًا أو هرمًا أجريت عليه نفقة لنفسه وعياله.
الرابع أنهم إذا حصلوا بمصر على هذه الشروط وطلبوا شيًّا من إقطاع أو رزقة أو قنطرة أو أقل مما كان في تصرفهم في الزمن الماضي أو نحو ذلك، انتقض معي عهدهم، وبطل أماني لهم بمخالفة شرط واحد من هذه الشروط. وهي سبعة غاب عن ذهني باقيها، فسبحان المعز المذل مقلب الأحوال ومغير الشئون.
فمن العبر أنه لما حضر المصريون ودخلوا إلى مصر بعد مقتل طاهر باشا وتأمروا وتحكموا فكانت عساكر الأتراك في خدمتهم، ومن أرذل طوايفهم وعلايفهم تصرف عليهم من أيدي كتابهم وأتباعهم، وإبراهيم بك هو الأمير الكبير وراتب محمد علي باشا هذا من الخبز اللحم والأرز والسمن الذي عينه له من كيلاره، نعوذ بالله من سو المنقلب، ورجع سليم كاشف المرسل إليهم بالجواب المشتمل على ما فيه من الشروط.
وفيه أمر الباشا بحبس أحمد أفندي المعايرجي بدار الضرب، وحبس أيضًا عبد الله بكتاش ناظر الضربخانة، واحتج عليهما باختلاسات يختلسانها، واستمر أيامًا حتى قرر عليهما نحو السبعماية كيس، وعلى الحاج سالم الجواهرجي، وهو الذي يتعاطى إيراد الذهب والفضة إلى شغل الضربخانة مثلها، ثم أطلق المذكوران ليحصلا ما تقرر عليهما، وكذلك أطلق الحاج سالم وشرعوا في التحصيل بالبيع والاستدانة، واشتد القهر بالحاج سالم ومات على حين غفلة، وقيل: إنه ابتلع فص ألماس، وكان عليه ديون باقية من التي استدانها في المرة الأولى والغرامة السابقة.
نادرة غريبة
ومن النوادر الغريبة والاتفاقات العجيبة أنه لما مات إبراهيم بك المداد بالضربخانة قبل تاريخه، تزوج بزوجته أحمد أفندي المعايرجي المذكور، فلما عوق أحمد أفندي خافت زوجته المذكورة أن يدهمها أمر مثل الختم على الدار أو نحو ذلك، فجمعت مصاغها وما تخاف عليه مما خف حمله وثقل ثمنه، وربطته في صرة وأودعتها عند امرأة من معارفها، فسطا على بيت تلك المرأة شخص حرامي، وأخذ تلك الصرة وذهب بها إلى دار امرأة من أقاربه بالقرب من جامع مسكة وقال لها احفظي عندك هذه الصرة حتى أرجع، ونزل إلى أسفل الدار، فنادته المرأة حتى آتيك بشي تأكله، فقال: نعم، فإني جيعان وجلس أسفل الدار ينتظر إتيانها له بما يأكله.
وصادف مجي زوج المرأة تلك الساعة، فوجده ورحَّب به وهو يعلم بحاله ويكره مجيه إلى داره، وطلع إلى زوجته فوجد بين يديها تلك الصرة فسألها عنها، فأخبرته أن قريبها المذكور أتى بها إليها حتى يعود لأخذها فجسَّها فوجدها ثقيلة.
فنزل في الحال ودخل على محمد أفندي سليم من أعيان جيران الخطة فأخبره، فأحضر محمد أفندي أنفارًا من الجيران أيضًا وفيهم الخجا المنسوب إلى أحمد أغا لاظ المقتول، ودخل الجميع إلى الدار وذلك الحرامي جالس ومشتغل بالأكل فوكَّلوا به الخدم، وأحضروا تلك الصرة وفتحوها فوجدوا بها مصاغا وكيسًا بداخله أنصاف فضة عديدة، ذكروا أن عدتها أربعون ألفًا، ولكنها من غير ختم وبدون نقش السكة.
فأخذوا ذلك وتوجهوا لكتخدا بك وصحبتهم الحرامي، فسألوه وهددوه فأقر وأخبر عن المكان الذي اختلسها منه، فأحضروا صاحبة المكان فقالت: هو وديعة عندي لزوجة أحمد أفندي المعايرجي، فثبت لديهم خيانته واختلاسه، وسيل أحمد أفندي فحلف أنه لا يعلم بشي من ذلك، وأن زوجته كانت زوجًا لإبراهيم المداد، فلعل ذلك عندها من أيامه.
وسيلت هي أيضًا عن تحقيق ذلك فقالت: الصحيح أن إبراهيم المداد كان اشترى هذه الدراهم من شخص مغربي عندما نهب عسكر المغاربة الضربخانة في وقت حادثة الأمرا المصريين، وخروجهم من مصر عندما قامت عليهم عسكر الأتراك.
فلم يزيلوا الشبهة عن أحمد أفندي، بل زادت، وكانت هذه النادرة من عجايب الاتفاق، فقدروا أثمانها وخصموها من المطلوب منه.
وفي يوم الخميس عشرينه حصلت جمعية ببيت البكري، وحضر المشايخ وخلافهم، وذلك بأمر باطني من صاحب الدولة، وتذكروا ما يفعله قاضي العسكر من الجور والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل؛ وذلك أن القضاة الذين يأتون من باب السلطنة كانت لهم عوايد وقوانين قديمة لا يتعدونها في أيام الأمرا المصريين.
فلما استولت هولا الأروام على الممالك والقاضي منهم، فحُش أمرهم وزاد طمعهم وابتدعوا بدعًا وابتكروا حيلًا لسلب أموال الناس والأيتام والأرامل، وكلما ورد قاضٍ ورأى ما ابتكره الذي كان قبله أحدث هو الآخر أشيا يمتاز بها عن سلفه، حتى فحش الأمر وتعدَّى ذلك لقضايا أكابر الدولة وكتخدا بك بل والباشا، وصارت ذريعة وأمرًا محتمًا لا يحتشمون منه، ولا يراعون خليلًا ولا كبيرًا ولا جليلًا.
وكان المعتاد القديم أنه إذا ورد القاضي في أول السنة التوتية، التزم بالقسمة بعض المميزين من رجال المحكمة بقدر معلوم يقوم بدفعه للقاضي، وكذلك تقرير الوظايف كانت بالفراغ أو المحلول، وله شهريات على باقي المحاكم الخارجة كالصالحية وباب سعادة والخرق وباب زويلة وباب الفتوح وطيلون وقناطر السباع وبولاق ومصر القديمة ونحو ذلك، وله عوايد وإطلاقات وغلال من الميري، وليس له غير ذلك إلا معلوم الإمضا، وهو خمسة أنصاف فضة، فإذا احتاج الناس في قضاياهم ومواريثهم أحضروا شاهدًا من المحكمة القريبة منهم فيقضي فيها ما يقضيه ويعطونه أجرته، وهو يكتب التوثيق أو حجة المبايعة أو التوريث، ويجمع العدة من الأوراق في كل جمعة أو شهر، ثم يمضيها من القاضي ويدفع له معلوم الإمضا لا غير، وأما القضايا لمثل العلما والأمرا فبالمسامحة والإكرام.
وكان القضاة يخشون صولة الفقها وقت كونهم يَصْدَعون بالحق ولا يداهنون فيه.
فلما تغيرت الأحوال وتحكمت الأتراك وقضاتها ابتدعوا بدعًا شتى، منها إبطال نواب المحاكم، وإبطال القضاة التلاتة خلاف مذهب الحنفي، وأن تكون جميع الدعاوى بين يديه ويدي نايبه.
وبعد الانفصال يأمرهم بالذهاب إلى الكتخدا ليدفع المحصول، فيطلب منهم المقادير الخارجة عن المعقول، وذلك خلاف الرشوات الخفية والمصالحات السرية، وأضاف التقرير والقسمة لنفسه، ولا يلتزم بها أحد من الشهود كما كان في السابق.
وإذا دُعي بعض الشهود لكتابة توثيق أو مبايعة أو تركة، فلا يذهب إلا بعد أن يأذن له القاضي، ويصحبه جوخدار دار ليباشر القضية، وله نصيب أيضًا.
وزاد طمع هولا الجخدارية حتى لا يرضون بالقليل كما كانوا في أول الأمر، وتخلف منهم أشخاص بمصر عن مخاديمهم، وصاروا عند المتولي لما انفتح لهم هذا الباب.
وإذا ضبط تركة من التركات وبلغت مقدارًا أخرجوا للقاضي العشر من ذلك، ومعلوم الكاتب والجوخدار والرسول ثم التجهيز والتكفين والمصرف والديون، وما بقي بعد ذلك يقسم بين الورثة، فيتفق أن الوارث واليتيم لا يبقى له شي، ويأخذ من أرباب الديون عشر ديونهم أيضًا، ويأخذ من محاليل وظايف التقارير معلوم سنتين أو تلاتة، وقد كان يصالح عليها بأدنى شي وإلا إكرامًا.
وابتدع بعضها الفحص عن وظايف القبانية والموازين، وطلب تقاريرهم القديمة ومن أين تلقوها، وتعلل عليهم بعدم صلاحية المقرر، وفيها من هو باسم النسا وليسوا أهلًا لذلك، وجمع من هذا النوع مقدارًا عظيمًا من المال، ثم محاسبات نظار الأوقاف والعزل والتولية فيهم، والمصالحات على ذلك.
وقرر على نصارى الأقباط والأروام قدرًا عظيمًا في كل سنة بحجة المحاسبة على الديور والكنايس.
ومما هو زايد الشناعة أيضًا أنه إذا ادَّعى مبطل على إنسان دعوى لا أصل لها بأن قال ادعى عليه بكذا وكذا من المال وغيره، كتب المقيدُ ذلك القول حقًّا كان أو باطلًا، معقولًا أو غير معقول، ثم يظهر بطلان الدعوى أو صحة بعضها، فيطالب الخصم بمحصول القدر الذي ادعاه المدعي وسطره الكاتب، يدفعه المدعَّى عليه للقاضي على داير النصف الواحد أو يُحبس عليه حتى يوفيه، وذلك خلاف ما يؤخذ من الخصم الآخر، وحصل نظيرها لبعض من هو ملتجي لكتخدا بك، فحُبس على المحصول فأرسل الكتخدا يترجى في إطلاقه والمصالحة عن بعضه فأبى، فعند ذلك حنق الكتخدا وأرسل من أعوانه من استخرجه من الحبس، ومن الزيادات في نغمة الطنبور كتابة الإعلامات.
وهو أنه إذا حضر عند القاضي دعوى بقاصد من عند الكتخدا أو الباشا ليقضي فيها وقضى فيها لأحد الخصمين طلب المقضي له إعلامًا بذلك إلى الكتخدا أو الباشا يرجع به مع المقاصد تقييدًا وإثباتًا، فعند ذلك لا يكتب له ذلك الإعلام إلا بما عسى لا يرضيه إلا أن يسلخ من جلده طاقًا أو طاقين، وقد حكمت عليه الصورة، وتابع الباشا أو الكتخدا ملازم له ويستعجله ويساعد كتخدا القاضي عليه، ويسليه على ذلك الظفر والنصرة على الخصم، مع أن الفرنساوية الذين كانوا لا يتدينون بدين لما قلدوا الشيخ أحمد العريشي القضا بين المسلمين بالمحكمة حددوا له حدًّا في أخذ المحاصيل لا يتعداه، بأن يأخذ على الماية اثنين فقط، له منها جزء والكتَّاب جزء.
فلما زاد الحال وتعدى إلى أهل الدولة رتبوا هذه الجمعية، فلما تكاملوا بمجلس بيت البكري كتبوا عرضًا محضرًا ذكروا فيه بعض هذه الإحداثات، والتمسوا من ولي الأمر رفعها، ويرجون من المراحم أن يجري القاضي ويسلك في الناس طريقًا من إحدى الطرق التلات: إما الطريقة التي كان عليها القضاة في زمن الأمرا المصريين.
وإما الطريقة التي كانت في زمن الفرنساوية، أو الطريقة التي كانت أيام مجي الوزير، وهي الأقرب والأوفق، وقد اخترناها ورضيناها بالنسبة لما هم عليه الآن من الجور.
وتمموا العرض محضرًا وأطلعوا عليه الباشا، فأرسله إلى القاضي فامتثل الأمر وسجل بالسجل على مضض منه ولم تسعه المخالفة.
واستهل شهر جمادى التاني (سنة ١٢٣١)
في منتصفه ورد الخبر بموت مصطفى بك دالي باشا بناحية إسكندرية، وهو قريب الباشا وأخو زوجته.
واستهل شهر رجب الأصم بيوم التلات (سنة ١٢٣١)
في تالته يوم الخميس قبل الغروب حصل في الناس انزعاج ولغط، ونقَل أصحاب الحوانيت بضايعهم منها مثل سوق الغورية ومرجوش وخان الحمزاوي وخان الخليلي وغيرهم، ولم يظهر لذلك سبب من الأسباب، وأصبح الناس مبهوتين ولغطوا بموت الباشا.
وحضر أغات الينكجرية وأغات التبديل إلى الغورية، وأقاما بطول النهار، وهما يأمران الناس بالسكون وفتح الدكاكين، وكذلك علي أغا الوالي بباب زويلة.
وأصبح يوم السبت فركب الباشا وخرج إلى قبة العزب، وعمل رماحة وملعبًا ورجع إلى شبرا، وحضر كتخدا بك إلى سوق الغورية، وجلس بالمدفن وأمر بضرب شيخ الغورية، فبطحوه على الأرض في وسط السوق وهو مرشوش بالماء، وضربه الأتراك بعصيهم ثم رفعوه إلى داره ثم أمر الكتخدا بكتابة أصحاب الدكاكين الذين نقلوا متاعهم، فشرعوا في ذلك وهرب الكثير منهم، وحَبَسهم في داره.
ثم ركب الكتخدا ومرَّ في طريقه على خان الحمزاوي وطلب البواب، فلما مثل بين يديه أمر بضربه كذلك، وضرب أيضًا شيخ مرجوش، وأما طايفة خان الخليلي ونصارى الحمزاوي فلم يتعرض لهم.
واستهل شهر شعبان بيوم الخميس (سنة ١٢٣١)
فيه من الحوادث أن بعض العيارين من السراق تعدوا على قهوة الباشا بشبرا، وسرقوا جميع ما بالنصبة من الأواني والبكارج والفناجين والظروف، فأحضر الباشا بعض أرباب الدرك بتلك الناحية، وألزمه بإحضار السراق والمسروق، ولا يقبل له عذرًا في التأخير، ولو يصالح على نفسه بخزينة أو أكثر من المال، ولا يكون غير ذلك أبدًا وإلا نكل به نكالًا عظيمًا وهو المأخوذ بذلك، فترجى في طلب المهلة أيامًا، وحضر بخمسة أشخاص وأحضروا المسروق بتمامه، لم ينقص منه شي، وأمر بالسراق فخوزقوهم في نواحي متفرقين بعد أن قرروهم على أمثالهم، وعرفوا عن أماكنهم وجمع منهم زيادة عن الخمسين، وشنق الجميع في نواحي متفرقة بالأقاليم مثل: القليوبية والغربية والمنوفية.
وفي منتصفه يوم الجمعة الموافق لرابع مسرى القبطي أوفى النيل أذرعه، وفتح سد الخليج يوم السبت.
وفيه وقع من النوادر أن امرأة ولدت مولودًا براسين وأربعة أيدي وله وجهان متقابلان، والوجهان بكتفيهما مفروقان من حد الراس، وقيل لحد الصدر، والبطن واحد، وتلاتة أرجل وإحدى الأرجل لها عشرة أصابع، فيقال إنه قام يومًا وليلة حيًّا ومات، وشاهده خلق كثير، وطلعوا به إلى القلعة ورآه كتخدا بك وكل من كان حاضرًا بديوانه، فسبحان الخلاق العظيم!
واستهل شهر رمضان بيوم الجمعة (سنة ١٢٣١)
حصل فيه من النوادر أن في تاسع عشره علق شخص عسكري غلامًا من أولاد البلد، وصار يتبعه في الطرقات إلى أن صادفه ليلة بالقرب من جامع ألماس بالشارع، فقبض عليه وأراد الفعل به في الطريق، فخدعه الغلام وقال له: إن كان ولا بد فادخل بنا في مكان لا يرانا فيه أحد الناس، فدخل معه درب حلب المعروف الآن بدرب خير بك حديد، وهناك دور الأمرا التي صارت خرايب، فحل العسكري سراويله فقال له الغلام: أرني بتاعك فلعله يكون عظيمًا لا أتحمله جميعه، وقبض عليه وكان بيده موسى مخفية في يده الأخرى، فقطع ذكره بتلك الموسى سريعًا، وسقط العسكري مغشيًّا عليه، وتركه الغلام وذهب في طريقه، وحضر رفقا العسكري وحملوه، وأحضروا له سليم الجرايحي فقطع ما بقي من مذاكيره، وأخذ في معالجته ومداواته ولم يمت العسكري.
واستهل شهر شوال بيوم السبت (سنة ١٢٣١)
وكان حقه يوم الأحد؛ وذلك أن أواخر رمضان حضر جماعة من دمنهور البحيرة وأخبروا عن أهل دمنهور أنهم صاموا يوم الخميس، فطلب الباشا حضور من رأى الهلال تلك الليلة، فحضر اتنان من العسكر وشهدا برؤيته ليلة الخميس، فأثبتوا بذلك هلال رمضان، ويكون تمامه يوم الجمعة، وأخبر جماعة أيضًا أنهم رأوا هلال شوال ليلة السبت، وكان قوسه في حساب قواعد الأهلة تلك الليلة قليلًا جدًّا، ولم يرَ في تاني ليلة منه إلا بعسر وإنما اشتبه على الرائين؛ لأن المريخ كان مقارنًا للزهرة في برج الشمس من خلفها، وبينهما وبين الشمس رؤيا بعدها في شعاع الشمس يشبه الهلال، فظن الراءون أنه الهلال، فليتنبه لذلك فإن ذلك من الدقايق التي تخفى على أهل الفطانة، فضلًا عن غيرهم من العوام الذين يسارعون إلى إفساد العبادات حِسْبة بالظنون الكاذبة لأجل أن يقال: شهد فلان ونحو ذلك.
وفي أواخره قلد الباشا شخصًا من أقاربه يسمى شريف أغا على دواوين المبتدعات، وضم إليه جماعة من الكتبة أيضًا المسلمين والأقباط، وجعلوا ديوانهم ببيت أبي الشوارب وعمروه عمارة عظيمة، وواظبوا الجلوس فيه كل يوم لتحرير المبتدعات ودفاتر المكوس.
واستهل شهر ذي القعدة (سنة ١٢٣١)
فيه انهدم جانب من السواقي التي أنشاها الباشا بشبرا على حين غفلة، وقد قوي عليها النيل فتهدمت وتكسرت أخشابها وسقط معها أشخاص كانوا حولها، فنجا منهم من نجا وغرق منهم من غرق، وكان الباشا بقصر شبرا مقيمًا به وهو يرى ذلك.
وانقضت السنة وأخبار بعض حوادثها، واستمرار ما تجدد فيها من المبتدعات التي لا حصر لها.
منها الحجر على المزارع التي يزرعونها الفلاحون في الأراضي التي يدفعون خراجها من الكتان والسمسم والعصفر والنيلة والقطن والقرطم، وإذا بدا صلاحه لا يبيعون منه كعادتهم، وإنما يشتريه الباشا بالثمن الذي يفرضه ويقدره على يد أُمنا النواحي والكشاف، ويحملونه إلى المحل الذي يؤمرون بحمله إليه، ويعطى لهم الثمن أو يحسب لهم من أصل المال، فإن احتاجوا لشي من ذلك اشتروه بالثمن الزايد المفروض، وكذلك القمح والفول والشعير لا يبيعون منه شيًّا لغير طرف الباشا بالثمن المفروض والكيل الوافي.
ومنها الأمر لكشاف الأقاليم بالمناداة على العامة بالمنع لمن يأخذ أو يأكل من الفول الأخضر والحمص والحلبة، وأن المعينين في الخدم والمباشرين وكشاف النواحي لا يأخذون شيًّا من الفلاحين كعادتهم من غير ثمن، فمن عثر عليه يأخذ شيًّا ولو رغيفًا أو تبنًا أو من رجيع البهايم حصل له مزيد الضرر، ولو كان من الأعاظم، وكذلك الأمر بتكميم أفواه المواشي التي تسرح للمرعى حوالي الجسور والغيطان.
ومنها أن نصرانيًّا من الأرمن التزم بقلم الأبزار التي تأتي من بلاد الصعيد مثل الحبة السودا والشمر والأنيسون والكمون والكراويا ونحو ذلك بقدر كبير من الأكياس، ويتولى هو شراها دون غيره ويبيعها بالثمن الذي يفرضه، ومقدار ما التزم بدفعه من الأكياس للخزينة على ما بلغنا خمسماية كيس، وكانت في أيام الأمرا المصريين عشرة أكياس لا غير، فلما تولى على وكالة دار السعادة صالح بك المحمدي زادها عشرة أكياس.
وكانت وكالة الأبزار والقطن وقفًا لمصطفى أغا دار السعادة سابقًا على خيرات الحرمين وخلافهما، فلما كانت هذه الدولة تولاها شخص على مايتي كيس، وعند ذلك سعر الأبزار أضعاف الثمن الأصلي، ومن داخل الأبزار التمر الأبريمي والسلطاني، والخوص والمقاطف والسلب والليف، وبلغ سعر المقطف الذي يسع الكيلة من البُر خمسة وعشرين نصفًا، وكان يباع بنصف أو نصفين إن كان جيدًا وفي الجملة أقل من ذلك.
ومنها أن كربليت معلم ديوان الكمرك ببولاق التزم بمشيخة الحمامية، وأحدث عليها وعلى توابعها حوادث، وعلى النسا البلانات في كل جمعة قدرًا من الدراهم، وجعل لنفسه يومًا في كل جمعة يأخذ إيراده من كل حمام.
ومنها ما حصل في هذه السنة من شحة الصابون وعدم وجوده بالأسواق ومع السراحين، وهو شي لا يستغني عنه الغني ولا الفقير، وذلك أن تُجَّارَه بوكالة الصابون زادوا في ثمنه محتجِّين بما عليهم من المغارم والرواتب لأهل الدولة، فيأمر الكتخدا فيه بأمر ويسعره بثمن فيدَّعون الخسران وعدم الربح.
وتكرر الحال فيه المرة بعد المرة يتشكون من قلة المجلوب إلى أن سعر رطله بستة وتلاتين نصفًا، فلم يرتضوا ذلك وبالغوا في التشكي، فطلب قوايمهم وعمل حسابهم وزادهم خمسة أنصاف في كل رطل، وحلف أن لا يزيد على ذلك، وهم مصممون على دعوى الخسران.
فأرسل من أتباعه شخصًا تركيًّا لمباشرة البيع وعدم الزيادة، فيأتي إلى الخان في كل يوم يباشر البيع على من يشتري بذلك الثمن لأربابه، ويمكث مقدار ساعتين من النهار، يغلق الحواصل ويرفع البيع لتاني يوم، وفي ظروف هاتين الساعتين تزدحم العسكر على الشرا ولا يتمكن خلافهم من أهل البلد من أخذ شي، وتخرج العسكر فيبيعون من الذي اشتروه على الناس بزيادة فاحشة، فيأخذ الرطل بقرش ويبيعه على غيره بقرشين.
ورفع التشكي إلى كتخدا فأمر ببيعه عند باب زويلة في السبيلين المواجه أحدهما للباب والسبيل الذي أنشأته الست نفيسة المرادية عند الخان تجاه الجامع المؤيدي، ليسهل على العامة تحصيله وشراه، فلم يزداد الحال إلا عسرًا.
وذلك أن البايع يجلس داخل السبيل ويغلق عليه بابه، ويتناول من خروق الشبابيك من المشتري الثمن ويناوله الصابون، فازدحمت طوايف العسكر على الشراء، ويتعلقون بأيديهم وأرجلهم على شبابيك السبيلين، والعامة أسفلهم لا يتمكنون من أخذ شي، ويمنعون من يزاحمهم؛ فيكون على السبيلين ضجة وصياح من الفريقين، فلا يسع ابن البلد الفقير المضطر إلا أن يشتري من العسكري بما أحب، وإلا رجع إلى منزله من غير شي، واستمر الحال على هذا المنوال أيامًا.
وفي بعض الأحايين يكثر وجود الصابون بين أيدي الباعة بوسط السوق، ولا تجد عليه مزاحمة وأمام البائع كوم عظيم وهو ينتظر من يشتري، وذلك في غالب الأسواق مثل: الغورية والأشرفية وباب زويلة والبندقانيين والجهات الخارجة، ثم يصبحون فلا يوجد منه شي، ويرجع الازدحام على السبيلين كالأول.
ومنها أن الباشا أطلق المناداة في البلدة وندب جماعة من المهندسين والمباشرين للكشف على الدور والمساكن، فإن وجدوا به أو ببعضه خللًا أمروا صاحبه بهدمه وتعميره، فإن كان يعجز عن ذلك فيؤمر بالخروج منها وإخلاها، ويعاد بناها على طرف الميري، وتصير من حقوق الدولة.
وسبب هذه النكتة أنه بلغ الباشا سقوط دار ببعض الجهات ومات تحت ردمها تلات أشخاص من سكانها، فأمر بالمناداة وأرسل المهندس والأمر بما ذكر، فنزل بأهالي البلد من الكرب أمر عظيم مع ما هم فيه من الإفلاس وقطع الإيراد وغلوِّ الأسعار.
على أن من كان له مقدرة على الهدم والبنا لا يجد من أدواته شيًّا بحسب التحجير الواقع على أرباب الأشغال واستعمال الجميع في عماير الباشا وأكابر الدولة، حتى إن الإنسان إذا احتاج لبنا كانون لا يجد من يبنيه، ولا يقدر على تحصيل صانع أو فاعل أو أخذ شيء من رماد الحمام إلا بفرمان، ومن حصَّل شيًّا من ذلك على طريق السرقة في غفلة وعثر عليه نكلوا به وبريس الحمام.
وحمير الباشا — وهي أزيد من ألفي حمار — تنقل بالمزابل والسرقانيات طول النهار ما يوجد بالحمامات من الرماد، وتنقل أيضًا الطوب والدبش والأتربة وأنقاض البيوت المنهدمة لمحل العماير بالقلعة وغيرها، فترى الأسواق والعطف مزدحمة بقطارات الحمير الذاهبة والراجعة، وإذا هدم إنسان داره التي أمروه بهدمها وصل إليه في الحال قطار من الحمير لأخذ الطوب الذي يتساقط، إلا أن يكون من أهل القدرة على منعهم، وربما كانت هذه الأوامر حيلة على أخذ الأنقاض، وأما الأتربة فتبقى بحالها حتى في طرق المارة للعجز عن نقلها، فترى غالب الطرق والنواحي مردومة بالأتربة.
وأما الهدم ونقل الأنقاض من البيوت الكبار والدور الواسعة التي كانت مساكن الأمرا المصريين بكل ناحية، وخصوصًا بركة الفيل وجهة الحبانية فهو مستمر، حتى بقيت خرايب ودعايم قايمة وكيمان هايلة، واختلطت بها الطرق وأصبحت موحشة ولا مأوى بها حتى للبوم بعد أن كانت مراتع غزلان، فكنت كلما رأيتها أتذكر قول القايل:
وكذلك بولاق التي كانت متنزه الأحباب والرفاق، فإنه تسلط عليها كلٌّ من سليمان أغا السلحدار وإسماعيل باشا في الهدم وأخذ أنقاض الأبنية لأبنيتهم ببر إنبابة والجزيرة الوسطى بين إنبابة وبولاق، فإن سليمان أغا أنشأ بستانًا كبيرًا بين إنبابة وسوَّره وبنى به قصرًا وسواقي، وأخذ يهدم أبنية بولاق من الوكايل والدور، وينقل أحجارها وأنقاضها في المراكب ليلًا ونهارًا إلى البر الآخر.
وإسماعيل باشا كذلك أنشأ بستانًا وقصرًا بالجزيرة، وشرع أيضًا في اتساع سرايته ومحل سكنه ببولاق، وأخذ الدور والمساكن والوكايل من حد الشُّوَن القديم إلى آخر وكالة الأبزار العظيمة طولًا، فيهدمون الدور وغيرها من غير مانع ولا شافع، وينقلون الأنقاض إلى محل البنا، وكذلك ولي خوجة شرع في بنا قصر بالروضة ببستان، فهو الآخر يهدم ما يهدمه من مصر القديمة، وينقل أنقاضه لبناه، وهلك قبل إتمامه.
وأما نصارى الأرمن وما أدراك ما الأرمن الذين هم أخصاء الدولة الآن، فإنهم أنشوا دورًا وقصورًا وبساتين بمصر القديمة لسكنهم، فإنهم يهدمون أيضًا وينقلون لأبنيتهم ما شاءوا ولا حرج عليهم، وإنما الحرج والمنع والحجر والهدم على المسلمين من أهل البلدة فقط.
ومنها أن الباشا أمر ببنا مساكن للعسكر الذين أخرجهم من مصر بالأقاليم يسمونها القشلات، بكل جهة من أقاليم الأرياف لسكن العساكر المقيمين بالنواحي لتضررهم من الإقامة الطويلة بالخيام في الحر والبرد، واحتياج الخيام في كل حين إلى تجديد وترقيع وكثير خدمة، وهي جمع قشلة بكسر القاف وسكون الشين وهي في اللغة التركية المكان الشتوي؛ لأن الشتاء في لغتهم يسمى قش بكسر القاف وسكون الشين.
فكتب مراسيم إلى النواحي بساير القرى بالأمر لهم بعمل الطوب اللبن ثم حرقه وحمله إلى محل البنا، وفرضوا على كل بلد وقرية فرضًا وعددًا معينًا، فيفرض على القرية مثلًا خمسماية ألف لبنة وأكثر بحسب كبر القرية وصغرها، فيجمع كاشف الناحية مشايخ القرى، ثم يفرض على كل شيخ قدرًا وعددًا من اللبن عشرين ألفًا أو تلاتين ألفًا أو أكثر أو أقل، ويلزم بضربها وحرقها ورفعها وأجلهم مدة تلاتين يومًا.
وفرضوا على كل قرية أيضًا مقادير من أفلاق النخل ومقادير من الجريد، ثم فرضوا عليهم أيضًا أشخاصًا من الرجال لمحل الأشغال والعماير يستعملونهم في فعالة نقل أدوات العمارة في النواحي حتى إسكندرية وخلافها، ولهم أجرة أعمالهم في كل يوم لكل شخص سبعة أنصاف فضة لا غير، ولمن يعمل اللبن أجرة أيضًا، ولثمن الأفلاق والجريد قدر معلوم لكنه قليل.
ومنها أنه توجه الأمر لكشاف النواحي عند انكشاف الماء عن الأراضي بأن يتقدموا إلى الفلاحين بأن من كان زارعًا في العام الماضي فداني كتان أو حمص أو سمسم أو قطن، فليزرع في هذه السنة أربعة أفدنة ضعف ما تقدم؛ لأن المزارعين عزموا على عدم زراعة هذه الأشيا لما حصل لهم من أخذ ثمرات متاعهم وزراعاتهم التي دفعوا خراجها الزايد بدون القيمة التي كانوا يبيعون بها، مع قلة الخراج الذي كانوا يماطلون فيه الملتزمين السابقين مع التظلم والتشكي، فيزرع الزراع ما يزرعه من هذه الأشيا من التقاوي المتروكة في مخزنه، ثم يبيع الفدان من الكتان الأخضر في غيطه إن كان مستعجلًا بالثمن الكثير، وإلا أبقاه إلى تمام صلاحه فيجمعه ويدقه ويبيع ما يبيعه من البزر خاصة بأغلى ثمن، ثم يتمم خدمته من التعطين والنشر والتخمير، إلى أن يصفى وينظف من أدرانه وخشوناته، وينصلح للغزل والنسج فيباع حينئذٍ بالأوقية والرطل، وكذا القطن والنيلة والعُصفر.
فلما وقع عليهم التحجير وحُرموا من المكاسب التي كانوا يتوسعون بها في معايشهم باقتنا المواشي والحلي للنسا قالوا: ما عدنا نزرع هذه الأشيا.
وظنوا أن يُتركوا على هواهم، ونسوا مكر أولياهم، فنزل عليهم الأمر والإلزام بزرع الضعف، فضجوا وترجوا واستشفعوا ورضوا بمقدار العام الماضي، فمنهم من سومح، ومنهم من لم يسامَح وهو ذو المقدرة.
وبعد إتمامه وكمال صلاحه يؤخذ بالثمن المفروض على طرف الميري، ويباع لمن يشتري من أربابه أو خلافهم بالثمن المقدر، وربح زيادته لطرف حضرة الباشا مع التضييق والحجر البليغ والفحص عن الاختلاس، فمن عثروا عليه باختلاس شيء ولو قليلًا عوقب عقابًا شديدًا ليرتدع خلافه.
والكتبة والموظفون لتحرير كل صنف ووزنه وضبطه في تنقلات أطواره، وعند تسليم الصناع.
ونتج من ذلك وأثمر عزة الأشيا وغلوِّ الأسعار على الناس، منها أن المقطع القماش الذي كان تمنه تلاتين نصفًا بلغ سعره عشرة قروش مع عزة وجدانه بالأسواق المعدة لبيعه، مثل سوق مرجوش وخلافه خلا الطوافين به، والتوب البطانة الذي كان تمنه قرشين بلغ تمن الثوب شبعة قروش، وأدركناه في الأزمان السابقة يباع بعشرين نصفًا، وبلغ تمن التوب من البفتة المحلاوي أربعة عشر قرشًا، وكان يباع فيما أدركنا بدكان التاجر بستين نصفًا.
وقس على ذلك، وبسبب التحجير على النيلة غلا صبغ تياب الفقرا، حتى بلغ صبغ الذراع الواحد نصف قرش، والله يلطف بحال خلقه، وما دام توزون له امرأة مطاعة فالميل في الجمر.
ومنها استمر التحجير على الأرز ومزارعه على مثل هذا النسق، بحيث إن الزارعين التعبانين فيه لا يمكَّنون من أخذ حبة منه، فيؤخذ بأجمعه لطرف الباشا بما قدره من الثمن، ثم يخدم ويضرب ويبيض في المداوير والمدقات والمناشر بأجرة العمال على طرفه، ثم يباع بالثمن المفروض.
واتفق أن شخصًا من أبنا البلد يسمى حسين جلبي عجوة ابتكر بفكره صورة دايرة، وهي التي يدقون بها الأرز، وعمل لها مثالًا من الصفيح تدور بأسهل طريقة، بحيث إن الآلة المعتادة إذا كانت تدور بأربعة أثوار فيدير هذه ثوران، وقدم ذلك المثال إلى الباشا فأعجبه وأنعم عليه بدراهم وأمره بالمسير إلى دمياط، ويبني بها دايرة ويهندسها برأيه ومعرفته، وأعطاه مرسومًا بما يحتاجه من الأخشاب والحديد والمصرف، ففعل وصح قوله ثم فعل أخرى برشيد وراج أمره بسبب ذلك.
ومنها أن الباشا لما رأى هذه النكتة من حسين شلبي هذا قال: إن في أولاد مصر نجابة وقابلية للمعارف، فأمر ببنا مكتب بحوش السراية، ويرتب فيه جملة من أولاد البلد ومماليك الباشا، وجعل معلمهم حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي يقرر لهم قواعد الحساب والهندسة، وعلم المقادير والقياسات والارتفاعات واستخراج المجهولات مع مشاركة شخص رومي يقال له روح الدين أفندي، بل وأشخاصًا من الإفرنج، وأحضر لهم آلات هندسية متنوعة من أشغال الإنكليز يأخذون بها الأبعاد والارتفاعات والمساحة، ورتب لهم شهريات وكساوي في السنة.
واستمروا على الاجتماع بهذا المكتب وسموه مهندس خانة، في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهيرة، ثم ينزلون إلى بيوتهم، ويخرجون في بعض الأيام إلى الخلا لتعليم مساحات الأراضي وقياساتها بالأقصاب، وهو الغرض المقصود للباشا.
ومنها استمرار الإنشا في السفن الكبار والصغار لنقل الغلال من قبلي وبحري لناحية إسكندرية لتباع على الإفرنج من ساير أصناف الحبوب، فيشحنون السفن من سواحل البلاد القبلية، وتأتي إلى ساحل بولاق ومصر القديمة، فيصبونها كيمانًا هايلة عظيمة صاعدة في الهوا، فتصل المراكب البحرية لنقلها، فتصبح ولا يبقى شي منها، ويأتي غيرها وتعود كما كانت بالأمس، ومثل ذلك بساحل رشيد.
وأما الحبوب البحرية، فإنها لا تأتي إلى هذه السواحل، بل تذهب من سواحلها إلى حيث هي برشيد ثم إلى إسكندرية.
ولما بطل البغاز جمعوا الحمير الكثيرة والجِمال، ينقلون عليها على طريق البر بالأجرة القليلة، فكانت تموت من قلة العلف ومشقة الطريق، وتوسق بها السفن الواصلة بالطلب إلى بلاد الإفرنج بالثمن عن كل أردب من البُر ستة آلاف فضة، وأما الفول والشعير والحلبة والذرة وغيرها من الحبوب والأدهان فأسعارها مختلفة، ويعوض بالبضايع والنقود من الفرانسة معبأة في صناديق صغيرة، تحمل التلاتة منها على بعير إلى الخزينة وهي مصفحة بالحديد يمرون بها قطارات إلى القلعة.
وعند قلة الغلال ومُضي وقت الحصاد يتقدم إلى كشاف النواحي القبلية والبحرية بفرض مقادير من الغلال على البلدان والقرى، فيلزمون مشايخ البلدان بما تقرر على كل بلد من القمح والفول والذرة ليجمعوه ويحصلوه من الفلاحين.
وهم أيضًا يعملون بفلاحي بلادهم ما يعملون بجورهم وأغراضهم، ويأخذون الأقوات المدخرة للعيال، وذلك بالثمن عن كل أردب من البُر تمانية ريال، يعطى له نصفها، ويبقى له النصف التاني ليحسب له من أصل المال الذي سيطالَب به في العام القابل.
ومنها أن الباشا سنح له أن ينشي بالمحل المعروف برأس الوادي بشرقية بلبيس سواقي وعمارات ومزارع وأشجار توت وزيتون، فذهب هناك وكشف عن أراضيه فوجدها متسعة وخالية من المزارع، وهي أراضي رمال وأودية، فوكل أناسًا لإصلاحها وتمهيدها، وأن يحفروا بها جملة من السواقي تزيد عن الألف ساقية، ويبنوا أبنية ومساكن ويزرعوا أشجار التوت لتربية دود القز وأشجارًا كثيرة من الزيتون لعمل الصابون، وشرعوا في العمل والحفر والبنا، وفي إنشا توابيت خشب للسواقي تُصنع ببيت الجبجي بالتبانة، وتُحمل على الجِمال إلى راس الوادي شيًّا بعد شي، وأمر أيضًا ببنا جامع الظاهر بيبرس خارج الحسينية، وأن يعمل مصبنة لصناعة الصابون وطبخه، مثل الذي يُصنع ببلاد الشام، وتوكل بذلك السيد أحمد بن يوسف فخر الدين، وعمل به أحواضًا كبيرة للزيت والقلي.
ومن المتجددات أيضًا محل بخطة تحت الربع يعمل به وتسبك أواني ودسوت من النحاس في غاية الكبر والعظم.
ومنها شغل البارود وصناعته بالمكان والصناع المعدة لذلك بجزيرة الروضة بالقرب من المقياس، بعد أن يستخرجوه من كيمان السباخ في أحواض مبنية ومخفقة، ثم يكررونه بالطبخ حتى يكون ملحه غاية البياض والحدة كالذي يُجلب من بلاد الإنكليز، والمتقيد كبيرًا على صناعة شخص أفرنكي، ولهم معاليم تصرف في كل شهر.
ومكان أيضًا بالقلعة عند باب الينكجرية لسبك المدافع وعملها وقياساتها وهندستها، والبنبات وارتفاعاتها ومقاديرها، وسُمي ذلك المكان الطبخانة، وعليه ريس وكتبة وصناع ولهم شهريات.
ومنها شدة رغبة الباشا في تحصيل الأموال والزيادة من ذلك من أي طريق بعد استيلاه على البلاد والإقطاعات والرزق الإحباسية، وإبطال القراع والبيع والشرا والمحلول عن الموتى من ذلك، والعلوفات وغلال الأنبار ونحو ذلك، فكل من مات عن حصته أو رزقته أو مرتب انحل بموته ما كان على اسمه وضُبط وأُضيف إلى ديوانه، ولو له أولاد أو كان هو كتبه باسم أولاده وماتت أولاده قبله، انحل عنه وأصبح هو وأولاده من غير شيء، فإن أعرض حاله على الباشا أمر بالكشف عن إيراده، فإن وجدوا بالدفاتر جهة أو وظيفة أخرى قيل له: هذه تكفيك، وإن لم يوجد في حوزه خلافها أمر له بشي يستغله من أقلام المكوس، إما قرش أو نصف قرش في كل يوم أو نحو ذلك.
هذا مع التفاته ورغبته في أنواع التجارات والشركات، وإنشا السفن ببحر الروم والقلزم، وأقام وكلا بساير الأساكل حتى ببلاد فرانسة والإنكليز ومالطة وأزمير وتونس والنابلطان والونديك والبنادقة واليمن والهند.
وأعطى أناسًا جملًا عظيمة من أموال يسافرون بها ويجلبون البضايع، وجعل لهم الثلث في الربح في نظير سفرهم وخدمتهم، فمن ذلك أنه أعطى للريس حسن المحروقي خمسماية ألف فرانسة يسافر بها إلى الهند ويشتري البضايع الهندية ويأتي بها إلى مصر، ولشخص نصراني أيضًا ستماية ألف فرانسة، وكذلك لمن يذهب إلى بيروت وبلاد الشام لمشتري القز والحرير وغير ذلك.
وعمل بمصر أماكن ومصانع لنسج القطاني التي يتخذها الناس في ملابسهم من القطن والحرير، وكذلك الجنفس والصندل، واحتكر ذلك بأجمعه.
وأبطل دواليب الصناع لذلك ومعلميهم، وأقامهم يشتغلون وينسجون في المناسج التي أحدثها بالأجرة، وأبطل مكاسبهم أيضًا وطرايقهم التي كانوا عليها، فيأخذ من ذلك ما يحتاجه في اليلكات والكساوي وما زاد يرميه على التجار، وهم يبيعونه على الناس بأغلى ثمن، وبلغ ثمن الدرهم من الحرير خمسة وعشرين نصفًا بعد أن كان يباع بنصفين.
ومنها أنه أبطل ديوان المنجرة، وهي عبارة عما يؤخذ من المعاشات، وهي المراكب التي تغدو وتروح لموارد الأرياف مثل: شيبين الكوم وسمنود والبلاد البحرية، وعليها ضرايب وفرايض للملتزم بذلك وهو شخص يسمى علي الجزار؛ وسبب ذلك أن معظم المراكب التي تصعد ببحر النيل وتنحدر من إنشا الباشا ولم يبقَ لغيره إلا القليل جدًّا.
والعملُ والإنشا بالترسخانة مستمر على الداوم، والريسا والملاحون يخدمون فيها بالأجرة، وعمارة خللها وأحبالها وجميع احتياجاتها على طرف الترسخانة، ولذلك مباشرون وكتاب وأُمنا يكتبون ويقيدون الصادر والوارد، وهذه الترسخانة بساحل بولاق بها الأخشاب الكثيرة والمتنوعة، وما يصلح للعماير والمراكب، ويأتي إليها المجلوب من البلاد الرومية والشامية، فإذا ورد شي من أنواع الأخشاب سمحوا للخشابة بشيء يسير منها بالثمن الزايد، ورفع الباقي إلى الترسخانة، وجميع الأخشاب الواردة والأحطاب جميعها في متاجر الباشا، وليس لتجارها إلا ما كان من داخل متاجره وهو القليل.
ومن النوادر أنه وصل من بلاد الإنكليز سواقي بآلات الحديد تدور بالماء، فلم يستقم لها دوران على بحر النيل.
ومنها أنه أنشأ جسرًا ممتدًّا من ناحية قنطرة الليمون على يمنة السالك إلى طريق بولاق، متصلًا إلى شبرا على خط مستقيم، وزرعوا بحافتيه أشجار التوت، وعلى هذا النسق جسور بطرق الأرياف والأقاليم.
ومنها أن اللحم قل وجوده من أول شهر رجب إلى غاية السنة، وغلا سعره مع رداه وهزاله حتى بيع الرطل بعشرين نصفًا وأزيد وأقل، مع ما فيه من العظام وأجزا السقط والشغت، وسبب ذلك رواتب الدولة وأخذها بالثمن القليل، فيستعوض الجزارون خسارتهم من الناس، وكان البعض من العسكر يشتري الأغنام ويذبحها ويبيعها بالثمن الغالي، وينقص الوزن ولا يقدر ابن البلد على مراجعته.
ومنها أن إبراهيم أغا الذي كان كتخدا إبراهيم باشا قلده الباشا كشوفية المنوفية، فمن أفاعيله أنه يطلب مشايخ البلدة أو القرية فيسأل الشخص منهم على من شيَّخه فيقول: أستاذ البلدة، فيقول له: في أي وقت؟ فيقول: سنة كذا، فيقول: وما الذي قدمته في شياختك؟ ويهدده أو يحبسه على الإنكار أو يخبر من بادي الأمر، ويقول: أعطيته كذا وكذا إما دراهم أو أغنامًا، فيأمر الكاتب بتقييده وتحريره وضبطه على الملتزم، وسطر بذلك دفترًا وأرسله إلى الديوان ليخصم على الملتزمين من فايظهم المحرر لهم بالديوان، فيتفق أن المحرر عليه يزيد على القدر المطلوب له، فيطالب بالباقي أو يخصم عليه من السنة القابلة.
ومنها التحجير على القصب الفارسي، فلا يتمكن أحد من شرا شي منه ولو قصبة واحدة إلا بمرسوم من كتخدا بك، فمن احتاج منه في عمارة أو شباك أو لدوران الحرير أو أقصاب الدخان، أخذ فرمانًا بقدر احتياجه، واحتاج إلى وسايط ومعالجات واحتجاجات حتى يظفر بمطلوبه.
ومنها وهي من محاسن الأفعال أن الباشا أعمل همته في إعادة السد الأعظم الممتد الموصل إلى إسكندرية، وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين، وزحف منه ماء البحر المالح، وأتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرى ومزارع، وتعطلت بسببه الطرق والمسالك، وعجزت الدول في أمره، ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي، حتى وصلت إلى خليج الأشرفية التي يمتلي منها صهاريج الثغر، فكانوا يجسرون عليه بالأتربة والطين.
فلما اعتنى الباشا بتعمير إسكندرية وتشييد أركانها وأبراجها وتحصينها، ولم تزل بها العمارات اعتنى أيضًا بأمر الجسر، وأرسل إليه المباشرين والقَوَمة والرجال والفَعَلة والنجارين والبنايين والمسامير وآلات الحديد والأحجار، والمون والأخشاب العظيمة والسهوم والبراطيم حتى تمَّمه، وكان له مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشي من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.
وأما أمر المعاملة فلم يزل حالها في التزايد حتى وصل صرف الريال الفرانسة إلى تسعة قروش، وهو أربعة أمثال الريال المتعارف، ولما بطل ضرب القروش من العام الماضي ضربوا بدلها أنصاف قروش، وأرباعها وأثمانها، وتصرف بالفرط، والأنصافُ العددية لا وجود لها بأيدي الناس إلا ما قلَّ جدًّا، فإذا أراد إنسان منها دَفَعَ في إبدالها عشرة قروش عنها أربعماية نصف فضة زيادة على المبدل إن كان ذهبًا أو فرانسة أو قروشًا، ووصل صرف البندقي إلى ثمانماية نصف، والمجر ثمانية عشر قرشًا، والمحبوب المصري إلى أربعماية، والإسلامبولي إلى أربعماية وتمانين.
كل ذلك أسما لا مسميات لانعدام الأنصاف، مع أنه يضرب منها المقادير والقناطير يأخذها التجار الشاميون والروميون بالفرط، ثم يرسلونها متاجرة بدلًا عن البضايع؛ لأن الريال في تلك البلاد صرفه تلتماية نصف فقط، فيكون فيه من الربح ستون نصفًا في كل ريال.
ولما علم الباشا ذلك جعل يرسل لوكلاه بالشام في كل شهر ألف كيس من الفضة العددية، ويأتيه بدلها فرانسة، فيضيف عليها تلاتة أمثالها نحاسًا ويضربها فضة عددية، فيربح فيها ربحًا بدون حاء مالًا عظيمًا، وهكذا من هذا الباب فقط.
ومن حوادث السنة الآفاقية واقعة الإنكليز مع أهل الجزاير، وهو أن لأهل الجزاير صولة واستعدادات وغزوات في البحر، ويغزون مراكب الإفرنج ويغتنمون منها غنايم ويأخذون منهم أسرى، وتحت أيديهم من أسارى الإنكليز وغيرهم شي كثير، ومدينتهم حصينة يدور بها سور خارج في البحر كنصف الدايرة في غاية الضخامة والمتانة، ذو أبراج مشحونة بالمدافع والقنابر والمرابطين والمحاربين ومراكبهم من داخله، فوصل إليهم بعض مراكب الإنكليز ومعهم مرسوم من السلطان العثماني ليفتدوا أساراهم بمال، فأعطوهم ما يزيد عن الألف أسير، ودفعوا عن كل رأس أسير ماية وخمسين فرانسًا، ورجعوا من حيث أتوا.
وبعد مدة وصل منهم بعض سفاين إلى خارج المينا، رافعين أعلام السلم والصلح فعبروا داخل المينا من غير ممانع، ونزل منهم أنفار في فلوكة وبيدهم مرسوم بطلب باقي الأسرى، فامتنع حاكمهم من ذلك وترددوا في المخاطبات، وفي أثنا ذلك وصلت عدة مراكب من مراكبهم وشلنبات، وهي المراكب الصغار المعدة للحرب، وعبروا مع مساعدة الريح إلى المينا وأثاروا الحرب والضراب بطرايقهم المستحدثة، فأحرقوا مراكب أهل الجزاير مع المضاربة أيضًا من أهل المدينة، مع تأخر استعدادهم وسرعة استعداد الخصم، ومدافع الأبراج الداخلة لا تصيب الشلنبات الصغيرة المتسفلة وهم لا يخطون.
ثم هم في شدة الغارة والحرب إذ قيل للحاكم بأن عساكره الأتراك تركوا المحاربة واشتغلوا بنهب البلدة وإحراق الدور، فسقط في يده، واحتار في أمره ما بين قتال العدو الواصل أو قتال عسكره ومنعهم وكفهم عن النهب والإحراق والفساد، وهذا شأنهم فلم يسعه إلا خفض الأعلام وطلب الأمان من الإنكليز.
فعند ذلك بطلوا الحرب وكفوا عن الضرب، وترددوا في الصلح على شرايطهم التي منها تسليم بواقي الأسرى واسترداد المال الذي سلموه في الفدا السابق حالًا من غير مهلة فكان ذلك، وتسلموا الأسرى وفيهم من كان صغيرًا وأسلم وقرا القرآن، واتفقوا على المتاركة والمهلة زمنًا مقداره ستة أشهر، ورجعوا إلى بلادهم بالظفر والأسرى والأمر لله وحده.
ثم إن الجزايرلية اجتهدوا في تعمير ما تهدم وتخرب من السور والأبراج والجامع في الحرب، وكذلك ما أخربه عساكرهم الذين هم أعدى من الأعدا، وأضر ما يكون على الإسلام وأهله.
وصارت الأخبار بذلك في الآفاق وأمدهم سلطان المغرب مولاي سليمان، وبعث إليهم مراكب عوضًا عن الذي تلف من مراكبهم، فأرسل إليهم معمرين وأدوات ولوازم عمارات، وكذلك حاكم تونس وغيرها، ومن السلطان العثماني أيضًا.
ولم يتفق فيما نعلم لأهل الجزاير مثل هذه الحادثة الهايلة ولا أشنع منها، وكانت هذه الواقعة غرة شهر شوال من السنة وهو يوم عيد الفطر، وكان عيدًا عليهم في غاية الشناعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر، فمات الشيخ الفهامة والنحرير العلامة الفقيه النحوي الأصولي، إبراهيم البسيوني البجيرمي الشافعي، وهو ابن أخت الشيخ موسى البحيرمي الشيخ الصالح المقتصد الورع والزاهد، حضر جُلَّ الأشياخ المتقدمين، وهو في عداد الطبقة الأولى، ودرس وأفاد وانتفع به الطلبة، بل غالب الناس، كان طارحًا للتكلف متقشفًا مع التواضع والانكسار ملازمًا على العبادة، مستحضرًا للفروع الفقهية والمعقولية والمناسبات الشعرية والشواهد النحوية والأدبية، جيد الحافظة، لا تمل مجالسته ومؤانسته، ولم يزل على حالته وإفادته وانجماعه وعفته حتى تمرض وتُوُفِّيَ يوم السبت منتصف المحرم من السنة عن نحو الخمسة وسبعين، وصُلِّي عليه بالأزهر في مشهد حافل — رحمه الله تعالى وإيانا.
ومات الشيخ العلامة الأصولي الفقيه النحوي على الحصاوي الشافعي، نسبة إلى بلدة بالقليوبية تسمى الحِصَّة، حضر إلى الجامع الأزهر صغيرًا وحفظ القرآن والمتون، وحضر دروس الأشياخ كالشيخ علي العدوي المنسفيسي الشهير بالصعيدي، والشيخ عبد الرحمن النحريري الشهير بالمقري، ولازم الشيخ سليمان الجمل وبه تخرج، وحضر على الشيخ عبد الله الشرقاوي مصطلح الحديث، وكان يحفظ جمع الجوامع مع شرحه للجلال المحلي في الأصول ومختصر السعد، ويقرا الدروس ويفيد الطلبة.
وكان إنسانًا حسنًا مهذبًا متواضعًا، ولا يرى لنفسه مقامًا، عاش معانقًا للخمول في جهد وقلة من العيش، مع العفة وعدم التطلع لغيره، صابرًا على مناكدة زوجته، وبآخره أصيب في شقه بدا الفالج انقطع بسببه أشهرًا، ثم انجلى عنه يسيرًا مع سلامة حواسه، وعاد إلى الإقرا والإفادة.
ولم يزل على حسن حاله ورضاه وانشراح صدره وعدم تضجره وشكواه للمخلوقين، إلى أن تُوُفِّيَ في شهر جمادى التانية سنة إحدى وتلاتين ومايتين وألف — رحمه الله وإيانا.
ومات الشيخ العلامة والنحرير الفهامة السيد أحمد بن محمد بن إسماعيل من ذرية السيد محمد الدوقاطي الطهطاوي الحنفي، والده رومي حضر إلى أرض مصر متقلدًا القضاء بطهطا، بلدة بالقرب من أسيوط بالصعيد الأدنى، فتزوج بامرأة شريفة فوُلد له منها المترجم، وأخوه السيد إسماعيل، ولم يزل مستوطنًا بها إلى أن مات، وترك ولديه المذكورين وأختًا لهما.
حضر المترجم إلى مصر في سنة إحدى وتمانين وماية وألف، وكان قد بدا نبات لحيته بعدما حفظ القرآن ببلده، وقرا شيًّا من النحو فدخل الأزهر ولازم الحضور في الفقه على الشيخ أحمد الحماقي والمقدسي والحريري، والشيخ مصطفى الطائي، والشيخ عبد الرحمن العريشي حضر عليه من أول كتاب الدر المختار إلى كتاب البيوع، وتمَّم حضوره على المرحوم الوالد مع الجماعة لتوجه الشيخ عبد الرحمن لدار السلطنة لبعض المقتضيات عن أمر علي بك في سنة تلات وتمانين وماية وألف، فالتمس الجماعة تكملة الكتاب على الوالد فأجابهم لذلك، فكانوا يأتون للتلقي عنه في المنزل والمترجم معهم.
وفي أثنا ذلك قرأت مع المترجم عن الوالد متن نور الإيضاح بعد انصراف الجماعة عن الدرس، ويتخلف المترجم وذلك لعلوِّ السند فإن الوالد تلقاه عن ابن المولف، وهو جد الوالد عن المولف وجد الوالد والمولف يسميان بحَسَن، فهو من عجيب الاتفاق.
وكان المترجم يلائم طبع الفقير في الصحبة؛ فكنتُ معه في غالب الأوقات إما في الجامع أو في المنزل للطافة طبعه وقرب سني من سنه، وكان الوالد يرى ذلك ويسألني عنه إذا تخلف في بعض الأحيان، ويقول: أين رفيقك الصعيدي؟ فكان يعيد معي ويفهمني ما يصعب عليَّ فهمه.
ولم يزل يدأب في الاشتغال والطلب مع جودة ذهنه وخلو باله وتفرغه، والفقير بخلاف ذلك، وتلقى المترجم الحديث سماعًا وإجازة عن كلٍّ من الشيخ حسن الجداوي والشيخ محمد الأمير والشيخ عبد العليم الفيومي، تلاتتهم عن الشيخ علي العدوي المنسفيسي عن الشيخ محمد عقيلة بسنده المشهور.
ولما ترشح للإفادة والتدريس، وكان مسكنه بناحية الصليبة، وجلس للإقرا بالمدرسة الشيخونية والصرغتمشية، واحتف به سكان تلك الناحية وأكابرهم واعتنوا بشأنه وأسكونه في دار تليق به وهادوه وواسوه وأكرموه، وكانت تلك الناحية عامرة بأكابرها، وانفرد المترجم عندهم لكونه على مذهبهم وأصله من جنس الأتراك، وخلو تلك النواحي من أهل العلم وخصوصًا الأحناف، وملازمة المترجم للحالة المحمودة من الإفادة مع شرف النفس والتباعد عما يخل بالمروة إلا ما يأتيه عفوًا، فازدادت محبتهم له ووثقوا فيما يقضيه.
ثم تصدى لوقف الشيخونتين وإيرادهما واستخلاص أماكنهما وشرع في تعميرها، وساعده على ذلك كل مَن كان يحب الإصلاح، فجدد عمارة المسجد والتكية وأنشأ بها صهريجًا، وفي أثنا ذلك انتقل بأهله إلى دار مليحة بجوار المسجد بالدرب المعروف بدرب الميضاة، وقفها بانيها على المسجد، كل ذلك والمترجم لم ينقطع عن الحضور إلى الأزهر في كل يوم، ويقرا درسه أيضًا بالجامع.
ولما كثرت جماعته انتقل إلى المدرسة العينية بالقرب من الأزهر، ولما عمَّر محمد أفندي الودنلي الجامع المجاور لمنزله تجاه القنطرة المعروفة بعمر شاه والمكتب، قرر المترجم في درس الحديث بها في كل يوم بعد العصر، وقرر له عشرة من الطلبة، ورتب للشيخ والطلبة معلومًا وافرًا يُقبض من الديوان.
ولما مات الشيخ إبراهيم الحريري تعين المترجم لمشيخة الحنفية، فتقلدها على امتناع منه، فاستمر إلى أن أخرج السيد عمر مكرم من مصر منفيًّا، وكتبوا في شانه عرضحالًا إلى الدولة نسبوا إليه فيه أشيا لم تحصل منه، وطلبوا الشهادة فيها فامتنع عليه، وبالغوا في الحط عليه وعزلوه من المشيخة وقلدوها الشيخ حسين المنصوري.
فلما مات المذكور أعيد المترجم إلى مشيخة الحنفية، وذلك في غرة شهر صفر سنة ألف ومايتين وتلاتين، ولبس الخلع من الشيخ الشنواني شيخ الجامع، ثم من الباشا وباقي المشايخ أرباب المظاهر، ولم يختلف عليه اثنان.
وفي هذه السنة استأذن الفقير في بنا مقبرة يُدفن فيها إذا مات بجوار الشيخ أبي جعفر الطحاوي بالقرافة، لكوني ناظرًا عليها، فأذنت له في ذلك، فبنى له قبرًا بجانب مقام الأستاذ.
ولما تُوُفِّيَ دُفن فيه وكانت وفاته ليلة الجمعة بعد الغروب خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وتلاتين ومايتين وألف.
وله من المآثر حاشية على الدر المختار شرح تنوير الأبصار في أربع مجلدات، جمع فيها المواد التي على الكتاب وضم إليها غيرها.
ومات النجيب الأريب والنادرة العجيب، أعجوبة الزمان وبهجة الخلان، حسن أفندي المعروف بالدرويش الموصلي كما أخبر عن نفسه، الذكي الألمعي والسميدع اللوذعي، وكان إنسانًا عجيبًا في نفسه مميزًا شهيرًا في مصْره.
طاف البلاد والنواحي، وجال في الممالك والضواحي، واطَّلع على عجايب المخلوقات، وعَرَف الكثير من الألسن واللغات، ويعتزى لكل قبيل، ويخالط كل جيل، فمرة ينتسب إلى فارس، وأخرى إلى بني مكانس، فكأنه المعني بما قيل:
هذا مع فصاحة لسان وقوة جنان، والمشاركة في كل فن من الرياضيات والأدبيات حتى يظن سامعه أنه مجيد في ذلك الفن منفرد به، وليس الأمر كذلك، وإنما ذلك بقوة الفهم والحفظ، وما فيه من القابلية فيستغني بذلك عن التلقي من الأشياخ، وأيضًا فقد انقرض أهل الفنون فيحفظ اصطلاحات الفن وأوضاع أهله، ويبرزه في ألفاظ ينمقها ويحسنها، ويذكر أسما كتب مولفة وأشيا وحكمًا يقل الاطلاع عليها والوصول إليها.
ولمعرفته باللغات خالط كل ملة حتى يظن كل أهل ملة أنه واحد منهم، ويحفظ كثيرًا من الشُّبه والمدركات العقلية والبراهين الفلسفية، وأهمل الواجبات الشرعية والفرايض القطعية، وربما قلد كلام الملحدين وشكوك المارقين، ويزلق لسانه في بعض المجالس بغلطات من ذلك ووساوس؛ فلذلك طعن الناس عليه في الدين وأخرجوه عن اعتقاد المسلمين، وساءت فيه الظنون وكثر عليه الطاعنون، وصرَّحوا بعد موته بما كانوا يخفونه في حياته لاتقا شره وسطوته.
وكان له تداخل عجيب في الأعيان، ومع كل أهل دولة وزمان، وريسا الكتبة والمباشرين من الأقباط والمسلمين بالمعزة الزايدة واستجلاب الفايدة، لا تُمل مجالسته ولا معاشرته.
وبآخره لما رغب الباشا في إنشا محل لمعرفة علم الحساب والهندسة والمساحة، تعين المترجم ريسًا ومعلمًا لمن يكون متعلمًا بذلك المكتب؛ وذلك أنه تداخل بتحيلاته لتعليم مماليك الباشا الكتابة والحساب ونحو ذلك، ورتب له خروجًا وشهرية ونجب تحت يده بعض المماليك في معرفة الحسابات ونحوها.
وأَعجب الباشا ذلك فذاكره وحسن له بأن يفرد مكانًا للتعليم، ويضم إلى مماليكه من يريد التعليم من أولاد الناس، فأمر بإنشا ذلك المكتب، وحضر إليه أشيا من آلات الهندسة والمساحة والهيئة الفلكية من بلاد الإنكليز وغيرهم، واستجلب من أولاد البلد ما ينيف على الثمانين شخصًا من الشبان الذين فيهم قابلية التعليم، ورتبوا لكل شخص شهرية وكسوة في آخر السنة، فكان يسعى في تعجيل كسوة الفقير منهم ليتجمل بها بين أقرانه، ويواسي من يستحق المواساة، ويشتري لهم الحمير مساعدة لطلوعهم ونزولهم إلى القلعة، فيجتمعون للتعليم في كل يوم من الصباح إلى بعد الظهر.
وأضيف إليه آخر حضر من إسلامبول له معرفة بالحسابيات والهندسيات لتعليم من يكون أعجميًّا لا يعرف العربية مساعدًا للمترجم في التعليم، يسمى روح الدين أفندي، فاستمرا نحوًا من تسعة أشهر.
ومات المترجم؛ وذلك أنه افتصد وطلع إلى القلعة فحنق على بعض المتعلمين وضربه فانحلت الرفادة، فسال منه دم كثير فحُمَّ حمَّى مختلطة، واستمر أيامًا، وتُوُفِّيَ ودُفن بجامع السراج البلقيني بين السيارج.
وعند ذلك زاد قول الشامتين وصرَّحوا بما كانوا يخفونه في حياته، فيقول البعض: مات ريس الملحدين، وآخر يقول: انهدم ركن الزندقة، ونسبوا إليه أن عنده الكتاب الذي ألفه ابن الراوندي لبعض اليهود، وسماه دافع القرآن، وأنه كان يقراه ويعتقد به، وأخبروا بذلك كتخدا بك، فطلب كتبه وتصفحوها فلم يجدوا بها ذلك الكتاب.
وما كفى مبغضه وحاسده من الشناعات حتى رأوا له منامات شنيعة تدل على أنه من أهل النار، والله أعلم بخلقه. وبالجملة فكان غريبًا في بابه، وكانت وفاته يوم الخميس سابع عشرين جمادى التانية من السنة، وانفرد برياسة المكتب روح الدين أفندي المذكور.
ومات الأجل المكرم الشريف غالب بسلانيك، وهو المنفصل عن إمارة مكة وجدة والمدينة وما انضاف إلى ذلك من بلاد الحجاز، فكانت إمارته نحوًا من سبع وعشرين سنة، فإنه تولى بعد موت الشريف سرور في سنة تلات ومايتين وألف، وكان من دهاة العالم، وأخباره ومناقبه تحتاج إلى مجلدين، ولم يزل حتى سلط الله عليه بأفاعيله هذا الباشا، فلم يزل يخادعه حتى تمكَّن منه وقبض عليه وأرسله إلى بلدة سلانيك، وخرج من سلطنته وسيادته إلى بلاد الغربة، ونهبت أمواله وماتت أولاده وجواريه، ثم مات هو في هذه السنة.
ومات الأمير مصطفى بك دالي باشا وهو قريب الباشا ونسيبه أيضًا، وكان من أعاظم أركان دولته شهير الذكر موصوفًا بالإقدام والشجاعة، ومات بإسكندرية، ولما وصل خبره إلى الباشا اغتمَّ غمًّا شديدًا وتأسف عليه، وكان الباشا ولَّاه كشوفية الشرقية وقرن به علي كاشف، فأقام بها نحو السنتين، ومهد البلاد وأخاف العربان وأذلهم وقتل منهم الكثير، وجمع لمخدومه أموالًا جمة.
وكان جسيمًا بطينًا يأكل التيس المخصي وحده، ويشرب عليه الزق من الشراب، ثم يتبعه بشالية أو اثنتين من اللبن، ويستلقي نايمًا مثل العجل العظيم ذي الخوار، إلا أنه كان يقضي حاجة مَن التجا إليه، ويحب أولاد الناس ويواسيهم ويتجاوز عن الكثير، ويعطي ما يلزمه من الحقوق لأربابها.
ولما تحققت أخته التي هي زوج الباشا وكذلك والدته أمرتا بإحضار رمته إلى مصر، ويُدفن بمدافنهم، وتعين لذلك سليمان أغا السلحدار، فسافر إلى إسكندرية ووضعه في صندوق مزفت على عربية، ووصل به بعد اثني عشر يومًا من موته.
وكان وصوله في تاني ساعة من ليلة الجمعة سادس عشري جمادى التانية، وذهبوا به إلى المدفن في المشاعل من خلف المجراة، فلما وصلوا إلى المدفن أرادوا إنزاله إلى القبر بالصندوق، فلم يمكنهم فكسروا الصندوق فبعقت ريحته وقد تهرى، فهرب كل من كان حاضرًا، فكبوه على حصير ولفوه فيه وأنزلوه إلى الحفرة وغشي على الفحارين، وجزعت النفوس من ريحة أخشاب الصندوق، فحثوا عليه الأتربة وليس من يفتكر ويعتبر.
ومات أيضًا حسن أغا حاكم بندر السويس مطعونًا، فولى الباشا عوضه السيد أحمد الملا الترجمان.
ومات أيضًا سليمان أغا حاكم رشيد.
ومات الأمير الكبير الشهير بإبراهيم بك المحمدي عين أعيان أمرا الألوف المصريين، ومات بدنقلة متغربًا عن مصر وضواحيها، وهو من مماليك محمد بك أبي الدهب، تقلد الإمرة والإمارة في سنة اتنين وتمانين وماية وألف في أيام علي بك الكبير، وتقلد مشيخة البلد ورياسة مصر بعد موت أستاذه في سنة تسع وثمانين وماية وألف، مع مشاركة خشداشه مراد بك وباقي أُمراهم، والجميع راضون برياسته وإمارته لا يخالفهم ولا يخالفونه، ويراعي جانب الصغير منهم قبل الكبير، ويحرص على جمعية أمرهم وألفة قلوبهم، فطالت أيامه، وتولى قايمقامية مصر على الوزرا نحو العشرة مرار، وطلع أميرًا على الحج سنة ست وتمانين، وتولى الدفتردارية في سنة سبع وتمانين، وكلاهما في حياة أستاذه.
واشترى المماليك الكثيرة ورباهم وأعتقهم، وأمَّر وقلد منهم صناجق وكشافًا، وأسكنهم الدور الواسعة وأعطاهم الإقطاعات، ومات الكثير منهم في حياته وأقام خلافهم من مماليكه، ورأى أولاد أولاده، بل وأولادهم، وما زال يولد له.
وأقام في الإمارة نحو تمان وأربعين سنة، وتنعَّم فيها وقاسى في أواخر أمره شدايد واغترابًا عن الأهل والأوطان، وكان موصوفًا بالشجاعة والفروسية وباشر عدة حروب، وكان ساكن الجأش صبورًا ذا تؤدة وحلم، قريبًا للانقياد للحق، متجنبًا للهزل إلا نادرًا مع الكمال والحشمة، ولا يحب سفك الدما مرخصًا لخشداشينه في أفاعيلهم، كثير التغافل عن مساويهم مع معارضتهم له في كثير من الأمور، وخصوصًا مراد بك وأتباعه، فيغضي ويتجاوز ولا يظهر غمًّا ولا خلافًا ولا تأثرًا، حرصًا على دوام الألفة وعدم المشاغبة، وإن حدث فيما بينهم ما يوجب وحشة تلافاه وأصلحه.
وكان هذا الإهمال والترخص والتغافل سببًا لمبادي الشرور؛ فإنهم تمادوا في التعدي وداخلهم الغرور وغمرتهم الغفلة عن عواقب الأمور، واستصغروا من عداهم، وامتدت أيديهم لأخذ أموال التجار وبضايع الإفرنج الفرنساوية وغيرهم بدون الثمن مع الحقارة لهم ولغيرهم، وعدم المبالاة والاكتراث بسلطانهم الذي يدَّعون أنهم في طاعته، مع مخالفة أوامره ومنع خزينته واحتقار الولاة، ومنعهم من التصرف والحجر عليهم، فلا يصل للمولى عليهم إلا بعض صدقاتهم، إلى أن تحرك عليهم حسن باشا الجزايرلي في سنة مايتين وألف، وحضر على الصورة التي حضر فيها وساعدته الرعية، وخرجوا من المدينة إلى الصعيد، وانتهكت حرمتهم.
ثم رجعوا بعد الفصل في سنة ست ومايتين إلى إمارتهم ودولتهم، وعادوا إلى حالتهم الأولى، بل وأزيد منها في التعدي، فأوجب ذلك ركوب الفرنساوية عليهم، ولم يزل الحال يتزايد والأهوال يتلو بعضها بعضًا حتى انقلبت أوضاع الديار المصرية، وزالت حرمتها بالكلية، وأدى الحال بالمترجم إلى الخروج والتشتيت والتشريد هو ومن بقي من عشيرته إلى بلاد العبيد، يزرعون الدُّخن ويتقوتون منه، وملابسهم القمصان التي يلبسها الجلَّابة في بلادهم، إلى أن وردت الأخبار بموته في شهر ربيع الأول من السنة، وأما جملة أخباره فقد تقدمت في ضمن السوابق والماجريات واللواحق.
ومات الأمير الأجل أحمد أغا الخازندار المعروف ببونابارته، وهو أيضًا شهير الذكر من أعاظم الدولة، وقد تقدم كثير من أخباره وسفره إلى الحجاز، وكان عمَّر دارًا عظيمة على بركة الأزبكية جهة الرويعي، ثم عمل مهمًا كبيرًا لزواج ابنه، وهو إذ ذاك مريض في حياض الموت، حتى أشيع في الناس يوم زفة العروس، ثم مات بعد أيام قليلة مضت على الفرح، وذلك يوم الأربع تالت شهر جمادى التانية.
وماتت الست جليلة خاتون وهي سُرِّيَّة علي بك بلوط قبان الكبير، وكانت محظيته، وبنى لها الدار العظيمة على بركة الأزبكية بدرب عبد الحق، والساقية والطاحون بجانبها، ولما مات علي بك وتأمر مراد بك فتزوج بها وعمرت طويلًا مع العز والسيادة والكلمة النافذة، وأكثر نسا الأمرا من جواريها.
ولم يأتِ بعد الست شويكار من اشتُهر ذكره وخبره سواها، وكان أيام الفرنساوية واصطلح معهم مراد بك حصل لها منهم غاية الكرامة، ورتبوا لها من ديوانهم في كل شهر ماية ألف نصف فضة، وشفاعتها عندهم مقبولة لا ترد، وبالجملة فإنها كانت من الخيِّرات، ولها على الفقرا بر وإحسان، ولها من المآثر الخان الجديد والصهريج داخل باب زويلة.
تُوُفِّيَتْ يوم الخميس لعشرين من شهر جمادى الأولى بمنزلها المذكور بدرب عبد الحق، ودُفِنَتْ بحوشهم في القرافة الصغرى بجوار الإمام الشافعي، وأضيفت الدار إلى الدولة، وسكنها بعض أكابرها، وسبحان الحي الذي لا يموت!
ومات المقر الكريم أحمد باشا الشهير بطوسون ابن حضرة الوزير محمد علي باشا مالك الأقاليم المصرية والحجازية والثغور وما أضيف إليها، وقد تقدم ذكر رجوعه من البلاد الحجازية، وتوجهه إلى إسكندرية ورجوعه إلى مصر، ثم عوده إلى ناحية رشيد وعرضي خيامه جهة الحماد بالعسكر على الصورة المذكورة، وهو ينتقل من العرضي إلى رشيد ثم إلى برنبال وأبي منضور والعزب.
ولما رجع في هذه المرة أخذ صحبته من مصر المغنين وأرباب الآلات المطربة بالعود والقانون والناي والكمنجات، وهم إبراهيم الورَّاق والحبابي وقشوة ومن يصحبهم من باقي رفقاهم، فذهب ببعض خواصه إلى رشيد ومعه الجماعة المذكورون فأقام أيامًا، وحضر إليه من جهة الروم جوارٍ وغلمان أيضًا رقاصون، فانتقل بهم إلى قصر برنبال، ففي ليلة حلوله بها نزل به ما نزل من المقدور، فتمرَّض بالطاعون وتملل نحو عشر ساعات وانقضى نحبه، وذلك ليلة الأحد سابع شهر القعدة.
وحضرة خليل أفندي قوللي حاكم رشيد، وعندما خرجت روحه انتفخ جسمه وتغير لونه إلى الزرقة، فغسَّلوه وكفَّنوه ووضعوه في صندوق من الخشب، ووصلوا به في السفينة منتصف ليلة الأربع عاشره.
وكان والده بالجيزة فلم يتجاسروا على إخباره، فذهب إليه أحمد أغا أخو كتخدا بك، فلما علم بوصوله ليلًا استنكر حضوره في ذلك الوقت، فأخبره عنه أنه ورد إلى شبرا متوعكًا، فركب في الحين القنجة، وانحدر إلى شبرا، وطلع إلى القصر وصار يمر بالمخادع ويقول: أين هو؟ فلم يتجاسر أحد أن يصرح بموته، وكانوا ذهبوا به وهو في السفينة إلى بولاق ورسوا به عند الترسخانة، وأقبل كتخدا بك على الباشا فرآه يبكي، فانزعج انزعاجًا شديدًا وكاد أن يقع على الأرض، ونزل السفينة فأتى بولاق آخر الليل.
وانطلقت الرسل لإخبار الأعيان فركبوا بأجمعهم إلى بولاق، وحضر القاضي والأشياخ والسيد المحروقي، ثم نصبوا تظلك ساترًا على السفينة، وأخرجوا الناووس والدم والصديد يقطر منه، وطلبوا القلافطة لسد خروقه ومنافسه، ونصبوا عودًا عند رأسه ووضعوا عليه تاج الوزارة المسمى بالطلخان، وانجروا بالجنازة من غير ترتيب، والجميع مشاة أمامه وخلفه، وليس فيها من جوقات الجنايز المعتادة كالفقها وأولاد الكتاتيب والأحزاب شي من ساحل بولاق على طريق المدابغ وباب الخرق على الدرب الأحمر على التبانة إلى الرميلة، فصلوا عليه بمصلى المومنين، وذهبوا به إلى المدفن الذي أعده الباشا لنفسه ولموتاه.
كل هذه المسافة ووالده خلف نعشه ينظر إليه ويبكي، ومع الجنازة أربعة من الحمير تحمل القروش وربعيات الذهب، ودراهم أنصاف عددية ينثرون منها على الأرض وعلى الكيمان، وعن يمين الكتخدا ويساره شخصان يتناول منهما قراطيس الفضة يفرق على من يتعرض له من الفقرا والصبيان، فإذا تكاثروا عليه نثر ما بقي في يده عليهم، فيشتغلون عنه بالتقاطها من الأرض، فكان جملة ما فُرق وبُدر من الأنصاف العددية فقط خمسة وعشرين كيسًا عنها خمسماية ألف فضة، وذلك خلاف القروش أيضًا والربعيات الدهب.
وساقوا أمام الجنازة ستة روس من الجواميس الكبار، أخذ منها خدمة التربة ومَنْ حولهم وخدمة ضريح الإمام الشافعي، ولم ينل الفقرا إلا ما فضل عنهم.
وأخرجوا لإسقاط صلاة المُتَوَفَّى خمسة وأربعين كيسًا تناولها فقرا الأزهر.
وفرقت بجامع الفاكهاني بحسب الأغراض للغني منهم أضعاف قسم الفقير، وأكثر الفقرا من الفقها لم ينالوا إلا القليل.
ولما وصلوا إلى المدفن هدموا التربة وأنزلوه فيها بتابوته الخشب لتعسر إخراجه منه بسبب انتفاخه وتهرِّيه، حتى إنهم كانوا يطلقون حول تابوته البخورات في المجامر الدهب، والريحة غالبة على ذلك، وليس ثَمَّ من يتعظ أو يعتبر.
ولما مات لم يخبروا والدته بموته إلا بعد دفنه، فجزعت عليه جزعًا شديدًا، ولبست السواد وكذلك جميع نساهم وأتباعهم، وصبغوا براقعهم بالسواد والزرقة وكذلك مَنْ ينافقهم من الناس، حتى لطخوا أبواب البيوت ببولاق وغيرها بالوحل.
وامتنع الناس بالأمر عليهم من عمل الأفراح ودق الطبول مطلقًا، ونوبة الباشا وإسماعيل باشا وطاهر باشا حتى ما يفعله دراويش المولوية في تكاياهم عند المقابلة من الناي والطبل أربعين يومًا.
وأقاموا عليه العزا عند القبر وعدد من الفقها والمقرئين يتناوبون قراءة القرآن مدة الأربعين يومًا، ورتبوا لهم ذبايح ومآكل وكل ما يحتاجونه ثم ترادفت عليهم العطايا من والدته وإخواته والواردين من أقاربه وغيرهم، على حد قول القايل: «مصايب قوم عند قوم فوايد.»
ومات وهو مقتبل الشبيبة لم يبلغ العشرين، وكان أبيض جسيمًا كما قد دارت لحيته، بطلًا شجاعًا جوادًا له ميل لأولاد العرب، منقادًا لملة الإسلام، ويعترض على أبيه في أفعاله، تخافه العسكر وتهابه، ومن اقترف ذنبًا صغيرًا قتله، مع إحسانه وعطاياه للمنقاد منهم ولأمراه، ولغالب الناس إليه ميل وكانوا يرجون تأمره بعد أبيه ويأبى الله إلا ما يريد.
ومات الوزير المعظم يوسف باشا المنفصل عن إمارة الشام، وحضر إلى مصر من نحو تلات سنوات هاربًا وملتجيًا إلى حاكم مصر، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين ومايتين وألف.
وأصله من الأكراد الدكرلية، ويُنسب إلى الأكراد الملية.
وابتدا أمره بأخبار من يعرفه أنه هرب من أهله وعمره إذا ذاك خمس عشرة سنة، فوصل إلى حماة وتعاطى بيع الحشيش والسرجين والروث، ثم خدم عند رجل يسمى مُلا حسين مدة سنين إلى أن ألبسه قلبق، ثم خدم بعده مُلا إسماعيل بكتاش وتعلم الفروسية والرماحة.
فلعب يومًا في القمار وخسر فيه وخاف على نفسه، فخرج هاربًا إلى عمر أغا باسيلي من إشراقات إبراهيم باشا المعروف بالأزدن، فتوجه معه إلى غزة وكان مع المترجم جواد أشقر من جياد الخيل، فقلد علي أغا متسلم غزة عمر أغا المذكور وجعله دالي باشا، ففي بعض الأيام طلب المتسلم من المترجم الجوادَ فقال له: إن قلدتني دالي باشا قدمته لك، فأجابه إلى ذلك وعزل عمر أغا، وقلد المترجم المنصب عوضًا عنه وامتنع من إعطاه ذلك الجواد، وأقام في خدمته مدة.
فوصل مرسوم من أحمد باشا الجزار خطابًا للمترجم بالقبض على المتسلم وإحضاره إلى طرفه، وإن فعل ذلك ينعم عليه بمبلغ خمسين كيسًا وماية بيرق، ففعل ذلك وأوقع القبض على علي أغا المتسلم، وتوجه إلى عكا بلدة الجزار، فقال المتسلم للمترجم في أثناء الطريق: تعلم أن الجزار رجل سفاك دما فلا توصلني إليه، وإن كان وعدك بمال أنا أعطيك أضعافه وأطلقني أذهب حيث شاء الله ولا تشاركه في دمي، فلم يجبه إلى ذلك وأوصله إلى الجزار فحبسه ثم قتله ورماه في البحر.
وأقام المترجم بباب الجزار أيامًا ثم أرسل إليه يأمره بالذهاب إلى حيث يريد، فإنه لا خير فيه لخيانته لمخدومه، فذهب إلى حماة وأقام عند أغاته إسماعيل أغا وهو متولي من طرف عبد الله باشا المعروف بابن العظم، فأقام في خدمته كلارجي زمنًا نحو التلات سنوات.
وكان بين عبد الله باشا وأحمد باشا الجزار عداوة، فتوجه عبد الله باشا إلى الدورة فأرسل الجزار عساكره ليقطع عليه الطريق، فسلك طريقًا أخرى، فلما وصل إلى جنين، وهي مدينة قريبة من بلاد الجزار، وجه الجزار عساكره عليه، فلما تقارب العسكران وتسامعت أهل النواحي امتنعوا من دفع الأموال، فما وسع عبد الله باشا إلا الرحيل، وتوجه إلى ناحية نابلس مسافة يومين وحاصر بلدة تسمى صوفين، وأخذ مدافع من يافا، وأقام محصرًا لها ستة أيام، ثم طلبوا الأمان فأمنهم، ورحل عنهم إلى طرف الجبل مسيرة نصف ساعة، وفرق عساكره لقبض أموال الميري من البلاد، وأقام هو في قلة من العسكر فوصل إليه خيَّال وقت العصر في يوم من الأيام يخبره بوصول عساكر الجزار، وأنه لك يكن بينه وبينهم إلا نصف ساعة وهم خمسة آلاف مقاتل، فارتبك في أمره وأرسل إلى النواحي، فحضر إليه من حضورهم نحو التلتماية خيَّال، وهو بدايرته نحو التمانين فأمر بالركوب، فلما تقاربا هاله كثرة عساكر العدو وأيقنوا بالهلاك، فتقدم المترجم إلى العسكر وأشار عليهم بالثبات وقال لهم: لم يكن غير ذلك فإننا إن فررنا هلكنا عن آخرنا، وتقدم المترجم مع أغاته مُلا إسماعيل وتبعهم العسكر، وولجوا أوسط خيل العدو وصدقوا الحملة جملة واحدة، فحصلت في العدو الهزيمة وركبوا أقفيتهم، وتبعهم المترجم حتى حان الليل بينهم، فرجعوا بروس القتلى والقلايع.
فلما أصبح النهار عرضوها على الوزير، وهي نحو الألف راس وألف قليعة، فخلع عليهم وشكرهم، وارتحلوا إلى دمشق وذهب المترجم مع أغاته إلى مدينة حماة.
واستمر هناك إلى أن حضر الوزير الأعظم يوسف باشا المعروف بالمعدن إلى دمشق بسبب الفرنساوية، ففارق المترجم مخدومه في نحو السبعين خيَّالًا، وجعل يدور بأراضي حماة بطالًا ويقال له قبيس، فيراسل الجزار لينضم إليه، وكان الجزار عند حضور الوزير انفصل حكمه عن دمشق، ووجه ولايتها إلى عبد الله باشا العظم، فلما بلغ المترجم ذلك توجه إلى لقاء عبد الله باشا بالمعرة، فأكرمه عبد الله باشا وقلده دالي باشا كبيرًا على جميع الخيالة، حتى على أغاته مُلا إسماعيل أغا.
وأقام بدمشق مدة إلى أن حاصر عبد الله باشا مدينة طرابلس، فوصل إليه الخبر بأن عساكر الجزار استولوا على دمشق وبلادها، فركب عبد الله باشا وذهب إلى دمشق ودخلها بالسيف ونصب عرضيه خارجها، فوصل خبر ذلك إلى الجزار، فكاتب عساكر عبد الله باشا يستميلهم؛ لأن معظمهم غربا، فاتفقوا على خيانته والقبض عليه وتسليمه إلى الجزار، وعلم ذلك وتثبته فركب في بعض مماليكه وخاصته إلى وطاق المترجم، وهو إذ ذاك دالي باشا وأعلمه الخبر وأنه يريد النجاة بنفسه، فركب بمن معه وأخرجه من بين العسكر قهرًا عنهم، وأوصله إلى شول بغداد، ثم ذهب على الهجن إلى بغداد.
ورجع المترجم إلى حماة، فقبل وصوله إليها ورد عليه مرسوم الجزار يستدعيه فذهب إليه فجعله مقدم ألف، وقلده باش الجردة فسافر إلى الحجاز بالملاقاة.
وكان أمير الحاج الشامي إذ ذاك سليمان باشا عوضًا عن مخدومه أحمد باشا الجزار، فلما حصلوا في نصف الطريق وصلهم خبر موت الجزار، فرجع يوسف المترجم إلى الشام، واستولى إسماعيل باشا على عكا، وتوجه منصب ولاية الشام إلى إبراهيم باشا المعروف بقطر أغاسي أي «أغات البغال»، وفي فرمان ولايته الأمر بقطع رأس إسماعيل باشا وضبط مال الجزار.
فذهب المترجم بخيله وأتباعه إلى إبراهيم باشا وخدم عنده، وركب إلى عكا وحصروها وحطوا في أرض الكرداني مسيرة ساعة من عكا، وكانت الحرب بينهم سجالًا، وعساكر إسماعيل باشا نحو العشرة آلاف، والمترجم يباشر الوقايع وكل وقعة يظهر فيها على الخصم.
ففي يوم من الأيام لم يشعروا إلا وعسكر إسماعيل باشا نافذ إليهم من طريق أخرى، فركب المترجم وأخذ صحبته تلاتة مدافع وتلاقى معهم، وقاتلهم وهزمهم إلى أن حصرهم بقرية تسمى دعوق، ثم أخرجهم بالأمان إلى وطاقه وأكرمهم، وعمل لهم ضيافة تلاتة أيام، ثم أرسلهم إلى عكا بغير أمر الوزير.
ثم توجه إبراهيم باشا إلى الدورة وصحبته المترجم، وتركوا سليمان باشا مكانهم، وخرج إسماعيل باشا من عكا وأغلقت أبوابها، فاتفقت عساكره وقبضوا عليه وسلموه إلى إبراهيم باشا، فعند ذلك برز أمر إبراهيم باشا بتسليم عكا إلى سليمان باشا، وذهب بالمرسوم المترجم فأدخله إليها ورجع إلى مخدومه، وذهب معه إلى الدورة ثم عاد معه إلى الشام.
وورد الأمر بعزل إبراهيم باشا عن الشام وولاية عبد الله باشا المعروف بالعظم على يد باشت بغداد، فخرج المترجم لملاقاته من على حلب، فقلده دالي باشا في جميع العسكر، فلما وصل إلى الشام ولاه على حوران وإربد والقنيطرة ليقبض أموالها فأقام نحو السنة.
ثم توجه صحبة الباشا مع الحج، وتلاقوا مع الوهابية في الجديدة فحاربهم المترجم وهزمهم، وحجوا واعتمروا ورجعوا ومكثوا إلى السنة التانية، فخرج عبد الله باشا بالحج وأبقى المترجم نايبًا عنه بالشام، فلما وصل إلى المدينة المنورة منعه الوهابيون، ورجع من غير حج ووصل خبر إلى الدولة.
فورد الأمر بعزل عبد الله باشا عن ولاية الشام وولاية المترجم على الشام وضواحيها، فارتاعت النواحي والعربان، وأقام السنة ولم يخرج بنفسه إلى الحج، بل أرسل مُلا حسن عوضًا عنه، فمُنع أيضًا عن الحج، فلما كانت القابلة انفتح عليه أمر الدورة، وعصى عليه بعض البلاد فخرج إليها وحاصر بلدة تسمى كردانية، ووقع له فيها مشقة كبيرة إلى أن ملكها بالسيف وقتل أهلها، ثم توجه إلى جبل نابلس وقهرهم وجبى منهم أموالًا عظيمة.
ثم رجع إلى الشام واستقام أمره وحسنت سيرته، وسلك طريق العدل في الأحكام وأقام الشريعة والسنة، وأبطل البدع والمنكرات واستتوب الخواطي وزوجهن، وطفق يفرق الصدقات على الفقرا وأهل العلم والغربا وابن السبيل، وأمر بترك الإسراف في المآكل والملابس، وشاع خبر عدله في النواحي، ولكن ثقل ذلك على أهل البلاد بترك مألوفهم.
ثم إنه ركب إلى بلاد النصيرية وقاتلهم، وانتصر عليهم وسبى نساهم وأولادهم، وكان خيَّرهم بين الدخول في الإسلام أو الخروج من بلادهم، فامتنعوا وحاربوا وانخذلوا وبيعت نساهم وأولادهم، فلما شاهدوا ذلك أظهروا الإسلام تقية فعفا عنهم وعمل بظاهر الحديث، وتركهم في البلاد.
ورحل عنهم إلى طرابلس وحاصرها بسبب عصيان أميرها بربر باشا على الوزير، وأقام محاصرًا لها عشرة أشهر حتى ملكها واستولى على قلعتها ونهب منها أموال التجار وغيرهم.
ثم ارتحل إلى دمشق وأقام بها مدة فطرقه خبر الوهابية أنهم حضروا إلى المزيريب، فبادر مسرعًا وخرج إلى لقاهم، فلما وصل إلى المزيريب وجدهم قد ارتحلوا من غير قتال، فأقام هناك أيامًا فوصل إليه الخبر بأن سليمان باشا وصل إلى الشام وملكها، فعاد مسرعًا إلى الشام، وتلاقى مع عسكر سليمان باشا وتحارب العسكران إلى المسا.
وبات كلٌّ منهم في محله، ففي نصف الليل في غفلتهم والمترجم نايم وعساكره أيضًا هامدة فلم يشعروا إلا وعساكر سليمان باشا كبستهم، فحضر إليه كتخداه وأيقظه من منامه وقال له: إن لم تسرع وإلا قبضوا عليك، فقام في الحين وخرج هاربًا وصحبته تلاتة أشخاص من مماليكه فقط، ونهبت أمواله ويرقه، وزالت عنه سيادته في ساعة واحدة، ولم يزل حتى وصل إلى حماة، فلم يتمكن من الدخول إليها، ومنعه أهلها عنها وطردوه، فذهب إلى سيجر وارتحل منها إلى بلدة يعمل بها البارود، ومنها إلى بلدة تسمى ريمة، ونزل عند سعيد أغا فأقام عنده تلاتة أيام، ثم توجه إلى نواحي أنطاكية بصحبة جماعة من عند سعيد أغا المذكور ثم إلى السويد، ولم يبقَ معه سوى فرس واحد.
ثم إنه أرسل إلى محمد علي باشا صاحب مصر، واستأذنه في حضوره إلى مصر فكاتبه بالحضور إليه والترحيب به، فوصل إلى مصر في التاريخ المذكور، فلاقاه صاحب مصر وأكرمه وقدم إليه خيولًا وقماشًا ومالًا، وأنزله بدار واسعة بالأزبكية ورتب له خروجًا زايدة من لحم وخبز وسمن وأرز وحطب وجميع اللوازم المحتاج إليها، وأنعم عليه بجواري وغير ذلك، وأقام بمصر هذه المدة وأرسل في شأنه إلى الدولة وقبلت شفاعة محمد علي باشا فيه، ووصله العفو والرِّضَى ما عدا ولاية الشام.
وحصلت فيه علة ذات الصدر فكان يظهر به شبه السلعة مع الفواق بصوت يسمعه من يكون بعيدًا عنه، ويذهب إليه جماعة الحكما من الإفرنج وغيرهم، ويطالع في كتب الطب مع بعض الطلبة من المجاورين، فلم ينجع فيه علاج.
وانتقل إلى قصر الآثار بقصد تبديل الهوا، ولم يزل مقيمًا هناك حتى اشتد به المرض ومات في ليلة السبت العشرين من شهر ذي القعدة، وحُملت جنازته من الآثار إلى القرافة من ناحية الخلا، ودُفن بالحوش الذي أنشاه الباشا وأعده لموتاه، وكانت مدة إقامته بمصر نحو الستة سنوات، فسبحان الحي الذي لا يموت الدايم الملك والسلطان!