في حفلة شوقي
أمارسُ دهرًا من جديديَ داهرا
وما زال ليلي بالعراقين ساهرَا١
أبَى الحقُّ إلا أن أقوم لأجله
على الدهر في كل المواطن ثائرا
وأن أتمادَى في جدال خصومه
وأقرَع منهم بالبيان الْمُكابِرا
وإني لأهوى الحق كالطِّيب ساطعًا
وكالريح هبَّابًا وكالشمس ظاهرا
ستبقى لنفسي في هواه سريرة
إذا الدهر أبلى من بنيه السرائرا
وتكره نفسي أن أكون مخادعًا
لأدرك نفعًا أو لأدفع ضائرا
ومن أجل مقتي للمخانيث أنكرَت
يدي أن تحلِّي في الجِنان أساورا
وما العَجْزُ إلا أن أكون مُكاتمًا
إذا ما تقاضتني العُلا أن أجاهرا
وما أنا من يُبْهمُ القولَ لاحنًا
فيضمر فيه للجليس الضمائرا
ولولا طموحي في الحياة إلى العُلا
سكنتُ البوادي واجتنبت الحواضرا
•••
يقولون لي: في مصرَ للعلم نهضة
تُفتِّق أذهانًا وتجلو بصائرا
وإنَّ بها للعلم قدرًا وحرمةً
وإن بها للحقِّ عونًا وناصرا
وإنَّ لأهل العلم فيها نواديًا
وإن لأهل الفضل فيها دساكرا
ألم ترَ أنَّ القوم في كل مَحْفِلٍ
بها رفعوا للقائلين المنابرا؟!
وقد ضربوا وعْدًا لتكريم شاعر
تملَّك صيتًا في الأقاليم طائرا؟!
هو الشاعر الفحل الذي راح شعره
بإنشاده في البر والبحر سائرا
فلو قلتَ بعضَ الشعر في يوم حفْلهم
تشُدُّ به منا لمصرَ الأواصرا!
فقلتُ: أجَل والشعر ليس بمعجزي
ولن تعدَموا مني على الشعر قادرا
ألا إن شوقي شاعرٌ جِدُّ شاعرٍ
يفوق الأوالي بل يَبزُّ الأواخرا
تملَّك حُرَّ الشِّعر فهو رقيقه
وقام عليه بالذي شاء آمرا
إذا رام جَزلًا منه أنشد زاخرًا
وإن رام سَهلًا منه أنشد ساحرا
فلا عجبٌ من أهل مصر وغيرهم
إذا عقدوا منهم عليه الخناصرا
بنى لَهُمُ مجدًا رفيعًا بشعرهِ
لذا جعلوا حسن الثناء وكائِرا٢
•••
ولكنني قد أنظر الحفلة التي
تقام له ذا اليوم في مصر ساخرا
إذا احتفلت مصرٌ بشوقي فما لها
تقيم على الأحرار في العلم حاجِرا؟!
فقد أَسمعتنا ضَجَّةً أمطرت بها
عَليًّا وطه حاصبًا متطايرًا٣
فما بالُ هذا عُدَّ في مصر مارقًا
وما بال هذا عُدَّ في مصر كافرا؟!
إذا لم تكُ الأفكار في مصر حُرةً
فليس لمصرٍ أن تكرِّم شاعرا
أيُرفع قدرُ العلم ينطق ناظمًا
ويُوضع قدرُ العلم ينطق ناثرا؟!
ويُخْتَصُّ بالتبجيل مَنْ جاء منشدا
ويقذف بالتجهيل مَنْ جاء فاكرا؟!
ألا إنَّ هذا الشعر ليس بطائل
إذا كان عمَّا يبلغ العلم قاصرا
كما أنَّ هذا العلم ليس بنافعٍ
إذا لم تكن فيه النفوس حرائرا
وتكريمُ ربِّ الشعر ليس بمفخَرٍ
لِمَنْ كان عن حُرِّية الفكر جائرا
وإلا فعصر الجاهلية قبلنا
له السبق في تكريم مَنْ كان شاعرا
١
يريد أنه أرقه أمر مهم، وهو رغبته في الدفاع عن الحق، وحبه
لجدال خصومه ومنكريه الذين يزخرفون الباطل وينصرونه.
٢
الوكائر: جمع وكيرة، وأصله الطعام يعمل عند الفراغ من بنيان
الوكر، أو عند شرائه فيدعو إليه، استعاره الشاعر هنا لحفلة
التكريم.
٣
علي: هو الأستاذ علي عبد الرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول
الحكم»، وطه: هو أستاذ الجيل؛ الدكتور طه حسين.