الدهر١
هل الدهرُ إلا أعجميٌّ أخاطبهْ
فما لي إلى فهمِ الحديث أجاذبه؟
أيثني إلى وجه اللئيم بوجهه
ويرتدُّ مزورًّا عن الحرِّ جانبه٢
أراه إذا طارحته الجد لاعبًا
وما أنا ممَّن يا أميمُ يلاعبه٣
ويضرب أطنابَ المنى ليَ هازلًا
وما أنا مخدوعٌ بما هو ضاربه
وبيناه يُبدي لي ابتسامةَ خادعٍ
يقطِّب حتى لا تَبين حواجبه٤
لقد أضحكتْ غيرَ الحليم شُئونُهُ
وأبكت سوى عينِ السفيه نوائبُه
فيا أدباءَ القوم هل تنقضي لكم
شكايةُ دهرٍ حاربَتْكم مصائبه؟!
يشدُّ عليكم بالسيوفِ نكايةً
وأقلامُكم، وهو الأصمُّ، تعاتبه٥
•••
هو الدهر لم يسلم من الغيِّ أهله
كما الليلُ لم يأمنْ من الشر حاطبه٦
إذا آنسوا نورَ الحقيقة رابهم
فتجثو على الأبصارِ منهم غياهبه٧
تضاربت الأهواءُ فيهم فناكبٌ
عن الشرِّ يُقْصيه، وآخرُ جالبه
طبائعُهم شتى على أنَّ بينهمْ
كريمًا تواليه ووغدًا تجانبه
لعمرك حتى البرق خالف بعضه
فقد خولفت بالموجبات سوالبه٨
أبتْ حركات الكونِ إلا تباينا
دوافعُه فعَّالة وجواذبُه
ولولا اختلافٌ شاءَه اللَّه في القوى
لما دار في هذا الفضاء كواكبه
•••
سبرتُ زماني بالنُّهى ومَخَضتهُ
بتجربتي حتى تجلَّت عواقبُه
ولم أستشرْ في الناس إلا تجاربي
وهل يصدقُ الإنسانَ إلا تجاربُه
فلا ترتكبْ قربَ اللئامِ فإنَّهم
لكالبحرِ محمولٌ على الهول راكبه
وما عجبي في الدهر إلا لواحدٍ
وإن كثرتْ في كلِّ يومٍ عجائبه
وذلك أن العيشَ فيه مطيَّبٌ
لِمَنْ خبثت بالمخزيات مكاسبه
ولو كان في أعماله الدهرُ عاقلًا
لما كان مثلي في الورى مَنْ يحاسبُه
ولو لم يكن في كل ما فيه خادعًا
لما أَمَّ فيه صادقَ الفجر كاذبه٩
ألا ربَّ شيطانٍ من الإنس قد غدا
يخاتلني خَلسًا وعيني تراقبُه١٠
فقلتُ له: اخسأ إنما أنت خائبٌ
وقبلك أعيا الجنَّ ما أنت طالبه١١
فولَّى على الأعقاب يحبو وقد درى
وللَّه درِّي أنني أنا غالبُه١٢
فأتبعه مني شهابُ تسامحٍ
يشقُّ ظلام الجهلِ بالحلم ثاقبه١٣
ولو شئتُ أرسلتُ الخديعةَ خلفَه
تطاردُه حتى تضيقَ مذاهبُه
ولكنْ أبى منِّي الخداعَ مهذبٌ
تعوَّد فعلَ الخيرِ مذْ طُرَّ شاربه
•••
وذي سَفَه أغضيتُ عنه تكرُّمًا
فدبَّتْ على رجليَّ غدرًا عقاربُه
فقمتُ له بالنعلِ ضربًا فلم تزلْ
يدايَ به حتى اطمأنت غواربه١٤
وجنَّبته السيفَ الجُرازَ؛ لأنَّه
تعالت عن الكلبِ العقورِ مضاربُه
لقد عابني جهلًا ولم يدرِ أنه
أقلُّ فداءٍ للذي هو عائبه
له نسبة مجهولةٌ غير أنه
مغامزه معلومة ومعايبه١٥
١
هذه القصيدة لم تنشر هنا بكاملها بل حذف منها زهاء أحد عشر بيتًا.
٢
يثني: يعطف، والباء في بوجهه زائدة في المفعول. ومزورًّا:
منحرفًا.
٣
يقال: طارحه الكلام والشعر وغير ذلك: إذا ناظره
وجاوبه.
٤
بيناه: الألف كافة لبين أو هي مختصرة من ما الكافة، والأصل
بينما، فحذفت الميم من ما، وكذلك القول في الضمير المتصل بها
أنه مختصر من هو، والأصل بينا هو، فالضمير ضمير رفع، وقوله
يقطب: أي يزوي ما بين عينيه.
٥
أي: هو يحمل عليكم بالسيوف قهرًا بالقتل والجرح، وأنتم
تقابلونه بالأقلام عتابًا، وهو مع ذلك أصم غير سامع للعتاب،
والبيت تمثيل لحالة الأدباء مع الدهر.
٦
حاطب ليل: مثل عندهم في التخليط، ومنه قولهم: المكثار حاطب
ليل؛ أي يجمع بين الحميد والرديء، أو أن الحاطب في الليل لا
يأمن الشر إذا ربما جمع الأفاعي في الحطب الذي احتطبه وهو لا
يدري، ففي البيت تشبيه الدهر بالليل، وأهليه بالحاطب فيه، فهم
لا يسلمون من الوقوع في الباطل كما أن حاطب الليل لا يأمن من
الوقوع في الشر، وكما في البيت: مثلها في قول الشاعر:
كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه
٧
آنسوا: أبصروا. رابهم: أوقعهم في الريب، وضمير الفاعل في
رابهم يعود إلى الدهر.
٨
يريد بهذا البيت وما بعده: أنه لا عجب في اختلاف طبائع
الناس، وكونهم شتى بين كريم ولئيم؛ إذ هذا التخالف جارٍ في
جميع ما في الكون فالبرق منه موجب ومنه سالب، ولولا اختلاف
القوانين الجاذبة والدافعة لمَا تم نظام هذا العالم، ولا دارت
في هذا الفضاء كواكبه.
٩
أم فلان القوم: إذا تقدمهم. وصادق الفجر: مفعول مقدم،
وكاذبه: فاعل مؤخر، والمعنى أن كل ما في الدهر خادع فلذلك ترى
الفجر الصادق يتقدمه الفجر الكاذب.
١٠
يخاتلني: أي يخدعني عن غفلة. والخلس: مصدر خلس الشيء إذا
أخذه في مختلة، وهو في البيت مفعول لأجله، أو هو مفعول مطلق؛
لأنه بمعنى المخاتلة.
١١
اخسأ: أي ابعد وانزجر، وهي كلمة زجر وطرد للكلب.
١٢
المعنى المراد من قوله: «فولى على الأعقاب يحبو» أنه ذهب
كالكلب يمشي على أربع.
١٣
أتبعه: بمعنى تبعه أي لحقه. وشهاب تسامح: أي شهاب صفح وعفو
عنه.
١٤
فلم تزل يداي به حتى اطمأنت: أي لم تزل يداي تمارسه أو موقعة
به حتى فعل؛ أي ما زلت أحاوله. غواربه: الغارب هو الكاهل،
وأعلى كل شيء، وأعلى الموج.
١٥
المغامز: جمع مغمز، وهو المطعن، فهي كالمعايب معنًى.