سوء المنقلب
بغدادُ حسبك رقدةٌ وسُباتُ
أوَمَا تمُضُّك هذه النكباتُ؟!١
وَلعتْ بك الأحداث حتى أصبحت
أدواء خطبك ما لهنَّ أساةُ٢
قلبَ الزمانُ إليك ظهر مجنَّهِ
أفكان عندك للزمان تِراتُ؟!٣
ومن العجائب أن يمسَّك ضره
من حيث ينفع لو رعتك رعاة٤
إذ من ديالةَ والفرات ودجلةٍ
أمست تحلُّ بأهلك الكربات
إن الحياة لفي ثلاثة أنهر
تجري وأرضك حولهنَّ موات
قد ضلَّ أهلك رشدهم وهل اهتدى
قومٌ أجاهلُهم هم السَّروَات؟!٥
قومٌ أضاعوا مجدهم وتفرَّقوا
فتراهمُ جمعًا وهم أشتات
لقد استهانوا العيش حتى أهملوا
سعيًا مغبَّةُ تركه الإعنات٦
يا صابرين على الأمور تسومهم
خسفًا على حين الرجالُ أباةُ٧
لا تهملوا الضرر اليسير فإنه
إن دام ضاقت دونه الفلوات٨
فالنار تلهب من سقوط شرارةٍ
والماء تجمع سيله القطرات
لا تستنيموا للزمان توكلًا
فالدهر نزَّاءٌ له وثَبات٩
فإلى متى تستهلكون حياتكم
فوضى وفيكم غفلةٌ وأناة١٠
تاللَّه إن فعالكم بخلافه
نزل الكتاب وجاءَت الآيات١١
أفتزعمون بأن تَرْكَ السعي في
هذي الحياة توكلٌ وتُقاة؟!١٢
إن صحَّ نقلكمُ بذاك فبيِّنوا
أو قام عندكم الدليل فهاتوا
لم تلقَ عندكمُ الحياةُ كرامةً
في حالةٍ فكأنكم أموات
شقيت بكم لَمَّا شقيتم أرضُكم
فلها بكم ولكم بها غمرات١٣
وجهلتُم النهج السويَّ إلى العلا
فترادفت منكم بها العثرات
بالعلم تنتظم البلاد فإنه
لرقيِّ كل مدينة مرقاةُ
إن البلاد إذا تخاذل أهلها
كانت منافعها هي الآفات
تلك الرُّصافة والمياه تحفُّها
والكرخ قد ماجت به الأزمات
سالت مياه الواديين جوارفًا
فطفحن والأسداد مؤتكلات١٤
فتهاجَم الماءانِ من ضفَتَيْهما
فتناطحا وتوالت الهجمات
حتَى إذا اتَّصل الفرات بدجلةٍ
وتساوت الوهَدات والربوات
زحفت جيوش السيل حتى أصبحت
بالكرخ نازلة لها ضوضاةُ
فسقت بيوت الكرخ شرَّ مُقيَّئٍ
منها فقاءت أهلَها الأبيات١٥
واستنقعت فيها المياه فطحلبت
بالمكث ترغو تحتها الحمآت١٦
حتى استحال الكرخ مشهدَ أبؤسٍ
تبكي به الفتيان والفتيات
طرقاتهُ مسدودةٌ وديارهُ
مهدومةٌ وعِراصه قذرات
يا كرخُ عزَّ على المروءَة أنَّه
لججَ المياه عليك مزدحمات
فلئن أماتتكِ السيول فإنما
أمواجهنَّ عليك ملتطماتُ
•••
من مبلغُ المنصور عن بغداده
خبرًا تفيض لمثلهِ العبراتُ
أمست تناديه وتندب أربُعًا
طمست رسوم جمالها الهبوات
وتقول: يا لأبي الخلائف لو ترى
أركان مجدي وهي منهدمات!١٧
لغدوت تنكرني وتبرح قائلًا
بتعجُّبٍ: ما هذه الخَربات؟!
أين البروج بنيتهنَّ مشيدةً
أين القصور علت بها الشرفات؟!
أين الجنان بحيث تجري تحتها الـ
أنهارُ يانعة بها الثمرات؟!
أترى أبو الأمناء يعلم بعده
بغداد كيف تروعها النكبات؟
لا دجلةٌ يا للرزيَّة دجلةٌ
بعد الرشيد ولا الفرات فرات
كان الفرات يمدُّ دجلةَ ماؤه
بجداولٍ تُسقى بها الجنات
إذ بين دجلة والفرات مصانع
تفترُّ عن شنبٍ بها السنوات١٨
يا نهر عيسى أين منك مواردٌ
عذبت وأين رياضك الخضلات؟١٩
ماذا دهى نهر الرفيل من البلى
حيث المجاري منه مندرسات؟!٢٠
إذ قصر عيسى كان عند مصبِّه
وعليه منه أطلَّت الغُرفات٢١
أم أين بركة زُلزل وزُلالها السلـ
ـسال تسرح حوله الظبيات٢٢
يا نهرَ طابقَ لا عدمتك منهلًا
أين الصَّراة تحفُّها الرَّوضات؟٢٣
أم أين كرخايا تمدُّ مياهه
نهر الدجاج فتكثر الغلات؟
أم أين نهر الملك حين تسلسلت
فيه المياه وهنَّ مطَّردات؟
قد كان تزدرع الحبوب بأرضه
فتسحُّ فيه بفيضها البركات
أم أين نهر بطاطيا تأتيه من
نهر الدجيل مياهه المجراة؟
وله فروع أصلهنَّ لشارع الـ
ـكبش المجاري منه منتهيات
تنمو الزروع بِسقيه فغلاله
كل العراق ببعضها يقتات
لهفي على نهر المُعلَّى إذ غدت
لا تستبين جنانه النضرات
نهر هو الفردوس تدخل منه في
قصر الخلافة شعبة وقناة
كالسيف مُنْصلتًا تضاحك وجههُ الـ
أنوارُ وهْيَ عليه ملتمعات
إذْ نَهْر بِينٍ عند كلواذي به
مُلد الغصون تهزُّها النسمات٢٤
وبقربه من نهر بُوقٍ دارة
تنفي الهموم مروجها الخضرات
يا قصر باب التبر كنت مقرِّنًا
والنفي يصدر منك والإثبات٢٥
أَيَّام تطلعك العدالة شمسها
وترِفُّ فوقك للهدى رايات
أيام تبصرك الحضارة في العلا
بدرًا عليك من الثنا هالات
أيام تنشدك العلوم نشيدها
فتعود منك على العلومِ صلات
أيام تقصدك الأفاضل بالرجا
فتفيض منك لهم جدًا وهِبات٢٦
أيام يأتيك الشكِيُّ بأمرهِ
فيروح عنك وما لديه شكاة
تمضي الشهور عليك وهي أنيسة
وتمرُّ باسمةً بك الساعات
ماذا دهاك من الهوان فأصبحت
آثار عزك وهي منطمسات؟!
قد ضيَّعت بغداد سابق عزِّها
وغدت تجيش بصدرها الحسرات
كم قد سقاها السيل من أنهارها
ضرًّا وهنَّ منافع وحياة!
واليوم قلت: بجانبيها أرخوا
دفق السيول، فماجت الأزمات
١
السبات: النوم. تمضك: توجعك.
٢
الأحداث: النوازل. أدواء: جمع داء. أساة: أطباء.
٣
المجن: الترس، وقلب له ظهر المجن: أي صارحه بالعدواة، ترات:
عداوات، وهي جمع ترة.
٤
رعاة: جمع راع.
٥
السروات: السادة والرؤساء.
٦
المغبة: العاقبة. الإعنات: الإذلال والإيقاع في الشدة وفي
أمر يخاف منه.
٧
سامه الخسف: أذله وأهانه. أباة: لا يرضون الضيم
والإهانة.
٨
الفلوات: الأراضي المتسعة.
٩
نزاء: وثاب.
١٠
الأناة: الحلم.
١١
الفعال: بفتح الفاء، بمعنى الفعل.
١٢
التقاة: التقوى.
١٣
الغمرات: الشدائد.
١٤
الأسداد: جمع سد. مؤتكلات: آكل بعضها بعضًا.
١٥
شبه الماء الداخل إلى البيوت بما يشربه الإنسان من المقيئات،
فكما يخرج الإنسان ما في جوفه بعد شرب المقيء، فكذلك البيوت
أخرجت ما فيها من السكان بعد دخول الماء.
١٦
طحلبت: علاها الطحلب وهي خضرة تعلو الماء المزمن. الحمآت:
جمع حمأة وهي الطين الأسود؛ أراد بها جثث الذين لم يستطيعوا
الخروج من البيوت.
١٧
يا لأبي الخلائف: هو نداء استغاثة.
١٨
المراد بالشنب هنا: الخصب، والري والشنب في الأصل: هو الماء
والرقة والبرد والعذوبة في الأسنان، ويقول: افتر المحبوب:
بمعنى ضحك، وافتر عن أسنان كالبرد.
١٩
الخضلات: المرتوية.
٢٠
الرفيل: نهر يصب في دجلة بغداد.
٢١
قصر عيسى: هو قصر عظيم في بغداد وكان مبنيًّا على شاطئ نهر
الرفيل.
٢٢
بركة زلزل: بركة في بغداد كان قد بناها رجل يقال له: زلزل،
وكان مشهورًا بضرب العود حتى ضُرِبَ به المثل، وكان في أيام
المهدي والهادي والرشيد.
٢٣
نهر طابق: في بغداد يصب في نهر عيسى. الصراة: نهر على فرسخ
من بغداد يأخذ من نهر عيسى.
٢٤
نهر بين: نهر بالعراق. كلواذي: قرية قرب بغداد. ملد: جمع
أملد، وغصن أملد: ناعم.
٢٥
لعله باب التبن بالنون: وهي محلة كبيرة كانت ببغداد على
الخندق.
٢٦
الجدا: العطية.