وقفة عند شراغان١
للرصافي عدة قصائد قالها في وصف ما شاهد في الآستانة من الحريق الذي يكثر وقوعه في تلك المدينة، فرأينا أن نثبت تلك القصائد هنا على حدة تحت عنوان الحريقيات، فمنها القصيدة الآتية:
أصبحتُ أعذِل نوابًا وأعيانا
عَذْلًا كنارٍ تلظَّت في «شراغانا»
قصر أطلَّ على البسفور مرتفعًا
إليه يشخَص طَرفُ العقل حيرانا
ذو زخرفٍ يُبْهِجُ العينَ التي نظرت
حتى تراه لها نورًا وإنسانا
رَاقت مبانيه إتقانًا وهندسة
مستوقفًا صُنعها من مَرَّ عجلانا
كلُّ القصور عَبيد وهو سيِّدها
إذ كان أكرمها صنعًا وبنيانا
يمشي المهندسُ فيه وهو ينظرُه
مشيَ المقيدِ يستقصيه إمعانا
يضمُّ كفَّيه للإبطين منبهِرًا
مقلبًا في الأعالي منه أجفانا
عرش به تعرف الناس الجلالة إذ
لاح الجمال على مبناه ألوانا
لو كان عرشًا لبلقيس لما خضعت
للأمر حين أتاها من سليمانا
فيه الحوادث أمست وهي ناطقة
بألسن دَلَعتها فيه نيرانا٢
فلو رأيتَ وقد شبَّ الحريق به
والريح تصْفِق للنيران أردانا
رأيت ملكًا كبيرًا ثَمَّ محترقًا
يذيب منه لهيبُ النار عِقْيانا٣
طالتْ به ألسُنُ للنار تلحسُه
لحسًا يدُكُّ قوَى البنيان إيهانا٤
•••
يا دُرَّةً في ضفاف البحر ضيَّعها
قوم وكان بها البسفور مزدانا
كم قد أضاءت بوجه البحر مشرقة
ورصَّعت من رءُوس الهضب تيجانا
يا أيها القصرُ مذ أمسيتَ محترقًا
أبكيتَ في البحر أسمَاكًا وحيتانا
لم يُبقِ منك لهيبُ النار باقيةً
ولا لدي القوم أبقى عنك سُلوانا
مَعاوِلٌ من شُواظ النار هادمة
يا للعجائب كالأطواد جدرانا
قمنا أمامك والنيران صائلةٌ
تدكُّ منك على الأركان أركانا
كم هدَّةٍ لك بين النار تفزِعنا
حتى نخالك منها صرت بركانا
يهتزُّ فيك لهيبٌ، حين نبصره
نهتزُ بالحزن أرواحًا وأبدانا
فأنت تملأ صدر الجوِّ أدخنةً
ونحن نملأ صدر الأرض أحزانا
ما أشرف القومَ لو كانت مدامعهم
مطافئًا لك تجري الدمع غُدرانا!
ويلٌ لِمُرْتَئسٍ قد قام مجتهدًا
يسعى بجعلك للنواب ديوانا
حق إذا كنتَ للنوَّاب مجتمعًا
بانت عواقبُ ذاك السعي خسرانا
للنَّارِ فيك حسيسٌ كنت أحسبُه
ضِحْكًا على من بسوء الرأي أبكانا
أشكو إلى الله قلبًا لا يطاوعني
ألا أكون على الأوطان غَيرانا
يا قومِ إنَّ بصدر الشعر موجِدة
لا يستطيع لها سترًا وكتمانا
ما بال نوابنا أمسوا نوائِبنا
إذ لا يبالون مكروهًا تغشَّانا؟!
أما كفى أنهم لم يعملوا عملًا
حتى أرادوا اجتماعًا في شراغانا!
هم يطلبون قصورًا يَنعمون بها
ونحن نطلب للأوطان عمرانا
ليس الجلوس ببهو القصر مفخرة
لمن هم اليوم أشقى الناس أوطانا
قد ضيَّعوا الحزم حتى إنهم ندموا
على الذي كان منهم بعدما كانا
يعيش ذو الحزم مسرورًا ومغتبطًا
وتارك الحزم لا ينفك ندمانا
وأحزم الناس مَنْ إن نام بات له
طرفٌ على حدثان الدهر يقظانا
أين الطريق إلى العلياء نسلكها؟
فإننا لم نزل يا قوم عميانا
لا الشعبُ يخلع أثوابَ الخمول ولا
نوابه يلبسون الصدق قمصانا
الناس تسعى لدينا نحن نهملها
ما أسعد الناس في الدنيا وأشقانا!
١
«شراغان»: قصر ملوكي على ضفة البسفور في الآستانة، بناه السلطان عبد
العزيز، وهو أعظم القصور فخامة في الآستانة، وأدقها صنعة وأبهجها منظرًا،
ولما أعلن الدستور العثماني اتخذ مجلسًا للنواب، وكان ذلك بسعي من أحمد رضا
رئيس مجلس النواب، فشب به حريق، وكان الرصافي في الآستانة، فقال هذه
القصيدة.
٢
أي أن الحوادث قد نطقت في هذا بألسن النيران.
٣
العقيان: الذهب الخالص.
٤
إيهانًا: أي إضعافًا.