ثالثة الأثافي
قالها في الحريق الكبير الذي حدث في حارة إسحاق باشا من مدينة إسطنبول، وكان ثالث حريق كبير حدث هناك في العهد الأخير.
قعدَت بقارعةِ الطريق تنوحُ
والطفلُ يجذب رُدنها ويصيحُ
تبكي وقد ضحك الحريق بدارها
كالبرق يضحك في الدجى ويلوح
ضحيت وقد قلص الظلال فوجهها
للشمس في وجناته تلويح
جَرَّ الحريقُ على الدِّيار ذيولَه
فجَري لذلك دمعُها المسفوحُ
ولقد وقفتُ حيالها ومدامعي
تسخُو سوى أن العزاءَ شحيح
فغدا يُلقِّنني الأسى من عينها
لحظ برَقراقِ الدموع سَبوح
يا أيِّمًا أجرى الغداةَ دموعَها
بيت بجائحة الحريق مَجوح١
لا تهلكي جَزَعًا فإنَّ بيوتنا
ما للمُلِمِّ بأهلِها تسريحُ
أعليكِ أنت تضيق كل ديارنا
هذي وأكثرها ديار فيح؟!٢
فاقني عزاءَك فالحياةُ وإن أرت
بعض السرور فكلها تتريح٣
قف بالديار فقد أناخ بها البِلى
وانظر فقد قرعت بهنَّ السوحُ٤
نزل الحريق بها فشتَّت شملها
فغدت عِراصًا وهي قبلُ صُروح
بكرَ الشواظ بها يُنَضْنِضُ ألسنًا
من هول مطلعها تذوب الروح٥
نشر اللَّهيب على البيوت ملاءةً
حمراءَ تصفِق جانبيها الريح
فتعبَّسَتْ منه السماء وأمطرت
نارًا وقد أخذ اللهيب يسيح
وعلا الدخانُ على البيوت سحائبًا
برق المهالكِ بينهن لمُوح
أما الشرار فكان وبلًا مُنبتًا
نُوَبًا برائحةِ الدمار تفوح
والشمس قد كُسِفت بِجَونِ دخانهِ
وبدت عليها سَفعة وكُلوح٦
•••
يا قومُ ساء مصيرُكم فإلى متى
لا تسمعون لما يقول نصيح
هَلَّا أخذتم للخطوب عَتادَها
كي لا يكونَ لها بكم تبريح؟!
هذا الحريق وكل يوم ناره
تغدو عليكم تارةً وتروح
فالنَّار ما برحت تفوهُ بألسنٍ
ذُربٍ وإن كلامها لفصيح
لِمَ لم تعوا ما قلن قبلُ مكررًا
أوَما كفاكم ذلك التصريح؟!
نِمتم إلى نُوب الزمان فإن أتت
قمتم كما يتململ المذبوح
وأهمكم أدنى الأمور وفاتكم
نظر إلى الأمر القصيِّ طموح
كم في الحوادث من نذير قد أتى
فيكم بأسرار الزمان يبوح!
أما الحريقان اللذان تقدما
فكلاهما شِق لكم وسطيح٧
قد أنذراكم بالخراب وأنبأا
أن التراخيَ في الأمور قبيح
عَجبي إلى تلك المصائب كيف قد
نُسيت ولم تبرأ لهن جروح؟!
سُرعان ما تنسون عُظمَ مصابكم
ولوَ انَّ شُقة منتهاه طَروح٨
لا تستنيموا للزمان فأخذه
خلس وقوس الحادثات ضروح٩
١
الأيم: المرأة التي فقدت زوجها. والجائحة: النازلة العظيمة
التي تجتاح المال؛ أي تستأصله. ومجوح: أي مستأصل، وهو صفة
لبيت، والمراد أنها أبكاها اجتياح الحريق بيتها.
٢
فيح: جمع فيحاء؛ أي واسعة.
٣
قنى: حفظ وادخر. والتتريح: الأحزان.
٤
السوح: جمع الساحة، وقرعت السوح: أي خلت من الغاشية.
٥
بكر الشواظ: أي أتى بكرة، والشواظ لهب النار الذي لا دخان
فيه. وينضنض ألسنًا: يحركها، والمراد بألسن الشواظ: ما يمتد في
شكل اللسان.
٦
بجون دخانه: أي بدخانه الأسود. وقوله سفعة: أي لون أسود مشرب
بحمرة. وكلوح: أي عبوس واكفهرار.
٧
شق بدون أل: علم لكاهن من كهان العرب، كان في أيام سطيح،
وسطيح: لقب كاهن اليمن المشهور، واسمه ربيع الذئبي.
٨
شقة منتهاه: أي مسافة منتهاه. وطروح: بعيدة.
٩
قوس ضروح: أي شديدة الدفع والحفز للسهم.