العالم شعر
وما المرء إلا بيت شعر
قرأتُ وما غير الطبيعة من سِفْرِ
صحائفَ تحوي كل فن من الشعر١
أرى غُرَر الأشعار تبدو نضيدةً
على صفحات الكون سطرًا على سطر٢
وما حادثات الدهر إلا قصائد
يفوه بها للسامعين فم الدهر
وما المرء إلا بيتُ شِعرٍ عروضُه
مصائبُ لكنْ ضَرْبُه حُفرة القبرِ٣
تنظمنا الأيام شعرًا وإنما
تردُّ المنايا ما نظَمن إلى النثر٤
فمنَّا طويل مُسهب بحر عمره
ومنا قصير البحر مختصَر العمر٥
وهذا مديح صيغ من أطيب الثنا
وذاك هجاء صيغ من مَنطق هُجر٦
•••
وربَّ نيامٍ في المقابر زرتهم
بمنهلِّ دمع لا يُنهنهُ بالزجرِ٧
وقفت على الأجداث وقفةَ عاشق
على الدار يدعو دارس الطلل القفرِ٨
فما سال فيض الدمع حتى قرنته
إلى زفرات قد تصاعدن من صدري
أسُكَّانَ بطنِ الأرض هلَّا ذكرتمُ
عهودًا مضت منكم وأنتم على الظهر؟
رضيتم بأكفان البِلى حُللًا لكم
وكنتم أولي الديباج والحللِ الحمر
وقد كنتمُ تؤذي الحشايا جنوبكمْ
فكيف رقدتم والجنوب على العفر؟!٩
ألا يا قبورًا زرتها غيرَ عارف
بها ساكنَ الصحراء من ساكن القصر!١٠
لقد حار فكري في ذويكِ وإنَّه
ليحتار في مثوى ذويك أولو الفكر١١
فقلت، وللأجداث كَفي مشيرة:
ألا إن هذا الشعرَ من أفجع الشعر!١٢
•••
وليلٍ غدافيِّ الجناحين بِتُّهُ
أسامر في ظلماته واقعَ النسر١٣
وأقلع من سُفْن الخيال مَراسيًا
فتجري من الظلماء في لُجَج خُضرِ١٤
أرى القبة الزرقاء فوقي كأنها
رُواق من الديباج رُصِّع بالدر١٥
ولولا خروق في الدجى من نجومه
قبضت على الظلماء بالأنمل العشر١٦
خليليَّ ما أبهى وأبهج في الرُّؤَى
نجومًا بأجواز الدجى لم تزل تسري!١٧
إذا ما نجومُ الغرب ليلًا تغوَّرت
بدت أنجم في الشرق أخرى على الإثر١٨
تجوَّلت من حسن الكواكب في الدجى
وقبح ظلام الليل في العرف والنكر١٩
إلى أن رأيت الليلَ ولَّت جنوده
على الدُهم يقفو إثرها الصبح بالشُّقرِ٢٠
فيا لك من ليلٍ قرأت بوجهه
نظيم البهَا في نثر أنجمه الزُّهر!
فقلت، وطرفي شاخص لنجومه:
ألا إن هذا الشعر من أحسن الشعر!
•••
ويوم به استيقظت من هجعة الكرى
وقد قَدَّ درعَ الليل صمصامةُ الفجر٢١
فأطربني والديك مُشجٍ صياحُه
ترنمُ عصفور يزقزق في وكر٢٢
ومما ازدهى نفسي وزاد ارتياحها
هبوبُ نسيمٍ سَجْسَجٍ طيِّب النشرِ٢٣
فقمت وقام الناس كلٌّ لشأنهِ
كأنَّا حجيجُ البيت في ساعة النفر٢٤
وقد طلعت شمس النهار كأنها
مليكٌ من الأضواء في عسكرٍ مَجر٢٥
بدت من وراء الأفق ترفل للعلا
رويدًا رويدًا في غلائلها الحمر٢٦
غدت ترسل الأنوار حتى كأنها
تسيل على وجه الثرى ذائب التبر٢٧
إلى أن جلت في نورها رونقَ الضحى
صقيلًا وفي بحر الفضاء غدت تجري٢٨
وأهدت حياة في الشعاع جديدة
إلى حيوان الأرض والنبت والزهر
فقلت، مشيرًا نحوها بحفاوةٍ:
ألا إن هذا الشعر من أبدع الشعر!٢٩
•••
وبيضةِ خِدْرٍ إن دعت نازح الهوى
أجاب ألا لبيَّك يا بيضةَ الخدْر٣٠
من اللَّاء يملكن القلوبَ بكلمة
ويحيين ميت الوجد بالنَّظرِ الشزر٣١
تهادت تريني البدر محدقةً بها
أوانسُ إحداقَ الكواكب بالبدر٣٢
فلله ما قد هِجنَ لي من صبابة
ألفتُ بها طيَّ الضلوع على الجمر!٣٣
تصافح إحداهن في المشي تِرْبَها
فنحرٌ إلى نحرٍ وخصْر إلى خصر٣٤
مررن وقد أقصرت خطوي تأدُّبًا
وأجمعت أمري في محافظة الصبر
فطأطأن للتسليم منهنَّ أرْؤسًا
عليها أكاليلٌ ضُفرن من الشعر
فألقيتُ كفي فوق صدري مُسلمًا
وأطرقت نحو الأرض منحني الظهر
وأرسلت قلبي خلفهن مُشيِّعًا
فراح ولم يرجع إلى حيث لا أدري
وقلت، وكفِّي نحوهن مشيرةٌ:
ألا إن هذا الشعر من أجمل شعر!
•••
ومائدةٍ نسْجُ الدِّمقس غطاؤها
بمجلس شبانٍ هُمُ أنجم العصر٣٥
رَقى من أعاليها الفنغرافُ منبرًا
محاطًا بأصحاب غطارفةٍ غُرِّ٣٦
وفي وسَط النادي سراج منوَّر
فتحسبه بدرًا وهُمْ هالة البدر٣٧
فراح بإذن العلم يُنطِق مِقْوَلًا
عرفنا به أن البيانَ من السحر
فطوْرًا خطيبًا يُحزِنُ القلبَ وعْظُه
وطورًا يُسرُّ السمع بالعزف والزمرِ٣٨
يفوه فصيحًا باللُّغا وهو أبْكمٌ
ويُسمع ألحان الغنا وهو ذو وَقر٣٩
أمينٌ أَبَى التدليسَ في القول حاكيًا
فتسمعه يروي الحديث كما يجري٤٠
تراه إذا لقنته القول حافظًا
تمر الليالي وهو منه على ذُكر٤١
فيا لك من صنع به كل عاقل
أقرَّ لآديسونَ بالفضل والفخر!٤٢
فقلت، وقد تمَّت شقاشق هدره
ألا إن هذا الشعر من أعجب الشعرِ!٤٣
•••
وأصْيَدَ مأثورِ المكارم في الورَى
يُريك إذا يلقاك وجه فتًى حُرِّ٤٤
يروح ويغدو في طيالسة الغنى
ويقضي حقوق المجد من ماله الوفر٤٥
تخوَّنه ريب الزمان فأولِعتْ
بِإخْلاقها ديبَاجَتيْهِ يدُ الفقر٤٦
فأصبح في طُرْق التصعلك حائرًا
يحول من الإملاق في سمل طِمْر٤٧
كأن لم يَرُح في موكب العز راكبًا
عتاق المذاكي مالك النهي والأمر٤٨
ولم تزدحم صِيدُ الرجال ببابه
ولم يَغمُرِ العافين بالنائل الغَمْرِ٤٩
فظل كئيبَ النفس ينظر للغنى
بعين مُقلٍّ كان في عيشة المثري٥٠
إلى أن قضى في علة العُدم نحْبه
فجهَّزهُ من مالهم طالبو الأجر٥١
فرُحتُ ولم يُحفَل بتشييع نعشه
أشيِّعه في حامليه إلى القبرِ
وقلت، وأيدي الناس تحثو ترابه:
ألا إن هذا الشعر من أفجع الشعر!٥٢
•••
ونائحة تبكي الغداةَ وحيدَها
بشجو وقد نالته ظلمًا يدُ القهر٥٣
عزاه إلى إحدى الجنايات حاكم
عليه قضى بُطلًا بها وهو لا يدري٥٤
فويل له من حاكم صُبَّ قلبه
من الجوْر مطبوعًا على قالب الغدر
من الروم أما وجهه فمشوَّه
وَقاح وأما قلبه فمن الصخرِ٥٥
أضرَّ بعفِّ الذيل حتى أمضَّه
ولم يلتفت منه إلى واضح الغدر٥٦
تخطَّفه في مخلب الجور غِيلةً
فزجَّ به من مظلم السجن في القعر٥٧
تنوء به الأقياد إن رام نهضة
فيشكو الأذى والدمع من عينه يجري٥٨
تناديه والسجانُ يُكْثِرُ زَجْرَها
عجوزٌ له من خلف عالية الجُدْر٥٩
بُنيَّ أظن السجنَ مسَّك ضُرُّه
بُنيَّ بنفسي حلَّ ما بك من ضرِّ!
بُنيَّ استعنْ بالصبر ما أنت جانيًا
وهل يخذل اللَّه البريءَ من الوزر؟!٦٠
فجئت أعاطيها العزاء وأدمعي
كأدمعها تنهلُّ مني على النحر
وقلت، وقد جاشت غوارب عَبرتي:
ألا إن هذا الشعر من أقتل الشعر!٦١
١
السفر: الكتاب.
٢
نضيدة: منسقة.
٣
العروض في علم الشعر: الجزء الأخير من الشطر الأول من البيت.
والضرب: الجزء الأخير من الشطر الثاني، ومعنى البيت أن الإنسان
أوله للمصائب وآخره للموت.
٤
النثر: التفريق.
٥
مسهب: طويل.
٦
الهجر: القبيح من الكلام.
٧
أنهل الدمع: سال. لا ينهنه: لا يكف.
٨
الأجداث: القبور. درس المكان: امَّحى. والطلل: ما بقي من
آثار الديار.
٩
الحشايا: جمع حشية وهي الفراش المحشو. العفر: التراب.
١٠
الصحراء: الأرض الفضاء لا شيء فيها.
١١
المثوى: المقام.
١٢
أفجع: أوجع.
١٣
غدافي الجناحين: أسودهما، نسبة إلى الغداف وهو الغراب.
النسر: اسم لنجمين، يقال له: النسر الواقع، والآخر يقال له:
النسر الطائر، وفي البيت تورية لا تخفى.
١٤
لجج: جمع لجة، وهي في الأصل معظم الماء. خضر: سود، يقال:
أخضر بمعنى أسود، والخضرة والسواد يستعمل كل منهما مكان
الآخر.
١٥
القبة الزرقاء: السماء. الرواق: سقف في مقدم البيت، أو هو
الخيمة.
١٦
الدجى: الليل. وأراد بالأنمل: الأصابع؛ وهي في الأصل
رءوسها.
١٧
الرؤى: المنظر. أجواز الدجى: أوساط الليل.
١٨
تغوَّرت: غابت.
١٩
تجولت: كذا بالجيم؛ كما في الأصل، ولم أجد هذه الصيغة في
مادة «جال»، ولو روي بالحاء المهملة لكان أحسن وأوفى
بالمراد.
٢٠
الدهم: جمع أدهم؛ وهو الأسود من الخيل. يقفو إثرها: يتبعها.
الشقر: جمع أشقر، والشقرة في الخيل: حمرة صافية يحمر معها
العرف والذنب. وأراد بالدهم: الظلمات، وبالشقر: أشعة الشمس
مجازًا.
٢١
الهجعة: من الهجوع، وهو النوم. الكرى: النعاس. قد: شق.
والمراد بدرع الليل: ظلمته. الصمصامة: السيف، والمراد بصمصامة
الفجر: شعاعه.
٢٢
مشجٍ: مطرب.
٢٣
ازدهى نفسي: استفزها. ريح سجسج: لينة الهواء معتدلة.
النَّشر: الرائحة.
٢٤
الحجيج: الحجاج. والمراد بالبيت: البيت الحرام في مكة.
النفر: مصدر نفر الحجيج إذا اندفعوا من منًى إلى مكة.
٢٥
المجر: الجيش العظيم.
٢٦
ترفل: تجر ذيلها وتتبختر. غلائلها: أراد بها ثيابها، مفردها
غلالة، وهي شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع.
٢٧
الثرى: الأرض والتراب الندي.
٢٨
رونق الضحى: إشراقه وحسنه. صقيلًا: مجلوًّا.
٢٩
الحفاوة: التلطف والمبالغة بالإكرام.
٣٠
أراد ببيضة الخدر: الجارية الحسناء؛ لأنها مكنونة في خدرها.
نازح الهوى: نائيه وذاهبه.
٣١
اللاء: اللاتي. الوجد: الحب. النظر الشزر: هو نظر فيه إعراض،
أو نظر الغضبان بمؤخر العين، أو النظر يمين وشمال، وهذا
التفسير أقرب لمعنى البيت.
٣٢
أحدق بالشيء: أحاط به.
٣٣
هجن: هيجن. الطي: مصدر طوى.
٣٤
يقال: هذا ترب فلان، وهذه ترب فلانة: إذا كانت على سنها،
وأكثر ما يستعمل في المؤنث. النحر: موضع القلادة من
العنق.
٣٥
الدمقس: الديباج والحرير الأبيض.
٣٦
الغطارفة: السادة.
٣٧
الهالة: دارة القمر، كالطفاوة لدارة الشمس.
٣٨
العزف: الضرب بالمعازف؛ وهي آلات الطرب.
٣٩
اللغا: اللغات؛ وهي جمع لغة. الوقر: الصمم؛ وهو ذهاب
السمع.
٤٠
التدليس في الحديث: هو أن لا يذكر المحدث في حديثه مَنْ سمعه
منه، ويذكر مَنْ هو أعلى مِمَّنْ حدثه؛ لوهم أنه سمعه منه،
والمدلس لا يُقْبل حديثه.
٤١
الذكر بضم الذال: التذكر.
٤٢
أديسون: هو مخترع الصدى؛ «الفنغراف».
٤٣
تمت شقاشق هدره: سكت، والشقشقة في الأصل: لهاة البعير، وقيل:
شيء كالرئة يخرجه من فيه إذا هاج، ويقال للفصيح: هدرت
شقشقته.
٤٤
الأصيد: الرجل الذي لا يلتفت من زهوه وخيلائه.
٤٥
طيالسة: جمع طيلسان، وهو نوع من الثياب يلبسه الخواص. الوفر:
الكثير.
٤٦
أولع به بالبناء للمجهول: علق به شديدًا. الإخلاق: مصدر أخلق
الثوب: أبلاه. ديباجتيه: خديه. ومعنى البيت: خانه الزمان،
وعلقت به يد الفقر، فوضعت من شرفه، وذللت خديه بعد أن كانتا
مصعرتين.
٤٧
التصعلك: الافتقار. الإملاق: الفقر. سمل طمر: بالٍ.
٤٨
المذاكي: الخيل التي تمَّت سنها وكملت قوتها.
٤٩
صيد: جمع أصيد وقد تقدم معناه. يغمر: يبالغ في الإحسان.
العافين: الفقراء. النائل الغمر: العطاء الكثير.
٥٠
المقل: ضيق ذات اليد. والمثري: الغني.
٥١
العدم: الفقر.
٥٢
تحثو ترابه: تصبه.
٥٣
الشجو: الحزن.
٥٤
عزاه: نسبه.
٥٥
وقاح بفتح الواو: ذو وقاحة، يطلق على المذكر والمؤنث.
٥٦
عف: عفيف.
٥٧
المخلب: هو في الأصل ظفر كل سبع من الماشي والطائر. غيلة:
يقال: قتله غيلة: أي خدعه فذهب به إلى موضع فقتله. زج به:
طرحه.
٥٨
تنوء به: تثقله. الأقياد: جمع قيد.
٥٩
الجدر: جمع جدار.
٦٠
الوزر: الذنب.
٦١
جاشت: فاضت. غوارب الماء: أعالي موجه. العبرة:
الدموع.