عدا الحاصدين
كانت اللعبة التي يلعبانها هي نفسها تقريبًا اللعبة التي كانت إيف تلعبها مع ابنتها صوفي أثناء سفرياتهما الطويلة والمملة بالسيارة، عندما كانت صوفي فتاة صغيرة. وقتها، كانت تسمَّى لعبة الجواسيس، أما الآن فتسمَّى لعبة الكائنات الفضائية. كان صغيرَيْ صوفي، فيليب وديزي، يجلسان في مقعد السيارة الخلفي. ديزي لم تتجاوز السنوات الثلاث ولا تكاد تدرك ما يجري، أما فيليب ففي السابعة، وكان يسيطر على مجريات الأمور؛ فكان هو من اختار السيارة التي سيتبعانها وكانت — في اللعبة — تقلُّ مسافرين عبر الفضاء وصلوا لتوِّهم وكانوا في طريقهم إلى المقر السري؛ عرين الغزاة. كان المسافرون يعرفون الاتجاهات من الإشارات التي يلوِّح بها بعض الأفراد مقبولي الشكل من سياراتهم أو من شخص يقف بجانب صندوق بريد أو من شخص يقود جرارًا زراعيًّا في حقل. كثيرٌ من الكائنات الفضائية قد وصل بالفعل كوكب الأرض وجرت لهم عمليات التحويل — كما قال فيليب — ولهذا يمكن أن يكون أيٌّ ممن حولهما كائنًا فضائيًّا؛ كعمال محطة الوقود أو السيدات اللاتي يدفعن أمامهن عربات الأطفال أو حتى الرُّضع داخل عرباتهم؛ جميعهم يمكن أن يكونوا يرسلون إشارات.
عادةً ما كانت إيف وصوفي تلعبان هذه اللعبة على طريق سريع مزدحم، حيث يكون هناك زحام مروري كافٍ يحول دون اكتشاف مراقبتهما (بالرغم من أنهما ذات مرة حادتا عن طريقهما، فوجدتا نفسيهما على الطريق في اتجاه إحدى الضواحي). لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة على الطرق الزراعية التي قطعتها إيف في ذاك اليوم؛ فحاولت أن تحلَّ هذه المشكلة بنصحهما بأن يغيِّرا المركبة التي يتتبعانها إلى مركبة أخرى؛ لأن الهدف من بعض تلك المركبات هو خداعهما، حيث لا تتجه إلى المقر السري وإنما تضللهما فحسب.
قال فيليب: «كلا، ليس صحيحًا؛ فهم يقومون بسَحْب الناس من سيارة لأخرى تحسبًا لأن يكون هناك من يتبعها. فقد يكونون في جسد ما ثم يُسحبون ببطء شديد عبر الهواء إلى جسد آخر في سيارة أخرى. ولا يزالون يدخلون في أجساد مختلفة طوال الوقت دون أن يعرف الناس ما حلَّ بهم.»
قالت إيف: «حقًّا؟ لكن أنَّى لنا أن نعرف أي سيارة يستقلونها؟»
قال فيليب: «كود السيارة موجود على اللوحة المعدنية، لكنه يتغير عن طريق الحقل الكهربائي الذي تُنشئه الكائنات داخل السيارة، حتى يتسنَّى للمتعقبين في الفضاء تتبُّعهم. إنه مجرد شيء بسيط لكنني لا أستطيع أن أخبركِ إياه.»
قالت إيف: «حسنًا، لا تفعل. أعتقد أن قليلًا من الناس يعرفونه.»
قال فيليب: «إنني الوحيد في أونتاريو الذي يعرفه.»
كان يجلس حانيًا ظهره للأمام بشدة ورابطًا حزام مقعده، وأحيانًا تصطك أسنانه وهو يركز، ويُصدر أصوات صفير خافتة وهو ينبِّه إيف.
قال: «أوه أوه، انتبهي. أعتقد أن عليك الانعطاف. نعم، نعم. أعتقد ذلك.»
كانوا يتبعون سيارة مازدا بيضاء، وفيما يبدو، عليهم الآن تتبع سيارة شحن خضراء، ماركة فورد. سألته إيف: «هل أنت متأكد؟»
«بالطبع.»
«هل شعرت بهم وهم يُسحبون في الهواء إلى هذه السيارة؟»
قال فيليب: «إنهم يتبدَّلون في وقت واحد من صورة لأخرى. ربما أكون قد قلت «يُسحبون»، لكني ما فعلت هذا إلا ليفهمني الآخرون.»
في البداية، كانت إيف تخطط لأن يكون المقر الرئيسي للكائنات الفضائية هو متجر البلدة الذي يباع فيه الآيس كريم أو الملعب. ويمكن الكشف عن أن جميع الفضائيين يجتمعون هناك في صورة أطفال تغريهم متع تناول الآيس كريم أو اللعب على الزحاليق والأرجوحات، مع تعليق قواهم مؤقتًا. ولا خوف من أن يخطفك هؤلاء الفضائيون — أو يدخلوا جسدك — إلا إذا اخترت نكهة الآيس كريم الخاطئة، أو تأرجحت على أرجوحة معينة لعدد مرات غير محدد لك (لا بد أن يكون هناك خطر ما آخر، وإلا فسيشعر فيليب بالإحباط والخزي). لكن فيليب تولَّى مهمته بالكامل، لدرجة أنه صار من الصعب التحكم في النتائج. كانت سيارة الشحن الآن تنحرف عن الطريق الزراعي السريع الممهد إلى الطريق الجانبي المغطى بالحصى؛ وكانت سيارة شحن بالية غير مغطاة، أكل الصدأ أجزاءها؛ ولهذا فلن تذهب بعيدًا. الأرجح أنها متجهة لمزرعة ما؛ وقد لا يقابلون أي مركبة أخرى لتتبعها قبل أن يصلوا لوجهتهم.
قالت إيف: «هل أنت واثق من هذا؟ إنه رجل واحد فحسب ليس بصحبته أحد. فأنت تعلم أنهم لا يسافرون بمفردهم.»
قال فيليب: «معه كلب.»
كان هناك كلب في مؤخرة السيارة المكشوفة، يجري من جانب لآخر وكأن هناك أحداثًا تجري عليه أن يتابعها.
قال فيليب: «الكلب واحد منهم أيضًا.»
•••
في صباح ذلك اليوم، عندما غادرت صوفي لتقابل إيان في مطار تورونتو، أبقى فيليب ديزي منشغلة في غرفة الأطفال. تأقلمت ديزي كثيرًا مع ذاك البيت الغريب — فيما عدا أنها كانت تبلِّل فراشها كل ليلة من ليالي الإجازة — لكن تلك كانت المرة الأولى التي تتركها فيها أمها وتخرج؛ لذا فقد طلبت صوفي من فيليب أن يلهيها، وهو ما فعله بحماس (أكان سعيدًا بالمنحى الجديد الذي اتخذته الأمور؟) أخذ يدفع السيارات اللعبة بشدة على الأرضية حتى تغطي أصواتها المزعجة صوت تشغيل محرك السيارة التي استأجرتها صوفي وهي تقودها مبتعدة. وبعدها بفترة قصيرة صاح قائلًا لإيف: «هل ذهبت «أ. ح.» الآن؟»
كانت إيف في المطبخ تنظف ما خلَّفه الإفطار من فتات وغيره، وتفكِّر فيما ستفعل بعد ذلك. فدخلت إلى غرفة المعيشة، ورأت شريط فيديو داخل علبته، وكان لفيلم شاهدته مع صوفي الليلة الماضية.
«جسور مقاطعة ماديسون.»
قالت ديزي: «ماذا تعني «أ. ح.»؟»
كانت حجرة الأطفال متصلة بحجرة المعيشة؛ فقد كان المنزل صغيرًا وضيقًا ويشتمل على أثاث رخيص نظرًا لأنه يُستأجر فترة الصيف. وكانت إيف قد فكرت في استئجار كوخ على ضفة البحيرة لقضاء الإجازة. وكانت تلك هي المرة الأولى لقضاء الإجازة مع صوفي وفيليب منذ خمس سنوات تقريبًا، وكذلك أولى المرات على الإطلاق مع ديزي. وقد اختارت هذا الجزء من شاطئ بحيرة هورون؛ لأن والديها كانا يُحضِرانها إلى هذا المكان مع شقيقها عندما كانا في مرحلة الطفولة. لكن الآن تغيرت الأحوال؛ فصارت كل الأكواخ قوية البناء شأنها شأن المنازل الحضرية، وصارت الإيجارات عالية جدًّا. كان المنزل يقع في قلب البلدة على بُعد نصف ميل من المنطقة الصخرية — التي ما كان أحد ليفضِّل السكن فيها — شمال الشاطئ الذي كان من الملائم ارتياده، لكنه كان أفضل مكان تستطيع أن تجده. وكان يقع في منتصف حقل ذرة؛ ولذا أخبرت الطفلين بما ذكره لها أبوها من قبل؛ أن بإمكانهم ليلًا سماع صوت الذرة وهي تنمو.
وكل يوم، عندما تأتي صوفي بملاءات ديزي — التي تغسلها بيديها — من على حبال الغسيل، كانت تنفض حشرات الذرة من عليها.
قال فيليب وهو ينظر لإيف نظرة تحدٍّ ماكرة: «تعني «الأداة الحربية».»
توقفت إيف عند مدخل الباب. وفي الليلة الماضية، كانت قد رأت مع صوفي ميرِل ستريب وهي تجلس في شاحنة زوجها تحت المطر؛ تضغط بيديها على مقبض الباب، ويخنقها الشوق بينما يقود حبيبها سيارته مبتعدًا. ثم استدارت كلٌّ منهما إلى الأخرى، وكانت أعينهما مغرورقة بالدمع، فهزَّتا رأسيهما وشرعتا في الضحك.
قال فيليب بلهجة استرضائية: «وتعني أيضًا «الأم الحنون». أحيانًا يسميها أبي هذا الاسم.»
قالت إيف: «حسنًا. إذا كان هذا هو ما تسأل عنه، فالإجابة هي نعم.»
تساءلت بينها وبين نفسها عما إذا كان فيليب يعتقد أن إيان هو والده الحقيقي. لم تسأل صوفي عما قالت له هي وإيان، ولم تكن لتسأل عن هذا بالطبع. كان والده الحقيقي رجلًا أيرلنديًّا كثير الأسفار حول أمريكا الشمالية محاولًا أن يقرر مصيره بعد أن قرر أنه لن يصبح قسًّا. كانت إيف تفكر فيه كصديق عابر لصوفي، وقد بدا أن صوفي فكرت به بنفس الطريقة أيضًا إلى أن أغوته (قالت: «كان شديد الخجل، حتى إنني ما ظننت قط أن هذا قد يحدث»)، ولم تستطع إيف أن تتصور ملامح فيليب إلا بعد أن رأته، وحينها رأته صورة طبق الأصل من أبيه؛ صبيًّا أيرلنديًّا ذا عينين لامعتين، متحذلقًا، حساسًا، هازئًا، متصيدًا للأخطاء، متورِّد الوجنتين، خجولًا، مجادلًا. قالت إنه يشبه صمويل بيكيت، حتى في تجاعيده، لكنَّ الطفل الآن أكبر سنًّا فتلاشت التجاعيد.
كانت صوفي في ذلك الحين طالبة متفرغة تمامًا لدراسة علم الآثار، وكانت إيف تعتني بفيليب عندما تحضر صوفي المحاضرات. وكانت إيف ممثلة — ولا تزال تمثل حين تتاح لها الفرصة — وحتى في الأيام التي لم تكن تعمل فيها أو كانت بروفات العمل نهارًا، كانت تصطحب فيليب. ظلوا يعيشون معًا عامين — إيف وصوفي وفيليب — في شقة إيف في تورونتو، وكانت إيف هي التي تجرُّ فيليب في عربة الرُّضَّع — وبعدها في عربة الأطفال الصغار — بين شارع كوين والجامعة، وشارع سبادينا وشارع أوسينجتون. وخلال تلك النزهات، اكتشفت منزلًا صغيرًا ممتازًا — مع أنه بدا عليه عدم الاعتناء به — معروضًا للبيع في شارع مسدود لم تكن تعرفه من قبل، يبعد عن بيتها بمربعين سكنيين، وتحفُّه الأشجار. أرسلت صوفي لتعاينه، بل وذهبتا معًا وتفقَّدتاه مع وكيل عقارات، وتحدثتا معه عن شرائه بنظام الرهن العقاري، وعن التجديدات التي ستتحملان ثمنها، وأيٍّ منها يمكنهما فعله بنفسيهما. تارة تترددان وتارة تغرقان في الخيالات إلى أن بيع المنزل لمشترٍ آخر، أو إلى أن تملَّكت إيف نوبةٌ من البخل الشديد التي كانت تنتابها بين الحين والآخر، أو إلى أن أقنعهما أحدهم أن هذه الشوارع الجانبية الضيقة اللطيفة لن توفر لهم — كسيدتين وطفل — الدرجة نفسها من الأمان التي يوفرها مثل ذلك الشارع الحيوي المزعج الصاخب الذي ظلوا يعيشون في أحد منازله.
أما إيان، فلم تكن إيف توليه نفس الاهتمام الذي كانت توليه للشاب الأيرلندي. كان مجرد صديق، ولم يأتِ مطلقًا إلى الشقة إلا بصحبة الآخرين. لكنه سافر ليعمل بوظيفة في كاليفورنيا — كان عالم جغرافيا مدنية — ولذا ارتفعت قيمة فاتورة الهاتف، وهو ما حتَّم على إيف أن تتحدث مع صوفي بهذا الشأن، وتسبَّب هذا في تغيُّر الحالة العامة في الشقة (هل كان من الأفضل ألا تطرح إيف موضوع فاتورة الهاتف؟) وسرعان ما تم التخطيط لزيارة لكاليفورنيا — بعد أن سافر — فاصطحبت صوفي فيليب معها؛ لأن إيف كانت تؤدي دورًا في مسرحية صيفية على المسرح المحلي.
لم يمضِ وقت طويل بعدها حتى تواردت الأخبار من كاليفورنيا بأن صوفي وإيان سيتزوجان.
قالت لها إيف عبر الهاتف من النُّزُل الذي كانت تقيم فيه: «أليس من الحكمة أن تجرِّبا العيش معًا بعض الوقت؟» فقالت لها صوفي: «أوه، كلا إنه غريب، لا يؤمن بذلك.»
قالت إيف: «لكنني لا أستطيع أن أترك المسرحية من أجل حضور العرس، فالعرض سيستمر حتى منتصف سبتمبر.»
قالت صوفي: «لا بأس؛ فلن يكون عرسًا بمعنى الكلمة.»
ولم تَرَها إيف بعدها حتى هذا الصيف. في البداية كانت كلتاهما في حاجة ماسة إلى المال. عندما كانت إيف تعمل، كان لديها حس دائم بالالتزام نحو ابنتها، لكن عندما توقفت عن العمل لم تَعُد تستطيع أن تتحمَّل أي نفقات إضافية؛ فسرعان ما التحقت صوفي هي الأخرى بوظيفة؛ عملت موظفة استقبال في عيادة أحد الأطباء. وذات مرة، كادت إيف أن تحجز تذكرة طيران عندما هاتفتها صوفي قائلة إن والد إيان قد مات، وإن إيان سيسافر جوًّا إلى إنجلترا كي يحضر الجنازة ويعود بأمه إلى كاليفورنيا.
قالت: «وليس لدينا سوى غرفة واحدة.»
قالت إيف: «يا لها من فكرة مفزعة! اثنتان من الحموات في منزل واحد، فضلًا عن غرفة واحدة.»
قالت صوفي: «ربما بعد أن ترحل.»
لكن أم إيان ظلت في المنزل حتى وُلدت ديزي، بل ظلت حتى انتقلوا إلى المنزل الجديد؛ أي ثمانية أشهر إجمالًا. في ذلك الوقت، كان إيان قد بدأ في تأليف كتابه، وما كان سيتيسر هذا مع وجود زوار في البيت. لم يكن أمرًا يسيرًا على أي حال. وبذلك، ولَّى الوقت الذي شعرت فيه إيف أنها واثقة بنفسها بما يكفي لأن تدعو نفسها إلى زيارة بيتهم. وانتهى الأمر بأن أرسلت صوفي لها صورًا لديزي وللحديقة ولجميع غرف المنزل.
وبعد ذلك، أعربت صوفي عن نيتهم — هي وفيليب وديزي — العودة إلى أونتاريو في هذا الصيف؛ سيقضون ثلاثة أسابيع مع إيف، بينما يعمل إيان في كاليفورنيا بمفرده. ومع نهاية الأسابيع الثلاثة، سيلحق بهم إيان، ويسافرون جوًّا من تورونتو إلى إنجلترا ليقضوا شهرًا مع أمه.
قالت إيف: «سأستأجر كوخًا على شاطئ البحيرة. كم سيكون هذا رائعًا!»
قالت صوفي: «بالفعل، لم أَرَك منذ فترة طويلة جدًّا.»
وهكذا جرت الأمور؛ وكانت رائعة بحق كما ظنَّت إيف. لم يبدُ أن صوفي انزعجت أو اندهشت من أن ديزي تبلِّل فراشها. أما فيليب، فظل مهذبًا ومتحفظًا بضعة أيام، كما كان رد فعله لطيفًا عندما أخبرته إيف بأنها تعرفه منذ أن كان رضيعًا، لكنه كان يشكو من البعوض الذي يهاجمهم وهم يسرعون عبر غابة الأشجار المتراصة على الساحل في اتجاه الشاطئ. أراد الذهاب إلى تورونتو ليزور المركز العلمي، لكنه ما لبث أن هدأ وبدأ يسبح في البحيرة دون أن يشكو من برودة مياهها. وبعدها شغل نفسه ببعض المشاريع التي كان ينفذها بمفرده؛ مثل سلق سلحفاة ميتة — كان قد أتى بها إلى المنزل — وكشط لحمها حتى يستطيع أن يحتفظ بصدفتها. وكان بطن السلحفاة الميتة يحتوي على جراد بحر غير مهضوم، كما أن صدفتها تكسَّرت إلى أجزاء؛ لكن أيًّا من هذا لم يفزعه.
في تلك الآونة، وضعت إيف وصوفي نظامًا ممتعًا، حيث أداء المهام اليومية صباحًا، وقضاء فترة بعد الظهر على الشاطئ، واحتساء النبيذ مع العشاء، ومشاهدة الأفلام في ساعات متأخرة من المساء. كما انشغلتا ببعض الأفكار غير الجادة قليلًا بشأن المنزل: ماذا عسانا أن نفعل فيه؟ أولًا ننزع ورق الحائط عن جدران غرفة المعيشة — وكان نقشُهُ يشبه الخشب — وننزع مشمع الأرضية المرسومة عليه أشكالٌ سخيفة من زهور الزنبقة الذهبية التي استحالت بُنِّيَّة بفعل الرمال المتشبثة به وماء المسح المتسخ. انهمكت صوفي في الأمر بحماس، حتى إنها نزعت جزءًا متعفنًا منه أمام الحوض، ووجدت تحته ألواحًا من خشب الصنوبر في حاجة إلى السنفرة. وأخذتا تتكلمان أيضًا عن تكلفة استئجار ماكينة سنفرة (بافتراض أن المنزل صار ملكهما) وعن الألوان التي ستختارانها لطلاء الأبواب وخشب المنزل، كمصاريع النوافذ والأرفف المكشوفة في المطبخ، مع تجاهل الخزانات المتسخة المصنوعة من الخشب الرقائقي. ماذا عن موقد يعمل بالغاز؟
تُرى مَن سيعيش في هذا المكان؟ إنها إيف؛ فالمتزلجون على الجليد — باستخدام الزلاقات الآلية — الذين عاشوا في هذا المنزل باعتباره ناديًا شتويًّا، كانوا يشيدون مبنًى خاصًّا بهم لهذا الغرض في تلك الآونة، وبالطبع سيُسر مالك المنزل إذا ما أجَّره طوال العام، أو قد يبيعه بثمن بخس بسبب حالته الرثَّة. ويمكن أن يكون منتجعًا للاسترخاء، إذا ما حصلت إيف على الوظيفة التي تأملها في الشتاء القادم. وإذا لم تحصل عليها، فلِمَ لا تؤجِّر الشقة من الباطن وتعيش فيها؟ سيختلف الإيجار، وكذلك قيمة معاش كبار السن الذي بدأت تتقاضاه في أكتوبر، والنقود التي ما زالت تحصِّلها من إعلان روَّجت فيه — باعتبارها ممثلة — لمكمل غذائي. وبذلك يمكنها أن تتدبَّر أمرها.
قالت صوفي: «وحين نأتي في الصيف، يمكننا أن نسهم في الإيجار.»
سمعهما فيليب، فقال: «كل صيف؟»
قالت صوفي: «أرى أنك أحببت البحيرة. لقد أحببت المكان.»
قالت إيف: «كما أن البعوض لا يكون بهذا السوء كل عام، عادةً لا يحدث هذا إلا في بداية الصيف، في شهر يونيو، قبل أن تصلوا؛ إذ تتكون مستنقعات كثيرة في الربيع — وتكون موحلة — فينمو حولها البعوض، ثم تجفُّ تمامًا من الماء فيختفي البعوض. أما هذه السنة، فقد هطلت أمطار كثيرة، ولم تجفَّ المستنقعات بالكامل، فنال البعوض فرصة ثانية ونما جيل جديد.»
اكتشفت إيف كم يحترم فيليب المعلومات التي ذكرتها، وفضَّلها على آرائها وذكرياتها.
لم تكن صوفي مولعة بالذكريات بالمثل؛ وكلما جاء ذكر الماضي الذي يجمعها بإيف — حتى خلال تلك الأشهر التي أعقبت ميلاد فيليب والتي كانت تراها إيف أسعد وأصعب وألطف الأوقات وأكثرها إثمارًا في حياتها — كان وجه صوفي يكتسي بنظرة جادة تُضمر شيئًا ما خفيًّا عن قول تُسِرُّه في نفسها ولا يكاد يتحرر من قبضتها عليه. أما الماضي الأبعد، حيث طفولة صوفي، فكان يتطلب الحذر ولكن على نحو إيجابي — كما اكتشفت إيف — بينما كانتا تتحدثان عن مدرسة فيليب. وفيما يتعلق بالمدرسة، كانت صوفي ترى أنها صارمة نوعًا ما، لكن إيان لم تكن له تحفظات عليها.
قالت إيف: «يا لها من طفرة! اختلاف كبير عن بلاك بيرد.» فقالت صوفي على الفور وبلهجة تكاد تكون عنيفة: «أوه، بلاك بيرد! إنها لمهزلة أن أفكر أنكِ دفعتِ تكلفة تعليمي في بلاك بيرد. دفعتِ أموالك مقابل خدماتها.»
بلاك بيرد مدرسة بديلة ارتادتها صوفي، ولم يكن الطلاب يلتحقون فيها بسنوات دراسية وإنما بمجموعات وفقًا لتقييم المدرسين لهم (واسم المدرسة مستوحًى من ترنيمة «أشرق الصباح»). كلَّفت هذه المدرسة إيف أكثر مما تطيق، لكنها كانت تعتقد أنها هي الخيار الأفضل لفتاة تعمل أمها ممثلة وأبوها غير موجود في الصورة. وعندما كانت صوفي في التاسعة أو العاشرة من عمرها، أُغلقت المدرسة بسبب خلافات وقعت بين أولياء الأمور.
قالت صوفي: «درستُ الأساطير اليونانية ولم أعرف أين هي اليونان، بل إنني لم أعرف ما هي. وكنا نقضي حلقة الفنون في صنع شارات مناهضة لاستخدام الأسلحة النووية.»
قالت إيف: «أوه، لم يحدث هذا بالطبع.»
«بل حدث، وكانوا يتحرشون بنا لفظيًّا — تحرشوا بنا بالفعل — كي نتحدث عن الجنس. كان تحرشًا لفظيًّا، وكنتِ تدفعين مقابل هذا.»
«لم أكن أعرف أنها بهذا السوء.»
قالت صوفي: «على كلٍّ فقد نجوتُ بنفسي.»
قالت إيف بارتجافة: «هذا هو المهم، أن تنجي بنفسك.»
•••
كان والد صوفي من ولاية كيرلا التي تقع في الشطر الجنوبي من الهند. قابلته إيف وأمضت كل وقتها معه على متن قطار مسافر من فانكوفر إلى تورونتو. كان طبيبًا شابًّا يدرس في كندا للحصول على درجة الزمالة، وكان متزوجًا وله طفلة في موطنه بالهند.
استغرقت رحلة القطار ثلاثة أيام، وعندما توقف مدة نصف ساعة في كالجاري، هرعت إيف والطبيب باحثَيْن عن صيدلية كي يبتاعا منها واقيات ذكرية، لكنهما لم ينجحا في سعيهما. وعندما وصلا وينيبيج — حيث توقف القطار مرة أخرى مدة ساعة كاملة — كان الأوان قد فات. والواقع — كما ذكرت إيف كلما روت قصتهما — أن الأوان قد فات بمجرد تجاوز القطار حدود مدينة كالجاري.
كان الطبيب يستقل عربة قطار عادية؛ فلم تكن منحة الزمالة مجزية للغاية. أما إيف، فكانت مسرفة في هذه الرحلة واستأجرت لنفسها قُمرة خاصة. كان هذا الإسراف — الذي اتُّخذ قراره في اللحظات الأخيرة — وما وفَّرته القُمرة من راحة وخصوصية، هما السببان الأساسيان في وجود صوفي وفي أكبر تغيير طرأ على حياة إيف. هذا بالإضافة إلى أنه ليس بإمكان أحد أن يبتاع واقيات ذكرية من أي مكان بالقرب من محطة كالجاري تحت أي ظرف من الظروف.
وعندما وصلا محطة تورونتو، لوَّحت بيدها مودعةً حبيبها القادم من كيرلا — كما يودِّع أي أحد شخصًا عرفه في القطار — فقد قابلت لتوِّها رجلًا أضحى في ذلك الوقت اهتمامها الرئيسي ومشكلة حياتها الأساسية. كانت اهتزازات وتمايلات القطار هي العلامة التي ميزت الأيام الثلاثة التي استغرقها القطار في رحلته، حتى إن الحركات الجنسية كانت تلقائية وغير متعمدة على الإطلاق، وربما لهذا استسلما لها — فيما يبدو — ولم يصاحبهما أي شعور بالذنب. ولا بد أن شعورهما وحديثهما قد تأثرا بالمثل بهذه التلقائية؛ فقد كانت إيف تتذكر كم كانت هذه المشاعر والأحاديث عذبة وسخية، غير تقليدية أو فاترة. فمن الصعب أن تكون تقليديًّا عندما تتعامل مع أبعاد ومقاييس قمرة قطار.
أخبرت إيف صوفي باسم والدها الذي عُمِّد به — وهو توماس؛ تيمنًا بالقديس — ولم تكن إيف تعرف أن هناك مسيحيين في جنوب الهند قبل أن تقابله. وحين كانت صوفي دون العشرين، شُغلت لبعض الوقت بولاية كيرلا؛ إذ كانت تأتي بكتب من المكتبة عن هذه الولاية إلى المنزل، واعتادت أن تذهب إلى الحفلات مرتدية الساري. وعندما كبرت قليلًا، كانت تتحدث عن الذهاب إلى هناك للبحث عن أبيها، وبدا لها أن معرفتها باسمه الأول وبتخصصه — أمراض الدم — كافية لأن تجده. لكن إيف أكدت لها أن عدد سكان الهند هائل، وأنه من الممكن ألا يكون قد استقر هناك، غير أن ما لم تستطع أن تشرحه لها هو كم سيكون وجودها عرضيًّا بكل تأكيد، وغير محتمل بالمرة، في حياة والدها. ولحسن الحظ، تبخَّرت هذه الفكرة من ذهن الفتاة، وتوقفت عن ارتداء الساري بعدما شاعت تلك الأزياء المثيرة العرقية في كل مكان. ولم تذكر أبيها بعدها إلا حين حملت لأول مرة؛ متندرةً على الحفاظ على تقاليد العائلة بخصوص غياب الآباء.
•••
لكن الآن لا مجال لهذه النكات؛ فقد نضجت صوفي وصارت تتصف بالرقي والأنوثة المتحفظة. وذات مرة — بينما كانوا يتوغلون في غابة الأشجار بالقرب من الشاطئ للوصول إليه — انحنت صوفي لتحمل ديزي من الأرض كي يتحركوا بسرعة أكبر مبتعدين عن البعوض. وحينها انبهرت إيف بمقومات الجمال التي طرأت على ابنتها مؤخرًا؛ جمال فائق هادئ بسيط، ليس نتاج العناية به أو استخدام مستحضرات التجميل، وإنما نتاج إيثارها وانغماسها في الواجبات. أمست تبدو أكثر ميلًا لملامح الهنود، فقد أكسبت شمس كاليفورنيا بشرتها الخمرية سُمرةً أغمق، وظهرت تحت عينيها هالات من أثر إرهاق بسيط ومتواصل.
لكنها ظلت سبَّاحة ماهرة؛ فالسباحة هي الرياضة الوحيدة التي اهتمت بها على الإطلاق. لم يتغيَّر مستواها بمرور الوقت، وكانت تسبح باتجاه منتصف البحيرة — فيما يبدو — أثناء هذه الزيارة. وفي أول يوم سبحت فيه، قالت: «كان هذا رائعًا، غمرني شعور قوي بالحرية.» لم يكن السبب وراء قولها هذا أن إيف كانت تعتني بطفلَيْها؛ مما منحها هذا الشعور بالحرية؛ إذ أدركت إيف أن ابنتها ليست في حاجة للإقرار بذلك. وقالت إيف: «إنني سعيدة»؛ مع أنها في الواقع كانت تشعر بالخوف الشديد عليها، فأخذت تناديها مرات ومرات خلال السباحة بينها وبين نفسها: استديري الآن وارجعي. لكن صوفي استمرت في السباحة متجاهلةً تلك الرسالة التخاطرية الملحة. وتبدَّى رأسها الأسود أمام ناظرَي إيف كبقعة في الماء، ثم كأثر بقعة، ثم كسراب تتقاذفه الأمواج المتلاطمة. لم يكن ما خشيته إيف ولم تستطع التفكير فيه هو تداعي قوتها، وإنما رغبتها في العودة؛ وكأن صوفي الجديدة — تلك المرأة الناضجة التي تقيدها المسئوليات — لا تكترث بحياتها أكثر من الفتاة التي تعرفها إيف؛ صوفي الصغيرة التي تعج حياتها بالمخاطر والرومانسية والأحداث الدرامية.
•••
قالت إيف لفيليب: «علينا أن نعيد شريط الفيديو الذي استأجرناه إلى المتجر.»
«ربما علينا فعل ذلك قبل أن نذهب إلى الشاطئ.»
قال فيليب: «لقد سئمت الشاطئ.»
لم تكن إيف ترغب في الجدال؛ فبعد أن ذهبت صوفي وتبدَّلت كل الخطط — لأنهم سيرحلون، كلهم سيرحلون اليوم بعد ساعات — شعرت هي الأخرى أنها سئمت الشاطئ، وسئمت البيت أيضًا، وكل ما رأته الآن هو الصورة التي ستبدو عليها الحجرة غدًا. ستُلملم أقلام الشمع الملونة والسيارات اللعبة والقطع الكبيرة المكونة للعبة الألغاز المبسطة الخاصة بديزي، وتُحزم في الأمتعة، وترحل هي الأخرى. ستختفي القصص التي حفظتها عن ظهر قلب. لن تُجفف الملاءات على عتبة النافذة، وستبقى إيف بمفردها ثمانية عشر يومًا أخرى في هذا المكان.
قالت: «ما رأيك في الذهاب اليوم إلى مكان آخر؟»
قال فيليب: «إلى أين؟»
«دعني أفاجئك.»
•••
في اليوم السابق ليوم الرحيل، أتت إيف من القرية محمَّلة بالمؤن — وقد صار متجر القرية كبيرًا وأنيقًا هذه الأيام، وصار بإمكانك العثور فيه على كل متطلباتك — فابتاعت جمبري طازجًا لصوفي، وقهوة ونبيذًا وخبز الجاودار الخالي من بذور الكراوية؛ لأن فيليب لا يحب مذاق الكراوية، وبطيخة طازجة، والكرز الأسود الذي يحبونه جميعًا — مع الحذر من أن تبتلع ديزي بذوره — وعلبة آيس كريم بنكهة الفدج والموكا، بالإضافة إلى الأشياء المعتادة الأخرى التي تكفي أسبوعًا آخر.
فصاحت صوفي وهي تنظف ما خلَّفه الأطفال من فتات وغيره أثناء تناول وجبة الغداء: «أوه، ماذا سنفعل بكل هذه الأشياء؟»
قالت إن إيان اتصل هاتفيًّا ليخبرها بأنه سيحضر إلى تورونتو غدًا جوًّا؛ لقد أحرز تقدمًا في كتابه على نحو أسرع مما توقع، ما دفعه إلى تغيير خطته. فلن ينتظر حتى نهاية الأسابيع الثلاثة، وإنما سيأتي غدًا ليصطحب صوفي والطفلين في رحلة قصيرة. كان يريد أن يذهب إلى مدينة كيبيك؛ فهو لم يَزُرها من قبل، وجال بخاطره أنه يجدر بالأطفال أن يزوروا ذاك الجزء الكندي الذي يتحدث سكانه الفرنسية.
قال فيليب: «لقد شعر بالوحدة.»
فضحكت صوفي وقالت: «نعم، افتقدنا.»
دار بخلد إيف أن اثني عشر يومًا قد مضت؛ اثني عشر يومًا من الأسابيع الثلاثة، لكنها استأجرت المنزل شهرًا كاملًا. أما عن شقتها، فتركتها لصديقها ديف ليعيش فيها خلال هذا الشهر، وكان هو أيضًا ممثلًا عاطلًا عن العمل، وكان محفوفًا بمخاطر مالية جمة — حقيقية أو متخيلة — حتى إنه كان يجيب الهاتف مغيرًا صوته بأكثر من نبرة. كانت إيف مولعة بديف، لكنها لا تستطيع العودة إلى شقتها ومشاركته إياها.
قالت صوفي إنهم سيستأجرون سيارة ليذهبوا بها إلى كيبيك، ثم سيستقلونها إلى مطار تورونتو مباشرةً، ومن هناك ستُعاد السيارة حيث أخذوها. لم تذكر أي شيء بخصوص ذهاب إيف معهم؛ فلم يكن هناك متسع في السيارة المستأجرة. لكن أليس بإمكانها أن تقود سيارتها الخاصة؟ من الممكن أن يركب فيليب معها ليؤنس وحدتها، أو ربما صوفي. فمن الممكن أن يصطحب إيان الطفلين — إذا كان يفتقدهما بشدة — ويترك صوفي مع إيف لتنال قسطًا من الراحة بعيدًا عن الطفلين. وقد تذهب إيف وصوفي معًا في رحلة بالسيارة، كما اعتادتا السفر في الصيف معًا إلى مدينة لم تزوراها من قبل، عندما كانت إيف تحصل على دور في عمل جديد.
لكن لم يكن هذا منطقيًّا؛ إذ إن إيف اشترت سيارتها منذ تسع سنوات، ولم تكن السيارة في حالة تسمح لها بالذهاب في رحلة طويلة. كذلك فإن صوفي هي التي يفتقدها إيان، وبدا هذا واضحًا من وجهها الدافئ الذي يتحاشى النظرات، وكذلك لم يطلب أحد من إيف أن تأتي معهم.
قالت إيف: «رائع أنه يتقدم في تأليف كتابه.»
قالت صوفي: «بالفعل.» كانت تميل دومًا إلى التحفظ والحذر قليلًا عند التحدث عن كتاب إيان، وعندما سألتها إيف عن موضوع الكتاب، اكتفت بقول: «الجغرافيا المدنية.» ربما كان هذا هو السلوك الصحيح لزوجات الأكاديميين؛ ولم تكن إيف تعرف أيًّا منهن.
قالت صوفي: «على كلٍّ، سيتسنى لك الانفراد بنفسك بعض الوقت بعد فضِّ هذا السيرك، وستقررين إذا ما كنتِ فعلًا تريدين الإقامة في الريف، في أحد المنتجعات.»
شرعت إيف في التحدث عن شيء آخر — أي شيء — حتى لا تستعطف صوفي بسؤالها عما إذا كانت لا تزال تفكر في أن تأتي الصيف القادم.
فقالت: «ذهب صديق لي إلى أحد المنتجعات الحقيقية؛ إنه بوذي أو ربما كان هندوسيًّا، لكنه ليس هنديًّا.» (عند ذكر الهنود، ابتسمت صوفي بطريقة دلَّت على أنه يجب تجنب مناقشة هذا الموضوع.) «على كل حال، في هذا المنتجع، لا يمكنك التحدث مدة ثلاثة أشهر. طوال الوقت، يحيطك كثير من الناس، لكنك لا تستطيعين أن تتحدثي معهم. وقال لي هذا الصديق إن أحد الأمور التي كانت تحدث دائمًا — ويُحذر الرواد منها — هو أن يقع المرء في حب أحد هؤلاء الناس الذين لم يتحدث معهم قط؛ فيشعر أنه يتواصل معهم بطريقة خاصة وهو لا يحادثهم. بالطبع هذا الحب روحاني لا حيلة للمرء فيه، لكن المسئولين هناك كانوا صارمين بشأن وقوعه، أو هكذا يزعم صديقي.»
قالت صوفي: «إذن! ماذا يحدث حين يُسمح للمرء بالكلام أخيرًا؟»
«خيبة أمل كبيرة؛ فالشخص الذي ظننتِ أنكِ تواصلتِ معه روحانيًّا لا يكون قد تواصل معكِ روحانيًّا بالمثل على الإطلاق. ربما يظن أنه يتواصل مع شخص آخر، وهذا الشخص يظن أنه …»
غمر صوفي شعور بالارتياح وضحكت، قائلةً: «وهكذا دواليك.» شعرت بالسعادة؛ لأنه لن تكون هناك خيبة أمل مع أمها ولن يكون هناك إيذاء للمشاعر.
ظنَّت إيف أن الزوجين ربما يكونان قد تشاجرا، وأن هذه الزيارة ربما كانت لحاجة في نفس ابنتها صوفي؛ ربما تكون قد أخذت طفليها ورحلت لتوضِّح له أمرًا ما. رحلت لتقضي بعض الوقت مع أمها، فقط لتوضح له أمرًا ما. ربما تخطط لإجازات مستقبلية بدونه كي تثبت لنفسها أنها قادرة على فعل ذلك. ربما تكون وسيلة لتلهية نفسها.
لكن السؤال الملح هو: مَن الذي هاتف الآخر؟
قالت إيف: «لماذا لا تتركين الطفلين هنا؛ فقط حتى تذهبي إلى المطار؟ وبعدها عودي واصطحبيهما لتبدءوا رحلتكم. هكذا سيتسنى لكِ أن تقضي وقتًا قليلًا بمفردك، وبعض الوقت مع إيان. ذهابهما معكِ إلى المطار سيكون غاية في الصعوبة.»
قالت صوفي: «فكرة رائعة.»
ونفَّذتها.
جعل هذا إيف تتساءل في نفسها عما إذا كانت قد دبرت لهذا التغيير البسيط حتى يتسنى لها أن تنفرد بفيليب وتتحدث معه.
(ألم تكن مفاجأة مذهلة أن يتصل والدك من كاليفورنيا؟
لم يتصل، أمي هاتفته.
حقًّا؟ لم أكن أعلم. وماذا قالت له؟
قالت: لم أعد أطيق المكان هنا، لقد سئمته، دعنا نضع خطة ما لتبعدني عن هنا.)
•••
خفضت إيف صوتها على نحو يوحي بجدية حديثها كإشارة إلى مقاطعة اللعب، وقالت: «فيليب. فيليب، اسمعني. أعتقد أن علينا التوقف عن اللعب. هذه السيارة تخص أحد المزارعين، ولا بد أنها ستنعطف عند مكان ما ولن نستطيع تتبعها.»
قال فيليب: «بل نستطيع.»
«كلا، لا نستطيع. إذا استمر الأمر سيتساءلون عما نفعل، وسيستشيطون منا غضبًا.»
«سنستدعي الطائرات الهليكوبتر كي تقصفهم.»
«كفى سخفًا؛ تعلم أنها مجرد لعبة.»
«ستقصفهم طائراتنا.»
قالت إيف في محاولة جديدة: «لا أعتقد أن الطائرات مجهزة بأي أسلحة — لم يصنع المسئولون أسلحة — قادرة على تدمير الفضائيين.»
قال فيليب: «غير صحيح.» ثم شرع يصف لها بعض أنواع الصواريخ، لكنها لم تسمع ما يقول.
•••
حين كانت إيف طفلة تعيش في القرية مع شقيقها وأبويها، كانت تذهب أحيانًا في نزهة مع أمها إلى الريف. لم تكن بحوزتهم سيارة — فقد كان زمن حرب — وإنما كانوا يستقلون القطار إلى هذا المكان. وكانت السيدة التي تدير النُّزل الذي كانت تعيش فيه في القرية صديقة لأم إيف، وأحيانًا كانت تدعوهما ليصاحباها في سيارتها عندما تنوي الذهاب إلى الريف لشراء الذرة أو التوت أو الطماطم. وأحيانًا كنَّ يتوقفن لاحتساء الشاي وينظرن إلى الصحون القديمة وبعض قطع الأثاث المعروضة للبيع في مدخل بيت إحدى المزارعات اللاتي يُدرن مشروعاتهن الخاصة. أما والد إيف، فقد كان يفضِّل ألا يذهب معهما ليلعب الداما مع رجال على الشاطئ؛ حيث كانت هناك مصطبة كبيرة من الأسمنت على شكل مربع مرسوم عليها لوحة داما، لها سقف للحماية من أشعة الشمس والمطر وليس لها جدران. وهناك — حتى في ظل المطر — كان الرجال يحرِّكون قطع الداما الكبيرة بتأنٍّ مستخدمين عصيًّا طويلة. أما شقيق إيف، فكان يراقبهم أو يتركهم ليسبح دون مراقبة من أحد، فقد كان يكبرها سنًّا. لكن كل هذا اختفى الآن، حتى المصطبة الأسمنتية، لربما شُيد أعلاها مبنًى ما. اختفى — أيضًا — النُّزل ذو الشرفات الممتدة فوق الرمال، واختفت محطة القطار التي كان اسم القرية مكتوبًا عليها بالزهور، واختفت خطوط السكة الحديدية أيضًا، وشُيد مكانها مركز تجاري على طراز يتصنَّع القِدم، يشتمل على محل بقالة كبير يلبي حاجات الناس، وحانة، ومحلات ملابس منزلية ومشغولات ريفية.
عندما كانت إيف صغيرة جدًّا وترتدي على رأسها مشبك شعر كبيرًا على شكل فراشة، كانت مولعة بتلك الرحلات الاستكشافية في الريف. فكانت — عندما تذهب إلى هناك — تأكل كعكات صغيرة محشوة بالمربى، وأخرى تغطيها طبقة من الصوص ثم طبقة من الكريمة المتماسكة المتناثرة عليها حبات الكرز. ولم يكن مسموحًا لها أن تلمس أيًّا من الأطباق أو وسائد الدبابيس المصنوعة من الستان والدانتيل، أو الدمى القديمة باهتة الألوان. وكانت أحاديث النساء تمرُّ من فوق رأسها، فتعتريها حالة من الكآبة المؤقتة؛ كأنها سحابات لا سبيل للهرب منها. لكنها كانت تستمتع بالركوب في المقعد الخلفي للسيارة متخيلةً نفسها تمتطي صهوة جواد أو تجلس في عربة ملكية. لكن فيما بعد، صارت ترفض الذهاب إلى هذه الرحلات. بدأت تكره السير ظلًّا لأمها، ومعرفة الناس لها من خلالها؛ فعندما تقول الأم «ابنتي إيف»، يتردد صوتها على مسامع الفتاة ليشي بنبرة تعالٍ وغرور وكأنها — زيفًا — من ممتلكاتها (غير أن إيف كانت تستخدم هذه العبارة — أو ما شابهها — في بعضٍ من أكثر عروضها التمثيلية فظاظة وأقلها نجاحًا). كذلك كانت تكره الطريقة التي تتأنق بها أمها في العادة وهي ذاهبة إلى الريف؛ القبعات الكبيرة، وقفازات يديها، والفساتين المصممة من أقمشة رقيقة تعلوها نقوش بارزة لزهور بدت كالثآليل. وأخيرًا، بدت أحذيتها الخفيضة ذات الأربطة — التي كانت تريح التهاب مسامير الأقدام التي تعانيها — ضخمة ورثَّة بشكل يسبب الحرج.
وفي السنوات الأولى التي قضتها إيف بعيدًا عن المنزل، كانت تلعب مع صديقاتها لعبة «ما أكثر شيء تكرهينه في أمك؟»
قالت إحدى الفتيات: «مشدات الخاصرة.» وقالت أخرى: «المآزر المبتلة.»
بونيه الشعر الشبكي. الذراعان الممتلئتان. الاقتباس من الكتاب المقدس. أغنية «الولد داني».
بينما تقول إيف: «مسامير قدميها.»
كانت قد نسيت هذه اللعبة منذ فترة طويلة ولم تتذكرها إلا مؤخرًا، وكانت ذكراها بمنزلة الضغط على جرح عميق.
أبطأت السيارة التي تسير أمامهم، وانعطفت دون أي إشارة تحذيرية إلى حارة طويلة تحفُّها الأشجار. قالت إيف: «لا يمكن أن أتبعهم لأكثر من هذا يا فيليب.» وواصلت القيادة. لكن وهي تتجاوز الحارة، لمحت أعمدة البوابات. كان شكلها غريبًا يشبه المنارات على حالتها الأصلية، لا يزيِّنها سوى حصًى مطلي بماء الكلس وقطع من الزجاج الملون. لم يكن أيٌّ منها مستقيمًا، وكانت جميعها شبه مغطاة بنبات عصا الذهب والجزر البري؛ مما أفقدها المظهر الواقعي لأعمدة البوابات، وأحالها إلى عناصر مسرحية محتجبة في أوبريت صارخ الديكور. وما إن رأتها إيف حتى تذكرت شيئًا آخر؛ تذكرت سورًا يسيِّج منزلًا، سورًا مطليًّا بماء الكلس الأبيض، عليه بعض الصور لمشاهد ثابتة رائعة وطفولية: كنائس ذات قمم مستدقة، وقلاع ذات أبراج، ومنازل مربعة الهيكل ذات نوافذ صفراء مائلة على شكل مربع، وأشجار عيد ميلاد مثلثة الشكل، وطيور ذات ألوان استوائية يبلغ حجمها نصف حجم الأشجار، وجواد سمين ذو أرجل هزيلة وعينان شديدتا الحمرة، وأنهار زرقاء متموجة تبدو كأشرطة طويلة، وقمر ونجوم متناثرة، وزهور عباد شمس كبيرة تميل على أسطح المنازل. كل هذه الصور بارزة على السور بقطع من الزجاج الملون الملصقة في الأسمنت أو الجص. رأت إيف هذا السور من قبل، ولكنه لم يكن في مكان عام، بل في الريف، وكانت وقتها مع أمها. لاحت صورة أمها أمام السور في ذهنها؛ كانت تتحدث مع مُزارع عجوز في نفس عمرها، وبدا بالطبع هرمًا في عين إيف.
كانت أمها ومديرة النُّزل تذهبان في تلك الرحلات لمشاهدة أشياء غريبة وليس فقط التحف؛ فذهبتا ذات مرة لمشاهدة شجيرة مشذبة على شكل دب وحديقة تفاح أشجارها متناهية في القصر.
لم تتذكر إيف أعمدة البوابات هذه قط، لكنها ظنت أنها لا تنتمي لأي مكان سوى مكانها هذا. رجعت بالسيارة ثم استدارت لتدخل الطريق الضيق الذي تتخلله الأشجار. كانت أشجار صنوبر بري قديمة وضخمة — وربما خطيرة — وكانت تتدلى منها أغصان شبه ميتة، وتفترش الأرض أغصان أخرى عصفت بها الرياح أو تساقطت عن الأشجار، فأضحت ملقاة وسط الحشائش والعشب على جانبَي الطريق. أخذت السيارة تتأرجح للأمام والخلف بفعل حفر الطريق، وبدت ديزي سعيدة بتأرجحها؛ فبدأت تصاحبها بأصوات متكررة تشي بابتهاجها.
قد تتذكر ديزي هذا الموقف فيما بعد؛ قد يكون هذا هو كل ما ستتذكره من اليوم. الأشجار الحدباء، واستظلال السيارة تحتها فجأة، وحركاتها الشائقة. وربما تذكرت بياض زهور الجزر البري المحتكة بالنوافذ، وإحساسها بفيليب الذي يجلس بجانبها، وتشوُّقه الشديد غير المبرر، وتحكُّمه غير الطبيعي في شعوره بالإثارة المنعكسة على صوته الطفولي، وإحساسها الأكثر غموضًا بإيف؛ ذات الذراعين العاريتين المغطاتين بالنمش والتجاعيد الناتجة عن التعرض للشمس، وشعرها الأشقر المتموج — الذي يتخلله الشيب — المشدود للخلف بعصابة سوداء. وربما تذكرت رائحتها أيضًا. لم تكن رائحة سجائر — كسابق العهد — أو كريمات ومواد تجميل معروفة أنفقت إيف أموالها عليها في السابق، بل رائحة — فلْنَقُل — بشرة عجوز؟ ثوم؟ نبيذ؟ غسول فم؟ لعل الجدة ستكون في عداد الأموات حين تتذكر ديزي هذا. قد تتباعد المسافات بين فيليب وديزي؛ مثلما حدث مع إيف التي لم تتحدث مع شقيقها منذ ثلاثة أعوام، منذ أن قال لها عبر الهاتف: «لا يجدر بك الاشتغال بمهنة التمثيل، ما لم تملكي ما يؤهلك لأن تتميزي في هذا المجال.»
لم تكن هناك أي إشارة على وجود منزل في الطريق أمامهم، لكن من خلال فرجة بين الأشجار ظهر هيكل حظيرة قائمة، زالت جدرانها وإن بقيت أعمدتها سليمة لم تُمسَّ، وسطحها كامل لكنه مائل تجاه أحد جانبيه، فبدا كقبعة غريبة الشكل. تبيَّن لإيف أيضًا أن هذا المكان يحتوي على بعض الماكينات وقطع غيار سيارات وشاحنات قديمة متناثرة هنا وهناك على مساحة من الأعشاب اليانعة الكثيفة. ولم تكن إيف في سعة كي تلقي نظرة على المكان؛ فقد كانت مشغولة بالتحكم في السيارة على هذا الطريق الوعر. اختفت السيارة الخضراء من أمامها؛ إلى أي مدًى ابتعدت؟ انعطفت سيارة إيف مع انعطاف الطريق؛ فخرجوا من ظل أشجار الصنوبر وسارت السيارة في ضوء الشمس. لكن ظلت زهور الجزر البري — التي تشبه زبد البحر في بياضها — ممتدة أمام ناظرَيْهم، ولم تفارقهم رؤية الخردة الصدئة المتناثرة حولهم. وعلى أحد جانبَي الطريق، اصطفت الشجيرات البرية كأنها سياج أخضر يختبئ خلفه المنزل، وأخيرًا رأته؛ كان منزلًا كبيرًا، من طابقَيْن، مبنيًّا بطوب رمادي مائل للصفرة، وأسفل سطحه مباشرةً رأت عِلية خشبية بها نوافذ تنتأ منها قطع من الإسفنج القذر، بينما لمحت رقائق الألمنيوم تلمع على زجاج نوافذ المنزل من الداخل.
لم يكن هذا هو المكان الذي ظنت أنه هو؛ فهي لا تتذكر هذا البيت على الإطلاق؛ فلم تُسيِّج الحشائش المجزوزة حوله بسور، بينما تناثرت شجيراته فوق العشب بغير ترتيب.
وجدت إيف السيارة واقفة أمامها في هذا المكان، وبعدها مباشرةً رأت قطعة أرض خالية من النبات مفروشة بالحصى؛ يمكنها أن تنعطف بالسيارة عندها. لكنها لم تستطع أن تتجاوز السيارة كي تفعل هذا؛ فكان عليها أن تتوقف أيضًا. تساءلت عما إذا كان الرجل الموجود في تلك السيارة قد توقف بها في هذا المكان عن عمد حتى تضطر إلى تبرير وجودها هناك. وها هو قد ترجَّل عن السيارة بتأنٍّ، ودون أن ينظر إليها حرر كلبه من رباط رقبته، وكان من قبل يتحرك في السيارة وينبح بغضب شديد. وما إن وضع الكلب أقدامه على الأرض، حتى واصل النباح دون انقطاع لكنه لم يبرح جانب الرجل. كان الرجل يرتدي قبعة تغطي وجهه؛ ولهذا لم تستطع إيف رؤية تعبيرات وجهه. وقف بجانب السيارة ينظر إليهم دون أن يقرر إذا ما كان سيقترب.
حلَّت إيف حزام مقعدها.
قال فيليب: «لا تخرجي، ابقَيْ في السيارة، استديري وابتعدي عن هنا.»
قالت إيف: «لا أستطيع، الأمر على ما يرام، هذا الكلب لا يفعل شيئًا سوى النباح ولن يؤذيني.»
«لا تخرجي.»
لم يكن يجدر بها أن تترك اللعبة تخرج عن نطاق السيطرة إلى هذا الحد؛ فطفل في مثل عمر فيليب قد يتطور الأمر معه لأكثر من ذلك. قالت: «هذا ليس جزءًا من اللعبة، إنه مجرد رجل.»
قال فيليب: «أعرف، لكن لا تخرجي.»
ردَّت إيف: «كفى.» ثم خرجت وأغلقت الباب خلفها.
قالت: «مرحبًا. آسفة؛ لقد ضللت الطريق، وظننت هذا الطريق يؤدي إلى مكان آخر.»
رد الرجل التحية بكلمة شبيهة.
قالت إيف: «كنت أبحث في الواقع عن مكان آخر؛ مكان أتيته مرة حين كنت صغيرة. كان فيه سور عليه صور من قطع من الزجاج المكسور. أعتقد أنه سور أسمنتي مطلي بماء الكلس الأبيض. عندما رأيت تلك الأعمدة على جانب الطريق اعتقدت أنه المكان ذاته. لا بد أنكَ ظننتنا نتبعك، كم يبدو الوضع سخيفًا!»
سمعت صوت باب السيارة يُفتح؛ خرج فيليب وسحب ديزي خلفه من يدها. ظنَّت إيف أنه جاء ليكون بالقرب منها، فمدَّت ذراعيها مرحِّبة به، فابتعد عن ديزي ودار حول إيف مخاطبًا الرجل؛ فقد حرَّر نفسه من خوفه اللحظي وبدا الآن أكثر ثباتًا من إيف.
قال بلهجة يشوبها التحدي: «هل كلبك أليف؟»
قال الرجل: «إنها كلبة؛ لن تؤذيك ما دمتُ موجودًا. إنها طيبة، دائمة النباح فقط لأنها مجرد جرو، ما زالت جروًا.»
كان رجلًا صغير البنية، لا يزيد طوله عن طول إيف، وكان يرتدي بنطالًا من الجينز وسترة مفتوحة ملونة — تبدو من منسوجات بيرو أو جواتيمالا — وعلى صدره الأسمر العاري، حتى من الشعر، القوي العضلات، تلمع سلاسل وقلائد ذهبية. وعندما تكلَّم، أزاح رأسه إلى الخلف، فبدت ملامحه، ورأت إيف أن وجهه يعطيه سنًّا أكبر مما يوحي به صغر بنيته. وكانت بعض أسنانه الأمامية مخلوعة.
قالت: «لن نزعجك ثانية. فيليب، لقد أخبرت هذا الرجل لتوي أننا دخلنا هذا الطريق بحثًا عن مكان أتيته عندما كنت فتاة صغيرة، وكانت به صور من الزجاج الملون معلقة على سور، لكنني أخطأت، وليس هذا هو المكان المقصود.»
تساءل فيليب: «ما اسم الكلبة؟»
قال الرجل: «تريكسي.» وما إن سمعت الكلبة اسمها حتى قفزت وضربت ذراعه؛ فرد لها الضربة كي تتوقف عن القفز، وقال: «لا أعرف أي شيء عن أي صور؛ فأنا لا أعيش هنا، هارولد قد يعرف ما تتحدثين عنه.»
قالت إيف وهي ترفع ديزي من على الأرض: «لا بأس. أرجو منك فقط أن تحرك السيارة للأمام قليلًا حتى أنعطف بالسيارة.»
«لا أعرف شيئًا عن هذه الصور. لو كانت في الجزء الأمامي من المنزل لما استطعت أن أراها؛ لأن هارولد أغلق ذلك الجزء بالكامل.»
قالت إيف: «كلا. كانت الصور في الخارج. لا يهم؛ كان هذا منذ سنين عديدة.»
قال الرجل متحمسًا للحوار: «لا. لا، ولِمَ؟ فلتدخلي لهارولد وتتحدثي معه لتسأليه عنها. أتعرفين هارولد؟ إنه مالك هذا المكان. كانت ماري من قبل مَن تملكه، لكن هارولد ألحقها بدار للمسنين، وصار هو الآن صاحب المنزل. لم يتسبب في ذلك، كان لا بد أن تعيش هناك.» ثم اتجه نحو سيارته والتقط منها صندوقَي جعة وقال: «عدت لتوِّي من البلدة. هارولد أرسلني إلى هناك. فلتدخلي له. ادخلي، سيُسَرُّ بلقائكِ.»
قال فيليب متجهمًا: «إلى هنا يا تريكسي.»
أتت الكلبة تنبح وتقفز حولهم؛ فصرخت ديزي صرخة رعب واستمتاع في آنٍ واحد، وكانوا جميعهم في طريقهم إلى المنزل؛ ديزي على كتف إيف، بينما يسرع فيليب وتريكسي يَثِبان فوق المطبات الأرضية التي كانت من قبل درجات سلم. تبعهم الرجل ومشى بالقرب منهم، وانبعثت منه رائحة جعة؛ لا بد أنه كان يتجرعها في السيارة.
قال: «تفضلي بالدخول. تقدمي. لا تنزعجي بالفوضى التي تعم المنزل؛ فماري في دار المسنين، ولا أحد يأتيه لتنظيفه وترتيبه كسابق العهد.»
دخلوا منزلًا غارقًا في الفوضى العارمة التي استغرقت سنوات بالضرورة كي تتراكم بهذا الشكل. تألَّفت أولى طبقات الفوضى من مقاعد وطاولات وأرائك، وربما موقد أو اثنين، بالإضافة إلى ملاءات قديمة، وأوراق جرائد، وستائر نوافذ، ونباتات ميتة موضوعة في أصص، وقطع أثاث خشبي، وزجاجات فارغة، وأدوات إضاءة مكسورة. فوق كل ذلك طبقةٌ أخرى، وكانت لأعمدة ستائر متراكمة حتى السقف في بعض الأماكن، حتى حجبت ضوء الشمس القادم من الخارج؛ ولتعويض هذا الضوء المحجوب، أضاء المكان مصباحٌ بجانب الباب الداخلي.
ترك الرجل الجعة وفتح الباب ثم صاح مناديًا هارولد. كان من الصعب تخمين أي غرفة دخلوها الآن؛ إذ كانت مليئة بخزانات مطبخ ذات أبواب غير مثبتة في مفصلاتها، وبعض المعلبات على الأرفف، وسريرين بلا مفارش، عليهما بطاطين مكرمشة. وكانت النوافذ مغطاة تمامًا بأثاث أو ألحفة معلقة لا يمكنك تحديد أين كانت في الأساس. كذلك فاحت من تلك الغرفة رائحة محل خردة أو حوض مسدود أو ربما مرحاض مسدود، ورائحة طبخ ودهون وسجائر وعرق وفضلات كلاب وقمامة متراكمة.
لم يُجِب أحد نداءه، فاستدارت إيف — كان هناك متسع في هذا المكان كي تستدير على عكس ما كان في المدخل — وقالت: «لا أعتقد أنه يصح أن …» لكن تريكسي وقفت في طريقها، وأسرع الرجل من خلفها كي يطرق بابًا آخر.
وقال — دون أن يخفض صوته — صائحًا مع أن الباب قد فُتح: «ها هو، ها هو هارولد.» في نفس اللحظة، اندفعت تريكسي للأمام وعلا صوت رجل آخر يقول: «اللعنة، أَخرِج الكلبة من هنا.»
قال الرجل الصغير البنية: «تريد هذه السيدة رؤية بعض الصور.» أنَّت تريكسي متألمة بعد أن ركلها شخص ما. وهكذا لم تملك إيف أي خيار سوى أن تدلف إلى الغرفة.
كانت غرفة طعام تحتوي على مائدة طعام قديمة وضخمة ذات مقاعد فخمة، جلس حولها ثلاثة رجال يلعبون الورق؛ ورابعهم كان معهم لكنه نهض ليركل الكلبة. وكانت درجة حرارة الغرفة تدنو من التسعين درجة فهرنهايت.
قال أحد الرجال الجالسين حول المائدة: «أغلقوا الباب، أشعر بتيار هواء في الغرفة.»
جرَّ الرجل الصغير البنية تريكسي من تحت المائدة، وألقى بها في الغرفة الخارجية، ثم أغلق الباب خلف إيف والأطفال.
قال الرجل الذي كان قد نهض ليركل الكلبة: «يا إلهي؛ عليها اللعنة!» كان صدره وذراعاه منقوشين تمامًا بالوشوم حتى بدا لها جلده بنفسجيًّا أو مائلًا للزرقة. هزَّ رِجله كما لو كانت تؤلمه؛ ربما ركل رِجل المائدة عندما ركل تريكسي.
كان من بين أولئك الرجال شاب مولٍ ظهره إلى الباب؛ كان ذا منكبين ضيقين نحيلين وعنق دقيق. افترضت إيف أنه شاب؛ لأن شعره مصبوغٌ أشقر ذهبيًّا ومثبتٌ لأعلى، وكان يرتدي قرطًا ذهبيًّا. لم يستدِر هذا الشاب ليواجههم، أما الرجل الجالس قبالته، فكان مسنًّا في عمر إيف نفسها، وكان حليق الرأس، ذا لحية رمادية مشذبة، وعينين زرقاوين محتقنتين. نظر إلى إيف دون ود من أي نوع، لكن نظرته شابها شيء من الذكاء والحصافة، وبذلك حاد عن سلوك الرجل الموشوم الذي نظر إليها كما لو كانت هلوسة قرر أن يتجاهلها.
وعلى رأس الطاولة — في مقعد المضيف أو الأب — جلس الرجل الذي أصدر الأمر بغلق الباب؛ وفيما عدا هذا لم ينظر أمامه ولم يولِ مقاطعتهم لهم أي اهتمام. كان سمينًا، ذا بنية عريضة ووجه شاحب وشعر مجعد بُنِّي مبلل بالعرق، وكان — كما ذكرت إيف — عاريًا بالكامل. وكان الرجل الموشوم والشاب الأشقر يرتديان الجينز، أما الرجل ذو اللحية الرمادية فكان يرتدي بنطالًا من الجينز أيضًا وقميصًا منقوشًا بمربعات — أزراره كلها مغلقة — وربطة عنق يتدلى منها شريطان على صدره. وعلت المائدة زجاجات وكئوس؛ وكان الرجل الجالس على مقعد المضيف — لا بد أنه هارولد — يشرب الويسكي مع الرجل ذي اللحية الرمادية، والآخران يشربان الجعة.
قال الرجل الصغير البنية: «قلت لها قد تكون هناك بعض الصور في الجزء الأمامي من المنزل، لكنها بالطبع لم تستطع الدخول لأنك قد أغلقته.»
قال هارولد: «اخرس.»
قالت إيف: «إنني جدُّ آسفة.» ما كان أمامها من سبيل — فيما يبدو — سوى التحدث مرارًا وتكرارًا عن إقامتها في نُزل القرية عندما كانت فتاة صغيرة، ورحلاتها بالسيارة مع أمها، والصور التي كانت معلقة على السور وذكرياتها عنها اليوم، وأعمدة البوابات، وخطئها — الذي تبيَّن في النهاية — واعتذارها عنه. تحدثت مباشرةً مع ذي اللحية الرمادية، وكان الوحيد الذي أبدى استعدادًا للإنصات، وأظهر قدرته على تفهُّم الوضع. شعرت بألم في كتفها وذراعها من ثقل ديزي، ومن التوتر الذي تملَّك جسدها كله. وجال بخاطرها كيف يمكن أن تصف موقفها هذا وسطهم؛ لعله يشبه مسرحية صامتة من مسرحيات بنتر، أو كابوسًا يداهمها دومًا عن جمهور متبلد الحس صامت وعدواني.
تكلم ذو اللحية الرمادية في لحظة لم تجد فيها أي كلام معسول أو ينم عن اعتذار يمكن أن تقوله. قال: «لا أعلم. عليك أن تسألي هارولد. هارولد، هل تعرف أي شيء عن صور مصنوعة من زجاج مكسور؟»
قال هارولد دون أن يرفع عينيه: «أخبرها أنني لم أكن قد ولدت بعد حين كانت تطوف بالسيارة وتشاهد الصور.»
قال ذو اللحية الرمادية: «الحظ ليس حليفك اليوم يا سيدتي.»
أصدر الرجل الموشوم صوت صفير مخاطبًا فيليب: «أيها الصبي، هل تستطيع أن تعزف على البيانو؟»
اشتملت الغرفة أيضًا على بيانو خلف مقعد هارولد، لكن لم يكن أمامه مقعد دون ظهر أو حتى مقعد عادي يكفي لأكثر من شخص — إذ كان هارولد يحتل معظم المساحة بين البيانو والمائدة — وفوقه تكوَّمت أشياء لا تمت له بصلة كأطباق ومعاطف؛ كما كان الوضع فوق سطح أي شيء في المنزل.
ردت إيف بسرعة: «كلا. لا يستطيع العزف.»
قال الرجل الموشوم: «أسأله هو. هل تعزف أي لحن؟»
قال ذو اللحية الرمادية: «دعه وشأنه.»
«إنني أسأله فحسب إن كان يستطيع أن يعزف أي لحن، ما المشكلة في ذلك؟»
«دعه وشأنه.»
قالت إيف: «لن أستطيع أن أمضي بسيارتي إلا بعد أن يحرِّك أحد السيارة الأخرى.»
ظنَّت إيف أن رائحة منيٍّ تنبعث من هذه الغرفة.
كان فيليب صامتًا لم يبارح جانبها.
قالت وهي تستدير متوقِّعةً أن تجد الرجل الصغير البنية خلفها: «أرجو أن تحرِّك …» لم تكمل الجملة حين رأت أنه ليس موجودًا، لم يكن في الحجرة على الإطلاق، لقد خرج ولا تعرف متى فعل هذا. ماذا لو كان قد أغلق رتاج الباب؟
أمسكت بمقبض الباب وأدارته، فانفتح الباب بصعوبة وشعرت بحركة سريعة على الجانب الآخر منه؛ كان الرجل الصغير البنية جالسًا القرفصاء يتنصت.
مضت إيف — دون أن تحادثه — من الغرفة إلى الخارج عبر المطبخ، وهرول فيليب بجانبها كأنه أكثر أطفال العالم طاعة وانصياعًا. ساروا عبر الممر الضيق المؤدي إلى المدخل وسط الخردة، وعندما خرجوا إلى الهواء الطلق ملأت صدرها به؛ فهي لم تستنشق هواءً حقيقيًّا منذ وقت طويل.
صاح الرجل الصغير البنية من خلفها: «يمكنك أن تسيري للأمام في هذا الطريق، وتسألي عن بيت ابن عم هارولد؛ يملك مكانًا جميلًا به منزل جديد، ربة المنزل هناك ترتبه دومًا وتحافظ على نظافته. وسيريك أهل البيت صورًا أو أي شيء تريدينه. سوف يرحبون بك؛ سيجلسونك ويقدمون لك الطعام. إنهم لا يتركون أحدًا يمضي خالي المعدة.»
لا يمكن أن يكون قد ظلَّ كل هذه الفترة جالسًا القرفصاء خلف الباب، فلا بد أنه قد خرج وحرَّك السيارة، ولربما حرَّكها شخص آخر؛ فقد اختفت من المكان، وذهب بها شخص ما لمرأب أو أي مبنًى بعيد عن الأنظار.
تجاهلته إيف وربطت حزام مقعد ديزي، بينما ربط فيليب حزامه بنفسه دون أن يذكِّره أحد. وظهرت تريكسي من مكان ما، وأخذت تحوم حول السيارة بحزن تشتمُّ إطاراتها.
ركبت إيف السيارة وأغلقت الباب خلفها ووضعت يدها المتعرقة على المفتاح. دارت السيارة فانطلقت بها للأمام فوق الحصى؛ وكانت تلك المنطقة محاطة بشجيرات كثيفة — حسبتها شجيرات توت — وشجيرات ليلك قديمة وأعشاب. لكن سُوِّيت بعض هذه الشجيرات بالأرض بسبب تراكم أكوام كثيرة من الإطارات القديمة والزجاجات والعلب الصفيح عليها. كان من الصعب تخيل أن كل تلك الأشياء قد أُلقيت من ذلك المنزل، في ظل وجود كل ما في داخله من حاجيات، لكنها ظنت أن هذا هو ما حدث. وبينما كانت تنعطف بالسيارة، رأت من وراء تلك الشجيرات المسوَّاة بالأرض بعض أجزاء سور لا يزال ماء الكلس الأبيض عالقًا به.
ظنت أنها ترى قطعًا متلألئة من الزجاج معشَّقة فيه.
لكنها لم تبطئ سرعة القيادة كي تطل عليه، وتمنَّت ألا يكون فيليب قد لاحظه؛ فقد يرغب في أن يتوقفوا لاستطلاع الأمر. وجَّهت السيارة نحو الحارة وقادتها أمام درجات السلم المغطاة بالقاذورات التي تصل إلى المنزل. وقف الرجل الصغير البنية يلوِّح بكلتا ذراعَيْه لهم، وهزت تريكسي ذيلها وقد أفاقت من حالة الانصياع الناتجة عن خوفها الشديد — بعد أن رُكلت — ما جعلها قادرة على النباح مودعةً إياهم ثم ملاحقتهم بعض الشيء في الحارة. كانت تلك الملاحقة تقليدًا لها، وكانت تستطيع اللحاق بهم إذا أرادت. واضطرت إيف لأن تبطئ سرعتها فجأة عندما ارتطمت بحفرة في الطريق.
قادت السيارة ببطء شديد مكَّن شخصًا من الخروج بسهولة من بين الحشائش الطويلة المتراصة على جانب السيارة — ناحية المقعد الذي يقع بجوار مقعد السائق — ثم فَتْح باب السيارة والقفز داخلها؛ إذ لم تفكر إيف في قفل السيارة قبل أن تتحرك.
كان هذا الشخص هو الرجل الأشقر الجالس على المائدة في المنزل؛ ذاك الرجل الذي لم تَرَ وجهه.
«لا تخافي. لا تفزعوا. إنني فقط أتساءل عما إذا كنتم تستطيعون توصيلي معكم يا رفاق، هل توافقون؟»
لم يكن رجلًا أو صبيًّا، بل فتاة؛ فتاة ترتدي في ذلك الحين فانلة قذرة.
قالت إيف: «لا بأس.» واستطاعت التحكم في السيارة وحرصت ألا تخرج عن الطريق.
قالت الفتاة: «لم يكن باستطاعتي أن أطلب منكِ هذا الطلب حين كنتِ في البيت. لقد دخلتُ دورة المياه وهربت من النافذة ثم جريت إلى هنا. الأرجح أنهم لم يعرفوا حتى الآن أنني هربت. إنهم يستشيطون غضبًا.» جذبت فانلتها بقبضة يدها — وكانت أكبر من مقاسها بكثير — وشمَّتها ثم قالت: «عفنة الرائحة؛ جذبتها بسرعة من بين ثياب هارولد الموجودة في دورة المياه. رائحتها عفنة.»
تركت إيف المطبات وخرجت من ظلمة الحارة وانعطفت إلى طريق عادي، فقالت الفتاة: «إلهي! كم أنا سعيدة أنني خرجت من ذلك المكان. لم أعرف أي شيء عن ذلك المكان؛ لم أعرف حتى كيف دخلته. كان ذلك ليلًا، ولم يكن المكان مكاني. تعرفين ما أقصده؟»
قالت إيف: «بدوا مخمورين للغاية.»
«نعم. آسفة لو كنتُ أخفتكِ.»
«لا عليك.»
«ظننتُ أنك لن تقفي من أجلي لو لم أقفز داخل السيارة، أليس كذلك؟»
قالت إيف: «لا أدري، ربما كنت سأقف لو علمت أنك فتاة؛ فلم أَرَكِ جيدًا قبلها.»
«نعم. لا أبدو كفتاة الآن، بل أبدو قذرة. لا أقول إنني لا أحب الاحتفال، بل أحبه، لكن شتان بين احتفال وآخر. أتفهمينني؟»
استدارت في مقعدها وأخذت تنظر بثبات إلى إيف، حتى اضطرت إيف أن ترفع عينها عن الطريق لحظة وتبادلها النظر؛ فرأت أن الفتاة أكثر ثملًا مما تبدو. كانت عيناها البنيتان الغامقتان باهتتين بلا بريق — وإن كانتا واسعتين، بل ومستديرتين، فيما يبدو، لشعورها بالإرهاق والتعب — كما بدتا لإيف أنهما كسائر عيون السكارى تنقلان لها نفس الرسالة الاستعطافية، وإن كانت بعيدة المنال، في إصرارهما — كمحاولة أخيرة — على خداع مَن أمامهما. كان جلدها مغطًّى بعلامات وبقع في بعض المناطق، وجافًّا في مناطق أخرى أكسبها الجفاف لونًا مختلفًا عن لون بشرتها، ووجهها بأكمله مجعد من فرط الشراب. كانت فتاة بيضاء البشرة غامقة الشعر — إذ كان لشعرها الذهبي الصبغة المثبت لأعلى جذورٌ غامقة متروكة عن عمد ومثيرة للاشمئزاز — ولها من الجمال، إذا تغاضينا عن مظهرها القذر الحالي، ما يجعل المرء يتساءل ما سلكها مع هارولد ورفاقه. كذلك فإن أسلوب حياتها والذوق السائد في تلك الأيام لا بد أنهما سلبا من وزنها الطبيعي خمسة عشر أو عشرين رطلًا، لكنها لم تكن طويلة، ولم تكن قط أكثر ميلًا إلى طباع وسلوك الرجال، بل كانت تنزع في الواقع لأن تكون فتاة قصيرة جذابة، كقطعة حلوى.
قالت الفتاة: «هيرب هذا مجنون؛ كيف يُدخلك هذا البيت بهذه الطريقة؟ لقد فقد عقله.»
قالت إيف: «أدركت هذا.»
«لا أعرف ماذا يعمل هناك، أظنه خادمًا لدى هارولد، لكنني لا أعتقد أن هارولد يستفيد منه خير استفادة.»
لم تعتقد إيف يومًا أنها قد تنجذب إلى النساء انجذابًا جنسيًّا، كما أن تلك الفتاة بحالتها الرثَّة القذرة لم تكن لتجذب أي شخص. لكن ربما لم تعتقد الفتاة أن هذا صحيح؛ فلا بد أنها اعتادت على أن ينجذب الناس إليها؛ ففي لحظة ما، ألقت يدها لتمسح على فخذ إيف العارية — بعد حافة سروالها القصير — في حركة مدروسة بالرغم من كونها ثملة كصاحبتها؛ إذ كان سيصبح من المبالغة الشديدة أن تفرد أصابعها وتمسك بفخذها من المرة الأولى. كانت حركة مدروسة آملة وتلقائية، لكنها مع هذا تفتقد أي شهوة حقيقية عنيفة حميمية تمزقها إربًا، حتى إن إيف شعرت أن يد الفتاة ستسقط من فخذها بتلقائية شديدة على حشية مقعد السيارة وتلامسه.
قالت الفتاة، وقد بدا صوتها — مثل يدها — يشق طريقه بجهد عبر حنجرتها لنقلها هي وإيف إلى مستوًى جديد من الحميمية: «إنني جيدة. تعرفين عما أتحدث عنه؟ جيدة.»
قالت إيف سريعًا: «بالطبع.» بعدها عادت اليد التي لاطفتها إلى صاحبتها العاهرة المتعَبة، لكنها لم تفشل في مهمتها كليةً؛ فبالرغم من جرأتها وافتقادها للمشاعر فإنها كانت كافية لتحرِّك بعض المياه الراكدة.
كم امتلأت إيف شكًّا بسبب احتمال حدوث هذه العلاقة بطريقة أو بأخرى، ذلك الاحتمال الذي ألقى بظلٍّ على الماضي الذي سبق تلك اللحظة، على كل ما حدث في حياتها من علاقات مثيرة للمتاعب تتسم بالتهور من ناحية، وعلاقات جادة تفيض أملًا من ناحية أخرى، إلى جانب علاقاتها الأخرى التي لم تندم عليها إلى حدٍّ ما. لم يكن شعورًا حقيقيًّا فاجأها بالخزي أو الخطيئة؛ وإنما مجرد ظل مشين. كم ستكون دعابة سخيفة إذا ما بدأت تعبث الآن بعد أن كان سجلها نقيًّا وصفحتها بيضاء!
لكن قد لا يؤثر هذا على سجلها؛ إذ كانت دائمًا توَّاقة للحب.
قالت: «إلى أين تريدين الذهاب؟»
أرجعت الفتاة رأسها للخلف ناظرة للطريق، وقالت: «أين وِجهتك؟ هل تسكنين بالقرب من هنا؟» تغيَّرت نبرة صوتها الإغوائية المشوشة — كما تتغير بالطبع بعد ممارسة الجنس — وتحولت إلى نبرة ثابتة وواثقة وإن بدت متبجِّحة.
قالت إيف: «هناك حافلة تتنقل بين أرجاء القرية وتتوقف عند محطة الوقود، لقد رأيت لافتتها.»
قالت الفتاة: «نعم، لكن هناك أمرًا آخر، ليس معي أي نقود، فكما رأيتِ خرجتُ من البيت على عجل ولم يكن هناك وقت لآخذ منهم نقودي؛ لذا فما جدوى أن أستقلَّ الحافلة دون نقود؟»
لم تكن إيف في هذه اللحظة تفكر أن الفتاة يمكن أن تمثِّل مصدر تهديد. فلْتُخبرْها بأن تشير إلى أي سيارة مارَّة — ذاهبة إلى وجهتها — إن لم تكن تملك المال. لكنه أيضًا ليس من المرجح أن يكون بحوزة الفتاة مسدس تخفيه في سروالها الجينز، وإن أرادت أن تبدو وكأنها تملك مسدسًا.
ماذا إذا كانت تخفي سكينًا؟
التفتت الفتاة للمرة الأولى إلى المقعد الخلفي.
وقالت: «أيها الطفلان، هل أنتما بخير في الخلف؟»
لم تتلقَّ إجابة.
قالت: «إنهما لطيفان، هل يخجلان من الغرباء؟»
كم كانت إيف غبية وهي تفكر في الجنس، بينما مكمن الخطر في اتجاه آخر!
كانت حقيبة إيف ملقاة على أرضية السيارة أمام قدمَي الفتاة، لكن إيف لم تكن تعرف بالضبط كم بها من النقود؛ ربما ستون أو سبعون دولارًا أو أكثر بقليل. إذا عرضت عليها نقودًا لشراء تذكرة، فستختار الفتاة وجهة عالية التكلفة، كمونتريال أو على الأقل تورونتو، وإذا قالت لها: «خذي كل ما في الحقيبة»، فقد ترى في هذا استسلامًا، وستستشعر خوف إيف وربما تتمادى. ما أكثر ما تستطيع فعله؟ تسرق السيارة؟ إذا ما تركت إيف والأطفال على جانب الطريق، فلسوف تُسرع الشرطة بمطاردتها، وإذا ما قتلتهم ثم تركت جثثهم بين الشجيرات الكثيفة، فقد تستطيع أن تهرب لمسافة أبعد، أما إذا اصطحبتهم معها حيث تحتاجهم، فستضع سكينًا في جانب إيف أو على رقبة أحد الطفلين.
إنَّ مثل هذه الأشياء تحدث، ولكن ليس كثيرًا مثلما يُعرض في التليفزيون أو في الأفلام السينمائية. هذه الأشياء لا تحدث في العادة.
انعطفت إيف إلى الطريق الزراعي الذي كان مزدحمًا إلى حدٍّ ما. لماذا جعلها هذا تحس ببعض الارتياح؟ فالأمان الذي يُشعرها به هذا الطريق هو مجرد وهم؛ فمن الممكن أن تقود سيارتها على الطريق السريع في وضح النهار فتلقي بنفسها والطفلين إلى حتفهم.
قالت الفتاة: «إلى أين يؤدي هذا الطريق؟»
«يؤدي إلى الطريق السريع الرئيسي.»
«دعينا نخرج إليه.»
قالت إيف: «سأخرج إليه بالفعل.»
«إلى أي اتجاه يؤدي هذا الطريق السريع؟»
«يتجه شمالًا نحو أوين ساوند أو إلى توبرموري حيث يمكنك أن تستقلِّي قاربًا، أو جنوبًا إلى … لا أدري، لكنه يلتقي مع طريق سريع آخر يوصِّل إلى سارنيا، أو لندن، أو ديترويت، أو إلى تورونتو إذا أكملتِ في هذا الطريق.»
لم تتبادلا أي كلمة أخرى حتى وصلوا إلى الطريق السريع، فانعطفت إيف إليه وقالت: «ها هو.»
«إلى أي طريق ستتجهين الآن؟»
قالت إيف: «شمالًا.»
«إذن فأنت تعيشين هناك؟»
«إنني ذاهبة إلى القرية، سوف أتوقَّف للتزود بالوقود.»
قالت الفتاة: «لديكِ وقود؛ أكثر من نصف الخزان ممتلئ.»
ما هذا الغباء؟ كان على إيف أن تقول إنها ذاهبة لشراء بقالة.
أصدرت الفتاة بجانبها زفيرًا طويلًا يشي بأنها قررت أو ربما تنازلت.
وقالت: «لعله من الأفضل أن أنزل هنا وأشير إلى أي سيارة مارة؛ فمن السهل أن أجد مَن يُقلُّني هنا كما في أي مكان آخر.»
أوقفت إيف سيارتها على جانب الطريق المغطى بالحصى، وبدأ ما شعرت به من ارتياح يتحول إلى نوع من أنواع الخزي. من المحتمل أن تكون الفتاة قد هربت فعلًا دون أن تأخذ معها أي نقود، وأنها لا تملك شيئًا. كيف سيكون حال شخص ثمل فاقد الاتزان ولا يملك أي مال وهو واقف على جانب الطريق؟
«أي اتجاه قلتِ إننا فيه؟»
كررت إيف قولها: «شمالًا.»
«أي اتجاه قلتِ يؤدي إلى سارنيا؟»
«جنوبًا، ما عليك إلا أن تعبري إلى الجهة المقابلة من الطريق، وستجدين السيارات المتجهة جنوبًا. احترسي من السيارات.»
قالت الفتاة: «بالطبع» بصوت خبا عنهم بالفعل وبالكاد سمعوه؛ إذ كانت تفكر في الفرص المتاحة لها. كان نصف جسدها خارج السيارة وهي تقول: «إلى اللقاء.» ثم نظرت إلى المقعد الخلفي حيث الطفلان جالسان، وقالت: «إلى اللقاء يا صديقيَّ، فلتكونا مطيعَيْن.»
قالت إيف: «مهلًا.» ثم مالت للأمام وتحسست مكان حافظة نقودها في حقيبتها والتقطت منها ورقة بعشرين دولارًا، ثم خرجت من السيارة ولفَّت من أمامها إلى حيث الفتاة تنتظرها، وقالت لها: «تفضلي، سوف تحتاجين هذه النقود.»
قالت الفتاة وهي تدس الورقة النقدية في جيبها، بينما عيناها تنظران إلى الطريق: «حسنًا، شكرًا.»
قالت إيف: «اسمعي، فلربما لا تستطيعين التصرف؛ لذا سأخبرك أين يقع منزلي لتأتي إليَّ. إنه على بعد ميلين شمالي القرية، والقرية نفسها على بعد نصف ميل شمالًا من هنا. شمالًا حيث هذا الاتجاه. أسرتي معي الآن في المنزل، لكنهم سيرحلون في المساء؛ إذا كان وجودهم سيضايقك. ستجدين مكتوبًا على صندوق البريد اسم فورد. ليس اسمي ولا أدري سبب وجوده على الصندوق. منزلي هو الوحيد وسط أحد الحقول؛ له نافذة عادية على جانبه الأمامي ونافذة صغيرة غريبة الشكل على الجانب الآخر، هي نافذة دورة المياه.»
قالت الفتاة: «حسنًا.»
«لقد فكرت فقط، أنكِ إن لم تجدي من يُقلُّك …»
قالت الفتاة: «حسنًا، بالتأكيد سأفعل.»
عندما استكملوا مسيرتهم بالسيارة، قال فيليب: «كم كانت رائحتها كالقيء!»
وبعد فترة أضاف: «إنها حتى لا تعرف أن عليها النظر للشمس لكي تحدد الاتجاهات. حمقاء، أليس كذلك؟»
قالت إيف: «بلى، أظن هذا.»
«شيء مقزز، لم أرَ في حياتي أحدًا بهذه الحماقة.»
وعندما دخلوا القرية سألها إن كان يمكنهم التوقف لشراء آيس كريم، لكن إيف رفضت.
قالت: «كثير من الناس واقفون لشراء الآيس كريم، ومن الصعب أن نجد مكانًا نوقف فيه السيارة، كما أن لدينا ما يكفي من الآيس كريم في بيتنا.»
قال فيليب: «لا تقولي بيتنا؛ ما هو إلا مكان نقيم به. الأصح أن تقولي المنزل.»
شرقي الطريق السريع حيث ساروا، رأوا أكوامًا من القش مربوطة في حزم كبيرة ومتراصة في مواجهة الشمس في أحد الحقول، فبدت لهم كدروع أو أجراس قرصية أو أوجه الأقراص المعدنية المميزة لحضارة الأزتيك. بينما رأوا حقلًا بعده انتشر به نبات ذهبي اللون يشبه الريش أو الذيول.
قالت لفيليب: «يُطلق على هذا شعير؛ ذاك الشيء الذهبي المذيَّل.»
فقال: «أعلم.»
استرسلت قائلةً: «أحيانًا يُطلق على هذه الذيول ذقونًا.» ثم بدأت تلقي كلمات شعرية: «والحاصدون؛ الحاصدون مبكرًا، عبر حقول الشعير ذات الذقون …»
قالت ديزي: «ما معنى شِعير؟»
قال فيليب: «شَعير.»
حاولت إيف تذكُّر كلمات القصيدة: «وحدهم الحاصدون؛ الحاصدون مبكرًا … عدا الحاصدين؛ الحاصدين مبكرًا …» بدت «عدا» لها أفضل من «وحدهم». عدا الحاصدين.
•••
ابتاعت صوفي وإيان الذرة من بائع يقف على جانب الطريق ليتناولوها على العشاء. تغيرت الخطة؛ سيبيتون الليل في المنزل مع أمها ولن يرحلا إلا بحلول الصباح. كذلك ابتاعوا قنينة جن وبعض التونيك والليمون. أعدَّ إيان المشروبات بينما قشَّرت إيف وصوفي الذرة، وقالت إيف: «عشرون كوز ذرة؟ هذا جنون.»
قالت صوفي: «انتظري وشاهدي ما سيحدث؛ فإيان يعشق الذرة.»
انحنى إيان وهو يقدم الشراب لإيف، فقالت له بعد أن تذوقته: «شراب طيب المذاق؛ رائع.»
لم يشبه إيان كثيرًا الصورة التي تذكَّرتها إيف أو كانت في مخيلتها عنه؛ فلم يكن طويلًا وما كان يشبه التيوتونيين، وكذلك لم يكن خفيف الظل. كان نحيفًا أشقر متوسط الطول سريع الحركة حلو المعشر. ومنذ أن جاء، بدت صوفي أقل ثقة بنفسها وأكثر ترددًا في كل ما تقول وتفعل، لكنها بدت أسعد.
روت إيف قصتها؛ بدأت بلوح الداما الموجود على الشاطئ، والنُّزل الذي اختفى، ورحلاتها الريفية. بعدها انتقلت إلى أزياء أمها التي تشبه أزياء أهل المدن وفساتينها ذات الأقمشة الرقيقة وقمصانها الداخلية التي تتماشى معها، لكنها لم تحكِ عن ملابسها باشمئزازها القديم. ثم تكلمت عن الأشياء التي كانوا يذهبون إلى الريف لمشاهدتها؛ حديقة التفاح ذات الأشجار المتناهية في القصر، ورف الدمى القديمة، والصور البديعة المؤلفة من الزجاج الملون.
قالت إيف: «تبدو شبيهة برسوم شاجال؟»
قال إيان: «نعم، حتى نحن الجغرافيين المدنيين نعرف شاجال.»
قالت إيف في خجل: «آسفة.» ثم ضحكا كلاهما.
استكملت حديثها لهما، فحكت عن أعمدة البوابات والذكريات المفاجئة والحارة المظلمة والحظيرة المتهدمة والماكينات الصدئة ومنزل الخرائب.
قالت إيف: «كان مالك البيت في الغرفة أيضًا يلعب الورق مع أصدقائه، ولم يكن يعرف أي شيء عما أسأل. لم يعرف أو لم يبالِ. وكلما تذكَّرت أقول لنفسي: يا إلهي، مرَّت قرابة الستين عامًا على وجودي في المكان الذي أستفسر عنه!»
قالت صوفي: «كم هو أمر محرج يا أمي!» وبدت في غاية الارتياح للتفاهم الذي استشعرته بين إيان وإيف.
وأضافت: «هل أنتِ متأكدة أنه المكان الذي قصدتِه؟»
قالت إيف وكررت: «ربما لا.»
لم تذكر لهما الأجزاء التي رأتها من السور خلف الشجيرات؛ وما الجدوى؟ فقد تراءى لها أنه من الأفضل ألا تأتي على ذكر كثير من الأشياء: مثلًا اللعبة التي جعلت فيليب يلعبها، وجعلته يتحمس بشكل مبالغ فيه. وكذلك كل شيء تقريبًا يتعلق بهارولد ورفاقه، وكل شيء مهما صغر عن تلك الفتاة التي قفزت داخل السيارة.
هناك أناس يتحلَّون دومًا بالتهذيب والتفاؤل، ويلطِّفون أي أجواء يُوجَدون فيها، ولا يمكنك أن تقول مثل هذه الأشياء لأناس مثل هؤلاء؛ لأنها قد تفسد تلك الأجواء اللطيفة. اندهشت إيف لاكتشاف أن إيان من أولئك الناس — بالرغم من دماثته اللحظية معها — وأن صوفي هي التي تشكر أقدارها السعيدة التي جمعتها به. في الماضي، كان من المعتاد أن يطلب كبار السن منك الحماية، لكن بدأ الآن أناس أصغر سنًّا يطلبونها، وكان على شخص مثل إيف كبت شعورها وعدم إظهار كم هي عالقة بين هذا وذاك؛ فحياتها بأكملها عرضةٌ لأن توصم بالتخبط والخطأ الجسيم.
كان بإمكانها ذكر أن رائحة المنزل كانت نتنة أو أن مالكه ورفاقه بدوا في قمة السُّكْر والعربدة، لكنها ما كانت لتقول إن هارولد كان عاريًا، وبالطبع ما كانت لتذكر خوفها، وقطعًا ما أثار خوفها.
تولى فيليب مسئولية جمع قشور الذرة وحملها لإلقائها بطول حدود الحقل. وبين الحين والآخر، كانت ديزي تلتقط قليلًا منها لتوزعها حول المنزل. لم يُضِف فيليب شيئًا لرواية إيف، ولم يَبدُ مهتمًّا بالرواية من الأساس، لكن ما إن أنهت إيف رواية قصتها، وسألها إيان (الذي اهتم بربط هذه النوادر المحلية بمجال دراسته المهنية) عن معلوماتها حول انهيار الأنماط القديمة للحياة القروية والريفية، وانتشار ما يسمى بالأعمال التجارية الزراعية، حتى نظر فيليب لأعلى متوقفًا عن جمع القشور منحنيًا وزاحفًا حول أقدام الكبار ورفع عينيه إلى إيف. نظر إليها نظرة خاوية في لحظة تآمر أجوف، وابتسم ابتسامة دفينة تلاشت قبل أن يلاحظها أحد.
ماذا يعني هذا؟ لا يعني سوى أنه بدأ تخزين الأحداث وكتمان الأسرار، وقرر من تلقاء نفسه ما يجب حفظه في طي النسيان وكيفية حفظه، وماذا ستعني له هذه الأمور فيما بعد، في مستقبله المجهول.
•••
إذا حضرت الفتاة لتبحث عنها، فسيكون الجميع حاضرًا — فهم لن يرحلوا ليلًا — وحينها لن يُجدِي حرص إيف.
ولكن ما كانت الفتاة لتأتي؛ فلسوف تُعرَض عليها فرصٌ أفضل قبل أن تمرَّ عشر دقائق على وقفتها على الطريق السريع. ولربما تسنح لها فرص أكثر خطرًا لكنها أكثر إثارة للاهتمام، بل والأرجح أكثر ربحًا.
ما كانت لتأتي، إلا إذا التقت شابًّا طائشًا متشردًا بلا مأوًى عديم الشفقة في مثل عمرها (وحينها كانت ستقول له: أعرف مكانًا يمكن أن نقيم فيه إذا ما استطعنا التخلص من المرأة العجوز).
ليس الليلة؛ ولكن الليلة التالية، سوف تستلقي إيف في هذا البيت الخاوي بين جدرانه العريضة تتجهز لتخفيف عبء نفسها والتحرر من التفكير في أي عواقب، ومن أي فكرة تدور في ذهنها، خلا حفيف عيدان الذرة الطويلة التي ربما ستتوقف عن النمو لكنها ستواصل إصدار تلك الضوضاء النابضة بالحياة بعد أن يسدل الليل ستائره عليها.