واستهلت سنة تلاتة وتلاتين ومايتين وألف (١٨١٧م)
واستهل المحرم بيوم الاتنين، ووالي مصر وحاكمها الوزير محمد علي باشا، وهو المتصرف فيها قبليها وبحريها، بل والأقطار الحجازية وضواحيها، وبيده أزمة الثغور الإسلامية.
ووزيره محمد بك لاظ المعروف بكتخدا بك، وهو قايم مقامه في حال غيابه وحضوره، والمتصدر في ديوان الأحكام الكلية والجزئية، وفصل الخصومات ومباشرة الأحوال، نافذ الكلمة وافر الحرمة.
وأغات الباب إبراهيم أغا ومتولي أيضًا أمر تعديل الأصناف ليوفر على الخزينة ما يأكله المتولي على كل صنف، ويخفي أمره فيشدد الفحص في المكيل والموزون والمزروع، حتى يستخرج المخبأ ولو قليلًا، فيجتمع من القليل الكثير من الأموال، فيحاسب المتولي مدة ولايته فيجتمع له ما لا قدرة له على وفا بعضه؛ لأن ذلك شي قد استُهلك في عدة أيدي أشخاص وأتباع، ويلزم الكبير بأداه ويقاسي ما يقاسيه من الحبس والضرب وسلب النعمة ومكابدة الأهوال، وسلحدار الباشا سليمان أغا عوضًا عن صالح بك السلحدار لاستعفاه عنها في العام السابق، وهو السلط على أخذ الأماكن وهدمها وبناها خانات ورباعًا وحوانيت، فيأتي إلى الجهة التي يختار البنا فيها ويشرع في هدمها، ويأتيه أربابها فيعطيهم أثمانها كما هي في حججهم القديمة، وهو شي نادر بالنسبة لغلو أثمان العقارات في هذا الوقت لعموم التخريب، وكثرة العالم، وغلا المون وضيق المساكن بأهلها، حتى إن المكان الذي كان يؤجر بالقليل صار يوجر بعشرة أمثال الأجرة القديمة ونحو ذلك، ومحمود بك الخازندار وخدمته قبض أموال البلاد والأطيان والرزق، وما يتعلق بذلك من الدعاوى والشكاوى، وديوانه بخط سويقة اللالا.
والمعلم غالي كاتب سر الباشا وريس الأقباط، وكذلك الدفتردار محمد بك صهر الباشا وحاكم الجهة القبلية.
والروزنامجي مصطفى أفندي، وأغا مستحفظان حسن أغا البهلوان، والزعيم علي أغا الشعرواي ومصطفى أغا كرد المحتسب، وقد بردت همته عما كان عليه، ورجع الحال في قلة الأدهان كالأول، وازدحم الناس على معمل الشمع فلا يحصل الطالب منه شيًّا إلا بشق الأنفس، وكذلك انعدم وجود بيض الدجاج لعدم المجلوب، ووقوف العسكر ورصدهم من يكون معه شي منه من الفلاحين الداخلين إلى المدينة من القرى، فيأخذونه منهم بدون القيمة، حتى بيعت البيضة الواحدة بنصفين.
وأما المعاملة فلم يزل أمرها في اضطراب بالزيادة والنقص وتكرار المناداة كل قليل، وصرف الريال الفرانسة إلى أربعماية نصف فضة والمحبوب إلى أربعماية وتمانين، والبندقي إلى تسعماية نصف، والمجر إلى تمانماية نصف، وأما هذه الأنصاف العددية التي تذكر فهي أسما لا وجود لمسمياتها في الأيدي.
وفي تاني عشره سافر الباشا إلى جهة إسكندرية لمحاسبة الشركا والنظر في بيع الغلال والمتاجر والمراسلات.
وفي تاسع عشره ارتحلت عساكر أتراك ومغاربة مجردة إلى الحجاز.
واستهل شهر صفر بيوم الأربع (سنة ١٢٣٣)
في ثالث عشره وصل الكثير من حجاج المغاربة.
وفي يوم الجمعة سابع عشره وصل جاويش الحاج، وفي ذلك اليوم وقت العصر ضربوا عدة مدافع من القلعة لبشارة وصلت من إبراهيم باشا بأنه حصلت له نصرة وملك بلدة من بلاد الوهابية وقبض على أميرها ويسمى عتيبة وهو طاعن في السن.
وفي يوم التلات حادي عشرينه وصل ركب الحاج المصري والمحمل وأمير الحاج من الدلاة.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الجمعة (سنة ١٢٣٣)
وصل قابجي من دار السلطنة فعملوا له موكبًا وطلع إلى القلعة، وضربوا له شنكًا سبعة أيام وهي مدافع تُضرب في كل وقت من الأوقات الخمسة.
وفي هذا الشهر انعدم وجود القناديل الزجاج، وبيع القنديل الواحد الذي كان ثمنه خمسة أنصاف بستين نصفًا إذا وجد.
واستهل شهر ربيع التاني بيوم السبت (سنة ١٢٣٣)
ووافقه أيضًا أول أمشير القبطي.
وفي منتصفه سافر أولاد سلطان المغرب والكثير من حجاج المغاربة، وكانوا في غاية الكثرة بحيث ازدحمت منهم أسواق المدينة وبولاق وما بينهما من جميع الطرق، فكانوا يشترون الأغنام من الفلاحين ويذبحونها ويبيعونها على الناس جزافًا من غير وزن بعد أن يتركوا لأنفسهم مقدار حاجتهم، فذهب الكثير للشرا منهم بسبب رداءة اللحم الموجود بحوانيت الجزارين، ولو وقف عليهم بالثمن الزايد.
وفي أواخره حضر مبشر من ناحية الديار الحجازية يخبر بنصرة حصلت لإبراهيم باشا، وأنه استولى على بلدة تسمى الشقرا وأن عبد الله بن مسعود كان بها، فخرج منها هاربًا إلى الدرعية ليلًا، وأن بين عسكر الأتراك والدرعية مسافة يومين، فلما وصل هذا المبشر ضربوا لقدومه مدافع من أبراج القلعة، وذلك وقت الغروب من يوم الأربع سادس عشرينه.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الأحد (سنة ١٢٣٣)
فيه نودي على طايفة المخالفين للملة من الأقباط والأروام بأن يلزموا زيهم من الأزرق والأسود، ولا يلبسون العمايم البيض؛ لأنهم خرجوا عن الحد في كل شي، ويتعممون بالشيلان الكشميري الملونة والغالية في الثمن، ويركبون الرهوانات والبغال والخيول، وأمامهم وخلفهم الخدم بأيديهم العصي يطردون الناس عن طريقهم، ولا يظن الرائي لهم إلا أنهم من أعيان الدولة، ويلبسون الأسلحة وتخرج الطايفة منهم إلى الخلا ويعملون لهم نشانًا يضربون عليه بالبنادق الرصاص وغير ذلك، فما أحسن هذا النَّهْي لو دام.
وفي يوم السبت حادي عشرينه حضر الباشا من غيبته بإسكندرية أواخر النهار، فضربوا لقدومه مدافع، فبات بقصر شبرا وطلع في صبحها إلى القلعة، فضربوا بها مدافع أيضًا، فكانت مدة غيبته بإسكندرية أربعة أشهر وتسعة أيام.
وفي أواخره وصل هجان من شرق الحجاز ببشارة بأن إبراهيم باشا استولى على بلد كبير من بلاد الوهابية، ولم يبقَ بينه وبين الدرعية إلا ثمان عشرة ساعة، فضربوا شنكًا ومدافع.
وفيه وصل هجان من حسن باشا الذي بجدة بمراسلة يخبر فيها بعصيان الشريف حمود بناحية يمن الحجاز، وأنه حاصر من بتلك النواحي من العساكر وقتلهم، ولم ينجُ منهم إلا القليل وهو من فر على جرايد الخيل.
ووقع فيه أيضًا الاهتمام في تجريد عساكر للسفر، وأرسل الباشا بطلب خليل باشا للحضور من ناحية بحري هو وخلافه، وحصل الأمر بقراءة صحيح البخاري بالأزهر فقري يومين، وفُرق على مجاوري الأزهر عشرة أكياس، وكذلك فُرقت دراهم على أولاد المكاتب.
واستهل شهر جمادى الثانية (سنة ١٢٣٣)
في منتصفه ليلة التلات حصل خسوف للقمر في سادس ساعة من الليل، وكان المنخسف منه مقدار النصف، وحصل الأمر أيضًا بقراءة صحيح البخاري بالأزهر.
وفيه ورد الخبر بموت الشريف حمود وأنه أصيب بجراحه ومات بها.
وفي يوم التلات تاسع عشرينه حصل كسوف للشمس في تالت ساعة من النهار، وكان المنكسف منها مقدار التلت، وفي ذلك اليوم ضُربت مدافع لوصول بشارة من إبراهيم باشا بأنه ملك جانبًا من الدرعية وأن الوهابية محصورون، وهو ومن معه من العربان محيطون بهم.
واستهل شهر شعبان (سنة ١٢٣٣)
فيه حضر خليل باشا وحسين بك دالي باشا من الجهة البحرية ونزلوا بدورهم.
واستهل شهر رمضان بيوم الأحد (سنة ١٢٣٣)
في منتصفه وصل نجاب وأخبر بأن إبراهيم باشا ركب إلى جهة من نواحي الدرعية لأمر يبتغيه وترك عرضيه، فاغتنم الوهابية غيابه وكبسوا على العرضي على حين غفلة وقتلوا من العساكر عدة وافرة وأحرقوا الجبخانة، فعند ذلك قوي الاهتمام، وارتحل جملة من العساكر في دفعات تلات برًّا وبحرًا يتلو بعضهم بعضًا في شعبان ورمضان.
وبرز عرضي خليل باشا إلى خارج باب النصر، وترددوا في الخروج والدخول.
واستباحوا الفطر في رمضان بحجة السفر، فيجلس الكثير منهم بالأسواق يأكلون ويشربون ويمرون بالشوارع، وبأيديهم أقصاب للدخان والتتن من غير احتشام ولا احترام لشهر الصوم، وفي اعتقادهم الخروج بقصد الجهاد وغزو الكفار المخالفين لدين الإسلام، وانقضى شهر الصوم والباشا متكدر الخاطر ومتقلق ومنتظر ورود خبر ينْسرُّ بسماعه.
واستهل شهر شوال بيوم الاثنين (سنة ١٢٣٣)
وكان هلاله عسر الرؤية جدًّا، فحضر جماعة من الأتراك إلى المحكمة وشهدوا برؤيته.
وفي ذلك اليوم الموافق لثامن عشري شهر أبيب القبطي أوفى النيل أذرعه، فأخروا فتح سد الخليج تلاتة أيام العيد ونودي بالوفا يوم الأربع، وحصل الجمع يوم الخميس رابعه، وحضر فتح الخليج كتخدا بك والقاضي ومن له عادة بالحضور، فكان جمعًا وازدحامًا عظيمًا من أخلاط العالم في جهة السد والروضة تلك الليلة، واشتعلت النار في الحديقة واحترق فيها أشخاص ومات بعضهم.
وفي سادسه يوم السبت خرج خليل باشا المعين إلى السفر في موكب، وشق من وسط المدينة، وخرج من باب النصر وعطف على باب الفتوح، ورجع إلى داره في قلة من أتباعه في طريقه التي خرج منها.
وفيه انتدب مصطفى أغا المحتسب ونادى في المدينة ويأمر الناس بقطع أراضي الطرقات والأزقة حتى العطف والحارات الغير النافذة، فأخذ أرباب الحوانيت والبيوت يعملون بأنفسهم في قطع الأرض والحفر، ونقل الأتربة وحملها من خوفهم من أذيته، ولعدم الفَعَلة والأُجَرا، واشتغال حمير الترابين باستعمالهم في عماير أهل الدولة، فلو كان الاهتمام في قطع أرض الخليج الذي يجري به الماء، فإنه لم تقطع أرضه وينقطع جريانه في أيام قليلة لعلو أرضه من الطمي، ولما يتهدم عليه من الدور القديمة وما يلقيه السكان فيه من الأتربة، وزاد على ذلك بهذه الفعلة إلقا ما يحفرونه وينقلونه من أتربة الأزقة والبيوت القديمة منه فيه ليلًا ونهارًا.
وفي تامنه ارتحل خليل باشا مسافرًا إلى الحجاز من القلزم وعساكره الخيالة على طريق البر.
وفي يوم السبت تالت عشره نزلوا بكسوة الكعبة إلى المشهد الحسيني على العادة.
وفي يوم الاتنين تاني عشرينه عمل الموكب لأمير الحاج وهو حسين بك دالي باشا، وخرج بالمحمل خارج باب النصر تجاه الهمايل، ثم انتقل في يوم الأربع إلى البركة، وارتحل منها يوم الاتنين تاسع عشرينه، وسافر الكثير من الحجاج وأكثر فلاحي القرى والصعايدة ومن باقي الأجناس، مثل المغاربة والقرمان والأتراك أنفار قليلة.
وفي ذلك اليوم وصل قابجي وعلى يده تقرير لحضرة الباشا على السنة الجديدة، وطلع إلى القلعة في موكب، وقري التقرير بحضرة الجمع وضُربت مدافع كثيرة، وكذلك وصل قبله قابجي صحبته فرمان بشارة بمولود وُلد لحضرة السلطان، فعمل له شنك ومدافع تلاتة أيام في الأوقات الخمسة، وذلك في منتصفه.
واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأربع (سنة ١٢٣٣)
وانقضى والباشا منفعل الخاطر لتأخر الأخبار وطول الانتظار، وكل قليل يأمر بقراءة صحيح البخاري بالأزهر، ويفرق على صغار المكاتب والفقرا دراهم، ولضيق صدره واشتغال فكره لا يستقر بمكان؛ فيقيم بالقلعة قليلًا، ثم ينتقل إلى قصر شبرا، ثم إلى قصر الآثار، ثم الأزبكية ثم الجيزة وهكذا.
واستهل شهر ذي الحجة الحرام بيوم الجمعة (سنة ١٢٣٣)
في سابعه وردت بشاير من شرق الحجاز بمراسلة من عثمان أغا الورداني أمير الينبع بأن إبراهيم باشا استولى على الدرعية والوهابية؛ فانسر الباشا لهذا الخبر سرورًا عظيمًا، وانجلى عنه الضجر والقلق وأنعم على المبشر، وعند ذلك ضربوا مدافع كثيرة من القلعة والجيزة وبولاق والأزبكية، وانتشر المبشرون على بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش.
وفي تاني عشره وصل المرسوم بمكاتبات من السويس والينبع، وذلك قبل العصر، فأكثروا من ضرب المدافع من كل جهة، واستمر الضرب من العصر إلى المغرب، بحيث ضرب بالقلعة خاصة ألف مدفع.
وصادف ذلك شنك أيام العيد، وعند ذلك أمر بعمل مهرجان وزينة داخل المدينة وخارجها وبولاق ومصر القديمة والجيزة، وشنك على بحر النيل تجاه الترسخانه ببولاق من النجارين والخراطين والحدادين، وتقيد لذلك أمين أفندي المعمار وشرعوا في العمل، وحضر كشاف النواحي والأقاليم بعساكرهم وأخرجوا الخيام والصواوين والوطاقات خارج باب النصر وباب الفتوح، وذلك يوم التلات سادس عشرينه، ونودي بالزينة وأولها الأربع، فشرع الناس في زينة الحوانيت والخانات وأبواب الدور ووقود القناديل والسهر.
وأظهروا الفرح والملاعيب، كل ذلك مع ما الناس فيه من ضيق الحال والكد في تحصيل أسباب المعاش، وعدم ما يسرجون به من الزيت والشيرج والزيت الحار وكذا السمن، فإنه شح وجوده ولا يوجد منه إلا القليل عند بعض الزياتين، ولا يبيع الزيات زيادة عن الأوقية، وكذلك اللحم لا يوجد منه إلا ما كان في غاية الرداءة من لحم النعاج الهزيل، وامتنع أيضًا وجود القمح بالساحل وعرصات الغلة، حتى الخبز امتنع وجوده بالأسواق ولما أنهي الأمر إلى مَن لهم ولاية الأمر، فأخرجوا من شون الباشا مقدارًا ليباع في الرقع، وقد أكلها السوس ولا يباع منها أزيد من الكيلة أكثرها مسوس.
وكذلك لما شكا الناس من عدم ما يسرج به في القناديل، أطلقوا للزياتين مقدار من الشيرج في كل يوم يباع في الناس لوقود الزينة، وفي كل يوم يطوف المنادي ويكرر المناداة بالشوارع على الناس بالسهر والوقود والزينة وعدم غلق الحوانيت ليلًا ونهارًا، وانقضى العام بحوادثه ومعظمها مستمر.
فمنها — وهو أعظمها — شدة الأذية والضيق، خصوصًا بذوي البيوت والمساتير من الناس بسبب قطع إيرادهم وأرزاقهم من الفايظ والجامكية السايرة والرزق الإحباسية وضبط الأنوال التي تقدم ذكرها، وكان يتعيش منها ألوف من العالم، ولما اشتد الضنك بالملتزمين وتكرر عرضحالهم فأمر لهم بصرف التلت، وتحول المصرفجي على بعض الجهات، فكان كلما اجتمع لديه قدر يلحقه الطلب بحوالة من لوازم عساكر السفر المجردين.
وانقضى العام وأكثر الناس لم يحصل على شي؛ وذلك لكثرة المصاريف والإرساليات من الذخاير والغلال والمون وخزاين المال من أصناف خصوص الريال الفرانسة والذهب البندقي والمحبوب الإسلامي بالأحمال، وهي الأصناف الريجة بتلك النواحي.
وأما القروش فلا رواج لها إلا بمصر وضواحيها فقط، أخبرني أحد أعيان كتاب الخزينة عن أجرة حمل الذخيرة على جِمال العرب خاصة في مرة من المرات خمسة وأربعين ألف فرانسة، وذلك من الينبع إلى المدينة حسابًا عن أجرة كل بعير ستة فرانسة، يدفع نصفها أمير الينبع، والنصف الأخير يدفعه أمير المدينة عند وصول ذلك، ثم من المدينة إلى الدرعية ما يبلغ الماية والأربعين ألف فرانسة، وهو شي مستمر التكرار والبعوث، ويحتاج إلى كنوز قارون وهامان وإكسير جابر بن حيان.
ومنها العمارة التي أمر بإنشاها الباشا المشار إليه بين السورين وحارة النصارى المعروفة بخميس العدس المتوصل منها إلى جهة الخرنفش، وذلك بإشارة أكابر نصارى الإفرنج ليجتمع بها أرباب الصنايع الواصلون من بلاد الإفرنج وغيرهم، وهي عمارة عظيمة ابتدوا فيها من العام الماضي واستمروا مدة في صناعة الآلات الأصولية التي يصنع بها اللوازم مثل: السندالات والمخارط للحديد والقواديم والمناشير والتزجات ونحو ذلك، وأفردوا لكل حرفة وصناعة مكانًا وصُنَّاعًا يحتوي المكان على الأنوال والدواليب والآلات الغريبة الوضع والتركيب لصناعة القطن وأنواع الحرير والأقمشة والمقصبات.
وفي أواخر هذا العام جمعوا مشايخ الحارات وألزموهم بجمع أربعة آلاف غلام من أولاد البلد ليشتغلوا تحت أيدي الصناع ويتعلموا ويأخذوا أجرة يومية ويرجعوا لأهاليهم أواخر النهار، فمنهم من يكون له القرش والقرشان والتلاتة بحسب الصناعة وما يناسبها، وربما احتيج إلى نحو العشرة آلاف غلام بعد إتمامها، والمحتاج إليه في هذا الوقت القدر المذكور، وهي كرخانة عظيمة صرف عليها مقادير عظيمة من الأموال.
ومنها أنه ظهر بأراضي الأرز بالبحر الشرقي بناحية دمياط حيوان يخرج من البحر الشرقي في قدر الجاموس العظيم ولونه، فيرعى الفدان من الزرع ثم يتقايأ أكثره، وكان ظهوره من العام الماضي، فيجتمع عليه الكثير من أهل الناحية ويرجمونه بالحجارة ويضربون عليه بنادق الرصاص، فلا تؤثر في جلده ويهرب إلى البحر، واتفق أنه ابتلع رجلًا إلى أن أصيب في عينه وسقط وتكاثروا عليه وقتلوه وسلخوا جلده، وحشوه تبنًا وأتوا به إلى بولاق وتفرج عليه الباشا والناس، وأخبرني غير واحد ممن رآه أنه أعظم من الجاموس الكبير، طوله تلاتة عشر قدمًا، وجلده أملس ورأسه عظيم يشبه رأس ابن عرس، وعيناه في أعلى دماغه، واسع الفم، وذنبه مثل ذنب السمك، وأرجله غلاظ مثل أرجل الفيل في أواخرها أربع ظلوف طوال وأسفلها كخف الجمل، وأدخلوه إلى بيت الإفرنج وأنعم به الباشا على بغوص الترجمان الأرمني، وهو يبيعه على الإفرنج بتمن كبير.
ومنها أن امرأة يقال لها الشيخة رقية، تتزر بمئزر أبيض، وبيدها خيزرانة وسبحة تطوف على بيوت الأعيان، وتقرأ وتصلي وتذكر على السبحة، ونسا الأكابر يعتقدون فيها الصلاح ويسألن منها الدعا، وكذلك الرجال حتى بعض الفقها، وتجتمع على الشيخ العالم المعتقد الشيخ تعيلب الضرير، ويكثر من مدحها للناس فيزدادون فيها اعتقادًا، ولها بمنزل خليل بك طوقان النابلسي مكان مفرد تأوي إليه على حدتها، وإذا دخلت بيتًا من البيوت قام إليها الخدم واستقبلوها بقولهم: نهارنا سعيد ومبارك، ونحو ذلك، وإذا دخلت على الستات قمن إليها وفرحن بقدومها وقبَّلن يدها، وتبيت معهن ومع الجواري.
فذهبت يومًا إلى دار الشيخ عبد العليم الفيومي، وذلك في شهر شوال، فتمرضت أيامًا وماتت، فضجوا وتأسفوا عليها وأحبوا تغيير ما عليها من الثياب، فرأوا شيًّا معجر ما بين أفخاذها فظنوه صرة دراهم، وإذا هو آلة الرجال الخصيتان والذي فوقهما، فبهت النسا وتعجبن، وأخبروا الشيخ تعيلب بذلك، فقال: استروا هذا الأمر، وغسِّلوه وكفِّنوه ووارُوه في التراب، ووارَوْه في التراب، ووجدوا في جيبه مرآة وموسى وملقاطًا، وشاع أمره واشتُهر وتناقله الناس بالتحدث والتعجب.
ومنها زيادة النيل في هذا العام الزيادة المفرطة التي لم نسمع ولم نرَ مثلها، حتى غرق الزروع الصيفية مثل الذرة والنيلة والسمسم والقصب والأرز وأكثر الجناين، بحيث صار البحر وسواحله والملق لجة ماء، وانهدم بسببه قرى كثيرة، وغرق الكثير من الناس والحيوان حتى كان الماء ينبع بين الناس من وسط الدور، واختلط بحر الجيزة ببحر مصر العتيقة حتى كانت المراكب تمشي فوق جزيرة الروضة، وكثر عويل الفلاحين وصراخهم على ما غرق لهم من المزارع، وخصوصًا الذرة التي هي معظم قوتهم، وكثير من أهل البلاد ندبوا بالدفوف.
ومنها أن الباشا زاد في هذه السنة الخراج وجعل على كل فدان ستة قروش وسبعة وثمانية، وذكر أنها مساعدة على حروب الحجاز والخوارج، فدهي الفلاحون بهاتين الداهيتين، وهي زيادة النيل وزيادة الخراج في غير وقت وأوان، فإن من عادة الفلاحين وأهل القرى إذا انقضت أيام الحصاد والدراوي وشطبوا ما عليهم من مال الخراج لملتزميهم، ويكون ذلك في مبادي زيادة النيل، وارتفع عنهم الطلب وارتحلت كشاف النواحي وقايمقام الملتزمين والصيارف والمعينون، وخلت النواحي منهم؛ فعند ذلك ترتاح نفوسهم وتجتمع حواسهم، ويعملون أعراسهم، ويجددون ملبوسهم ويزوجون بناتهم، ويختنون صبيانهم، ويشيدون بنيانهم، ويصلحون جسورهم وحبوسهم، فإذا أخذ النيل في الزيادة شرعوا في زراعة الصيفي الذي هو معظم قوتهم وكسبهم، حتى إذا انحسر الماء وانكشفت الأراضي وآن أوان التحضير وزراعة الشتوي من البرسيم والغلة، وجدوا ما يسدون به مال التجهية، وما يرقعون به أحوالهم، ومن بهايم الحرث ومحاريث وتقاوي وأجر عمال ونحو ذلك، فدهموا هذه السنة بهاتين الآفتين الأرضية والسماوية، ورحل الكثير عن أهله ووطنه، وكان ابتداء طلب هذه الزيادة قبل زيادة النيل ومجي خبر النصرة، فلما ورد خبر النصرة لم يرتفع ذلك.
ومنها الاضطراب في المعاملة بالزيادة والنقص والمناداة عليها كل قليل، والتنكيل والترك، وبلغ الصرف البندقي ثمانماية وثمانين نصفًا فضة، والفرانسة أربعماية نصف وعشرة والمحبوب أربعماية وأربعين وهو المصري، وأما الإسلامبولي فيزيد أربعين، والمجر ثمانماية نصف، وأما هذه الأنصاف — وهي الفضة العددية — فهي أسما من غير مسميات لمنعها واحتكارها، فلا يوجد منها في المعاملة بأيدي الناس إلا النادر جدًّا، ولا يوجد بالأيدي في محقرات الأشيا وغيرها إلا المجزأ بالخمسة والعشرة والعشرين، وتصرف من اليهود والصيارف بالفرط والنقص، ومن حصل بيده شي من الأنصاف عض عليه بالنواجذ، بإخراج شي منها عند شدة الاضطرار اللازم.
ومنها أن السيد محمد المحروقي أنشأ ببركة الرطلي دارًا وبستانًا في محل الأماكن التي تخربت في الحوادث؛ وذلك أنه لما طرقت الفرنساوية الديار المصرية واختل النظام وجلا أكثر الناس عن أوطانهم، وخصوصًا سكان الأطراف، فبقيت دور البركة خالية من السكان، وكان بها عدة من الديار الجليلة منها حسن كتخدا الشعراوي، وتابعه عمر جاويش وداره على سمته أيضًا، ودار علي كتخدا الخربطلي، ودار قاضي البهار، ودار سليمان أغا، ودار الحموي، وخلاف ذلك دور كانت جارية في وقف عثمان كتخدا القازدغلي وغيره، وهذه الدور هي التي أدركناها بل وسكنا بها عدة سنين، وكانت في الزمن الأول عدة دور مختصرة يسكنها أهل الرفاهية من أهالي البلد، وكان بها بيت البكرية القديم بالناحية الجنوبية تجاه زاوية جدهم الشيخ جلال الدين البكري، وكان الناس يرغبون في سكناها لطيب هواها وانكشاف الريح البحري بها، وليس في تجاهها من البر الآخر سوى الأشجار والمزارع، ويعبر بها المراكب والسفاين والقنج في أيام النيل بالمتفرجين والمتنزهين وأهل الخلاعة بمزامرهم ومغانيهم، ولصدى أصواتهم المطرب طرب آخر، فلما انقشع عنها السكان تداعت الدور إلى الخراب، وبقيت مسكنًا للبوم والغراب مدة إقامة الفرنساوية.
فلما حضر يوسف باشا الوزير في المرة الأولى، وذلك سنة أربع عشرة ومايتين وألف، وانتقض الصلح بينه وبين الفرنساوية، وحصلت المفاقمة ووقعت الحروب داخل البلدة، واحتاطت الفرنساوية بجهات البلد، وجرى ما تقدم ذكره في الحوادث السابقة، وكان طايفة من الفرنساوية أتوا إلى ناحية هذه البركة، ومسكوا التل المعروف بتل أبي الريش، وأخذوا يرمون بالمدافع والقنابر على أهل باب الشعرية وتلك النواحي، فما انجلت الحروب حتى خربت بيوت البركة وما كان بتلك النواحي من الدور التي بظاهرها وبقيت كيمانًا، فحسن ببال السيد المذكور أن يجعل له سكنًا هناك، فاحتكر أراضي تلك المساكن من أربابها من مدة سابقة، ثم تكاسل عن ذلك واشتغل بتوسعة دار سكنه التي بخطة الفحامين محل دكة الحسبة القديمة، حتى أتمها على الوضع الذي قصده.
ثم شرع في السنة الماضية في إنشا سكن لخصوص نزاهته، فشرع في تنظيف الأتربة وإصلاح الأرض، وأنشأ دار متسعة وقيعانًا وفسحات، وهي مفروشة بالرخام، وحولها بستان وغرس به أنواع الأشجار ودوالي الكروم، وهي بمكان حسن كتخدا ومن كان على سمته من الدور نحو التلاتين، وأنشأ كاتبه السيد عمر الحسيني دارًا عظيمة لخصوصه أخذ فيها باقي أراضي الأماكن وزخرفها وانتقل إليها بأهله وعياله، وجعلها دارًا لسكناه صيفًا وشتا، وبنيا خارج ظاهرها حايطًا ليكون لدورهما سورًا، وعملا بها بوابة تفتح وتقفل، وكان بجوار ذلك جامع متخرب يسمى جامع الحريشي، فعمره أيضًا السيد محمد المحروقي وأقام حوايطه وأعمدته وسقفه وبيضه، وأقام الخطبة آخر جمعة شهر المحرم.
وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر
فمات شيخ الإسلام وعمدة الأنام الفقيه العلامة والنحرير الفهامة الشيخ محمد الشنواني، نسبة إلى شنوان الغرق، الشافعي الأزهري شيخ الجامع الأزهر، من أهل الطبقة الثانية، الفقيه النحوي المعقولي، حضر الأشياخ أجلهم الشيخ فارس وكالصعيد والدردير والفرماوي، وتفقه على الشيخ عيسى البراوي، ولازم دروسه وبه تخرج، وأقرا الدروس وأفاد الطلبة بالجامع المعروف بالفاكهاني بالقرب من دار سكناه بخشقدم، مهذب النفس مع التواضع والانكسار والبشاشة لكل أحد من الناس، ويشمر ثيابه ويخدم بنفسه ويكنس الجامع ويسرج القناديل.
ولما تُوُفِّيَ الشيخ عبد الله الشرقاوي اختاروه للمشيخة، فامتنع وهرب إلى مصر العتيقة بعدما جرى ما تقدم ذكره من تصدر الشيخ محمد المهدي، فأحضروه قهرًا عنه وتلبس بالمشيخة مع ملازمته لجامع الفاكهاني كعادته، أقبلت عليه الدنيا فلم يتهنا بها واعترته الأمراض وتعلل بالزحير أشهرًا، ثم عوفي، ثم بآخره بالبرودة وانقطع بالدار كذلك أشهرًا، ولم يزل منقطعًا حتى تُوُفِّيَ يوم الأربع رابع عشرين المحرم، وصُلِّي عليه بالأزهر في مشهد عظيم، ودُفن بتربة المجاورين.
وله تآليف منها حاشية جليلة على شرح الشيخ عبد السلام على الجوهرة مشهورة بأيدي الطلبة، وكان يجيد حفظ القرآن، ويقرا مع فقها الجوقة في الليالي.
وتقلد المشيخة بعده الشيخ العلامة السيد محمد ابن شيخنا الشيخ أحمد العروسي من غير منازع وبإجماع أهل الوقت، ولبس الخلع من بيوت الأعيان مثل البكري والسادات وباقي أصحاب المظاهر ومن يحب التظاهر.
ومات العمدة الشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعروف هو بالدواخلي الشافعي، ويقال له السيد محمد؛ لأن أباه تزوج بفاطمة بنت السيد عبد الوهاب البرديني، فوُلد له المترجم منها، ومنها جاه الشرف، وهم من محلة الداخل بالغربية، ووُلد المترجم بمصر وتربى في حجر أبيه، وحفظ القرآن واجتهد في طلب العلم وحضر الأشياخ من أهل وقته، كالشيخ محمد عرفة الدسوقي، والشيخ مصطفى الصاوي وخلافه من أشياخ هذا العصر، ولازم الشيخ عبد الله الشرقاوي في فقه مذهبه وغيره من العقولات ملازمة كلية، وانتسب له وصار من أخص تلامذته.
ولما مات السيد مصطفى الدمنهوري الذي كان بمنزلة كتخداه قام مقامه، واشتُهر به وأقرا الدروس الفقهية والمعقولية، وحف به الطلبة وتداخل في قضايا الدعاوى والمصالح بين الناس.
واشتهر ذكره وخصوصًا أيام الفرنساوية حين تقلد شيخه رياسة ديوانهم، وانتفع في أيامهم انتفاعًا عظيمًا من تصدِّيه لقضايا نسا الأمرا المصرية وغيرهم، ومات والده فأحرز ميراثه، وكذلك لما قُتل عديله الحاج مصطفى البشتيلي في الحرابة ببولاق لا عن وارث، فاستولى على تعلقاته وأطيانه وبستانه التي ببشتيل، واتسع حاله واشترى العبيد والجواري والخدم.
ولما ارتحل الفرنساوية ودخلها العثمانيون انطوى إلى السيد أحمد المحروقي؛ لأنه كان يراسله سرًّا بالأخبار حين خرج مع العثمانيين في الكسرة إلى الشام، فلما رجع فراعاه وراشاه ونوَّه بذكره عند أهل الدولة.
وفي أيام الأمرا المصريين حين رجعوا إلى مصر بعد قتل طاهر باشا في سنة تمان عشرة، واحتوى على رزق وأطيان وحصص التزام، ولبس الفراوي بالأقبية وركب البغال وأحدق به الأشياخ والأتباع، وعنده ميل عظيم للتقدم والرياسة ولا يقنع بالكثير.
ولما وقع ما وقع في ولاية محمد علي باشا، وانفرد السيد عمر أفندي في الرياسة وصار بيده مقاليد الأمور ازداد به الحسد، فكان هو من أكبر الساعين عليه سرًّا مع المهدي وباقي الأشياخ حتى أوقعوا به، وأخرجه الباشا من مصر كما تقدم، فعند ذلك صفا لهم الوقت، وتقلد المترجم النقابة بعد موت الشيخ محمد بن وفا، وركب الخيول ولبس التاج الكبير ومشت أمامه الجاويشية والمقدمون وأرباب الخدم، وازدحم بيته بأرباب الدعاوى والشكاوى وعمر دار سكنهم القديمة بكفر الطماعين، وأدخل فيها دورًا وأنشا تجاهها مسجدًا لطيفًا وجعل فيه منبرًا وخطبة، وعمر دارًا ببركة جناق وأسكنها إحدى زوجاته.
وداخله الغرور، وظن أن الوقت قد صفا له فأول ما ابتداه به الدهر من نكباته أن مات ولده أحمد، وكان قد ناهز البلوغ ولم يكن له من الأولاد الذكور غيره، فوجد عليه وجدًا شديدًا حتى كان يتكلم بكلام نقمه الناس عليه، وعمل ميتمًا ودفنه بمسجده تجاه بيته، وعمل عليه مقامًا ومقصورة مثل المقامات التي تُقصد للزيارة، وكان موته في منتصف سنة تسع وعشرين.
ووقعت حادثة قومة العسكر على الباشا في أواخر شهر شعبان من السنة المذكورة، والمترجم إذ ذاك من أعيان الروس يطلع وينزل في كل ليلة إلى القلعة، ويشار إليه ويحل ويعقد في قضايا الناس، ويسترسل معه الباشا كما تقدم ذكر ذلك، وداخله الغرور الزايد، ولقد تطاول على كبار الكتبة الأقباط وغيرهم، ويراجع الباشا في مطالبه بعد انقضا الفتنة إلى أن ضاق صدر الباشا منه وأمر بإخراجه ونفيه إلى دسوق، وذلك في سنة إحدى وتلاتين.
فأقام بها أشهرًا ثم توجه بشفاعة السيد المحروقي إلى المحلة الكبرى، فلم يزل بها متعلق الحواس منحرف المزاج متكدر الطبع، وكل قليل يراسل السيد المحروقي في أن يشفع فيه عند الباشا وليأذن له في الحج، فلم يؤذن له في شي من ذلك، ولم يزل بالمحلة حتى تُوُفِّيَ في منتصف شهر ربيع الأول من السنة، ودُفن هناك، وكان — رحمه الله تعالى — يميل إلى الرياسة طبعًا، وفيه حدة مزاج، وهي التي كانت سببًا لموته بأجله، رحمه الله تعالى وإيانا.
ومات الصدر المعظم والدستور المكرم الوزير طاهر باشا، ويقال إنه ابن أخت محمد علي باشا، وكان ناظرًا على ديوان الكمرك ببولاق وعلى الخمامير ومصارفه من ذلك، وشرع في عمارة داره التي بالأزبكية بجوار بيت الشرايبي تجاه جامع أزبك على طرف الميري، وهي في الأصل بيت المدني ومحمود حسن، واحترق منه جانب ثم هدم أكثرهما، وخرج بالجدار إلى الرحبة وأخذ منها جانبًا وأدخل فيه بيت رضوان كتخدا الذي يقال له: تلاتة وليه تسمية له باسم العمودين الرخام الملتفين على مكسلتي الباب الخارج، وشيد البناء بخرجات في العلو متعددة، وجعل بابه مثل باب القلعة ووضع في جهتيه العامودين المذكورين، وصارت الدار كأنها قلعة مشيدة في غاية من الفخامة، فما هو إلا أن قارب الإتمام وقد اعتراه المرض فسافر إلى إسكندرية بقصد تبديل الهوا فأقام هناك أيامًا، وتُوُفِّيَ في شهر جمادى الثانية، وأحضروا رمته في أواخر الشهر ودفنوه بمدفنه الذي بناه محل بيت الزعفراني بجوار السيدة بقناطر السباع، وترك ابنًا مراهقًا فأبقاه الباشا على منصب أبيه ونظامه وداره.
ومات الأمير أيوب كتخدا الفلاح، وهو مملوك الأمير مصطفى جاويش تابع صلاح الفلاح، وكان آخر الأعيان المبجلين من جماعة الفلاح المشهورين وله عزوة وأتباع، وبيته مفتوح للواردين، ويحب العلما والصلحا ويتأدب معهم، وكان الباشا يجله ويقبل شفاعته، وكذلك أكابر الدولة في كل عصر، وعلى كل حال كان لا بأس به، تُوُفِّيَ يوم الأربع لعشرين من شهر شعبان وقد جاوز السبعين — رحمه الله تعالى.