ثم دخلت سنة ست وتلاتين ومايتين وألف (١٨٢٠م)
استهل شهر المحرم بيوم الاتنين، وفي أوايله حضر الباشا من إسكندرية.
وفيه من الحوادث أن الشيخ إبراهيم الشهير بباشا المالكي بالإسكندرية قرر في درس الفقه أن ذبيحة أهل الكتاب في حكم الميتة لا يجوز أكلها، وما ورد من إطلاق الآية فإنه قبل أن يغيروا ويبدلوا في كتبهم، فلما سمع فقها الثغر ذلك أنكروه واستغربوه، ثم تكلموا مع الشيخ إبراهيم المذكور وعارضوه، فقال: أنا لم أذكر ذلك بفهمي وعلمي، وإنما تلقيت ذلك عن الشيخ علي الميلي المغربي، وهو رجل عالم متورع موثوق بعلمه.
ثم إنه أرسل إلى شيخه المذكور بمصر يعلمه بالواقع، فألف رسالة في خصوص ذلك وأطنب فيها، فذكر أقوال المشايخ والخلافات في المذاهب، واعتمد قول الإمام الطرشوشي في المنع وعدم الحل، وحشا الرسالة بالحط على علما الوقت وحكامه، وهي نحو التلاتة عشر كراسة، وأرسلها إلى الشيخ إبراهيم فقراها على أهل الثغر، فكثر اللغط والإنكار خصوصًا وأهل الوقت أكثرهم مخالفون للملة.
وانتهى الأمر إلى الباشا فكتب مرسومًا إلى كتخدا بك بمصر، وتقدم إليه بأن يجمع مشايخ الوقت لتحقيق المسألة، وأرسل إليه بالرسالة أيضًا المصنفة، فأحضر كتخدا بك المشايخ وعرض عليهم الأمر، فلطف الشيخ محمد العروسي العبارة وقال: الشيخ علي الميلي رجل من العلما تلقى عن مشايخنا ومشايخهم، لا ينكر علمه وفضله، وهو منعزل عن خلطة الناس إلا أنه حاد المزاج وبعقله بعض خلل، والأولى أن نجتمع به ونتذاكر في غير مجلسكم، وننهي بعد ذلك الأمر إليكم، فاجتمعوا في تاني يوم، وأرسلوا إلى الشيخ علي يدعونه للمناظرة فأبى عن الحضور، وأرسل الجواب مع شخصين من مجاوري المغاربة يقولان: إنه لا يحضر مع الغوغا، بل يكون في مجلس خاص يتناظر فيه مع الشيخ محمد ابن الأمير بحضرة الشيخ حسن القويسني، والشيخ حسن العطار فقط؛ لأن ابن الأمير يناقشه ويشن عليه الغارة، فلما قالا ذلك القول تغير ابن الأمير، وأرعد، وأبرق، وتشاتم بعض من بالمجلس مع الرسل، وعند ذلك أمروا بحبسهما في بيت الأغا، وأمروا الأغا بالذهاب إلى بيت الشيخ علي وإحضاره بالمجلس ولو قهرًا عنه، فركب الأغا وذهب إلى بيت المذكور فوجده قد تغيب، فأخرج زوجته ومن معها من البيت وسمر البيت، فذهبت إلى بيت بعض الجيران.
ثم كتبوا عرضًا محضرًا وذكروا فيه بأن الشيخ علي على خلاف الحق، وأبى عن حضور مجلس العلما والمناظرة معهم في تحقيق المسألة، وهرب واختفى لكونه على خلاف الحق، ولو كان على الحق ما اختفى ولا هرب، والرأي لحضرة الباشا فيه إذا ظهر، وكذلك في الشيخ إبراهيم باشا السكندري، وتمموا العرض وأمضوه بالختوم الكثيرة وأرسلوه إلى الباشا، وبعد أيام أطلقوا الشخصين من حبس الأغا، ورفعوا الختم عن بيت الشيخ علي ورجع أهله إليه.
حضر الباشا إلى مصر في أوايل الشهر، ورسم بنفي الشيخ إبراهيم باشا إلى بني غازي، ولم يظهر الشيخ علي مِن اختفاه.
واستهل شهر صفر بيوم الأربع (سنة ١٢٣٦)
وفي أوايله حضر إبراهيم باشا من الجهة القبلية بعدما طاف الفيوم أيضًا، وأحضر معه جملة أشخاص قبض عليهم من المفسدين من العربان، وهم في الجنازير الحديد، وشقوا بهم البلد ثم حبسوهم.
واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس (سنة ١٢٣٦)
وفي أوايله حضر نحو العشرة أشخاص من الأمرا المصرية البواقي في حالة رثة وضعف وضيم، واحتياج واجتياح، وكانوا أرسلوا وطلبوا الأمان، وأجيبوا إلى ذلك.
وفيه أشهروا العربان الذين أحضرهم إبراهيم باشا معه وقتلوهم؛ وهم أربعة: اثنان بالرميلة واثنان بباب زويلة.
واستهل ربيع التاني بيوم السبت (سنة ١٢٣٦)
وفيه أخرج الباشا عبد الله بك الدرندلي منفيًّا، وكان عبد الله بك هذا يسكن بخطة الخرنفش، وهو رجل فيه سكون قليل الأذى، وملك بتلك الناحية دُورًا وأماكن، وله عزوة وعساكر وأتباع، وكان يجلس بحضرة الباشا وينادمه ويتوسع معه في الكلام والمسامرة، وسبب تغير خاطر الباشا عليه أنه جرى ذكر علي باشا تبه دنلي الأرنؤدي وحروبه، ومخالفة العساكر عليه، فقال عبد الله المذكور: إن العساكر يرون محاربة السلطان معصية أو كلامًا هذا معناه.
فتغير وجه الباشا من ذلك القول، ويقال: إنه أمر بقتله فشفع فيه حسن باشا طاهر من القتل، وأن يخرج منفيًّا، وهكذا أشيع واستفيض، وانضم إلى ذلك أنه قال لشريف بك أمين الخزنة عند تأخر علوفته: خدمة نصراني أحسن من خدمتكم مع المشاجرة، فبلغها شريف بك للباشا أيضًا وأوغر صدره عليه، ودفع له الباشا علوفته وتمن ما حازه من الأماكن والأملاك، ووصله على عدة جمال محملة بالدراهم، وسافر في تامنه على طريق البر، وأبقى حريمه وأثقاله ليأتوه على سفن البحر.
وفي سادس عشره أمر الباشا بقراءة صحيح البخاري بالجامع الأزهر، فاجتمعوا في يوم الاتنين سابع عشره وقروا في الأجزاء على العادة ضحوة النهار وأربعة أيام آخرها الخميس، وفرقوا على أولاد المكاتب دراهم، وكذلك على مجاوري الأزهر في نظير قراءة البخاري.
واستهل شهر جمادى الأولى بيوم الأحد (سنة ١٢٣٦)
فيه حضر إبراهيم باشا، ونزل بقصره الجديد بل قصوره؛ لأنه أنشا عدة قصور متصلة وبساتين ومصانع متصلة متسعة مزخرفة، منها قصر لديوانه وقصر لحريمه، وقصر لخصوص عباس باشا ابن أخيه، وغير ذلك.
واستهل شهر جمادى الثانية بيوم التلات (سنة ١٢٣٦)
فيه عزم إبراهيم باشا على إعادة قياس أراضي قرى مصر، وأحضر من بلاد الصعيد عدة كبيرة من القَيَّاسين نحو الستين شخصًا.
وفي يوم السبت خامسه عدى إلى الجيزة تجاه القصور، وجمع القياسين والمهندسين، وكذلك مهندسي الإفرنج، وقاس كل قياسته وكيفية عمله، فعاند المعلم غالي وأحب تأييد أهل حرفته من قياسي القبط، وقال كلٌّ منهم على الصحيح، وعلم إبراهيم باشا أن قياس المهندسين وأرباب المساحة أصح، ولكنْ فيها بطء، فقال: أريد الصحيح ولكن مع السرعة، بعد أن عمل امتحانًا ومثالًا في قطعة من الأرض يظهر بها برهان الصحة والتفاوت، وأمسى الوقت فأمرهم بالذهاب والرجوع يوم الخميس الآتي، فحضروا كذلك واشتغلوا يومهم بالعمل إلى آخر النهار، ثم اختار من مهندسي الأقباط طايفة وطرد الآخرين.
وسافر في رابع عشره إلى ناحية شرق أطفيح، وأخذ من المهندسخانة كبيرها وصحبته سبعة عشر شخصًا.
وكذلك أشخاصًا من الإفرنج المهندسين، وانتقصوا من القصبة في هذه المرة مقدار قبضة.
واستهل شهر رجب بيوم الخميس (سنة ١٢٣٦)
فيه سافر مماليك الباشا إلى جهة أسيوط مثل العام الماضي ليكرتنوا هناك حذرًا وخوفًا عليهم من حدوث الطاعون بمصر.
وفي سابع عشره ارتحل محمد بك الدفتردار مسافرًا إلى دارفور ببلاد السودان، بعد أن تقدمه طوايف كثيرة عساكر وأتراك ومغاربة.
وفي خامس عشرينه أمر الباشا بنفي محمد المعروف بالدرويش كتخدا محمود بك الذي هو الآن كتخدا بك، والسيد أحمد الرشيدي كاتب الرزق، وسليمان أفندي ناظر المدابغ والجلود تلاتتهم إلى قلعة أبي قير لمقتضيات واهية في خدم مناصبهم، ومحمد كتخدا كان ناظرًا على الجلود في العام الماضي قبل سليمان أفندي المذكور.
وفي أواخره حضر جماعة من المماليك المصرية الذين كانوا بدنقلة، فيهم تلاتة صناجق أحدهم أحمد بك الألفي، وهو زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير.
واستهل شهر شعبان بيوم الجمعة (سنة ١٢٣٦)
في تامنه يوم الجمعة عمل سليمان أغا السلحدار الجمعية بالجامع المعروف بالأحمر، وكان قد تخرب ولم يبقَ به إلا الجدران، فتصدى لعمارته سليمان أغا المذكور وسقفه أيضًا بأفلاق النخيل والجريد والبوص، وأقام له عمدًا من الحجارة وجدَّد منبره وبلاطه وميضاته ومراحيضه وفرشه بالحصر، وعمل به الجمعية في ذلك اليوم واجتمع به عالم كثيرون من الناس، وخطب على منبره الشيخ محمد الأمير، وبعد انقضا الصلاة قرا درسًا وأملى فيه حديث: «من بنى لله مسجدًا»، وبعد انقضا ذلك خلع عليه فروة وكذلك على الشيخ العروسي وعمل لهم شربات سكر.
وفي يوم السبت تالت عشرينه حضر إبراهيم باشا من ناحية شرق أطفيح.
وفي يوم التلات سادس عشرينه سافر بمن معه إلى ناحية شرقية بلبيس.
واستهل شهر رمضان بيوم الأحد (سنة ١٢٣٦)
وعملت الرؤية في تلك الليلة كالعادة، وركب فيها مشايخ الحرف والمحتسب، وأثبتوا رؤية الهلال تلك الليلة بعد مضي أربع ساعات من الليل، ولم يحصل فيه من الحوادث غير تغالي الأتمان وتعاليها بسو فعل السوقة، وإظهار ردي المأكولات وإخفاء جيدها، وقد انقضى بخير.
واستهل شهر شوال بيوم التلات (سنة ١٢٣٦)
في تالته حضرت هجانة من أراضي نجد وبصحبتهم أشخاص من كبار الوهابية مقيدون على الجمال، وهم عمر بن عبد العزيز وأولاده وأبنا عمه؛ وذلك أنهم لما رجعوا إلى الدرعية بعد رحيل إبراهيم باشا وعساكره، وكان معهم مشاري بن مسعود، وقد كانوا هربوا في الدرعية بعدما رحل عنها إبراهيم باشا، وتركي بن عبد الله ابن أخي عبد العزيز وولد عم مسعود الأمشاري، فإنه هرب من العسكر الذين كانوا من أولاد مسعود وجماعتهم حين أرسلهم إبراهيم باشا إلى مصر في الحمرا، وهي قرية بين الجديدة وينبع البحر، وذهب إلى الدرعية واجتمع عليه مَن فرَّ حين قدمت العساكر، وأخذوا في تعميرها، ورجع أكثر أهلها، وقدموا عليهم مشاري، ودعا الناس إلى طاعته فأجابه الكثير منهم، فكادت تتسع دولته وتعظم شوكته.
فلما بلغ الباشا ذلك جهز له عساكر ريسها حسين بك، فأوثقوا مشاري وأرسلوه إلى مصر فمات في الطريق، وأما عمر وأولاده وبنو عمه فتحصنوا في قلعة الرياض المعروفة عند المتقدمين بحجر اليمامة، وبينها وبين الدرعية أربع ساعات للقافلة، فنزل عليهم حسين بك وحاربهم تلاتة أيام أو أربعة، وطلبوا الأمان لما علموا أنهم لا طاقة لهم به، فأعطاهم الأمان على أنفسهم، فخرجوا له إلا تركي، فإنه خرج من القلعة ليلًا وهرب، وأما حسين بك فإنه قيد الجماعة وأرسلهم إلى مصر في الشهر المذكور، وهم الآن مقيمون بمصر بخطة الحنفي قريبًا من بيت جماعتهم الذين أتوا قبل هذا الوقت.
واستهل شهر ذي القعدة بيوم الأربع (سنة ١٢٣٦)
فيه حضر إبراهيم باشا من سرحته بالشرقية بسبب قياس الأراضي والمساحة.
وفي منتصفه سافر الباشا إلى إسكندرية لداعي حركة الأروام وعصيانهم وخروجهم عن الذمة ووقوفهم بمراكب كثيرة العدد بالبحر وقطعهم الطريق على المسافرين واستيصالهم بالذبح والقتل، حتى إنهم أخذوا المراكب الخارجة من إسلامبول وفيها قاضي العسكر المتولي قضا مصر ومن بها أيضًا من السفار والحجاج، فقتلوهم ذبحًا عن آخرهم ومعهم القاضي وحريمه وبناته وجواريه وغير ذلك، وشاع ذلك بالنواحي، وانقطعت السبل، فنزل الباشا إلى إسكندرية وشرع في تشهيل مراكب مساعدة للدونانمة السلطانية، وسيأتي تتمة هذه الحادثة، وبعد سفر الباشا سافر أيضًا إبراهيم باشا إلى ناحية قبلي قاصدًا بلاد النوبة.
واستهل شهر ذي الحجة بيوم الجمعة (سنة ١٢٣٦)
فيه خرجت عساكر كثيرة ومعهم ريساهم وفيهم محو بك ومغاربة وآلات الحرب كالمدافع وجبخانات البارود واللغمجية وجميع اللوازم قاصدين بلاد النوبة، وما جاورها من بلاد السودان.
وفيه سافر أيضًا محمد كتخدا لاظ المنفصل عن الكتخداية إلى إسنا ليتلقى القادمين ويشيع الذاهبين.
وفيه وصلت بشاير من جهة قبلي باستيلا إسماعيل باشا على سنار بغير حرب، ودخول أهلها تحت الطاعة، فضربت لتلك الأخبار مدافع من القلعة.
وانقضت هذه السنة، وما تجدد بها من الحوادث انقضى بعضها والبعض باق الآن.
فمنها توقف زيادة النيل؛ وذلك أنه لم يستتم أذرع الوفا إلى تامن عشر مسرى القبطي، حتى ضجر الناس وضج الفلاحون.
ومنها أمر المعاملة التي زادت زيادة فاحشة، حتى بلغ البندقي ألفًا ومايتي نصف، والمجر والفندقلي عشرين قرشًا عنها تمانماية نصف، وبلغ صرف الريال الفرانسة أربعة عشر قرشًا عنها خمسماية نصف وستون نصفًا، وقس على ذلك باقي الأصناف.
ومنها غلو الأتمان في جميع المبيعات من ملبوسات ومأكولات والغلال، حتى وصل الأردب إلى ألف وخمسماية نصف، والرطل السمن إلى خمسين نصفًا وإلى تسعين نصفًا، وقس على ذلك.
وأما حادثة الأروام التي هي باقية إلى الآن، وما وقع منهم من الإفساد وقطع الطريق على المسافرين، واستيلاهم على كل ما صادفوه من مراكب المسلمين، وخروجهم عن الذمة وعصيانهم، وما وقع معهم من الوقايع، وما سينتهي حاله إليه، فسيتلى عليك — إن شاء الله تعالى — بكمالة الجزء الآتي بعد ذلك، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.