في منتدى التهذيب
أنشدها في حفلة افتتاح منتدى التهذيب في بغداد.
تريد ليَ الأيام أن أتقيَّدا
وأطلب فيها أن أكون المجدِّدا
وتقعُد بي دون المدى في خطوبها
وغاية همِّ النفس أن أبلغ المدى
كفى لصريح العقل قيدًا لمطلَقٍ
من الناس يبغي أن يكون مقيدا
لعمر الهدى إنَّ النُّهى ليس من صُوى
سواها لِمَنْ ضلُّوا الطَّريقَ إلى الهدى١
فما بال هذا العقل أمسى معطَّلًا
لدينا كأنَّ اللَّه أوجده سُدى؟!٢
أَيُخْلقُنا كرُّ الجديدين ضلَّة
ولم نتقمَّص فيهما ما تجددا؟!٣
فيما منجدي فيما أريد من العلا
ولولا العلا لم أطلب الدهر منجدا
أعنِّي على ما لو تحقَّق كونُه
لما كان لي بل للأناسيِّ مُسعدا
تجهَّزْ من الحسنى بما أنت قادرٌ
عليه ولا تقبل سوى العقل مرشدا
وأحسن إلى مَنْ قد أساء تكرُّمًا
وإن زاد بالإحسان منك تمردا
وحِبَّ الذي عاداك إن رمت قتله
فإني رأيتُ الحبَّ أقتلَ للعِدا
فليس مضرًّا في العلا بالذي أرى
على كل حالٍ أن تحبَّ مَنِ اعتدى
إذا دُفع الشر القبيح بمثله
تحصَّل شرٌّ ثالث وتولَّدا
وأمست دواعي الشر ذات تسلسل
مَديدٍ وصار الشر في الناس سرمدا
فما الرأي عندي إن تمخَّضتِ الوغى
سوى أن يظلَّ السيف في الغِمد مغمدا
وأن تجمع الدنيا على ردِّ طامعٍ
أشار إلى أسيافه متهدِّدا
فإن كان هذا في العصور التي خلتْ
عسيرًا ففي هذا الزمان تمهدا
فإن جميع الأرض أمستْ كبلدةٍ
بها كل جمعٍ عُدَّ في الحكم مفردا
ولي خُلُقٌ يأبى عليَّ انطباعه
على الخير تسليمي إلى الشر مقودا
وأُضرِب عن جهل الجهولِ ولم أكنْ
لأَضربَ في الأيام للغدر موعدا
إذا ما اتَّقت نفسٌ رداها بذلَّة
فعنديَ نفْسٌ تتقي الذلَّ بالردى
ولو طلبت نفسي الغنى بامتهانها
لأصبحتُ في المثرينَ أطولهم يدا
ولكنني آليتُ ألا أذيقها
من العيش إلا ما استطيبَ وحُمِّدا
سجيَّة نفس لم أحُل عن عهودها
وإن لامني الأعمى عليها وفنَّدا
وما ضرَّني إذ عضَّني مُتشَادِقٌ
شَحا بفمٍ قد كان في العضِّ أدردا٤
ولي وطنٌ أفنيت عمري بحبه
وشُتتَ شملي في هواه مبدَّدا
ولم أرَ لي شيئًا عليه وإنما
عليَّ له في الحبِّ أن أتشدَّدا
تعلَّقته منذ الصبا مغرمًا كما
تعلَّق ليلى العامريُّ مُعمَّدا
وسيَّرتُ فيه الشعرَ فخرًا فطالما
شدوت به في محفل القوم مُنشدا
وكم رامَ إسكاتي أناسٌ أبى لهم
خَنا الطبع إلا أن يُرَوْا لي حُسَّدا
ومن عجبٍ أن يعشق الرَّوضَ بلبلٌ
ويمنعه ذبَّانُه أن يغرِّدا
وما الناس إلا اثنان في الشرق كلِّه:
جهولٌ تلهَّى أو حليمٌ تبلَّدا
ولم أرَ مثلَ الفضل في الشرق مخفقًا
ولا مثل جَدِّ المرء للمرء مُسعدا
تأمَّلْ قليلًا في بنيه مفكِّرًا
لتشهد منهم للعجائب مشهدا
فتبصرَ أيقاظًا يُطيعون هُجَّدًا
وتبصر أحرارًا يخافون أعبدا
وكم فأرةٍ في الشرق تُحسب هرَّةً
وكم عقْعَقٍ في الشرقِ سُمِّيَ هُدْهُدا
ألا رُبَّ شاكٍ قال لي وهو آسِفٌ:
أما آن للتَّهذيب أن يتبغددا؟٥
فقلت له: أبشرْ بخيرٍ فإنه
ببغدادَ للتهذيب أسِّس مُنتدَى
١
النهى: العقل وأصله جمع نهية، وهي ما ينهى المرء عن القبيح.
والصوى: جمع صوة، وهي العلامة تنصب في الطريق ليهتدي بها
السائرون في الصحراء ونحوها. يريد أن العقل من معدن
الهداية.
٢
سدًى: ضياعًا، بلا فائدة.
٣
يخلقنا: يبلينا. ويقال: فلان يفعل كذا ضلة، إذا لم يوفق
للرشاد، وكأنه منصوب على الحال؛ أي: ضالًا. وتقمص الشيء:
كالقميص.
٤
المتشادق: يريد به المتشدق، وهو المتفاصح الذي يملأ شدقيه
بالكلام، وقيل: هو المستهزئ بالناس، يلوي شدقه بهم وعليهم،
وتشدق في كلامه: فتح فمه واتسع. شحا الرجل فاه: فتحه، وشحا
فوه: انفتح، متعدٍّ ولازم، والباء زائدة أو على تضمينه معنى
نطق بفم. والأدرد: صفة من الدرد، وهو سقوط مقدم
الأسنان.
٥
تبغدد: أي يصير ويتحول إلى بغداد.