كتب المرحوم الشاعر معروف الرصافي تحت هذا العنوان القصيدة التالية؛ ردًّا
على قصيدة للشاعر الأستاذ محمد مهدي الجواهري نشرها في صحيفة «البلاد» وقدم بين
يديها هذه الكلمة:
أردنا عندما ناغينا الشاعر العربي العظيم الأستاذ «الرصافي»، أن يكون
لنا شرف تذكره وهو في عزلته الموحشة، فكان لنا إلى جانب ذلك أيضًا شرف
ابتعاث شاعريته الفذة، التي حالت حوائل المرض والانعزال و«النقمة»، دون
تمتع المعجبين في شتى الأقطار العربية بنتاجها.
أما وقد هززنا الأسد الرابض الضائق ذرعًا بعرينه، المنطوي على نفسه
ألمًا وغضبًا وكبرياء، فليكن لنا شرف الاستماع إلى زئيره.
فليضم المتغنون بشعر الأستاذ «الرصافي» هذه الترنيمة الجديدة إلى
مجموعاتهم، وهذه «الزفرة» الحارة إلى السلسلة «المقطوعة» من
أخواتها.
وسلام على «عيش» الشاعر المتمرس «بالأولى» والمتفكر في «الأخرى» هذا
العيش «الحر الطليق» التي خانتنا كلمه «وفضلت» في التعبير عن مقدار
إعجابنا «بطبيعته» واحترامًا لنا ولصاحبه.
وسلام على الشعر «الرصافي» المتفتق نوره عن الذهن المشبوب، والفكر
الحائر، والنفس الجائشة والمستجيشة بفيضها، والقلب المرتج بالعواطف
الزاخرة والزاج بصاحبه في شتى المهاوي.
ذلك «الشعر» الرصافي الذي أعجبنا؛ لأنه لم يكن «حبلًا» مرغمة «أوائله
أن تلتقي والأواخرا» وذلك «العيش» الرصافي بماضيه وحاضره المتراكم بعضه
فوق بعض بدون «تنسيق» ولا اختيار بل بوحي من الفكر الروحي و«الصراحة»
و«الجرأة» ومحض الطبيعة، وفي بعض الفترات منه بوحي الضرورة، وهذه هي
عناصر عظمته عندنا، وفي هذا جواب «الاستعتاب الرقيق».
بك الشعر لا بيَ أصبح اليوم زاهرا
وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرا
فأنت الذي ألقتْ مقاليد أمرها
إليه القوافي شُرَّدًا ونوافرا
إذا قلت شعرًا قلته في بداعةٍ
فكان به المعنى بديعًا وباهرا
وإن أنت أطلقت النفوس من الأسى
بإنشاده يومًا أسرت المشاعرا
بلغت من الإبداع أرفعَ ذروةٍ
هوى النجم عنها صاغرًا متقاصرا
وإنك أرقى الناطقينَ تكلمًا
بحقٍّ وأنقى الساكتين ضمائرا
إذا شِيءَ ظلمٌ قُمْتَ للظلم رادعًا
وإن سِيءَ حقٌّ قمت للحق ناصرا
•••
لئن كنت تنمَى للجواهر نسبة
لقد كنت تحلو بالبيان جواهرا
نماك أب بالعلم شيَّد مجده
وخلَّد منه في الزمان المآثرا
ومدَّ من الآداب فيه سُرادقًا
وأكثر فيه للبنينَ المفَاخرا
فلا عجبٌ أن تنظم الشعر رائعًا
أنيقَ المعاني زاهيَ اللفظ زاهرا
وقد تبصر الماءَ الزُلال به القذى
فتغمِض عنه بالغباء النَّواظرا
ما أوحته إليَّ قصيدتك
ألا إنني رغم انتباهيَ لم أزل
بأكثر ما قد قلته أنت حائرا
تحدثت عن ماضٍ حديثًا مُجمْجَمًا
كأنك فيه لم تكن لي عاذرا
وما كنتُ مختارًا كما أنت قائلٌ
من العيش ما لولاه ما كنت شاعرا
ولا اخترت عيشًا بين بين موسَّطًا
ولا كنت فيما أبتغيه مشاورا
ولكن هي الأقدار تجري بغير ما
يريد الفتى جريًا على الأمر قاسرا
فتجعل ليثَ الغاب يتلو فُرانقًا
وتترك صَقر الجو يخشى القنابرا
وكم أقدرت من كان في الناس عاجزًا
كما أعجزت من كان في الناس قادرا
وما المرء إلا مجبرٌ في حياته
وإن ظنَّ فيها أنه كان خائرا
١
وُلِدنا وعِشنا ثم متنا وكلُّ ذا
على غير إذْنٍ جاء بل جاء دامرا
•••
أجل كنت من تَيْنِ الحياتين آخذًا
بواحدة تأبى القسيم المغامرا
وجادلني قوم بغير دِراية
ولست أبالي ذا العناد المكابرا
وأسألُ فامنُنْ بالجواب تفضُّلًا
سؤالًا عن استعتابيَ الخِلَّ صادرا
أأنت الذي فضَّلت عيشًا معيَّنًا
لنفسك حتى كنت فيه المُشاورا
فصرت به في القوم شاعر مجدِهم
إذا قلت شعرًا جئت بالشعر ساحرا؟!
إذا كان هذا هكذا منكَ واقعًا
فقد كنتَ في حسن اختيارك ماهرا
علامَ إذن تشكو وشكواك كلها
كشكواي تُدمِي بالبكاء المحاجرا؟!
ومن ذا الذي قد عاش في الناس راضيًا
ومن ذا الذي قد عاش في الناس شاكرا؟!
ولو كان عيش الناس وفْقَ اختيارهم
لما كنتَ تلقى شاكيًا أو مخاطرا
•••
لحَا الله دنيا كلنا من جرَائِها
نخوض الرزايا راكبين الضرائرا
ونحن مدى الأيام نشكو بعيشنا
فسادَ نظام يجعل الكد بائرا
نرى واحدًا يقتاد ألفًا لعيشه
وينظر للألف المسخَّر ساخرا
ولو وُزِنت أعمالهم باقتداره
لكان بها كينونة الصِّفر شاعرا
فما عاش في مَحْياه عيشًا مرفَّهًا
مِن الناس إلَّا من تَحيَّلَ ماكرا
شقاء على كر الجديدين آخذ
بأعناقنا إلا القليل المماكرا
•••
وما الشعر بالحبل الذي قد ذكرته
ولكنه بَرق تموَّج دائرا
فما الشعر إلا من بروقٍ دوائر
تدور أواليها لتلقى الأواخرا
إذا لمعَت فوق الطروس فإنها
تردُّ إلى التبر المذاب المحابرا
وقد برَّأ الله العوالم كلها
دوائر فيها حار من ظل فاكرا
نرى كل شيء عائدًا نحو بدئه
إذا نحن حكَّمنا النُّهى والبصائرا
•••
إذن لم أكن في عالم الشعر مُرغمًا
لأوَّله حتى يلاقيَ آخرا
نعم كنت في تلك الأماديح شاتمًا
زمانًا يوالي كل من كان جائرا
وكنت بذاك المدح للمدح هاجيًا
وكنت بذاك الشعر للشعر حاقرا
إذا الدر أمسى كالسِّخاب مُحقَّرًا
وما العار في هذا عليَّ وإنما
على مَن أضاعوا مجدَهم والمفاخرا