في زحلة
قالها سنة ١٩٢٣ وأنشدها في حفلة أقيمت له وللريحاني في زحلة.
حَببت العلا منذ الصبا حبَّ شاعرِ
وقمت إليها ساعيًا سعيَ قادرِ
أأقدر فيها أن أصيخ للائمٍ
وقد ملكت مني جميع المشاعر؟!١
تقول ابنة الأقوام وهي تلومني
وأدمعُها رقراقة في المحاجر:٢
إلى كم تُجدُّ البين عني مسافرًا
أما تستلذُّ العيش غيرَ مسافرِ؟!٣
وأسكتها عني نشيجٌ لم تزل
تردِّده منها بأقصى الحناجر
إلى أن تفانى الصَّبر فافترَّ مدمعي
كمدمعها عن لؤلؤٍ متناثر
ولا غروَ أن أبكي أسًى من بكائها
فأعظم ما يشجي بكاء الحرائر
وقلت لها: إني امرؤٌ لي لبانةٌ
منوطٌ مداها بالنجوم الزواهر
تعوَّدت أن لا أستنيمَ إلى المنى
وألَّا أُرَى إلا بهيئةِ ثائر
وأن أُمضيَ الهم الذي هو مُقلقي
بطيِّ الفيافي أو بخوض الدياجرِ٤
أما ترَينَّ الوجهَ منِّيَ شاحبًا
لكثرة ما عرَّضتُه للهواجر٥
ولست أبالي أنني عادم الغنى
إذا كان جَدِّي في العلا غير عاثر
ذريني أزرْ في هُضْب لبنان أربُعًا
تعالت بحيث العز مُرخى الضفائر
بحيث أرى تلك الليوث خوادرًا
تسارق ألحاظًا عيون الجآذر
ليوثٌ إذا ما عبَّست في مُلمَّةٍ
تبسمت الدنيا تبسُّم ناصر
وألقت جيوش الفاخرين سلاحَها
إذا خفقت راياتها بالمفاخرِ
فأكرمْ بلبنانٍ مَقرًّا لنابهٍ
ومأوَى لمنكود ومهدى لحائر
ألا إنما لبنان في الأرض عاهل
تبوَّأَ عرشًا من حليل المآثر
وزحلةُ في لبنان تاجٌ لرأسه
قد ازدان من أبنائها بالجواهر
وما هيَ إلا روضةٌ أنبتت له
أزاهيرَ من تلك الحسان الغرائر٦
أزحلةُ إني تاركٌ فيك مُهْجتي
تعاطيك من بَعدي محبة شاكر
فنشكرك الشكر الذي أنت أهله
طَوال الليالي خالدًا في الدفاتر
وفاء امرئٍ ما عوَّد الغدرَ نفسَه
ولا وُدَّ إلا مُخلصًا في الضمائرِ
ومن عجبٍ أن الشُّويعرَ لامني
ببيروت لومَ الشَّاتم المتجاسر
وَمَنْ كان مثلي شاعرًا لا تسوءه
مقاذعة جاءته من متشاعر٧
على أنني مِنْ عاذريه وإن يكن
لي الحق في عذري له غير عاذر
وكم في رُبا لبنان من ذي فصاحةٍ
مُجيدٍ بيوم الحفل قرْعَ المنابر!
ومن أهل آدابٍ كشارقة الضحى
ومن أهل علمٍ كالبحار الزواخر
١
أصاخ له: استمع وأنصت.
٢
رقراقة: جائلة متحركة. والمحاجر: جمع محجر، وهو ما دار
بالعين من العظم.
٣
تجد البين سفرًا بعد سفر.
٤
أمضى همه: نفذ ما عزم عليه وهم به. وطي الفيافي: قطع
الصحاري، والفيافي: جمع فيفاة. والدياجر: جمع ديجور، وهو
الظلمة، وأصله: الدياجير.
٥
الشحوب: الصفرة والتغير. والهواجر: جمع هاجرة وهي شدة الحر
وسط النهار.
٦
الغرائر: جمع غريرة، وهي التي لم تجرب شئون الحياة لنعمتها
وحداثتها.
٧
مقاذعة: مهاجاة ومسابة.