أم الطفل في مشهد الحريق١
ما للديارِ تراءَى وَهْيَ أطلالُ
هل خَفَّ بالقوم عنها اليوم ترحالُ؟!
كانت بها السَّمُراتُ الخضر زاهية
واليوم لا سَمر فيها ولا ضال٢
ما بالها وهي أنقاضٌ مبعثرة
تغبر فيهن أبكار وآصال؟
هل هدَّ بنيانها من فوق صاعقةٌ
أو هدَّ بنيانها من تحتُ زلزالُ؟!
بل قد عفتها ولم تترك بها أثرًا
ريحٌ لها من لهيب النار أذيال
شبَّ الحريق بها ليلًا مشيدة
فما أتى الصبح إلا وهي أطلال
أثارت النار في أطرافها رهَجًا
من الدخان كأنَّ النار أبطال٣
حتى حكَت معْرَكًا خرَّت بساحته
صرعى، بيوت وأموال وآمال
دار السعادة أمست من تحرُّقها
دار الشقاءِ وقد ضاقت بها الحال
ترنو إلى البحر ترجو نَقْع غُلَّتها
لحظَ المهجَّر إذ يبدو له الآل٤
تُهال كالرمل بالنيران أدوُرها
حتى تكاد لها الأرواح تَنْهال
يا ريحُ مهلًا فلا تذري الرماد بها
إن الرماد الذي تذرين أموال
•••
قد رحتُ للحَيِّ مذعورًا أُيَمِّمُهُ
ولي عن الزُّمر الباكين تَسآل
وفي العِراص ديارُ القوم خاويةٌ
وفي الشوارع نِسوان وأطفال٥
جلسن والشمس فوق الرأس دانية
وللغبار بعُرْضِ الحيِّ تجوال
ولا خِمار فيرددن الغبار به
ولا يقيهنَّ حرَّ الشمس سِربال
حتى وقفتُ وقلبي كلُّه جزعٌ
وأدمعي لجَجٌ طورًا وأوشال٦
•••
ما أنسَ لا أنسَ أمَّ الطفل قائلةً
وفوق وجنتها للدمع تهطال:
إني تجرَّدت من دنيايَ حاسرةً
ما لي سوى طفليَ الباكي بها مال
أي امرئٍ بعد هذا اليوم ذيِ جدَة
يعولني حيث لا زوج ولا آل٧
أودى الحريق بدارٍ كنت أسكنها
وكنت من بعضها للقوت أكتال٨
واليوم أصبحت لا دارٌ ولا وَزرٌ
آوي إليه ولا عمٌّ ولا خال
إن الحريقَ خبت نيرانه ومضت
وما خبَتْ في فؤادي منه أوجالُ
يا ربِّ رُحماك إني اليوم عاجزةٌ
عما دَهى وبظهري منه أثقال
يا ربِّ قد ضقت ذرعًا بالحياةِ فما
أدري، حنانيك ربي! كيف أحتال؟!
وعندما قد شجاني من مقالتها
لفظ يقطِّعه في البين إعوال
دنوت منها قليلًا وهْيَ باكيةٌ
ومن بكاها بقلبي هاج بلْبال
حتى وقفت وإيناسًا لوحشتها
حنيتُ رأسي وحَنْي الرأس إِجلال
وقلت: يا أختُ لا تستيئسي جزعًا
فإنما الدهر إدبار وإقبال
أتجزعين ابتئاسًا بين أظهرنا
وكلُّنا عنك للبأساء حمَّال
ما لي أراكِ بعين اليأس باكيةً
كأنَّ أمرك عند القوم إهمالُ
ألستِ من أمَّةٍ أيدي الرجال بها
قد فُكَّ عنهنَّ بالدستور أغلال؟!
حتى لقد أصبحوا أبناء واحدةٍ
في المُرْزِئاتِ وهم في الحكم أشكال٩
مستعصمين بحبلٍ من أخوَّتهم
يسمو بهم للعلا فضل وإفضال
أمسى التعاضد كالحصن الحصين له
إذا تصادَمَ بالأهوال أهوال
فاستبشري اليوم فيما مسَّ من ظمأٍ
بأنَّ وردك عند القوم سَلسال
وإن حقك عَول في مساكنهم
وما هُمُ بأداء الحقِّ بُخَّالُ
•••
تلك التي قد شجتني في مقالتِها
وكم لها في نساءِ الحيِّ أمثال
فهل يُصدِّق قومي ما ظننت بهم
حتى تقومَ لهم في المجد أفعال؟
فالمجد يدرك مرماه البعيدَ فتىً
رحبُ الذراعين طلق الكف مفضال
وأكثر المال حمدًا ما يعان به
مَن عضَّهم من نيوب الدهر إقلال
يا قوم هذي سبيل العُرفِ واضحةٌ
فليمْضِ فيها بكم وخْدٌ وإرقال١٠
ومن تكُ الحال فيها لا تساعده
«فليُسعد النطقُ إن لم تسعِدِ الحالُ»١١
١
هذه القصيدة قيلت في حريق شب في حارة الفاتح من مدينة إسطنبول، وهو حريق
هائل اجتاح عدة حارات، فتركها قاعًا صفصفًا.
٢
السمرات: جمع سمرة بفتح فضم، واحدة السمر: وهو شجر من
العضاه. والضال: شجر من الدر، والمراد به هنا مطلق
الشجر.
٣
الرهج: غبار الحرب.
٤
المهجر: الذي يسير في الهاجرة، وهي نصف النهار في القيظ
خاصة، وتكون شديدة الحر. والآل: السراب.
٥
العراص: جمع عرصة وهي ساحة الدار، أو كل بقعة ليس فيها
بناء.
٦
الأوشال: جمع وشل، وهو الماء القليل.
٧
ذي جدة: ذي غنى. الآل: هنا بمعنى الأهل.
٨
أي: ذهب الحريق بدار كنت أسكن في بعضها، وأكري الناس بعضها
الآخر، فأكتال بكرائها قوتي.
٩
وهم في الحكم أشكال: أي متشاكلون متساوون.
١٠
الوخد والإرقال: كل منهما ضرب من ضروب مشي الإبل.
١١
هذا عجز بيت للمتنبي قاله مادحًا، وصدره: «لا خَيْلَ عندَكَ
تُهديها ولا مالُ».