ثراء فاحش
في مساء إحدى الليالي الصيفية عام ١٩٧٤ — وحين كانت الطائرة على وشك التوقف عند صالة الوصول — انحنت كارين لتلتقط بعض الأشياء من حقيبة ظهرها؛ قبعة بيريه سوداء اعتمرتها وأمالتها على إحدى عينيها، وأحمر شفاه تزيَّنت به متخذةً من زجاج النافذة مرآة — إذ كان الظلام قد حلَّ في تورونتو — ومبسم سجائر طويل أسود اللون أمسكت به لتضعه بين أسنانها في اللحظة المناسبة. كان البيريه ومبسم السجائر من مقتنيات زوجة أبيها، وقد سرقتهما كارين من بين الأشياء التي ارتدتها زوجة أبيها عندما تنكَّرت في زي إيرما لادوس في إحدى الحفلات. أما أحمر الشفاه، فكانت قد ابتاعته لنفسها.
كانت تعرف أنه من الصعب أن يراها الناس امرأة بالغة، لكنها كذلك ما كانت لتبدو في أعينهم نفس الفتاة ذات العشرة أعوام التي سافرت على متن الطائرة في أواخر الصيف الماضي.
لم تلفت انتباه أحد، حتى عندما وضعت طرف مبسم السجائر في فمها ورسمت على وجهها تعبيرًا متجهمًا؛ إذ كان الجميع في حالة من التشويق أو الارتباك أو الابتهاج أو الحيرة، وبدا أن معظمهم يرتدي زيًّا تنكريًّا. فالرجال السود كانوا يرفلون في عباءات برَّاقة وقبعات صغيرة مزخرفة، والنسوة العجائز يجلسن مقوَّسات الظهر على الحقائب ويلففن رءوسهن بالشيلان، وشباب الهيبيز يرتدون الملابس الغريبة ويتزينون بالحلي. وما لبثت أن وجدت نفسها محاطة بمجموعة من الرجال المتجهمين، يعتمرون قبعات سوداء وتتدلى على وجناتهم خصلات من الشعر المجعد.
ما كان من المفترض أن يصل أولئك الأشخاص الذين كانوا ينتظرون الركاب إلى هذا المكان، لكنَّ هذا ما حدث؛ إذ تسللوا عبر الأبواب الأوتوماتيكية. ومن بين الحشود على الجانب الآخر من سير الحقائب، رأت كارين أمها — روزماري — التي لم تلحظها بعد. كانت روزماري ترتدي فستانًا طويلًا، لونه أزرق داكن ومنقوش بدوائر ذهبية وبرتقالية، وكانت قد صبغت شعرها منذ قريب؛ إذ كان شديد السواد، ومصففًا لأعلى وملفوفًا بميل كعُش الطائر. بدت أكبر سنًّا من الصورة التي احتفظت بها كارين في مخيلتها، وبائسة قليلًا. لم تتوقف نظرات كارين عندها، وإنما استمرت تجول ببصرها باحثة عن ديريك. كان من السهل العثور عليه بسبب قامته الطويلة وجبهته اللامعة وشعره الفاتح المتموج الذي يصل طوله إلى كتفيه. كان من السهل العثور عليه أيضًا بسبب عينيه اللامعتين ذواتَي النظرات الثابتة، وفمه الذي يرتسم عليه تعبير ساخر، وقدرته على الثبات وعدم الحركة، على عكس روزماري التي ما توقفت في هذا الحين عن التحرك وشد جسمها لأعلى والتحديق في الركاب بارتباك وإحباط.
لم يكن ديريك يقف خلف روزماري، بل لم يكن بجوارها من الأساس. إن لم يكن في دورة المياه، فهو لم يأتِ معها.
انتزعت كارين مبسم السجائر من فمها وضبطت البيريه للخلف. إذا لم يكن ديريك موجودًا، فلا معنى لهذه المزحة؛ إذ لن يكون لها تأثير على روزماري سوى الارتباك، وهو ما كانت تشعر به في هذه اللحظة إلى جانب تعاستها.
•••
قالت روزماري في دهشة وعيناها مغرورقتان بالدموع: «تضعين أحمر شفاه.» وطوَّقت كارين بأردانها التي كانت تشبه الجناحين، وانبعثت منها رائحة زبدة الكاكاو. «لا تقولي إن أباك سمح لك باستخدام أحمر الشفاه.»
ردَّت كارين: «كنت أود المزاح معك، أين ديريك؟»
قالت روزماري: «ليس هنا.»
رأت كارين حقيبتها على سير الحقائب، فانحنت وشقَّت طريقها بين الناس وجرَّتها. حاولت روزماري أن تساعدها في حملها، لكن كارين قالت: «لا عليك، لا عليك.» تدافعتا حتى وصلتا إلى أبواب الخروج وتخطَّتا حشود المنتظرين الذين لم يكن لديهم جرأة أو صبر على التدافع. لم تتحدثا معًا حتى خرجتا إلى الهواء الحار ليلًا، وتحركتا نحو مرأب السيارات. ثم قالت كارين: «ما الأمر؟ عاصفة جديدة؟»
«عاصفة» هي الكلمة التي كانت روزماري وديريك أنفسهما يستخدمانها لوصف شجاراتهما التي كانا يرجعانها إلى صعوبات عملهما معًا في كتاب ديريك.
قالت روزماري بهدوء مخيف: «لم نَعُد نتقابل، لم نَعُد نعمل معًا.»
قالت كارين: «حقًّا؟ أتعنين أنكما انفصلتما؟»
قالت روزماري: «ذلك إذا كان من الممكن أن ينفصل اثنان مثلنا.»
•••
كانت أضواء السيارات لا تزال تغمر طرقات المدينة كلها، وفي الوقت نفسه تنبعث منها حول الجسور الممتدة ذات المنعطفات والجداول المائية أسفلها. لم تكن سيارة روزماري تحتوي على مكيِّف هواء؛ ليس لأنها لا تستطيع تحمُّل ثمنه، بل لأنها لا تؤمن بضرورته؛ ولهذا فقد كان من الضروري أن تفتح نوافذ السيارة مما أدى إلى تسلل ضوضاء السيارات الأخرى كالنهر المتدفق. كانت روزماري تكره القيادة في تورونتو، حتى إنها تستقل الحافلة حين تأتي مرة أسبوعيًّا لمقابلة الناشر الذي تعمل معه، وفي أوقات أخرى يقلُّها ديريك. ظلت كارين صامتة وهما تنحرفان عن طريق المطار السريع، واتجهتا شرقًا على طريق ٤٠١، ثم انعطفتا بعد نحو ثمانين ميلًا — سيطر خلالها شرود الذهن على الأم بين الحين والآخر — إلى الطريق السريع الثانوي الذي يصل بهما إلى حيث تعيش روزماري.
قالت كارين: «إذن فقد رحل ديريك! هل سافر في رحلة؟»
ردت روزماري: «ليس على حد علمي. وحتى لو فعل، ما كنت لأعرف.»
«وماذا عن آن؟ ألا تزال هناك؟»
قالت روزماري: «هذا محتمل؛ فهي لا تذهب إلى أي مكان.»
«هل أخذ كل أغراضه معه؟»
كان ديريك قد أتى بأغراض تفوق بكثير ما لزمه للعمل في التأليف مستعينًا برزم كثيرة من النصوص، ووضعها في الكارافان حيث تعيش روزماري. وما كانت هذه الأغراض سوى كتب بالطبع؛ ولكنها ليست فقط الكتب التي سيستخدمها كمراجع، بل كتب ومجلات يقرؤها في فترات استراحة تتخلل عمله بينما هو مستلقٍ على فراش روزماري، وأسطوانات موسيقى، وملابس وأحذية طويلة الرقبة ينتعلها إذا ما قرر أن يتنزه سيرًا على قدميه بين الشجيرات، وحبوب لعلاج اضطرابات المعدة ونوبات الصداع، بل إنه أحضر معه أخشابًا ومعدات لصنع مظلة خشبية. كان يحتفظ في دورة المياه بأدوات الحلاقة، وكذلك الفرشاة ومعجون الأسنان المخصص للَّثة الحساسة. وكانت مطحنة القهوة الخاصة به على طاولة المطبخ (وكانت هناك مطحنة أخرى أحدث وأفخر ابتاعتها آن ووضعتها على طاولة المطبخ داخل المنزل الذي كان لا يزال يسكن فيه).
قالت روزماري: «لم يترك منها شيئًا.» ثم توقفت بالسيارة بجوار متجر كعك — كان لا يزال يفتح أبوابه — على أطراف أول مدينة قابلتاها على الطريق السريع.
قالت: «سأبتاع قهوة لتبقيني يقظة.»
عادةً عندما كانت روزماري تتوقف أمام هذا المتجر وبصحبتها كارين وديريك من قبل، لم تكن الابنة وديريك يترجلان عن السيارة؛ فديريك لم يكن يحتسي تلك القهوة، وكان يقول لكارين: «أمك تدمن ارتياد مثل هذه الأماكن؛ لأن طفولتها كانت بائسة.» لم يكن يعني أن روزماري كانت تُصطحب لمثل هذه الأماكن، وإنما كانت محرومة من دخولها، كما كانت محرومة من كل الأطعمة المقلية أو المحلاة، وأجبرت على الالتزام بحمية قوامها الخضراوات والعصيدة اللزجة. ولم يكن هذا لفقر والدَيها — فقد كانا ثريَّيْن — وإنما لهوسهما وخوفهما من أطعمة بعينها منذ الصغر. عرف ديريك روزماري لفترة قصيرة — مقارنةً بالسنين التي عرفها فيها تيد، والد كارين — لكنه كان يتحدث بسلاسة أكثر من تيد عن طفولتها وإفشاء أسرار تلك الفترة — مثل طقس الحقنة الشرجية الأسبوعي — التي كانت روزماري تتجاهل الحديث عنها.
لم يحدث قط خلال الوقت الذي قضته كارين في المدرسة بصحبة تيد وجريس أن وجدت نفسها في مكان تنبعث منه تلك الرائحة المزعجة للسكر المحروق والدهن ودخان السجائر والقهوة. أما روزماري فقد طافت عيناها بسعادة بين أرفف الكعك المحلى بالكريمة — المحشو بالجيلي والمغطى بطبقة من السكر البني والزبد والشوكولاتة — والبقلاوة والإكلير والحلوى المخروطية والكرواسون المحشي وكعك الشوفان والشوكولاتة. لم تجد سببًا لأن ترفض أيًّا من هذه الأصناف، ربما بالطبع فيما عدا الخوف من السمنة، ولم تكن قادرة على تصور ألا تكون هذه المأكولات هي ما يشتهيه الجميع.
وعلى طاولة المتجر — حيث لا يُسمح لأحد بالجلوس أكثر من عشرين دقيقة كما تقول اللافتة — جلست روزماري بالقرب من امرأتين شديدتَي البدانة، شعرهما كثيف مموَّج، وبينهما رجل نحيل طفولي المظهر رغم تجاعيد وجهه، كان يتحدث بسرعة وبدا يتندر بالنكات. وبينما كانت السيدتان تهزان رأسيهما وتضحكان — وروزماري تلتقط الكرواسون باللوز من الطبق — غمز الرجل بعينه لكارين على نحو بذيء وإيحائي؛ نبَّهتها هذه الغمزة إلى أن أحمر الشفاه لا يزال على شفتيها. ثم قال لروزماري: «لا تستطيعين مقاومة الحلوى، أليس كذلك؟» فضحكت على اعتبار أن ما قاله دالٌّ على الألفة المميزة لأهل المدينة.
ردَّت عليه: «بلى، لا أستطيع البتة.» ثم التفتت لكارين وسألتها: «أواثقة أنك لا تريدين شيئًا؟ قطعة حلوى واحدة؟»
فقال الرجل صاحب التجاعيد: «تحرص فتاتكِ الصغيرة على العناية بقوامها.»
•••
كادت شوارع ذاك الجزء الشمالي من المدينة تخلو من أي سيارات مارة. بدأ الجو يبرد وتفوح منه رائحة رطوبة عطنة، وعلا صوت نقيق الضفادع حتى إنه غطى على صوت السيارة في بعض الأماكن. انعطف هذا الطريق السريع ذو الحارتين أمام صفٍّ من الشجيرات الكثيفة دائمة الخضرة وحقول أشجار العرعر الأقل كثافة والمزارع التي تمتد حتى الغابة، ثم انعطف مرة أخرى فأنارت مصابيح السيارة الأمامية الطريق وسقط ضوءُها على أول كومة من الأحجار؛ كان بعضها ذا لون رمادي ووردي لامع، والبعض الآخر أحمر بلون الدم الجاف. وسرعان ما تكرر المرور بهذه الأحجار مرة تلو الأخرى، وفي بعض الأماكن رأتاها بألوان رمادية أو بيضاء مائلة للخضرة؛ متراصة في طبقات سميكة أو رفيعة — وكأن شخصًا ما نظمها على هذا النحو — غير مكومة معًا كأول مرة صادفتاها. تعرَّفت كارين على هذه الأحجار؛ إنها أحجار الكلس التي تُبنى بها الأساسات، وفي هذه الأماكن كانت مختلطة بأحجار الدرع الكندي. ديريك هو من قال لها هذا. كان يقول إنه يتمنى لو كان جيولوجيًّا؛ لأنه يحب الصخور، لكنه ما كان ليفضل ذهاب الربح لصالح شركات التعدين. وكان شغوفًا بالتاريخ أيضًا؛ كان له مزيج غريب من الأشياء المفضلة. كان يقول إن التاريخ يصلح للرجل البيتوتي، والجيولوجيا للرجل المنطلق المحب للعمل في الهواء الطلق؛ يردِّد ذلك بوقار ورزانة يوحيان بأنه يسخر من نفسه.
الشيء الذي أرادت كارين أن تتخلص منه الآن — بل وتمنَّت أن تطيح به من نوافذ السيارة ليتلاشى في ظلمة السماء مع الهواء المندفع — هو مشاعر الازدراء والتعالي نحو حلوى الكرواسون باللوز والقهوة الرديئة التي تحتسيها روزماري خلسة، وذاك الرجل الذي كان يجلس على طاولة المتجر، بل وأيضًا فستان روزماري المتصابي الذي كان أقرب لثياب الهيبيز، وشعرها المشعث. أرادت أيضًا التخلص من شعورها بافتقاد ديريك، وبأنه خلَّف فراغًا كبيرًا، وبأن فرصة لقائه آخذة في التضاؤل. لكنها قالت بصوت عالٍ: «إنني سعيدة؛ سعيدة أنه رحل.»
قالت روزماري: «أحقًّا أنتِ سعيدة؟»
قالت كارين: «ستكونين أكثر سعادة.»
ردَّت روزماري: «نعم، لقد بدأتُ أستعيد احترامي لذاتي. لا يُدرك المرء إلى أي حدٍّ قد فقد احترامه لذاته، وإلى أي مدًى يفتقده إلا بعد أن يبدأ في استعادته. أود أن نحظى معًا بعطلة صيفية طيبة بالفعل. يمكن أن نخرج في رحلات قصيرة معًا. لا مشكلة لدي في الذهاب بالسيارة إلى أي مكان آمن. يمكننا أن نسير في الغابة حيث كان يصطحبك ديريك. أحب أن نفعل هذا.»
قالت كارين: «حسنًا» مع أنها لم تكن واثقة تمامًا أنهما لن تضلا الطريق دون ديريك. لم تكن تلك النزهات هي ما يشغل تفكيرها، بل انشغلت بمشهد حدث الصيف الماضي. حينها كانت روزماري مستلقية على الفراش، متدثرة بلحافها، تنتحب وتعض بأسنانها عليه وعلى الوسادة من الغضب والحزن، بينما يجلس ديريك أمام الطاولة — حيث كانا يعملان — وفي يده صفحة من النص يقرؤها. قال لكارين: «هل بإمكانك أن تفعلي شيئًا لتهدئة أمك؟»
قالت كارين: «إنها في حاجة إليك أنت.»
قال ديريك: «لا أستطيع أن أتعامل معها حين تكون في هذه الحالة.» وضع من يده الصفحة التي انتهى منها، ثم التقط أخرى. وبين الصفحة والأخرى، ينظر إلى كارين وعلى وجهه عبوس ومعاناة. بدا مرهقًا عجوزًا تعبًا. قال لها: «لا أستطيع تحمُّلها. أنا آسف.»
لذا دلفت كارين لغرفة النوم حيث تستلقي روزماري وأخذت تربت على ظهرها، فاعتذرت لها روزماري.
وتساءلت: «ماذا يفعل ديريك؟»
ردَّت كارين: «يجلس في المطبخ.» إذ لم تُرِد أن تقول إنه «يقرأ».
«ماذا قال؟»
«طلب إليَّ أن آتي لأتكلم معك.»
«آه يا كارين؛ كم أشعر بالخزي الشديد!»
ماذا حدث ليبدأ هذا الشجار؟ كانت روزماري دائمًا ما تقول لها — بعد أن تهدأ وتهندم نفسها — إن السبب هو خلاف بشأن العمل. وفي تلك المرة، قالت لها كارين: «إذن لِمَ لا تتوقفين عن العمل في كتابه هذا؟ لديك من الأمور الخاصة بك ما يشغلك.» كانت روزماري محررة نصوص، وهو الأمر الذي جعلها تقابل ديريك؛ ليس لأنه تقدم بكتابه إلى الناشر الذي تعمل لديه — فلم يكن قد عرفه بعد — بل لأنها كانت تعرف أحد أصدقائه الذي قال له: «أعرف امرأة يمكن أن تساعدك.» ولم يمضِ وقت طويل حتى انتقلت روزماري إلى الريف، ثم إلى الكارافان — الذي لم يكن بعيدًا عن بيته — كي تكون قريبة منه لتنجز له عمله. في البداية، احتفظت بالشقة التي تمتلكها في تورونتو، لكنها تخلَّت عنها؛ لأنها صارت تقضي جلَّ وقتها في الكارافان. ولكنها في الوقت نفسه، لم تتوقف عن العمل على تحرير نصوص أخرى — وإن لم تكن كثيرة — واستطاعت أن تلتزم بالعمل يومًا واحدًا أسبوعيًّا في تورونتو، فكانت تخرج في الساعة السادسة صباحًا وتعود بعد الحادية عشرة ليلًا.
سأل تيد كارين: «ما موضوع هذا الكتاب؟»
فردَّت عليه: «يتحدث عن المستكشف لاسال والهنود.»
«أهذا الرجل مؤرخ؟ هل يدرِّس في الجامعة؟»
لم تكن لدى كارين إجابة عن هذا السؤال؛ فقد عمل ديريك في مهن كثيرة؛ عمل مصورًا، وفي منجم، وخبير معاينة، أما عن عمله في التدريس فلعله — كما ظنَّت كارين — قد عمل في مدرسة ثانوية. وكانت آن تقول عن عمله: «إنه لا يتسم بأي نظام.»
كان تيد نفسه يدرِّس في الجامعة؛ إذ كان أستاذ اقتصاد.
بالطبع لم تخبر كارين تيد وجريس أي شيء عما حدث من مآسٍ ناتجة عن الخلافات المتعلقة — ظاهريًّا — بهذا الكتاب. كانت روزماري تلوم نفسها على هذه الخلافات وترجعها أحيانًا إلى التوتر، وأحيانًا أخرى إلى مرورها بسن اليأس. ولقد سمعتها كارين تتحدث إلى ديريك ذات مرة قائلة: «سامحني»، فرد عليها ديريك بنبرة رضا تعوزها الحماسة: «ليس ثمة ما أسامحك عليه.»
حينها غادرت روزماري الغرفة. لم يسمعاها تشرع في النحيب مرة أخرى، لكنهما ظلا يترقبان بكاءها. أمعن ديريك النظر في عينَي كارين، وعلى وجهه تعبير هزلي يمتزج فيه الألم بالحيرة.
لعله كان يقول في نفسه: «ماذا فعلتُ هذه المرة؟»
قالت كارين بصوت يفيض شعورًا بالخزي: «إنها حساسة للغاية.» أيرجع هذا إلى سلوك روزماري؟ أم لأن ديريك بدا وكأنه يقحمها — أي كارين — في ذلك الشعور بالرضا والاستخفاف الذي تجاوز كثيرًا هذه اللحظة؛ لأنه لا يسعها إلا أن تشعر بالفخر؟
أحيانًا كانت تخرج من البيت غير مكترثة، وتسلك الطريق قاصدة زيارة آن، ودائمًا ما كانت آن تسعد لقدومها. لم تسأل قط عن سبب الزيارة، لكن إن قالت كارين: «جرى بينهما شجار أحمق»، أو «إنهما يمران بإحدى عواصفهما» — وذلك فيما بعد عندما أصبحا يشيران إلى خلافاتهما بكلمة عاصفة — فحينها لا يبدو عليها أي شيء يدل على دهشة أو استياء. ولعلها تقول: «ديريك كثير المطالب» أو «أظنهما سيسويان أمورهما معًا.» لكن إن أرادت كارين أن تستفيض قائلة: «روزماري تبكي»، فإن آن تقول حينها: «هناك أمور أفضِّل عدم الحديث عنها، ألا ترين هذا؟»
لكن هناك أمورًا أخرى كانت تنصت إليها بابتسامة تنمُّ عن التحفظ. كانت آن امرأة جميلة المحيا، ممتلئة القوام، شيباء الشعر منسدل على كتفيها، وعلى جبهتها. حين كانت تتحدث، كانت عيناها ترمشان في العادة، ولا تنظر في عينَي محدثها (قالت روزماري إن ذلك بسبب اضطراب في أعصابها). وكانت شفتاها — شفتا آن — رفيعتين للغاية وتظهران بالكاد عندما تبتسم، وما ابتسمت قط وفمها مفتوح، بل أغلقته دومًا كأنها تحبس شيئًا لا تريد إخراجه.
قالت كارين: «هل تعرفين كيف قابلتْ روزماري تيد؟ في محطة انتظار الحافلة وسط المطر، بينما كانت تضع أحمر الشفاه.» ثم استطردت لتشرح أن روزماري كانت تضطر للتزين في المحطة؛ لأن والديها لم يكونا يعرفان أنها تستخدم مساحيق التجميل؛ فالديانة التي كانوا يؤمنون بها تحرِّم أحمر الشفاه، وكذلك الأفلام، وارتداء الكعب العالي، والرقص، والسكَّر والقهوة والمشروبات الكحولية، والسجائر بالطبع. وكانت روزماري في عامها الأول في الجامعة، ولم تكن ترغب أن تبدو متشددة. وكان تيد مدرسًا مساعدًا في الجامعة.
أضافت كارين: «لكن كلًّا منهما كان يعرف الآخر مسبقًا.» ثم أخذت تشرح لها أنهما كانا يعيشان في الشارع ذاته؛ تيد في بيت صغير ملحق بأكبر بيوت الأثرياء — كان والده السائق والبستاني وأمه مدبرة المنزل — وروزماري في أحد بيوت الأثرياء العادية على الجهة الأخرى من الشارع (مع أن حياة والديها لم تكن حياة أثرياء إطلاقًا؛ فلم يكن أفراد الأسرة يمارسون أي رياضة أو يذهبون إلى حفلات أو رحلات، ولسبب ما لم يكن في المنزل ثلاجة، وإنما ظلوا يستخدمون صناديق ثلج لحفظ الأطعمة، إلى أن توقَّف متجر الثلج عن العمل).
كان تيد يمتلك سيارة اشتراها بمائة دولار، وفي تلك الليلة — حيث تقابلا — أشفق على روزماري من المطر فعرض عليها أن يقلَّها في سيارته.
بينما كانت كارين تسرد هذه القصة على آن، تذكرت حينما كان والداها يقصانها عليها ويضحكان ويقاطع أحدهما الآخر بطريقتهما المعتادة. دائمًا ما كان تيد يذكر سعر السيارة وطرازها وسنة إنتاجها (ستودبيكر، ١٩٤٧)، وتذكر روزماري أن الباب الأمامي — الملاصق للمقعد الذي يجاور مقعد تيد — لم يكن يفتح، فكان تيد يضطر للخروج من السيارة حتى تركب هي في البداية عبر مقعده. وكان يذكر أيضًا أنه بعد لقائهما الأول تحت المطر بفترة وجيزة اصطحبها — بعد الظهيرة — لدار السينما لمشاهدة أول فيلم في حياتها، واسم الفيلم «البعض يحبها ساخنة»، وأنه يومها خرج من السينما في وضح النهار وأحمر الشفاه يلطخ وجهه؛ لأن روزماري لم تكن تعلم وقتها ماذا كانت الفتيات الأخريات يفعلن بأحمر الشفاه. كان يردد دائمًا: «كانت روزماري شديدة الحماس.»
بعدها تزوجا وعُقدت المراسم في منزل القس؛ وكان ابنه صديقًا لتيد. ما كان أهلهما يعرفان بزيجتهما هذه، وبعد مراسم الزفاف مباشرةً جاءتها الدورة الشهرية، فكانت أولى المهام الزوجية التي اضطلع بها تيد كرجل متزوج هي شراء الفوط الصحية.
«هل تعرف أمكِ أنكِ تلقين على مسامعي هذه الأخبار يا كارين؟»
«لو علمتْ لن تعترض. بعدها، حين اكتشفت أمها أمر الزواج، آوت إلى فراشها من الصدمة، وتملكها شعور مروع لهذا الخبر. لو علم والداها أنها ستتزوج كافرًا، لحبساها في المدرسة الدينية التابعة للكنيسة بتورونتو.»
قالت آن: «كافر؟ حقًّا؟ وا أسفاه!»
ربما كانت تأسف لعدم استمرار الزواج بعد كل هذا العناء.
•••
تزحزحت كارين لأسفل على مقعدها في السيارة، فأصبح رأسها يصطدم بكتف روزماري.
قالت: «هل يضايقكِ هذا؟»
قالت روزماري: «لا.»
قالت كارين: «لن أنام، أريد أن أكون مستيقظة حين ندخل الوادي.»
فشرعت روزماري في الغناء:
غنَّت بصوت خفيض متأنٍّ مقلِّدة صوت بيت سيجر في تسجيله للأغنية، ولم تُفِق كارين من نومها إلا حين توقفت السيارة بعد أن صعدت طريقًا منحدرًا قصيرًا مليئًا بالحفر حتى وصلت إلى الكارافان، ثم ظلت واقفة تحت الأشجار بجانبه. كان المصباح مضاءً فوق الباب مباشرةً. لم يكن ديريك بالداخل، وكذلك أيٌّ من أغراضه. لم تُرِد كارين أن تتحرك من السيارة، وإنما أخذت تراوغ وتحتجُّ على نحو لطيف، ولم تكن لتتصرف على هذا النحو في وجود أي شخص سوى روزماري.
قالت روزماري: «هيا اخرجي. اخرجي، ستأوين إلى الفراش بعد دقيقة، هيا.» ثم أكملت وهي تجرُّها وتضحك: «أتظنين أنني أستطيع حملك؟» وعندما جرَّت كارين للخارج، ما أدى إلى تعثر الفتاة بالقرب من الباب، قالت: «انظري إلى النجوم، انظري إلى النجوم، إنها رائعة.» وما كان من كارين إلا التذمر وهي ما زالت تخفض رأسها.
قالت روزماري: «إلى الفراش، إلى الفراش.» دخلتا الكارافان، وانبعثت منه رائحة طفيفة خلَّفها ديريك؛ حيث الماريجوانا وبذور القهوة والأخشاب. انبعثت منه أيضًا رائحة المكان نفسه الناتجة عن عدم تهويته لفترة، إلى جانب رائحة السجاد والطبخ. استلقت كارين بثيابها كاملة على فراشها الصغير، وألقت لها روزماري بمنامتها التي كانت ترتديها العام الماضي وقالت: «بدِّلي ثيابك وإلا فسيصاحبك شعور مزعج حين تستيقظين. سوف نُحضِر حقيبتك في الصباح.»
بذلت كارين ما بدا لها مجهودًا مضنيًا وهي تعتدل جالسة لتخلع ثيابها ثم ترتدي المنامة. أما روزماري، فانشغلت بفتح النوافذ، وآخر ما سمعته كارين منها هو قولها: «ماذا عن أحمر الشفاه؟ ماذا كان الغرض منه؟» وكان آخر ما أحسَّت به هو ملمس قطعة القماش المبللة التي مسحت به أمها فمها لإزالة أحمر الشفاه؛ فبصقت كارين ما دخل فمها من مذاق سيئ، مستمتعة بشعورها الطفولي، وبرودة الفراش أسفل منها، ورغبتها الشديدة في النوم.
•••
كان ذلك ليلة السبت والساعات الأولى من صباح الأحد. وفي صباح الإثنين، تساءلت كارين: «هل يمكنني الخروج لزيارة آن؟» فقالت روزماري: «بالطبع. اذهبي.»
كانت كارين وأمها قد نامتا في وقت متأخر ليلة الإثنين، ولم تغادرا الكارافان طوال يوم الأحد. فزعت روزماري لهطول المطر وقالت: «الليلة الماضية كانت النجوم متلألئة في السماء، وكذلك عندما عدنا إلى البيت، وها هي تمطر في أول أيام إجازتك الصيفية.» كان على كارين أن تؤكد لها أن الأمر على ما يرام، فهي على أي حال تشعر بالكسل ولا تريد الخروج. أعدت روزماري لها قدحًا من القهوة بالحليب، وقطعت بطيخة لتأكلاها معًا غير أنها لم تكن ناضجة تمامًا (كانت آن تلاحظ هذا، لكن روزماري لم تلاحظ)، ثم قامتا في الرابعة عصرًا بإعداد وجبة عامرة من لحم الخنزير وكعك الوافل والفراولة والكريمة الصناعية. وفي قرابة الساعة السادسة، غابت الشمس وهما لا تزالان ترتديان منامتيهما. وهكذا انتهى اليوم بلا فائدة. قالت روزماري: «على الأقل لم نشاهد التليفزيون؛ وهذا إنجاز نهنئ أنفسنا عليه.»
قالت كارين وهي تشغِّله: «حتى الآن.»
كانتا تجلسان وسط كومة من المجلات القديمة التي سحبتها روزماري من الخزانة. كانت هذه المجلات موجودة في الكارافان عندما انتقلت إليه، وأخرجتها روزماري هذا اليوم وفي نيتها التخلص منها أخيرًا، لكن بعد أن تطَّلع عليها لتصنِّفها وترى إذا كان من بينها ما يستحق الاحتفاظ به. غير أنها لم تصنفها كما قالت؛ بل ظلت تقرأ بصوت عالٍ ما تجده من أخبار. ضجرت كارين في بادئ الأمر، لكنها تركت نفسها لاحقًا تنجذب إلى هذا الزمان الغابر، بإعلاناته الطريفة وصور السيدات بتسريحات الشعر غير العصرية.
لاحظت كارين أن هناك دثارًا مطويًّا وموضوعًا فوق الهاتف، فقالت: «ألا تعرفين كيف توقفين تشغيل الهاتف؟»
قالت روزماري: «لا أريد إيقاف تشغيله، وإنما أريد سماع رنينه ولا أجيبه. أود أن أمتلك القدرة على تجاهله. كل ما في الأمر أنني لا أريد رنينه عاليًا.»
لكنه لم يرن طوال اليوم.
في صباح الإثنين، ظل الدثار فوق الهاتف، وعادت المجلات إلى الخزانة؛ لأن روزماري لم تقرر أيٌّ منها ستتخلص منه. كانت السماء ملبدة بالغيوم لكنها لم تمطر. استيقظتا في وقت متأخر جدًّا مرة أخرى؛ لأنهما ظلتا مستيقظتين تشاهدان فيلمًا حتى الثانية صباحًا.
فردت روزماري بعض الأوراق المطبوعة على طاولة المطبخ. لم تكن صفحات من كتاب ديريك؛ فهذه الكومة الكبيرة قد اختفت. قالت كارين: «أكان كتاب ديريك شائقًا بالفعل؟»
لم تفكر قبل اليوم في أن تتحدث مع روزماري عنه، فقد كان نص كتابه من وجهة نظرها يشبه كومة كبيرة ومتشابكة من الأسلاك الشائكة الموضوعة باستمرار على الطاولة، وديريك وروزماري يحاولان دومًا فكَّها.
قالت روزماري: «لم يتوقف عن إضافة التغييرات والتعديلات؛ كان شائقًا لكنه مربك. في البداية، كان لاسال شغله الشاغل، ثم بعدها تحول إلى بونتياك وحاول أن يغطي الكثير عنه، لكنه لم يستطع أن ينجز ما يرضيه.»
قالت كارين: «إذن، فأنت سعيدة بأنكِ تخلَّصتِ منه.»
«غاية في السعادة، فلم يكن إلا سلسلة لا تنتهي من التعقيدات.»
«لكن، ألا تفتقدين ديريك؟»
قالت روزماري منشغلة بينما تميل متطلعة في إحدى الأوراق لتضع عليها علامة: «انتهت صداقتنا.»
«وماذا عن آن؟»
«وتلك الصداقة أيضًا أظنها تلاشت، بل إنني فكرت …» وضعت القلم من يدها، ثم أكملت: «فكرت في الرحيل من هنا، لكنني رأيت أن أنتظرك. لم أرغب أن ترجعي لتجدي كل شيء قد تغير. السبب الذي جئت هنا لأجله هو كتاب ديريك، بل هو ديريك نفسه، وأنت تعلمين هذا.»
قالت كارين: «ديريك وآن.»
«نعم. ديريك وآن. والآن اختفى السبب.»
كان هذا حين تساءلت كارين: «هل يمكنني الخروج لزيارة آن؟» وقالت روزماري: «بالطبع. اذهبي. لسنا مضطرتين لاتخاذ قراراتنا في عجالة. إنها مجرد فكرة راودتني.»
•••
سارت كارين على الطريق المفترش بالحصى، وأخذت تتساءل عما تغير بخلاف الغيوم التي لم تكن ضمن ما تحمل من ذكريات عن الوادي. بعدها أدركت أين يكمن التغيير؛ ففي الماضي لم تكن هناك أبقار تُرعى في الحقول، وأيضًا نما العشب؛ مما جعل شجيرات الصنوبر تنتشر، فصار من المتعذر رؤية مياه الجدول.
كان الوادي طويلًا ضيقًا، وعند نهايته يقع بيت ديريك وآن ذو الطلاء الأبيض. وكان سطح الوادي مفترشًا بالعشب المسطح المشذب الذي اخترقه الجدول صافيًا رقراقًا العام الماضي (أجَّرت آن الأرض — الآن — لرجل يمتلك قطيعًا من أبقار آنجس). وعلى جانبَي الوادي، اصطفت المرتفعات المنحدرة المغطاة بالأشجار والنباتات والتقت معًا عند حدوده خلف المنزل. كان الكارافان الذي استأجرته روزماري معدًّا في الأساس ليسكنه والدا آن، اللذان انتقلا إليه عندما امتلأ الوادي بالجليد في الشتاء؛ إذ أرادا العيش بالقرب من المتجر الذي كان يقع وقتها على ناصية طريق البلدة. لكن لم يتبقَّ من المتجر الآن سوى رصيف أسمنتي به فتحتان — حيث توجد أسطوانتا الغاز — وحافلة قديمة تغطي نوافذها الأعلام ويعيش بها بعض أفراد الهيبيز. وأحيانًا كانوا يجلسون على الرصيف ويحرصون على التلويح لروزماري وهي تمر أمامهم بسيارتها على نحو يوحي باحترامهم لها.
قال ديريك إن هؤلاء الشباب يزرعون الماريجوانا بين الشجيرات، لكنه لم يكن يشتري منهم؛ لأنه لا يثق في قدرتهم على اتخاذ التدابير الأمنية.
كانت روزماري ترفض أن تدخن مع ديريك.
ذات مرة قالت له: «أشعر بالارتباك حين أكون بالقرب منك؛ لا أظن أنه شيء سأشعر بالراحة وأنا أفعله.»
فردَّ عليها: «افعلي ما يحلو لكِ، مع أن هذا قد يساعدك.»
لم تكن آن لتدخن هي الأخرى؛ قالت إنها لو دخنت لشعرت بالحماقة؛ فهي لم تدخن أي شيء من قبل، بل إنها لا تعرف حتى كيف تستنشق الدخان.
لم تعرف أيٌّ منهما أن ديريك سمح لكارين ذات مرة أن تدخن، ولم تكن كارين نفسها تعرف كيف تستنشق الدخان؛ ولذا لزم عليه أن يعلِّمها. بذلت مجهودًا كبيرًا في المحاولة، استنشقت الدخان بعمق أكثر من اللازم، وكم قاومت لئلا تتقيأ. حدث ذلك في الحظيرة، حيث احتفظ ديريك بكل عينات الصخور التي جمعها من المرتفعات، وحينها أخذ ديريك يحثها على الثبات بأن طلب منها النظر إلى الصخور.
قال لها: «انظري إليها فحسب. انظري إليها وتأملي الألوان. لا تضغطي على نفسك وأنت تحاولين. فقط انظري وانتظري.»
لكن ما بعث على شعورها بالهدوء في النهاية كانت الكلمات المنقوشة على صندوق من الورق المقوَّى. كانت هناك مجموعة كبيرة من الصناديق المصنوعة من الورق المقوى التي حزمت آن فيها الأغراض عندما انتقلت هي وديريك إلى هنا من تورونتو منذ بضعة أعوام. أحد هذه الصناديق كان يحمل على جانبه رسمًا للعبة على شكل سفينة حربية، والكلمتين «بارجة حربية». وكانت أولى هاتين الكلمتين — بارجة — مكتوبة بخط أحمر، وكانت الحروف تومض وكأنها كُتبت بمصابيح نيون لتحثَّ كارين على تجاوز معنى الكلمة والانشغال بما هو أكثر؛ إذ أخذت تفكك الحروف وتكوِّن كلمات مختلفة منها.
قال لها ديريك: «ما الذي يضحكك؟» فأخبرته عما تفعل، وأخذت الكلمات تنهمر على لسانها على نحو مثير للإعجاب.
بار. جرة. جبْر. جرَّب. جراب. جر. بِر. بَر. تجارب. وكانت كلمة «تجارب» أفضل الكلمات؛ لأنها اشتملت على كل حروف «بارجة»، باستثناء أن التاء مفتوحة.
قال ديريك: «رائع، رائع يا كارين. البار جر الجرة.»
لم يشعر بالحاجة قط لأن يطلب منها عدم ذكر أيٍّ مما حدث لأمها أو لآن. وعندما قبَّلتها روزماري في تلك الليلة، اشتمَّت شعرها وضحكت قائلة: «يا إلهي، رائحته في كل مكان. ديريك حشاش بمعنى الكلمة!»
كانت تلك واحدة من المرات التي شعرتْ فيها روزماري بالسعادة؛ فقد كانت في بيت ديريك وآن يتناولون العشاء في الشرفة المغطاة. قالت آن: «تعالَي معي يا كارين لنرى إذا كنتِ تستطيعين مساعدتي في إخراج القشدة المخفوقة من القالب.» فتبعتها كارين، لكنها عادت متحججة بإحضار منقوع النعناع.
كان روزماري وديريك حينها متكئَيْن على الطاولة يداعب كلٌّ منهما الآخر — وكأنما يتبادلان القبلات — ولم يرياها عندما عادت.
ربما كانت تلك الليلة ذاتها هي التي مزحت فيها روزماري عند رؤية كرسيين بجوار الباب الخلفي وهي راحلة إلى الكارافان. كانا كرسيين قديمين من المعدن لونهما أحمر داكن، وعليهما وسادتان. كان وضعهما تجاه الغرب، نحو آخر ما تبقَّى من أشعة الشمس الغاربة.
قالت آن: «أعلم أن هذين الكرسيين القديمين بشعان. إنهما ملك والديَّ.»
قال ديريك: «إنهما ليسا مريحين حتى.»
قالت روزماري: «كلا، إنهما جميلان؛ يشبهانكما. أنا أحبهما. انظرا. ديريك وآن. ديريك وآن. ديريك وآن يشاهدان الغروب في نهاية يوم عمل شاق.»
قال ديريك: «هذا لو استطاعا مد البصر خلال عروش البازلاء.»
وفي المرة اللاحقة، عندما خرجت كارين من المنزل لتجمع خضراوات تحتاجها آن، لاحظت أن الكرسيين قد اختفيا، لكنها لم تسأل آن عما حدث.
•••
كان مطبخ آن في قبو المنزل، ويقع جزء منه تحت الأرض، حتى إن من يريد أن يدخله ينزل أربع درجات إلى أسفل. نزلت كارين هذه الدرجات، ثم ألصقت وجهها بالباب الشبكي حتى تستطيع الرؤية. كان المطبخ مظلمًا؛ إذ كانت الشجيرات تنمو أمام نوافذه العالية فتحول دون دخول الضوء، ولم تأتِهِ كارين قط قبل هذه المرة والمصابيح غير مضاءة. لكنها الآن غير مضاءة، حتى إنها لأول وهلة ظنت أن الغرفة خالية. لكنها بعد ذلك رأت أن هناك من يجلس على مائدة الطعام؛ كانت آن، لكن رأسها كان مختلفًا، وكانت تسند ظهرها إلى الباب.
لقد قصَّت شعرها فصار أقصر ومشعثًا، فبدت كأي كهلة شيباء. وكانت تفعل شيئًا وهي جالسة على مائدة الطعام؛ لأن مرفقيها كانا يتحركان. كانت تعمل في العتمة؛ ولذا لم تستطع كارين التحقق مما تفعل.
جرَّبت حيلة حتى تستدير آن؛ أخذت تحدِّق في رأسها من الخلف، لكنها لم تفلح؛ فجرَّبت أن تحرك أصابعها بخفة على شبكة الباب. وأخيرًا، أصدرت صوتًا لتلفت انتباهها.
«وُوو … وُو … وُوو … وُوو.»
نهضت آن على مضض، حتى ظنت كارين سريعًا — وبما لا يتفق مع المنطق — أن آن كانت تعلم أنها وراءها طوال الوقت؛ فربما رأتها قادمة ولذا جلست هكذا في هذا الوضع الحذر.
قالت كارين: «إنها أنا؛ ابنتك الضالة.»
قالت آن وهي تفتح سلسلة الباب: «لماذا فعلتِ ذلك؟» ولم تحيِّ كارين باحتضانها؛ وما فعلت ذلك قط معها، وكذلك ديريك.
لقد ازدادت بدانة — أو أن شعرها القصير جعلها تبدو أكثر بدانة — وكان وجهها ملطخًا ببقع حمراء، كأنها لدغات حشرات. وبدت عيناها محتقنتين.
قالت كارين: «هل تؤلمك عيناك؟ ألهذا تعملين في الظلام؟»
قالت آن: «يا إلهي، لم ألحظ هذا. لم ألحظ أن المصابيح غير مضاءة. كنت أنظف بعض الفضيات، وظننت أنني أراها بشكل جيد.» ثم بذلت مجهودًا كبيرًا لتبدو أكثر بهجة، متحدثةً مع كارين كأنها تخاطب طفلة أصغر بكثير من عمر كارين الحقيقي، قائلة لها: «تنظيف الفضيات عمل ممل للغاية، لا بد أنني انغمست فيه، ما جعلني لا أدري بما يحدث حولي. كم سيكون رائعًا أن تساعديني فيه!»
وهكذا صارت كارين مؤقتًا — وبتخطيط منها — الابنة الأصغر عمرًا من سنها الحقيقية؛ فتمددت على الكرسي المجاور للمائدة وقالت بصخب: «إذن، أين ديريك العجوز؟» جال بخاطرها أن سلوك آن الغريب قد يعني أن ديريك ربما ذهب في واحدة من رحلاته الاستكشافية في المرتفعات ولم يعد بعد، تاركًا وراءه آن وروزماري، أو أنه ربما يكون مريضًا أو مكتئبًا. سبق وأن قالت آن: «ما كان ديريك يشعر بنصف هذا الاكتئاب عندما تركنا المدينة.» وتساءلت كارين عما إذا كانت كلمة: «الاكتئاب» هي الكلمة الصحيحة لوصف ما يمر به؛ فقد بدا لها ديريك ناقدًا، وأحيانًا نافد الصبر. أهذا هو الاكتئاب؟
قالت آن: «أظنه بالقرب منا بلا شك في مكان ما.»
«لقد انفصل هو وروزماري، هل علمتِ هذا؟»
«نعم يا كارين. علمت.»
«أتشعرين بالأسى لما حدث؟»
قالت آن: «هذه طريقة جديدة ابتدعتها لتنظيف الفضيات. سأعلِّمك إياها. ما عليك إلا أن تلتقطي ملعقة أو شوكة أو أي شيء آخر وتغمسيه في هذا المحلول الموجود في هذا الحوض، وتتركيه للحظة ثم تلتقطيه وتغمسيه في ماء الشطف وتجففيه بمنشفة. أترين؟ إنها تلمع تمامًا كما كانت تلمع عندما أدعكها وأجليها. أو هكذا أظن. أعتقد أنها براقة للغاية. سوف أحضر بعض مياه الشطف النقية.»
غمست كارين شوكة في المحلول وقالت: «بالأمس قضينا — أنا وروزماري — اليوم كما حلا لنا، حتى إننا لم نبدل ثياب النوم. صنعنا كعك الوافل وقرأنا بعض الأخبار في المجلات القديمة؛ منها أعداد قديمة من «ليديز هوم جورنالز».»
قالت آن بشيء من الغلظة: «هذه المجلات تخص أمي.»
قالت كارين: «قرأت فيها الإعلان المروِّج لأحد الكريمات: «إنها جميلة. إنها مخطوبة. إنها تستخدم مستحضرات بوندز».»
كم أسعدها هذا الحديث! فابتسمت وردَّت عليها: «نعم، أتذكره.»
قالت كارين بنبرة صوت خفيضة وحزينة: «ألا يمكن إنقاذ هذه الزيجة؟» ثم تغيَّرت نبرتها إلى المداعبة الممزوجة بالتذمر.
«المشكلة أن زوجي سيئ الطباع للغاية، ولا أدري كيف أتصرف معه. لقد التهم جميع أطفالنا؛ ليس لأنني لا أطهو له طعامًا شهيًّا — فأنا أطهو له ما لذ وطاب — بل إني أقف كادحةً طوال اليوم أمام موقد حار كي أطهو له عشاء شهيًّا، ليأتي هو إلى المنزل وأول ما يفعله هو خلع ساق أحد الأطفال عن جسده …»
قالت آن ولم تعد تبتسم: «كفى. كفى يا كارين.»
فقالت كارين بهدوء وإصرار: «لكنني فعلًا أريد أن أعرف؛ ألا يمكن إنقاذ هذه الزيجة؟»
طوال العام المنصرم، حين كانت كارين تفكر في أكثر مكان تود أن تكون فيه، كان ذهنها يوجهها نحو هذا المطبخ، وهو حجرة كبيرة تظل أركانها معتمة حتى عندما توقد المصابيح، وتتخلل نوافذه أوراق الشجر الخضراء وتحتك بها مع حركة الرياح. وكل ما يوجد فيه بلا استثناء لا يمكن أن ينتمي لمطبخ بطبيعة الحال: ماكينة الخياطة ذات الدوَّاسة، والمقعد ذو الذراعين الضخمتين المبطنتين؛ بغطائه الكستنائي الذي استحال أخضر مائلًا للرمادي عند الذراعين، وتلك اللوحة الكبيرة المرسوم عليها شلال الماء التي رسمتها أم آن منذ زمن بعيد عندما كانت عروسًا لديها ما يكفي من الوقت الذي لم يُتَح لها فيما بعد.
(قال ديريك ذات مرة: «وهو من حسن حظنا جميعًا».)
سمعت كارين وآن صوت سيارة في باحة المنزل، فتساءلت كارين؛ أيمكن أن تكون روزماري؟ هل يمكن أن تكون روزماري من السيدات اللاتي يكتئبن حين يُتركن بمفردهن، فقررت أن تتبع كارين طالِبةً صحبتها؟
لكنها حين سمعت وقع حذاء على درج السلم بالمطبخ، عرفت أنه ديريك.
فصاحت: «مفاجأة، مفاجأة، انظري من القادم.»
دلف ديريك إلى المطبخ، وقال: «مرحبًا كارين.» قالها دون ذرة ترحيب. وضع على الطاولة كيسَيْن، فقالت له آن برقَّة: «هل أحضرت الفيلم الذي تريد؟»
قال ديريك: «نعم. ما هذه القذارة؟»
قالت آن: «كنت أنظف الفضيات.» ثم وجَّهت كلامها لكارين وكأنها تعتذر عمَّا قال: «لقد ذهب للمدينة لشراء فيلم فوتوغرافي للكاميرا ليلتقط صورًا للصخور.»
انحنت كارين على السكين الذي كانت تجفِّفه. أسوأ ما يمكن أن تفعل في تلك اللحظة هو أن تشرع في البكاء (كان هذا مستحيلًا في الصيف الماضي). سألت آن ديريك عن بعض الأشياء الأخرى — البقالة — التي أحضرها، بينما رفعت كارين عينيها متعمدة وثبَّتتهما على الجزء الأمامي من الموقد. قالت لها آن ذات مرة إنه لم يَعُد يُصنَّع، فهو مزيج من الأفران الخشبية والكهربائية، وعلى بابه صورة مركب شراعي مكتوب فوقها «مواقد كليبر».
هذا أيضًا كانت تتذكره طوال العام المنصرم.
قالت آن: «أعتقد أن كارين يمكنها مساعدتك في ترتيب الصخور.»
سادت فترة من الصمت، ربما نظر أحدهما إلى الآخر خلالها، ثم قال ديريك: «حسنًا يا كارين، تعالَي ساعديني في التقاط الصور.»
•••
كان كثيرٌ من تلك الصخور منتشرًا على أرضية الحظيرة، ولم تكن قد صُنِّفت بعدُ أو وُضعت عليها بطاقات للتعريف بها، لكن كانت هناك صخور أخرى موضوعة على الأرفف منفصلة، وأمام كلٍّ منها بطاقة مطبوعة لتعريفها. ظل ديريك صامتًا لفترة، بينما يحرك الصخور ويعبث بالكاميرا محاولًا التوصل إلى أفضل زاوية وأفضل إضاءة. وعندما بدأ في التقاط الصور، أخذ يُصدر أوامر مقتضبة لكارين كي تغير أماكن الصخور أو تميلها أو تلتقط صخورًا أخرى من الأرض كي يصورها، حتى وإن كانت بلا بطاقات تعريف. بدا لها أنه لا يحتاج — أو لا يريد — عونها بالفعل، ولأكثر من مرة يتأهب ويلتقط أنفاسه وكأنه على وشك إخبارها بهذا — أو بأمور أخرى هامة وغير سارة — لكن بعدها لا يقول سوى: «حركيها إلى اليمين قليلًا» أو «أديريها لأرى جانبها الآخر.»
طوال الصيف الماضي، ما فتأت كارين تُلحُّ إلحاح الصبية المزعجين وتطلب بجدية الذهاب مع ديريك في واحدة من رحلاته الاستكشافية، إلى أن وافق أخيرًا، لكنه صعَّب عليها الأمر قدر استطاعته، وجعل اصطحابها له هذه المرة بمنزلة الاختبار. رشَّا جسديهما برذاذ أوف الطارد للحشرات، لكنه لم يمنع عنهما الحشرات بالكلية، فقد تسللت إلى شعريهما وإلى ما تحت ياقتيهما وأساور قميصيهما. وكان عليهما أن يخوضا في الوحل وتبتلَّ أحذيتهما طويلة الرقبة من أسفل، ثم يتسلقا منحدرات شاهقة مغطاة بقصب التوت وشجيرات الورد البري ونباتات معترشة وعرة تعيق مسيرتهما. وكذلك كان عليهما أن يتسلقا نتوءات صخرية ملساء ومائلة. وكان كلٌّ منهما يضع جرسًا حول عنقه كي يعرفا أماكنهما من على بعدٍ إذا ما افترقا، وحتى تعرف الدببة أنهما قادمان فتبتعد عنهما.
وبينما يسيران، أتيا على كومة كبيرة من فضلات الدببة، وكانت لامعة بما يشير إلى أنه لم يمرَّ وقت طويل على إخراجها، وميَّزا فيها قلب ثمرة تفاح نصف مهضومة.
وخلال هذه الرحلة، أخبرها ديريك أنه كانت هناك مناجم كثيرة متناثرة في أنحاء هذه البلدة، وأن هذه المناجم تكاد تحوي بداخلها جميع أنواع المعادن، لكن بكميات زهيدة تحول دون جعلها مربحة. وقد زار هو نفسه كل هذه المناجم المهجورة التي كادت تسقط في طي النسيان، حيث كسَّر الصخور ليأخذ عينات، أو التقطها ببساطة من على الأرض. وفي هذا الشأن قالت آن: «أول مرة أتيت به إلى المنزل اختفى في أحد المرتفعات واكتشف منجمًا، حينها عرفت أنه — على الأرجح — سيتزوجني.»
كانت المناجم تمثل خيبة أمل لكارين، مع أنها لم تقل هذا قط؛ فقد كانت تحلم بشيء كمغارة علي بابا، تتلألأ فيها الأحجار اللامعة في الظلام. لكن ما حدث أن ديريك أراها مدخلًا ضيقًا — يبدو كشق طبيعي في الصخور — وقد صارت تسدُّه الآن شجرة حور امتدت جذورها في هذا المكان السخيف فنمت منحنية. أما عن المدخل الثاني، الذي قال ديريك إنه الأسهل، فقد كان مجرد فجوة في جانب تل، وبه عوارضُ متعفنةٌ — بعضها مسجًّى على الأرض وبعضها ما زال يدعم جزءًا من السقف — وقوالبُ طوب تحجز ثرًى وحطامٌ صخريٌّ. قام ديريك بتحديد الآثار الباهتة للقضبان التي كانت تسير فوقها عربة نقل المعادن. وحول المكان تناثرت قطع من مادة الميكة فقامت كارين بجمعها؛ على الأقل كانت جميلة وبدت كنزًا حقيقيًّا، كانت أشبه برقائق من الزجاج الأسود الناعم الذي يتحول لونه إلى الفضي عندما تنعكس عليه أشعة الشمس.
قال ديريك إن بإمكانها أن تأخذ قطعة واحدة منها لتحتفظ بها لنفسها وليس لتعرضها على الناس: «احفظي هذا السر، فأنا لا أريد أن يتحدث أحد عن هذا المكان.»
قالت كارين: «أتريدني أن أقسم ألا أفعل؟»
قال: «فقط تذكري ما قلته.» ثم سألها إذا كانت تريد أن ترى القلعة.
وتلك خيبة أمل أخرى، ومزحة أيضًا. قادها ديريك إلى مكان ذي جدران أسمنتية ألمَّ به الخراب، وقال إنه كان على الأرجح مكانًا لتخزين المعادن. أراها كذلك الطريق الذي يتخلل الأشجار الطويلة — الممتلئ الآن بالشجيرات — وأوضح أنه المكان الذي امتدت فيه قضبان عربات نقل المعادن منذ زمن. أما المزحة، فتتمثل في أن بعض شباب الهيبيز ضلوا طريقهم في هذه المنطقة منذ بضع سنوات، ثم عادوا بأخبار عن قلعة عثروا عليها. كان ديريك يكره أن يقع الناس في مثل هذه الأخطاء دون أن يتحققوا مما يرونه أمام أعينهم، وما يمكن إدراكه على نحو صحيح.
سارت كارين حول قمة الجدار المتداعي، ولم ينبهها ديريك كي تأخذ حذرها وتحترس في خطواتها كي لا تقع فينكسر عنقها.
وفي طريق عودتهما، هبت عاصفة رعدية فاضطرا أن يأويا إلى أجمة كثيفة من أشجار الأرز. لم تستطع كارين التحلي بالهدوء — ولم تستطع أن تحدد طبيعة ما تشعر به: أهو خوف أم ابتهاج؟ بعدها توصلت إلى أنه ابتهاج، فأخذت تقفز وتجري في دوائر وترفع ذراعيها لأعلى وهي تصيح تحت وميض البرق الذي اخترق مأواهما. طلب منها ديريك أن تهدأ وتجلس ثم تعد حتى خمسة عشر بعد كل ومضة لترى هل ساعد هذا في عدم حدوث المزيد من الرعد.
مع ذلك ظنت أنه فَرِحٌ بها. لم يظن أنها مذعورة.
إنها لحقيقةٌ أن هناك من الناس مَن إذا سببت لهم إزعاجًا إيجابيًّا أسعدتهم، وديريك واحد من هؤلاء. وإذا ما فشلت مع مثل هؤلاء الناس، فسوف يضعونك في تصنيف في أذهانهم لن تخرج منه أبدًا، بل وسوف يكنُّون لك الاحتقار إلى الأبد. ولعل الخوف من البرق أو رؤية فضلات الدببة، أو الرغبة في تصديق أن هذا الخراب اليباب هو بقايا قلعة — بل وحتى عدم القدرة على التعرف على الخصائص المختلفة لكلٍّ من الميكة والبيريت والكوارتز والفضة والفلسبار — كل هذا كان يمكن أن يدفع ديريك لأن ييأس منها، كما يئس بشكل أو بآخر من روزماري وآن. إنه هنا مع كارين على طبيعته حقًّا، يولي كل شيء اهتمامًا جادًّا. فقط حين يكون معها هي، وليس حين يكون مع أي منهما.
•••
تساءل ديريك: «أتلاحظين أن الأجواء تشوبها الكآبة هنا اليوم؟»
مررت كارين يدها على قطعة من الكوارتز، بدت أشبه بقطعة من الثلج بداخلها شمعة وسألته: «روزماري هي السبب؟»
ردَّ ديريك: «كلا، الأمر جدي. تلقَّت آن عرضًا لشراء هذا المكان. أتى إليها أحد المحامين من ستوكو وأخبرها أن شركة يابانية تريد أن تشتريه. إنهم يريدون الميكة كي يصنعوا محركات سيارات من السيراميك. وهي تفكر في الأمر، يمكنها أن تبيعه إذا أرادت. فهو ملكها.»
قالت كارين: «ولِمَ ترغب في هذا؟ في بيعه؟»
قال ديريك: «المال. لأجل المال.»
«ألا تدفع لها روزماري إيجارًا كافيًا؟»
«إلى متى سيدوم هذا؟ لن يؤجر المرعى هذه السنة؛ لأن الأرض مشبعة بالماء. والمنزل في حاجة إلى الإنفاق عليه لترميمه وإلا فسينهار. لقد عكفت أربع سنوات على كتاب لم أنتهِ من تأليفه، وقد أوشكنا على الإفلاس. هل تعلمين ماذا قال لها سمسار العقارات ذاك؟ قال: «هذا المكان قد يكون مدينة سدبري أخرى.» لم يكن يمزح.»
لم تدرِ كارين لماذا قد يمزح؛ فهي لا تعرف أي شيء عن سدبري. قالت: «لو كنتُ ثرية لاشتريت المكان، وحينها ستستمر فيما تفعل كما هو الحال الآن.»
قال ديريك بجدية: «يومًا ما ستصبحين ثرية، لكن هذا اليوم ليس بقريب.» وضع الكاميرا في حقيبتها، وقال: «فلتبقَي بجانب أمك؛ فهي ثرية ثراءً فاحشًا.»
شعرت كارين بسخونة في وجهها واستشعرت صدمة هذه الكلمات. كانت جملة لم تسمعها من قبل. ثراء فاحش. وبدت العبارة مقيتة.
قال: «حسنًا، سأذهب إلى المدينة لأعرف متى سيُقبلون على ذلك.» لم يسألها إذا ما كانت تريد الذهاب معه، وما كانت هي لتجيبه؛ فقد اغرورقت عيناها بالدموع؛ إذ صدمها ما قاله وطغى عليها.
كانت في حاجة لأن تذهب لدورة المياه؛ ولذا سارت باتجاه المنزل.
انبعثت رائحة طيبة من المطبخ؛ رائحة لحم يطهى على نار هادئة.
دورة المياه الوحيدة في البيت كانت تقع في الطابق العلوي، وعندما صعدت كارين سمعت صوت آن تتحرك في غرفتها. لم تنادِها أو تنظر إليها. لكن عندما بدأت كارين تنزل بعد أن قضت حاجتها، نادتها آن.
كانت قد وضعت مساحيق التجميل على وجهها؛ ولذا اختفى أثر البقع منه.
وعندما دخلت غرفتها، وجدت أكوامًا من الملابس ملقاة على الفراش وعلى الأرض.
قالت آن: «أحاول أن أرتِّبها. لدي ملابس نسيت أنني أمتلكها، وعليَّ أن أتخلص من بعضها إلى الأبد.»
هذا يعني أنها جادة بشأن الانتقال، وتتخلص من بعض الأشياء قبل أن ترحل. عندما كانت روزماري تتهيأ للانتقال من قبل، حزمت متاعها في صندوق السيارة بينما كانت كارين في المدرسة. لم تَرَها كارين وهي تختار الأشياء التي حزمتها. لم تَرَها إلا حين أخرجتها في شقة تورونتو ثم في الكارافان؛ وسادة، وزوج من الشمعدان، وطبق كبير يبدو شكله مألوفًا لكنه دائمًا ما يوضع في غير محله. وفي رأي كارين، كان من الأفضل ألا تحضر أي شيء على الإطلاق.
قالت آن: «أترين تلك الحقيبة؟ هناك أعلى الدولاب. أتستطيعين أن تصعدي على الكرسي وتميليها على الحافة حتى أتمكن من التقاطها؟ حاولت أن أفعل هذا لكني أُصبت بدوار. فقط أميليها وسوف ألتقطها.»
صعدت كارين على الكرسي، ودفعت الحقيبة فمالت نحو حافة الدولاب، فالتقطتها آن. شكرت كارين وهي تلتقط أنفاسها، وألقت الحقيبة على الفراش.
قالت: «لدي المفتاح، لدي المفتاح هنا.»
كان القفل متيبسًا، والمشابك مستعصية على الفتح؛ فقامت كارين بمعاونتها. وعندما فُتحت الحقيبة، فاحت رائحة كرات العثِّ من كومة الملابس الرطبة التي بداخلها. كانت كارين تألف تلك الرائحة؛ إذ كانت تشمُّها في محال الملابس المستعملة التي تحب روزماري التسوق منها.
قالت: «أهذه الأشياء القديمة تخص أمك؟»
قالت آن وهي تضحك ضحكة خافتة: «إنه ثوب زفافي يا كارين ملفوفًا في ملاءة قديمة.» التقطت الملاءة المائلة إلى اللون الرمادي وطرحتها جانبًا، ثم أخرجت ثوبًا من قماش التفتة والدانتيل. أخلت كارين له مكانًا على الفراش لتضعه عليه؛ ثم بدأت آن تقلب الثوب بكل حرص. وكان قماش التفتة يُصدر صوتًا كحفيف الشجر.
قالت آن وهي ترفع طبقة من نسيح رقيق ملتصق بقماش الثوب: «وطرحتي أيضًا. كان يجدر بي أن أعتني بها أفضل من هذا.»
كان ثوب الزفاف من أسفل تنورته به شقٌّ رفيع وطويل؛ يبدو من صنع شفرة حادة.
قالت آن: «كان ينبغي لي أن أعلِّقه، كان عليَّ حفظه في إحدى الحافظات التي يؤتى بها من المغسلة؛ فقماش التفتة رقيق للغاية، وهذا الشق من أثر طي الثوب. كنت أعلم هذا. يجب ألا تطوى التفتة.»
ثم شرعت تفصل طبقات الثوب واحدةً تلو الأخرى — رويدًا رويدًا — ومع كل طبقة ترفعها تُصدر صوتًا خافتًا تشجع به نفسها، إلى أن تمكنت من ضبط الطبقات كلها في شكل ثوب. أما الطرحة، فكانت ملقاة على الأرض، والتقطتها كارين.
قالت: «إنها من القماش المغزول.» تكلَّمتْ كي تُخرج من ذهنها صوت ديريك.
فقالت آن: «بل من التُّل. التُّل والدانتيل. كم كنت مخطئة حين لم أعتنِ بها بصورة أفضل. إنه لمن الغريب أنها ما زالت موجودة حتى وقتنا هذا، بل من العجيب أنها لم تتمزق.»
قالت كارين: «التُّل، لم أسمع يومًا به، وكذلك لم أسمع يومًا بالتفتة.»
قالت آن: «كانت رائجة في الماضي.»
«هل لكِ صورة في هذا الثوب؟ ألديك صور من حفل زفافك؟»
«أبي وأمي كانت لديهما صورة، لكني لا أدري ما حلَّ بها. وديريك ليس ممن يحبون صور الزفاف، بل ليس ممن يحبون حفلات الزفاف. لا أدري كيف أفلتُّ بهذا الحفل. عقدناه في كنيسة ستوكو، وكانت معي صديقاتي الثلاث؛ دوروثي سميث وموريال ليفتون ودون تشاليراي. عزفت دوروثي على الأرغن في الحفل، وكانت دون وصيفتي، بينما غنَّت موريال.»
قالت كارين: «أي الألوان ارتدت وصيفتك؟»
«لون التفاح الأخضر، كان ثوبًا من الدانتيل المطعَّم بالشيفون. كلا، العكس؛ كان ثوبًا من الشيفون المطعَّم بالدانتيل.»
وصفت آن ثوب صديقتها بصوت يشوبه الشك، بينما تتفحص غرز الخياطة في ثوبها.
«ماذا غنَّت صاحبتك؟»
«موريال، غنَّت «أيها الحب المثالي»: «أيها الحب المثالي، يا من ظنَّه الناس فوق العادة …» لكنها في الواقع ليست أغنية بل ترنيمة تتحدث عن نوع سامٍ من الحب. لا أدري من اختار هذه الترنيمة لتغنِّيها.»
مسَّت كارين التفتة بيدها فوجدتها جافة وباردة.
قالت: «فلترتديه.»
قالت آن: «أنا؟ إنه مصمَّم لفتاة محيط خصرها أربع وعشرون بوصة. هل ذهب ديريك إلى المدينة؟ هل أخذ معه فيلمه؟»
لم تسمع كارين وهي ترد عليها بالإيجاب، لا بد أنها قد سمعت صوت السيارة بالطبع.
قالت: «إنه يصر على أن يعدَّ سجلًّا مصورًا، ولا أدري فيمَ العجلة. بعدها، سوف يضع الصور في صناديق، ويضع على كل صندوق بطاقة تعريف. إنه — فيما يبدو لي — يظن أنه لن يرى المكان مرة أخرى. هل أوحى لكِ بطريقة ما أن هذا المكان سيباع؟»
قالت كارين: «لا، ليس بعد.»
«نعم، ليس بعد، ولن أفعل إلا إذا اضطررت إليه. لن أبيعه إلا إذا اضطررت لذلك، لكنني أعتقد أنني سوف تدفعني الضرورة لبيعه. أحيانًا تصير بعض القرارات ضرورية، ولكن يجب ألا يعتبر الناس هذه القرارات مأساوية أو يأخذوها على محمل شخصي كنوع من العقاب.»
قالت كارين: «هل يمكن أن أجرِّب أنا ارتداءه؟»
رمقتها آن بنظرة متفحصة وقالت: «علينا أن نكون في منتهى الحرص.»
خلعت كارين حذاءها وسروالها القصير ونزعت قميصها، وأدنت آن الثوب من رأسها لتلبسها إياه، فجعلتها تشعر للحظة بأنها حبيسة داخل سحابة بيضاء. كان عليهما التعامل بحذر أثناء ارتداء الردنَيْن المخيطَيْن من قماش الدانتيل حتى أُسدلا على ظهرَي كفَّي كارين، فأعطيا يديها لونًا بنيًّا مع أن بشرتها لم تكتسب السمرة بعدُ بسبب التعرض لأشعة الشمس. بعد ذلك، أخذت آن تغلق المشابك الجانبية حتى أسفل الخصر، إلى جانب مشابك شريط زينة العنق من الخلف، وكان من الدانتيل؛ ليثبت بإحكام حول عنق كارين. ولأنها لم تكن ترتدي شيئًا تحت الثوب سوى سروالها التحتي، فقد شعرت بملمس الدانتيل الشائك على بشرتها؛ فالدانتيل أكثر جرأة في اتصاله بالجسد، أكثر من أي شيء آخر عرفته. نفرت من ملمسه على حلمتيها، لكن لحسن حظها كان الثوب واسعًا عند الصدر — حيث كان ثديا آن يملآنه حين الزفاف — وما كانت كارين ناهدة، إلا أن حلمتيها كانتا تتورمان أحيانًا وتؤلمانها، وكأنهما على وشك البروز.
بعد ذلك، أخذتا تبعدان التفتة عن ساقيها حتى تأخذ تنورة الثوب شكل الجرس، ثم أسدلتا الدانتيل عليها فظهرت حلقاته.
قالت آن: «إنكِ أطول مما ظننتُ؛ يمكنك أن تمشي إذا ما رفعته قليلًا.»
التقطت فرشاة شعر من منضدة الزينة، وبدأت تمشط شعر كارين لينسدل على كتفَيْها المغطاتين بالدانتيل.
قالت: «شعرك بني بلون الجوز. أتذكَّر أنه في الكتب توصف الفتيات بأن شعورهن بُنِّية في لون الجوز. وقد كن بالفعل يستخدمن الجوز لصبغ شعورهن. ذكرت لي أمي أن الفتيات كن يغلين الجوز لإعداد صبغة الشعر، ثم يصبغن بها شعورهن. وحينها بالطبع كانت أيديهن تتلطخ باللون البني فينكشف السر، وكان من العسير إزالته.»
قالت: «قفي ثابتة.» ضبطت الطرحة فوق شعرها الناعم، ثم وقفت أمامها لتثبتها بالدبابيس، ثم قالت: «لقد اختفى تاج الطرحة، لا بد أنني استخدمته استخدامًا آخر أو أعطيته لإحداهن كي ترتديه في عرسها. لا أتذكر. لكن على أي حال، ما كان ليبدو أنيقًا في الوقت الحالي؛ كان من طراز الأشياء التي ترتديها ماري ملكة اسكتلندا على رأسها.»
تلفَّتت حولها ثم انتقت بعض الزهور الصناعية من الحرير — وكانت على شكل إكليل من زهور التفاح — من مزهرية موضوعة على منضدة الزينة. لكن هذه الفكرة الجديدة — أي استخدام فرع الزهور — تعني أن عليها فك الدبابيس والبدء من جديد، عن طريق طي إكليل زهور التفاح حول الرأس واستخدامه بديلًا للتاج. غير أن فرع الزهور كان صلبًا، وبعد محاولاتٍ طوته أخيرًا وثبَّتته كما حلا لها. تحرَّكت من أمام كارين، وجعلتها في مواجهة المرآة.
فقالت كارين: «يا إلهي! هل يمكنني الاحتفاظ به لارتدائه حين أتزوج؟»
لكنها لم تكن تعني هذا؛ فهي لم تفكر قط في الزواج، بل قالت ذلك كي تسعد آن بعد كل المجهود الذي بذلته، وحتى تخفي خجلها الذي ظهر عليها حين نظرت في المرآة.
فردَّت آن: «حينها ستكون هناك صيحات جديدة؛ فهذا الثوب ليس مناسبًا هذه الأيام.»
أشاحت كارين بصرها عن المرآة، ثم أعادت النظر مرة أخرى بعد أن هيأت نفسها. رأت أمام عينيها قديسة؛ الشعر اللامع، البراعم الشاحبة، ظلال الدانتيل الخافتة على وجنتيها، الصدق في إتقان الدور، الجمال المدرك لذاته على نحو يؤكد أنه عرضة لشيء ما حتمي، لشيء سخيف. حاولت أن ترسم تعبيرًا آخر على وجهها يغير ذلك الانطباع لكنها لم تفلح؛ وكأن العروس — الفتاة وليدة المرآة — هي صاحبة القرار الآن.
قالت آن: «أتساءل عما سيقول ديريك الآن إذا ما رآكِ، بل وأتساءل إن كان سيعرف أن هذا هو ثوب زفافي؟» رمشت عيناها في خجلها المضطرب المعهود، ووقفت بالقرب من كارين لإزالة البراعم وفك الدبابيس، فشمَّت كارين رائحة صابون من تحت إبطيها، ورائحة ثوم في أصابعها.
قالت كارين — بنبرة جهورية مقلدة صوت ديريك — بينما تفك آن عنها الطرحة: «سيقول: أي ثوب أحمق هذا؟»
تناهى إلى مسامعهما صوت السيارة قادمة عبر الوادي؛ فقالت آن: «ذكرناه، فألقت به الريح.» الآن صارت في عجلة من أمرها لتفك مشابك الثوب، فأخذت أصابعها تتعثر وترتجف. وحين حاولت خلع الثوب من رأس كارين، علق بشيء ما.
فقالت آن: «اللعنة!»
قالت كارين وهي ملتحفة بالثوب عالقة به: «اذهبي أنتِ، ودعيني أكمل. أستطيع خلعه.»
وحين خلعته، رأت ملامح آن متغيرة في حزن.
قالت: «كنت أمزح بشأن ديريك.»
لكن ربما كانت نظرة آن مجرد انتباه واهتمام بالثوب.
إذ ردت عليها: «ماذا تقصدين؟ حسنًا، صه! فلتنسي الأمر.»
•••
وقفت كارين ثابتة على الدرج تسترق السمع إليهما وهما يتحدثان في المطبخ. وكانت آن قد سبقتها إلى أسفل.
قال ديريك: «هل سيكون شهيًّا؟ ذلك الطعام الذي تطهينه أيًّا كان؟»
قالت آن: «هذا ما أتمنَّاه. إنها الأوسو بوكو الإيطالية؛ من اللحم والخضار.»
تغيَّر صوت ديريك الآن وسكت عنه الغضب، فأضحى تواقًا للصحبة والتودد. بدا أيضًا الارتياح في صوت آن، وحاولت — وهي بالكاد تتنفس — أن تواكب حالته المزاجية الجديدة.
قال: «هل لدينا ما يكفي لمن يشاركنا الطعام؟»
«مَن؟»
«روزماري فقط. أرجو أن يكون لدينا ما يكفي من الطعام لأنني دعوتها.»
قالت آن بهدوء: «روزماري وكارين. لدينا ما يكفي من الطعام، لكن ليس لدينا نبيذ.»
قال ديريك: «بل لدينا؛ أحضرت معي بضع زجاجات.»
سمعت كارين بعد ذلك شيئًا من الهمهمة أو الهمس من ديريك لآن؛ لا بد أنه كان يقف بالقرب منها ويتحدث بصوت خافت لا يكاد يُسمع. يبدو أنه كان يمازحها ويرجوها ويطمئنها ويعدها بأن يعوِّضها، كل ذلك في آن واحد. وكانت كارين تخشى من أن تتناهى إلى مسامعها كلمات قد تفهمها ولا تتمكن من نسيانها، حتى إنها نزلت تدب بقدميها على درج السلم ودخلت المطبخ تصيح: «مَن هذه الروزماري؟ هل سمعت اسم روزماري؟»
قال ديريك: «لا تتسللي هكذا أيتها الطفلة، أصدري صوتًا يفصح عن قدومك.»
«هل سمعت اسم روزماري؟»
قال: «نعم، اسم أمك. أقسم لك إنني أقصد اسم أمك.»
لقد ذهب عنه غضبه العارم، وصار الآن مفعمًا بروح التحدي وارتفعت معنوياته، كما كان الصيف الماضي في بعض الأحيان.
نظرت آن إلى النبيذ وقالت: «كم هو نبيذ شهي يا ديريك! سوف يناسب الطعام الذي أُعِدُّه. دعنا نرَ. كارين، هلَّا تساعدينني! سوف نُعِد المائدة الطويلة في الشرفة. وسنستخدم الأطباق الزرقاء والفضيات الفاخرة — أليس هذا من حسن الحظ أننا قد نظفناها لتونا؟ سنضع مجموعتين من الشموع، الصفراء الطويلة في منتصف المائدة يا كارين، والبيضاء القصيرة حولها في دائرة.»
قالت كارين: «مثل زهرة الربيع.»
قالت آن: «هذا صحيح؛ عشاؤنا احتفالي بمناسبة عودتك لقضاء الصيف معنا.»
قال ديريك: «وماذا عساي أن أفعل؟»
«دعني أرَ. يمكنك أن تذهب لتحضر لنا بعض مكونات السلطة: الخس ونبات الحُمَّاض. وانظر هل يوجد نبات الرشاد بالقرب من الجدول.»
قال ديريك: «موجود. رأيت بعضًا منه.»
«فلتحضره للسلطة أيضًا.»
مرَّر يده على كتفيها، وقال: «كل شيء سيكون على ما يرام.»
•••
بينما كادوا ينتهون من التجهيز لحفلهم، قام ديريك بتشغيل أسطوانة موسيقى. كانت واحدة من الأسطوانات التي أخذها معه إلى منزل روزماري، ولا بد أنه أعادها معه إلى هنا. كان اسمها «ألحان ورقصات قديمة على أنغام العود»، وكان لها غلاف يحمل صورة لمجموعة سيدات نحيلات للغاية — في ملابس قديمة الطراز مرتفعة الخصر، وشعر متموج قصير حتى الأذن — يرقصن في دائرة. كانت هذه الموسيقى دائمًا ما تثير في ديريك الرغبة في التمايل في رقصة احتفالية مضحكة تشترك معه فيها كارين وروزماري، وكانت كارين تراقصه بنفس مستواه، على العكس من روزماري؛ مع أنها بذلت مجهودًا كبيرًا، لكن حركتها كانت متأخرة عن خطواته قليلًا، وما كان منها سوى محاولة محاكاة ما يجب أن يكون تلقائيًّا.
بدأت كارين الرقص حول مائدة المطبخ ما إن بدأت الموسيقى، بينما كانت آن تقطِّع السلطة، وديريك يفتح زجاجة النبيذ. أخذت كارين تغني بمرح وسعادة: «ألحان ورقصات قديمة على أنغام العود»، وتقول: «ستأتي أمي على العشاء، ستأتي أمي على العشاء.»
قال ديريك: «ستأتي أم كارين على العشاء.» ثم رفع يده وقال: «صه، صه. أهذا هو صوت سيارتها الذي أسمعه؟»
قالت آن: «يا إلهي، عليَّ أن أغسل وجهي على الأقل.» ألقت ما بيدها من خضراوات، وهرعت عبر البهو صاعدة الدرج.
ذهب ديريك كي يوقف أسطوانة الموسيقى، لكنه رفع إبرة الفونوغراف ثم أعادها إلى البداية، وعندما شغَّلها مرة أخرى، ذهب لمقابلة روزماري بالخارج؛ وهو أمر لم يكن معتادًا عليه. كانت كارين تنوي الذهاب لمقابلتها بنفسها، لكن عندما فعل ديريك هذا، قررت ألا تذهب وتَبِعت آن أعلى الدرج، لكنها لم تصعد الدرج كله؛ فعلى منبسط الدرج، كانت هناك نافذة صغيرة لم يكن أحد يتوقف عندها أو يطل منها، وكانت مغطاة بستارة من نسيج رقيق لا يكاد يُرى من خلالها من يقف وراءها.
وصلت إلى النافذة بسرعةٍ مكَّنتها من أن ترى ديريك يخطو على عشب الحديقة، متجاوزًا الفجوة التي تتخلَّل صف الشجيرات. قطع بخفة خطوات طويلة تواقة؛ لعله يصل في الوقت المناسب كي ينحني لها ويفتح باب السيارة بحركة مسرحية ويساعدها في الترجل منها. لم تَرَه كارين يفعل ذلك من قبل، لكنها كانت تدرك أنه تعمَّد فعل ذلك الآن.
في ذلك الحين، كانت آن لا تزال في دورة المياه — إذ سمعت كارين صوت الدش — وبذلك ما زال أمام كارين بضع دقائق تراقب فيها ما يحدث بالأسفل دون أن يزعجها أحد.
سمعت صوت غلق باب السيارة، لكنها لم تسمع صوتيهما؛ ما استطاعت سماعهما والموسيقى تتردد في جنبات المنزل. كذلك فإنهما لم يصلا إلى الفجوة بين الشجيرات حتى تراهما. وقفت تنتظر وطال انتظارها.
•••
ذات مرة، بعد أن فارقت روزماري تيد عادت مرة أخرى، لكنها لم تعد إلى البيت؛ فلم يكن من المفترض أن تعود إليه. حينها أتى تيد بكارين إلى مطعم، وكانت روزماري هناك. تناولا الغداء، وتناولت كارين رقائق بطاطس وعصير الرمان، وأخبرتها روزماري أنها ذاهبة إلى تورونتو؛ لأنها حصلت على وظيفة هناك لدى أحد الناشرين. لم تعرف كارين وقتها معنى كلمة ناشر.
•••
ها هما قد أتيا ومرَّا معًا خلال الفجوة التي تتخلل الشجيرات، في حين أنه كان من الأجدر أن يمرَّ أحدهما تلو الآخر. كانت روزماري ترتدي بنطالها الواسع — الشبيه بسروال علاء الدين — من القطن الرقيق الناعم، ولونه وردي بلون التوت البري، وخلاله كانت ظلال ساقيها بادية، أما قميصها، فكان من قماش قطني أكثر سمكًا، به زخارف ومطرَّز بخرز صغير يعكس الضوء كالمرآة. بدت قلقة بشأن شعرها المرفوع لأعلى؛ فقد كانت يدها تتحسسه بحركة عصبية ساحرة لإسدال بعض الخصلات المتموجة، فتتدلى وترفرف على وجهها (بدت كالخصلات المتموجة المتدلية بجانب آذان السيدات المصورات على غلاف الأسطوانة)، وكانت أظفارها مطلية بلون يتماشى مع لون بنطالها.
لم يلمس ديريك أي جزء من جسدها، مع أنه بدا دائمًا على وشك لمسها.
•••
قالت لها كارين في المطعم: «حسنًا، لكن هل ستنتقلين للعيش هناك؟»
•••
رأت كارين ديريك وهو يحني قامته الطويلة، بالقرب من شعر روزماري الجميل الجامح، وكأنه طائر يستعد لدخول العش. بدا لها أنه مصمم على ذلك، سواء لمسها أم لا، تحدَّث معها أم صمت. كان يجذبها نحوه، ولم يألُ جهدًا في مهمته هذه على الإطلاق، بالرغم من انجذابه هو نفسه إليها، وبالرغم من ميله إلى إسعادها. لاحظت كارين إحساس هذا الغزل الجميل.
في هذه اللحظة، ترددت روزماري بشأن ما ينبغي عليها فعله، لكنها رأت أنه ليس عليها فعل شيء الآن. كم هي شديدة الاهتمام بهيئتها؛ حبيسة ملابسها الوردية، وشعرها المرفوع لأعلى — كغزل البنات — ورقَّة حديثها، وجاذبيتها الأنيقة.
قالها ديريك ذات مرة: «ثراء فاحش.»
خرجت آن من الحمام، وشعرها الرمادي الداكن المبلل مشدود للخلف، ووجهها متورِّد من الاستحمام.
«كارين، ماذا تفعلين هنا؟»
«أشاهد شيئًا.»
«ماذا تشاهدين؟»
«عصفورين متحابَّيْن.»
قالت آن وهي تنزل الدرج: «كفِّي يا كارين.»
سرعان ما تعالت صيحات مبتهجة من جهة الباب الأمامي (إنها لمناسبة خاصة) ومن جهة البهو: «ما هذه الرائحة الطيبة؟» (روزماري) «بضعة عظام قديمة تطهوها آن.» (ديريك).
قالت روزماري وهي تتحرك بودٍّ وانفتاح نحو غرفة المعيشة: «وهذه … جميلة.» وتقصد باقة من الأوراق الخضراء ونباتات الخويفيرة وبعض زهور السوسن البرتقالية، المقطوفة في بداية موسمها، التي وضعتها آن في إناء خزفي بجوار باب غرفة المعيشة للزينة.
قال ديريك: «إنها مجرد أعشاب قديمة أحضرتها آن إلى المنزل.» فقالت آن: «نعم، ظننتها جميلة.» فكرَّرت روزماري قولها السابق: «جميلة.»
•••
بعد الغداء، في المطعم، قالت روزماري إنها تريد إهداء كارين شيئًا، ليس بمناسبة عيد ميلادها أو رأس السنة، وإنما بغير مناسبة؛ هدية جميلة.
ذهبتا إلى متجر كبير، وكلما أبطأت كارين لتتفحص شيئًا ما، سارعت روزماري وتحمَّست واستعدَّت لشرائه. كانت مستعدة لشراء معطف مخملي ذي ياقة وأساور من الفراء، وحصان هزاز مطلي بطلاء التحف، وفيل من نسيج البَلْش وردي اللون؛ حجمه ربع حجم الفيل الطبيعي. ولكي تنهي كارين هذه الحيرة البائسة، انتقت حلية زهيدة الثمن؛ تمثالًا لراقصة باليه واقفة فوق مرآة. لم تكن راقصة الباليه تدور حول نفسها، ولم تنبعث موسيقى من الحلية تتراقص عليها، ولم يكن هناك قط ما يبرر هذا الاختيار. المتوقع أن تفهم روزماري هذا؛ أن تفهم أن هذا الاختيار يدل على أن كارين لا يمكن إسعادها بالهدية، وأنه ما من سبيل لتعويضها، وما من سبيل لنيل تسامحها. لكنها لم تفهم هذا، أو بالأحرى اختارت ألا تفهمه، وقالت: «تعجبني الهدية، راقصة رشيقة وستبدو جميلة على منضدة زينتك. حقًّا جميلة.»
إلا أن كارين دسَّت الهدية في أحد الأدراج، وعندما وجدتها جريس، أوضحت لها كارين أن إحدى صديقاتها في المدرسة أهدتها إياها، ولم تشأ هي أن تجرح صديقتها بأن تقول لها إنها ليست من الأشياء التي تروق لها.
وقتها، ما كانت جريس معتادة على التعامل مع الأطفال بعد، وإلا لشكَّكت في هذه القصة.
فقالت: «أفهم ما تقولين. سوف أتبرع بها في مزاد المستشفى؛ لا أظن أنها قد تراها هناك. وعلى كل حال، يُصنع المئات منها، فلن تلاحظ أن هذه هي التي أهدتك إياها.»
•••
سمعت كارين من الطابق السفلي صوت مكعبات الثلج بينما يلقيها ديريك في المشروبات، وسمعت آن تقول: «كارين في الجوار؛ أثق أنها ستظهر في أي لحظة.»
تحركت كارين بخفة، وصعدت ما تبقى من الدرج بخفة، ثم دلفت إلى غرفة آن. رأت على الفراش ثيابًا متراكمة، وأعلاها ثوب الزفاف بعد أن أُعيد لفُّه في الملاءة للاحتفاظ به. فخلعت سروالها القصير وقميصها وحذاءها، وبدأت محاولتها البائسة الصعبة لارتداء الثوب. لكن بدلًا من أن ترتديه من أعلى، قررت ارتداءه من أسفل، فأخذت ترفعه بصعوبة عبر تنورته المقطوعة وجزئه العلوي من الدانتيل. ثم أدخلت ذراعيها في الكمَّيْن بحذر خشية أن تشقَّ قماشه بأظفارها، مع أنها كانت أقصر مما يسمح بوقوع هذا، ومع هذا توخَّت الحذر. جذبت أطراف الدانتيل على الكُمَّيْن فوق كفَّيْها، ثم عقدت كل المشابك عند الخصر. كان أصعب ما في الأمر المشابك الموجودة في الرقبة من الخلف؛ مما اضطرها إلى إحناء رأسها وكتفيها للأمام بغية الوصول إلى المشابك وعقدها على نحو أسهل. لكن مع هذا حدثت كارثة؛ إذ تشقَّق الدانتيل قليلًا تحت أحد الإبطين. صدمها ما حدث، بل وأوقفها عن إكمال عقد المشابك للحظة. لكن بعدها فكَّرت أنها قطعت شوطًا كبيرًا بما لا يسمح بالتراجع الآن؛ فأكملت عقد باقي المشابك دون أي مشاكل أخرى. عندما تخلع الثوب، فلعلها تخيط ما تمزق منه، أو قد تكذب وتقول إنها لاحظت تمزُّقه قبل أن ترتدي الثوب. وقد لا تراه آن على أي حال.
والآن وقت ارتداء الطرحة. عليها أن تكون في منتهى الحذر معها؛ لأن أي تمزُّق فيها سيظهر واضحًا. نفضتها ثم حاولت تثبيتها بإكليل زهور التفاح؛ بالضبط كما فعلت آن، لكنها لم تستطع طي الإكليل كما ينبغي، أو تثبيته بالدبابيس الناعمة المراوغة؛ ولذا فكَّرت أنه من الأفضل أن تثبِّت الطرحة بشريط أو حزام. فتحت خزانة آن باحثة عن شيء من هذا القبيل، وفيها رأت مشجبًا لربطات عنق تخص ديريك، مع أنها لم تَرَه يومًا يرتدي ربطة عنق.
التقطت من المشجب ربطة عنق مخططة، وربطتها حول جبهتها وعقدت الربطة عند مؤخرة رأسها فثبَّتت الطرحة بإحكام. كانت أمام المرآة حينما فعلت ذلك، وحين انتهت، نظرت إلى نفسها ورأت أنها أضافت على الثوب لمحة غجرية؛ لمحة أفقدت الثوب أناقته وإن كانت كوميدية. ثم طرأت على ذهنها فكرة جعلتها تفك كل تلك المشابك — بمجهود شاقٍّ — ثم تحشو مقدمة الثوب عند الصدر بملاءة ملفوفة بإحكام أخذتها من على فراش آن. أخذت تحشو وتحشو صدر الثوب المتهدل عليها، الذي كان مصممًا وفقًا لمقاس صدر آن. هكذا أفضل، وسيثير ضحكهم أكثر، ولكنها لم تستطع بعد ذلك أن تعقد جميع المشابك، فعقدت ما يكفي لتثبيت النهدين القماشيين في مكانهما، وكانت أشبه بالمهرجين. واستطاعت أيضًا أن تُحكِم تثبيت شريط زينة العنق. وحين انتهت كان العرق يتفصَّد من جسدها كله.
لم تكن آن تتزين بأحمر شفاه أو أي مساحيق للعين، لكن ما يثير الدهشة أن كارين وجدت على منضدة الزينة عبوةً تحوي بودرة وجه متيبسة من القِدم. بصقت كارين فيها ثم لطَّخت وجنتيها بها.
•••
كان الباب الأمامي يقود إلى بهو يقع أسفل الدرج، وفي هذا البهو يوجد باب جانبي يؤدي إلى شرفة من الزجاج من المفترض أن تسمح بامتصاص الحرارة من أشعة الشمس المنعكسة عليها، وباب آخر (في ذات الجانب) يؤدي إلى غرفة المعيشة. وهناك أيضًا باب يصل مباشرة بين الشرفة وغرفة المعيشة، يقع عند نهاية الشرفة. قالت آن ذات مرة إن تصميم هذا البيت غريب، أو لعله لم يُبنَ وفق أي تصميم على الإطلاق، بل إن الغرف والمساحات تغيرت عمَّا كان مخططًا له أو تحددت وفقًا لأهواء الناس؛ فالشرفة الطويلة الضيقة المحاطة بالزجاج لم تكن مناسبة لامتصاص الحرارة من أشعة الشمس؛ لأنها كانت تقع في جانب المنزل الشرقي، بل وكانت مظللة بمجموعة من شجيرات الحور القطني سريعة النمو التي يصعب جزُّها شأنها شأن أشجار الحور القطني. وحين كانت آن طفلة، كانت الشرفة تستخدم أساسًا كمكان لحفظ التفاح، مع أنها أحبَّت هي وأختها ذاك الطريق غير المباشر الذي يصل بين الأبواب الثلاثة، أما الآن، فهي تحب المساحة التي تتيحها هذه الشرفة لتقديم العشاء خلال أيام الصيف. لكن وقتما تُقام المائدة هناك، لا تكاد تكون هناك مساحة كافية للسير بين المقاعد وجدران الشرفة الداخلية، غير أنه عندما يجلس الجميع على جانب واحد من الشرفة وفي كلٍّ من طرفيها أمام النوافذ — وهكذا أُقيمت المائدة هذه الليلة — يكون هناك متسع لشخص نحيل — مثل كارين — كي يمر.
نزلت كارين إلى الطابق السفلي حافية القدمين، ولم يكن بمقدور أحد أن يراها من غرفة المعيشة. كذلك فإنها اختارت ألا تدخل الغرفة من الباب المعتاد، وقررت دخول الشرفة والسير بمحاذاة المائدة، وبعدها تطل عليهم — أو لنِقُلْ تفاجئهم — من الشرفة من حيث لا يتوقعون مجيئها.
كانت الشرفة معتمة بالفعل قليلًا؛ فقد أوقدت آن الشمعتين الطويلتين الصفراوين، ولم توقد الشموع الصغيرة البيضاء المتراصة حولها. وكانت الشمعتان الصفراوان تنبعث منهما رائحة الليمون، وهو ما كانت آن تعوِّل عليه كي تبدد جو الغرفة الخانق، إلى جانب أنها فتحت النافذة الموجودة عند أحد طرفي المائدة. وحتى في أقل الليالي نشاطًا للرياح، أصبح يهب على الشرفة نسيم من شجيرات الحور.
استخدمت كارين كلتا يديها كي ترفع التنورة بينما تسير بجوار المائدة؛ إذ اضطرت لرفعها قليلًا حتى تستطيع السير، ولم تكن تريد أن يصدر أي صوت من احتكاك قماش التفتة بالمائدة أو الجدار. ونوت أن تشرع في غناء: «ها قد أتت العروس» وهي تطل من مدخل الباب:
هب نسيمٌ عليها — بل تيار هواء شديد — جعل طرحتها ترفرف للخلف، لكنها كانت مثبتة برأسها بإحكام، ولم تخشَ كارين أنها قد تطير عن رأسها.
وبينما تستدير لدخول غرفة المعيشة، رفع الهواء الطرحة فاندفعت نحو لهب الشمعتين. ما إن رآها الجالسون في الغرفة حتى لاحظوا النار التي تطاردها من الخلف. وقد شمَّت هي نفسها رائحة احتراق الدانتيل بفعل اللهب، وكانت رائحته كريهة غريبة طغت على رائحة نخاع العظم المطهو على العشاء. وسريعًا ما شعرت كارين بسخونة لا تُحتمل، وتعالى صراخها، وأخذت تثب على قدميها ألمًا في عتمة الليل.
كانت روزماري أول من وصل إليها، فأخذت تضرب رأسها بوسادة لإطفاء النار. وهرعت آن إلى الإناء الخزفي الموجود في البهو، وألقت كل ما به من ماء وزهور سوسن وأعشاب على طرحتها وشعرها المشتعلين. أما ديريك، فقد انتزع السجادة من على أرضية الغرفة — مطيحًا بما عليها من مقاعد وطاولات ومشروبات — واستطاع أن يلف بها كارين بإحكام، وأن يخنق آخر ألسنة اللهب. ظلت بعض شذرات الدانتيل مشتعلة عالقةً بشعرها المبلل، وأحرقت روزماري أصابعها وهي تنزعها.
•••
شوهت الحروق جلد كتفيها وأعلى ظهرها وأحد جانبي عنقها، بينما أبعدت ربطة عنق ديريك الطرحة عن وجهها قليلًا، فجنَّبتها الإصابة بآثار حروق واضحة. لكن عندما نما شعرها من جديد وصارت تمشِّطه للأمام، لم يُخفِ آثار كل ما حلَّ بعنقها من تشوهات.
خضعت كارين لسلسلة من عمليات ترقيع الجلد، وبالفعل تحسَّن مظهرها. وعندما التحقت بالجامعة، صارت قادرة على أن ترتدي ثوب سباحة.
•••
عندما فتحت عينيها للمرة الأولى في غرفتها بمستشفى بيلفيل، رأت أمامها جميع أنواع زهور الربيع: البيضاء والصفراء والوردية والأرجوانية، حتى على عتبة النافذة.
قالت آن: «أليست جميلة تلك الزهور؟ لا يتوقفان عن إرسالها، مع أن ما أرسلاه في البداية لا يزال يانعًا، أو على الأقل لم يصل إلى مرحلة الذبول الشديد الذي يدفعنا لنتخلص منه. كلما توقفا في محطة من محطات رحلتهما، أرسلا المزيد من الزهور. لا بد أنهما في كاب بريتون الآن.»
قالت كارين: «هل بعتِ المزرعة؟»
نادتها روزماري: «كارين.»
أغمضت كارين عينيها وحاولت مرة أخرى استعادة وعيها.
قالت روزماري: «هل ظننتِ أنني آن؟ آن وديريك قد ذهبا في رحلة، كنت سأخبرك لتوي. لقد باعت آن المزرعة أو أوشكت على بيعها على أي حال. كم هو غريب أن تفكري في ذلك!»
قالت كارين: «إنهما يقضيان شهر العسل.» وكانت تلك خدعة منها؛ لكي ترجع آن عن مزاحها إذا كانت هي فعلًا من حادثتها في البداية؛ لكي تجعلها تقول بتوبيخ: «أوه يا كارين.»
قالت روزماري: «ثوب الزفاف هو ما يجعلك تقولين هذا. إنهما بالفعل في رحلة يبحثان عن المكان الذي يريدان العيش فيه في المرحلة المقبلة.»
إذن، فهي فعلًا روزماري. وآن قد ذهبت في رحلة. آن ذهبت في رحلة مع ديريك.
قالت روزماري: «لا بد أن هذا شهر العسل الثاني. لا نسمع أبدًا عن أن أحدًا يقضي شهر العسل الثالث، أليس كذلك؟ أو شهر العسل الثامن عشر؟»
الآن، كل شيء على ما يرام، كلٌّ في مكانه الصحيح. أحسَّت كارين أنها هي التي فعلت كل هذا بمجهود مضنٍ. كانت تعرف أنها سوف تشعر بالرضا، وهي الآن تشعر به، لكن بدا لها كل هذا بلا جدوى؛ وكأن آن وديريك — وربما روزماري — وراء صف من الشجيرات الكثيفة يتعذر عليها اختراقه.
قالت روزماري: «لكنني موجودة هنا، طوال الوقت معكِ، لكنهم لا يتركونني ألمسك.»
قالت تلك الجملة الأخيرة بلهجة حسرة وأسًى.
•••
ظلت تردد هذه الجملة بين الحين والآخر.
«أكثر شيء أتذكره هو أنني لم أستطع لمسك، وكنت أتساءل عما إذا كنت تتفهمين أم لا.»
ردَّت عليها كارين مؤكدة تفهمها. ما لم تعبأ بذكره هو أنها — في ذلك الحين — كانت ترى أن حزن روزماري غير عقلاني؛ بدت روزماري كمن يشكو فشله في عبور قارة؛ لأن هذا هو ما شعرت كارين بأنها تحولت إليه؛ تحولت إلى قارة وامضة شاسعة المساحة — كفيلة بأن توفر كل احتياجاتها — تعلو أرضها ألمًا في بعض الأماكن، وتهبط مسطحةً عندما يسكت عنها الألم، فتمتد لمسافات طويلة مملة. وعلى مسافة بعيدة منها، على الطرف الآخر للقارة، تقف روزماري. كانت كارين قادرة متى شاءت أن تختزل أمها إلى مجموعة من النقاط السوداء المزعجة، بينما هي نفسها — كارين — كان يمكن أن تمتد وتنكمش في الوقت نفسه في منتصف منطقتها، فتصير كحبة خرز أو كخنفساء صغيرة.
لقد خرجت من هذه الحالة بالطبع. عادت إلى نفسها، عادت إلى كارين. رآها الجميع تعود إلى طبيعتها بالضبط كما كانت، فيما عدا بشرتها. لم يعرف أحد كيف تغيرت، وكم صار طبيعيًّا بالنسبة إليها أن تصبح مستقلة عن الآخرين، مهذبة، ومعتمدة على نفسها بكل براعة. لم يعرف أحد شيئًا عن شعور الظفر المتزن الذي كان ينتابها في الأوقات التي تتأكد فيها من مدى استقلالها عن الآخرين.